لا مبالغة أبدا فيما سأقوله الآن?: ?لولا سليمان فياض لما نشرت كلمة مما كتبت?. ?لا أدين له فقط بنشر أول أعمالي المطبوعة التي قدمتني إلي القراء،? ?بل أدين له بأنه أقنعني? (?أو الأصح أرغمني?!) ?علي أن أدخل في التجربة?.? وأفهم بالطبع أن هذه الكلمة ليست حديثا عني وإنما عن سليمان،? ?ورغم ذلك فلابد وأن أبدأ بهذا الحديث الشخصي،? ?فمعذرة?!?

جانب الإنسان

بهاء طاهر

لا مبالغة أبدا فيما سأقوله الآن: لولا سليمان فياض لما نشرت كلمة مما كتبت. لا أدين له فقط بنشر أول أعمالي المطبوعة التي قدمتني إلي القراء، بل أدين له بأنه أقنعني (أو الأصح أرغمني!) علي أن أدخل في التجربة. وأفهم بالطبع أن هذه الكلمة ليست حديثا عني وإنما عن سليمان، ورغم ذلك فلابد وأن أبدأ بهذا الحديث الشخصي، فمعذرة!
هي قاهرة منتصف الخمسينيات التي جمعتنا معا،
"وسط البلد" الذي تتناثر في كل ركن منه بقايا المقاهي الأوروبية، وفي كل شوارعه المقاهي البلدية. لابد وأن لقاءنا الأول (الذي لا أذكره برغم العلاقة الحميمة التي ربطت بيننا عمرا بأكمله) كان في ذلك الوقت وفي واحد من تلك المقاهي. وكنت وقتها في أواخر التعليم الجامعي، وكنت موظفا (مترجما) في مصلحة الاستعلامات التي تقع في شارع سليمان (لم يكن اسمه قد تغير بعد إلي طلعت حرب). إذا خرجت من المصلحة واتجهت يمينا نحو الميدان الذي يتوسطه تمثال سليمان باشا الفرنساوي قبل إزالته فقد كان هناك مقهي (آسيا) المتواضع علي ناصية شارع البستان، ثم في اتجاه ميدان التحرير مقاهي العز الأوروبي الغابر، الفسيحة والمفروشة المناضد بمفارش بيضاء نظيفة، والتي تتدلي من أسقفها ثريات بللورية فخمة، ويتحرك فيها دون صوت (جرسونات) يونانيون بسترات بيضاء، ويدخل إليها باعة الجرائد ليبيعوا للرواد صحيفتي "تاشيدر ودوسي" اليونانية و"البروجريه" الفرنسية بالذات. كنا في أول الشهر فقط نغامر بدخول هذه المقاهي: "جروبي" و"لوك" الذي يقابله "ريش" الشهير، إذ كان الاستمتاع بتناول قطع الجاتوه اللذيذة في هذه المقاهي الراقية يكلف مبلغا طائلا لا يقل عن ثلاثة قروش للقطعة! فإن واصلنا السير بعد ذلك حتي ميدان التحرير (الإسماعيلية) وعن اليمين واليسار عمائر قديمة وأنيقة إيطالية الطراز، وفيلات مسورة تحيط بها حدائق واسعة فستجد بمجرد أن تنعطف يمينا مجمع "إيزافيتش" العتيد بشقيه: المقهي يجاوره مطعم الفول الشهير. وهناك كان "عم جمعة" الجرسون الذي قال الأبنودي في مناقبه:
عم جمعة جرسون إيزافيتش
أبو وش يهش يبش ينش
الكلمة الوحشة بره العش
!
ولم يكذب شاعرنا الصعيدي الكبير،
فقد كان عم جمعة بنا رحيما يرجئ في أيام الإفلاس وأسابيعه الطويلة حساب المشروبات إلي حين ميسرة في إيزافيتش إذن علي الأغلب التقيت بـ سليمان فياض، وربما بواسطة الراحل العزيز، الكاتب الأردني - المصري غالب هلسا، الذي كان أيامها مازال مثلي يطلب العلم في الجامعة، وإن تكن هي الجامعة الأمريكية التي يطل جزء منها علي ميدان التحرير. وأرجح هذا الاحتمال لأننا فيما بعد جلسنا - غالب وسليمان وأنا - عشرات ومئات المرات هناك وفي كل المقاهي التي ذكرتها والعديد غيرها في وسط البلد: مقهي "ركس" في شارع سليمان، و"الكازابيلا" في شارع عدلي بـ(صحبة الشاعر اليمني محمد أنعم في كثير من الأحيان) وعزوز العش في شارع عدلي أيضا ثم (الإكسلسيور) و(روي) و(زينة) في شارع سليمان... إلخ إلخ!
وفي تلك المقاهي وغيرها كنا نتسامر،
وأهم من ذلك أننا كنا، بالمعني الحرفي، نتعلم. وكان ينضم إلينا في بعض الأحيان آخرون: وحيد النقاش وعلاء الديب وعلي شلش وعبدالجليل حسن وصبحي شفيق وأبوالمعاطي أبوالنجا، ثم اتسعت هذه المجموعة كثيرا بعد أن تخرجنا في الجامعة، وبعد أن أصبحت ريش بؤرة اللقاء ونقطة الانطلاق إلي غيرها من المقاهي. وفي ريش تعرف معظمنا علي كاتبنا الكبير نجيب محفوظ الذي كنا قبلها من قرائه المتحمسين. وأقول إننا كنا نتعلم لأننا كنا دون سابق اتفاق نتبادل الحديث عن قراءاتنا، ومن يقرأ كتابا يلفت انتباهه يقرضه لمن يطلبه، ومن يكتب قصة أو قصيدة يعرضها علي الباقين، ويسمع نقدا رقيقا أو موجعا، لكنه يصدر عن صدق ودون تحامل أو غرض.
كان سليمان يكبرنا بسنوات قليلة ويفوقنا تجربة في الكتابة وفي الحياة
. وأذكر كيف كنا في سنوات شبابنا الباكر تلك نستمع إليه في انبهار، وهو يحكي بصوته الخافت عن تجاربه في المعهد الأزهري الإقليمي الذي درس فيه، وعن قصصه مع شيوخ المعهد، وكان ينفرد بيننا بهذه التجربة حيث درسنا جميعا في التعليم المدني، وأذكر أهم من ذلك شغفنا بالاستماع إليه وهو يحكي عن تجربة دخوله إلي فلسطين ومشاركته في معارك الفدائيين أثناء حرب عام 1948. تنكر الطالب الأزهري في زي جنديK وركب القطار مع الجنود المصريين حتي الحدود المصرية وساعده الجنود الذين عرفوا قصته واعتزامه التطوع من الفدائيين علي عبور الحدود. ولم يكن سليمان يتوقف طويلا عند هذه المغامرة الفريدة، بل كان يحكي بمرارة عن أن أسلحة المتطوعين الصغيرة كانت عاجزة عن أن تنال من تحصينات مستعمرات الصهاينة المدججة بالسلاح. وكان كدأبه يحكي تلك الوقائع الفاجعة بصورة عابرة دون أن يرتفع صوته أو ينفعل فتنفذ إلينا نحن أصدقاءه وجمهوره الصغير علي نحو أعمق وأبقي أثرا. ولاشك عندي في أن إيماننا بفكرة العروبة النقية الخالصة التي تتجاوز الأحزاب والتيارات السياسية، وتركز علي وحدة الهم ووحدة المصير قد تأكد بفضل حكايات ومواقف سليمان فياض التي كان يرويها علينا بدون قصد في ظاهر الأمر.
ومثلما كانت تجربة سليمان في الحياة فريدة بيننا في مطلع الشباب فكذلك كانت تجربته في اللغة
. كان أكثرنا إتقانا للغة العربية وعلما بأسرارها وجمالياتها بحكم دراسته المتخصصة للتراث، ولكنه كان يدهشنا وهو يعرض علينا قصصه الأولي يدهشنا بتلك اللغة الجديدة المنزهة والمقتصدة، والبعيدة عن البلاغة التقليدية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. لم يكتب سليمان بالعامية قط، مثلما فعل البعض في ذلك الوقت التماسا لتأكيد الواقعية، ولكن لغته القوية الخالية من الزخارف والتشبيه والكناية أسهمت بكل تأكيد في إبداع لغة القص الجديد، وكانت تتسق تماما مع قصصه الأولي التي قدم لنا فيها صورة واقعية لريف يخلو من الرومانسية والتهدج العاطفي الذي ألفناه في كتابات الجيل السابق عن الريف. شخوص سليمان - سواء في الريف أو في المدنية - ليست واقعية فحسب، بل هو ينفذ في تحليلها إلي أعماق من الحقيقة ترتفع بها إلي أفق التراجيديا. ولعل ذلك التناول غير المألوف للشخصيات والمشاكل، هذا العالم الجديد بلغته الجديدة، هو الذي أدهش النقاد عندما جمع قصصه تلك في مجموعته الأولي: "عطشان يا صبايا" فاعتبرت - وعن حق - حدثا يخرج عن سياق التيارات والاتجاهات المعاصرة في القصة القصيرة. وكانت البشارة حقيقية فقد أكد سليمان تفرده وأصالته التي لاشك فيها في إنجازه الكبير الذي تلا ذلك في مجموعاته القصصية ورواياته.
غير أنني لن أتصدي هنا لتقييم أدب سليمان،
فهو غني عن تقييمي أو تقويمي. أريد فقط أن أحكي عن سليمان الإنسان وعن علاقتي به. في تلك الفترة وكنت قد انتقلت من العمل في مصلحة الاستعلامات إلي البرنامج الثاني في الإذاعة (عام 1957)، وبعد أن سئم سليمان من تشجيعي علي المغامرة بأن أنشر ولو قصة قصيرة واحدة من القصص التي كنت أطلع عليها الأصدقاء، أخذ مني مسرحية من فصل واحد بحجة أنه يريد قراءتها علي مهل، ثم فوجئت بها بعد ذلك منشورة في مجلة "البوليس" التي كان يصدرها الراحل العزيز سعدالدين وهبه، والتي كان سليمان يعمل في قسمها الأدبي مع رجاء النقاش. أدرك سليمان أنني كنت أتهيب النشر (كنت ومازلت، ولا أدري هل أعلق علي ذلك بعبارة مع الأسف أو لحسن الحظ!). أراد الصديق أن يضعني أمام الأمر الواقع لعلي أتغير، ولكني رغم كل الفرحة التي غمرتني وأنا أري عملي الأول منشورا ومزدانا برسوم ملونة، فقد عاودني رعب النشر بعدها مباشرة! وكان علي سليمان أن ينتظر أربع سنوات بعد ذلك ليكرر العلاج نفسه، فأخذ مني مسرحية قصيرة أخري ونشرها دون أن يخبرني في مجلة "الآداب" البيروتية في سنة 61. وكانت هاتان المسرحيتان هما أول ما نشرت من الكتابة الأدبية، واستطعت بعد ذلك احتمال السير في ذلك الطريق الصعب.
ولا يقتصر فضل سليمان فياض علي عند هذا الحد
. ذلك أنني بعد أن امتحنت بالغربة والانقطاع عن النشر قرابة عشر سنوات كان سليمان هو الذي أعاد تقديمي إلي جيل جديد من القراء، حين نشر لي في مجلة إبداع قصة "بالأمس حلمت بك"، وألح علي أن أقدم له أعمالا أخري لينشرها مع هذه القصة بعد ذلك في مجموعة في سلسلة (مختارات فصول) التي كان يشرف عليها. ثم أعاد بعد عام تقريبا الحكاية القديمة نفسها حين نشر - دون الرجوع إلي - مجموعة "أنا الملك جئت" التي ضم فيها عددا من القصص التي نشرتها لي مجلة إبداع في فترة رئاسة أستاذنا د.عبدالقادر القط لتحريرها، وسأعود لهذه الحكاية.
وأنا أعرف أن الكثيرين قد كتبوا وسيكتبون عن سليمان فياض المبدع وعن قصصه ورواياته الرائعة التي تمثل إنجازا شامخا في أدبنا الحديث،
ولكن ما أريد أن أسجله هنا هو ذلك الجانب الآخر لسليمان، جانب الإنسان والصديق الذي يعطي من نفسه للآخرين من دون إعلان. وينتسب سليمان هنا إلي سلسلة ذهبية من كتاب كبار عرفتهم كتبوا أدبا عظيما، ولكنهم كانوا يفرحون حقا حين يقدمون للحياة الثقافية أعمالا لغيرهم من الكتاب يرونها جديرة بأن تري النور.
وتضم تلك الحلقة ممن عرفت في حياتي يحيي حقي في مجلة
(المجلة)، وعبدالفتاح الجمل في الملحق الأدبي لصحيفة (المساء)، وسليمان فياض في "إبداع و(مختارات فصول)، وفاروق شوشة في الإذاعة.
تلك المهمة ظلت بالنسبة لكل منهم رسالة مقدسة وواجبة لا علاقة لها حتي بأشخاص المبدعين
. وإني لأذكر هنا موقفا كاد يحدث فيه احتكاك بين سليمان وبيني لهذا السبب بالذات. كنت عائدا في إجازة قصيرة إلي القاهرة من مقر عملي في جنيف عام 85، ففوجئت بإعلان عن قرب صدور مجموعة "أنا الملك جئت" ضمن سلسلة مختارات فصول. ضم سليمان عددا من القصص التي نشرتها في مجلة إبداع، وأعلن عن تاريخ لنشرها. كنا ليلتها نجلس في مقهي (سوق الحميدية) في باب اللوق الذي انتقل إليه الركب شرقا من شارع سليمان (بمعدل خطوة كل سنة تقريبا إذا ما قسنا المسافة!). وكان سليمان فياض عصبي المزاج لسبب لا أدريه، وحين قلت له: إنه كان يجب أن يستأذنني قبل أن ينشر كتابا لي أو قبل أن يعلن عن ذلك. انفجر صائحا: "هكذا قررت وهكذا فعلت فافعل أنت ما تشاء!".
أي باختصار أن أشرب من البحر
! شعرت بدمائي الصعيدية تغلي وهممت بأن أرد علي الاستفزاز باستفزازين، ولكنني في عز الغضب تذكرت في لحظة واحدة: ولو لم يفعل سليمان ذلك منذ البدء لو لم يأخذ علي عاتقه أن ينشر لي دون أن يسألني، فما الذي كان سيحدث؟ انفثأ غضبي علي الفور وقلت ضاحكا: "ليكن يا عم سليمان أمرك!" كل ما فعلته هو أنني أضفت للمجموعة التي اختارها قصة لم تنشرها "إبداع"، وأنني أعدت ترتيب القصص قبل نشر المجموعة.
ثم إنني في واقع الأمر لا أحتمل الدخول في خلاف أو شجار مع سليمان فحذار من هذا الرجل الهاديء الوديع الخافت الصوت، إذا ما
غضب أو انفعل. هو يصبح ساعتها مستعدا لحرق كل الجسور وللوصول إلي آخر المدي.
وأذكر هنا حكاية أخري بينه وبين الراحل العزيز
غالب هلسا وكانت علاقتهما معا كأوثق ما تكون العلاقة بين كاتبين وصديقين (أظن أن غالب كان هو أول من كتب عن مجموعة "عطشان ياصبايا" في مجلة الآداب البيروتية. وكانت مقالته ترصد ظاهرة تغير صورة البطل التقليدي في أدب سليمان، من البطل الظافر إلي البطل المهزوم، كانا يتزاوران بانتظام ويتبادلان الود، لا سيما بعد مرحلة انتقال ثوري عبرت فيها المجموعة نهر النيل ذاته لتلتقي في مقهي ناء عن ملاعب الصبا، هو مقهي (بارداي) في ميدان الدقي الذي كان غالب يسكن في أحد أركانه، وكثيرا ما التقينا ثلاثتنا في منزله لنتناقش في شئون الأدب والحياة. كان ذلك في مطلع عقد الستينيات العاصف الذي شهد تجمعنا في ذلك المقهي، وانضمامنا إلي ندوة الناقدين الكبيرين: الدكتور عبدالقادر القط والأستاذ أنور المعداوي رحمه الله. (وذلك بعد انتقال هذه الندوة بدورها من مقهي (محمد عبدالله في ميدان الجيزة!).
وكان لسليمان اندفاعاته وكذلك كانت لغالب اندفاعاته البدوية
(فهو من أصول قبلية أردنية، وقد كتب أعذب قصصه عن هذه البيئة البدوية). ولسبب لم أعلمه دب خلاف بين الصديقين الحميمين، وفوجئت بسليمان يزورني زيارة مفاجئة ويطلب مني أن أبلغ غالب بأنه يريد أن يقطع علاقته به. لماذا يا سليمان؟ هكذا بدون أسباب، وعليك أن تبلغه بهذا اليوم وإلا فلن أعتبرك صديقا! حاولت أن ألعب دور حمامة السلام بينهما فكان مصيري بالطبع هو مصير جميع حمائم السلام! انهال علي غالب لوما وتقريعا حين حاولت الإصلاح واعتبر ذلك تدخلا فيما لا يعنيني، قائلا إن كل شيء انتهي بينه وبين سليمان، والأفضل أن أخرج أنا منها وإلا فسيقطع علاقته بي أيضا!
كان ذلك يوم الأربعاء علي الأغلب،
لأنه بعدها بيومين كان موعد لقائنا الأسبوعي في مقهي ريش. وعندما وصلت إلي المقهي، وأنا أفكر فيمن يجب أن أوسطه لإصلاح ذات البين وجدت سليمان وغالب يجلسان معا ويتبادلان الحديث والضحك كالسمن علي العسل. وعندما أبديت سعادتي لهذا التطور نظرا نحوي باستغراب: عن أي شيء أتكلم؟!
يا للشباب الجميل
!
كان علي وقتها أن اكتشف شيئا
آخر عن سليمان غير اندفاعاته وغضباته المفاجئة. أعني سماحة نفسه وطيبة قلبه النادرة، واستعداده لنسيان الغضب بنفس سرعة دخوله فيه. ومن لا يكتشف هذا الجانب في سليمان فهو لا يعرفه. ومن لا يتخذه صديقا فهو لن يستطيع أن يتخذ أي صديق. وقد حيرتني ومازالت تحيرني حتي الآن هذه المسألة: من أين لهذا الإنسان الدمث الرقيق البالغ الطيبة تلك المقدرة الفذة علي أن يجسد في كتاباته كل ذلك القدر من العنف وعلي أن يصور الشر بكل هذه البراعة والصدق؟
تلك بالطبع هي الموهبة الكبيرة،
فهو سليمان نفسه الذي يكتب للأطفال بكل البراءة والبساطة، وكأنه واحد منهم، بعد أن يروع الكبار بكشف بشاعات عالمهم. وأقول "يروع" لأنني لا أجد كلمة أقوي. فأنا لازلت أذكر حتي الآن القشعريرة التي انتباتني مع الصفحات الأخيرة من قصته الرائعة الطويلة "وبعدنا الطوفان". إحساس لا ينتابك إلا مع التجارب الفذة في الكتابة. وذلك نفسه هو ما تشعر به حين تقرأ روايته "أصوات" مثلا، أو ذلك العمل الغريب والنادر، أقصد قصة "الغريب" التي تنقلك من تجربة شخصية خشنة وشديدة الواقعية إلي نوع من الصوفية الروائية.
يحكي الكاتب الرائع أنطون تشيخوف في رسالة شهيرة إلي شقيقه عن المعاناة التي كابدها ليصبح ذلك الكاتب الإنساني الذي نعرفه
. يحكي عن سنوات ضياعه ومعاناته وفقدانه للطريق وعن الجهد الخارق الذي بذله لكي يتغير: أي يطلعنا علي دخيلة نفسه. ولكن سليمان فياض لم يحدثنا في أي من كتبه أو مقالاته أو محاواراته عن مسيرته الصعبة في الفن وفي الحياة. هناك كتاب لا يكفون عن الحديث عن أنفسهم وعن إنجازاتهم الحقيقية أو الوهمية في الأدب، وكتاب يتاجرون بالمشاكل التي صادفتهم في الحياة أو بمواقفهم "النضالية"، وآخرون يطلقون كتائب للدعاية لهم وتلميع صورهم. لم يكن سليمان واحدا من هؤلاء أبدا، (وأظنه سيغضب لأني حكيت عن تطوعه مع الفدائيين في فلسطين، فهو لا يباهي بذلك أبدا). ظل سليمان عمره كله راهبا في محراب الكلمات، لا تعنيه الشهرة ولا المجد ولا المال. يعنيه فقط أن يكتب.
ولكنه لم يحدثنا أيضا عن معاناته مع الكتابة
. كيف تحول من دارس للتراث متأثر بلغته القديمة الرصينة إلي رائد في ابتكار لغة القص الجديدة البسيطة والصافية، ولم يحدثنا كيف تطور وعيه بحيث استطاع منذ سن الطلب أن يحتضن مشاكل بلده ووطنه العربي ويعبر عنها، ولا كيف استطاع - مثل تشيخوف - أن يتجاوز همومه الشخصية التي أعرف كم كانت ثقيلة منذ صدر الشباب - لكي يكتب لنا هذا الأدب الإنساني البديع القادر علي التأثير علي قرائه بكل اللغات. هو لم يحك لنا عن ذلك ولعله لن يحكي، ولعل ذلك لا يعنينا. يكفينا بالفعل أن تكون الخلاصة هي سليمان فياض وأدبه.