أسمع منذ زمن طويل أن سليمان فياض له رواية جميلة اسمها «أصوات»، تتناول تلك المشكلة الأبدية، مشكلة اللقاء بين الشرق والغرب، أو بين حضارة «أو ثقاف» العرب وبين الحضارة الغربية، والتوترات (بل والمآسي أحيانا) التي لابد أن تنتج عن هذا اللقاء.

سليمان فياض وروايته الرائعة

جلال أمين

أسمع منذ زمن طويل أن سليمان فياض له رواية جميلة اسمها «أصوات»، تتناول تلك المشكلة الأبدية، مشكلة اللقاء بين الشرق والغرب، أو بين حضارة «أو ثقاف»  العرب وبين الحضارة الغربية، والتوترات (بل والمآسي أحيانا) التي لابد أن تنتج عن هذا اللقاء. هذه المشكلة تناولها كاتب بعد آخر، منذ محمد المويلحى على نحو عارض فى بداية القرن العشرين (حديث عيسى بن هشام) وتوفيق الحكيم (على نحو عارض أيضا) فى رواية (عصفور من الشرق) فى الثلاثينيات، ثم تناولها يحيى حقى على نحو مباشر وأعمق بكثير فى الأربعينيات (قنديل أم هاشم)، والطيب صالح، بعمق وبراعة، فى الستينيات (موسم الهجرة إلى الشمال)، ثم تناولها سليمان فياض فى مطلع السبعينيات.

لقيت الرواية إشادة وترحيبا كبيرين عند صدورها فى سنة ١٩٧٠، وترجمت إلى عدة لغات (منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية)، وأعيد طبعها أكثر من مرة، ومع هذا، فلسبب أو آخر، لم أقرأها للأسف الشديد إلا بعد ان سمعت بوفاة سليمان فياض فى الشهر الماضى، وكنت قد اقتنيت نسخة من الطبعة التى أصدرتها مكتبة الأسرة فى ١٩٩٦، وظللت أتذكرها من حين لآخر على أن من الواجب قراءتها دون أن أفعل. وهآنذا قد قرأتها الآن فأقول لنفسى: «كيف انتظرت كل هذا الوقت قبل أن أقرأها؟ وكيف لم تحظ رواية بديعة كهذه بمثل حظ الروايات التى سبقتها من الإشادة والثناء، مع أنها لا تقل عن أى من هذه الروايات جمالا وإتقانا وتأثيرا فى النفس؟».

الرواية صغيرة الحجم، لا تزيد على ١٢٠ صفحة من الحجم الصغير، ولكن هذا لا يعيبها بالطبع، وروايات الطيب صالح ويحيى حقى وتوفيق الحكيم ليست أكبر بكثير. وهى على أى حال، تدخل فى الموضوع مباشرة، وليس فيها أى مقطع لا يخدم القضية الأساسية أو يحيد عن المجرى الأساسى للمشكلة. وهى مثل الروايات السابقة مشوقة للقارئ من البداية إلى النهاية، وخفيفة الظل، ومكتوبة بلغة بالغة السلاسة والدقة.

هل هناك علاقة بين قلة حظ هذه الرواية من الشهرة ومن الاحتفاء من جانب النقاد العرب، بالمقارنة بالروايات السابقة التى ذكرتها، وبين الموقف الذى اتخذته الرواية من قضية التقاء الحضارتين؟ لقد انتصر يحيى حقى بلاشك، فى نهاية القصة، للحضارة الموروثة (أو للثقافة الموروثة إذا شئت) ضد الحضارة الوافدة، وأظهر الطيب صالح صعوبة الوصول إلى حل، على نحو أوضح مما فعل يحيى حقى، ولكن الطيب صالح بيّن بلا شك أيضا حماقة الارتماء فى أحضان الحضارة الغربية دون تروٍ، وقبولها برمتها وكأنها خالية من العيوب. أما توفيق الحكيم فهو وإن كان قد طرح جانبى المشكلة على القارئ، بدا أكثر ميلا للتمسك بالثقافة الموروثة (فى رواية عصفور من الشرق على الأقل، وإن لم يتحمس لذلك فيما بعد).

الأمر مختلف جدا فى رواية (أصوات). نعم، لقد وصف سليمان فياض الجانب المأساوى فى التقاء الحضارتين، فنجح فى ذلك نجاحا باهرا، ولكنه أنهاها بما يشبه الانحياز للحضارة الحديثة، أو على الأقل بتسليط ضوء ساطع على ما فى ثقافتنا من نقائص وحماقات.

ليس هذا على أى حال أجمل ما فى رواية أصوات، فى رأيى. لقد عرض سليمان فياض المشكلة على نحو جعلها أشبه بالمأساة اليونانية: المأساة حتمية، ونهايتها متضمنة فى بدايتها، والهرب من هذه النهاية يكاد يكون فى حكم المستحيل، والأسباب الحقيقية للمأساة لا تتعلق بخطأ عارض ارتكبه هذا الرجل أو تلك المرأة، بل تتعلق بأوجه الضعف الخالدة فى الطبيعة البشرية.

أظن أن فى هذا الأمر بالذات، تتفوق رواية (أصوات) على كل الروايات السابقة التى أشرت إليها.

لا عجب إذن أن فُتن بعض المستشرقين بهذه الرواية ورأوا أن ترجمتها ضرورية، وإن كنت لا أستبعد أن يكون من بين أسباب افتتانهم بها، هذا الموقف الساخط على أوجه الضعف فى ثقافتنا الموروثة، والمتعاطف مع إنجازات الحضارة الغربية.

•••

لقد عرفت سليمان فياض فى وقت مبكر من حياتى، إذ تعرفت عليه لأول مرة فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، حينما كنت أنا فى العشرين وهو فى السادسة والعشرين. ولم ألتق به بعد ذلك إلا مرات قليلة، وعلى نحو عارض، مما لم يسمح لى بمعرفة أوثق به، ناهيك عن تقصيرى الفادح فى قراءة إنتاجه. نعم، قرأت له قصتين قصيرتين أو ثلاثا، وأعجبت بها، ولكن ليس بالدرجة التى تدفعنى دفعا إلى الذهاب فورا لاقتناء روايته المشهورة وقراءتها. هآنذا الآن اكتشف خطأى وأحاول التكفير عنه.

لابد أن تكون ثمة علاقة أيضا بين قلة الاحتفاء برواية (أصوات)، بالمقارنة بالاحتفاء بالروايات الأخرى التى ذكرتها، وبين شخصية المؤلف. نحن نعرف الآن بما لا يدع مجالا للشك أن حجم الموهبة شىء، والقدرة على تسويقها شىء آخر. ومن معرفتى المحدودة بسليمان فياض أستطيع أن أقول إن شخصيته ليست من النوع الذى يجعله ماهرا فى تسويق إنتاجه. إنه قوى المشاعر، لاشك فى ذلك، شديد الثقة بموهبته ومواقفه، ولكنه، فيما يظهر، لا يعلق بدرجة كافية من الأهمية على تقدير الناس لما يكتب، أو ربما شغلته مشاغل أخرى تتعلق بمطالب الحياة اليومية، عن الانهماك فى ذلك النوع من العلاقات العامة الذى يؤدى إلى الشهرة والانتشار. لا بأس فى هذا كله، وما دمنا قد ظفرنا بهذه النتيجة الرائعة. والعمل الجيد لابد له، فيما أظن، أن يحظى بما يستحقه فى النهاية، مهما طال الزمن.

•••

لا أحب أن أروى للقارئ مضمون القصة، ناهيك عن نهايتها المأساوية، إذ لن يغنى هذا بالطبع عن قراءتها. وقد لا تكون هناك فائدة من تلخيصها. أحب فقط أن ألفت نظر القارئ إلى عدة أشياء:

هناك أولا ما تكشف عنه الرواية من معرفة المؤلف الفائقة بتفاصيل الحياة الريفية، وعلاقاتها الاجتماعية، وبالبيئة الطبيعية فى الريف المصرى بأدق تفاصيلها. ولكنه لا يكشف عن هذه التفاصيل أو تلك إلا من خلال تتابع أحداث الرواية. فليس فى ذكرهما إذن ما يمكن أن يشتت انتباه القارئ، بل أن يقوى أثر ما يرويه من أحداث.

هناك ثانيا الابتعاد الكامل عن أى عاطفة مصطنعة. العواطف التى تنقلها الأحداث حقيقية دائما، والمؤلف لا يسمح لنفسه بإظهار تعاطفه أو سخطه بل يترك هذا للعلاقة المباشرة بين أحداث الرواية وقارئها. سألت نفسى: من أين للمؤلف هذه القدرة على تجنب التقييم ومرعاة حياد الراوى مراعاة تامة؟ هل كان سليمان فياض قارئا متبحرا فى الآداب الأجنبية التى أتقنت هذه الصنعة، أم أنها موهبة فطرية ألهمته ما يجب عليه أن يفعل وما يجب تجنبه؟
قرأت فى أحد تقييمات رواية أصوات، التى أعيد نشرها بعد وفاته، أن نهاية الرواية جاءت فى صورة مفاجئة تماما ومبتسرة أكثر من اللازم، على عكس ما يفضل الناقد. ولكنى حتى فى هذه النقطة أقف إلى جانب المؤلف، إذ وجدت أن النهاية، بطبيعتها المأساوية، كان من الواجب أو من الأفضل أن تأتى مفاجئة ومبتسرة، ودون أن يتعرض المؤلف لوصف أثر هذه النهاية على مشاعر أبطال الرواية الرئيسيين. لقد ترك المؤلف الحكم للقارئ بعد أن أمده بما يكفى من حيثيات. وهآنذا أوصى القارئ بكل قوة بقراءة الرواية، إن لم يكن قد قرأها بعد، لاكتشاف أبعادها المختلفة والبالغة الثراء.