أحاول أن أتذكر المرة الأولي التي رأيته فيها،? ?لكن دون جدوي أكان ذلك في ريش حين كنت تلميذاً مبتدئا بالجامعة،? ?وأمر علي ريش،? ?فإن رأيت أمل دنقل،? ?دخلت،? ?وإن لم أجده،? ?أحث الخطي مسرعاً،? ?أم كان في ?مكان آخر،? ?كان ذلك في منتصف السبعينيات تقريباً?. ?كان سليمان بسمته السلافي،? ?وشعره السبط،? ?وبسمته المعلقة علي وجهه كالفخ،? ?يجعلني أجفل،? ?لا أدري لم كان يذكرني بوجيه ريفي،? ?فيما كنت صعلوكاً،? ?ومعادياً? ?للوجاهة?.

يواصل الحياة .. كما كان دائما

محمد بدوي

أحاول أن أتذكر المرة الأولي التي رأيته فيها، لكن دون جدوي أكان ذلك في ريش حين كنت تلميذاً مبتدئا بالجامعة، وأمر علي ريش، فإن رأيت أمل دنقل، دخلت، وإن لم أجده، أحث الخطي مسرعاً، أم كان في مكان آخر، كان ذلك في منتصف السبعينيات تقريباً. كان سليمان بسمته السلافي، وشعره السبط، وبسمته المعلقة علي وجهه كالفخ، يجعلني أجفل، لا أدري لم كان يذكرني بوجيه ريفي، فيما كنت صعلوكاً، ومعادياً للوجاهة. أما إبراهيم منصور فقد أخافني، بشاربه الكث، ويساريته التي تدين الجميع. فيما بعد اكتشف أن إبراهيم منصور، رقيق لدرجة الإيلام. أما سليمان فقد عاملني، حين كنت قد تخرجت، وعملت في فصول، علي نحو غريب. نظارته الداكنة تخفي عينيه، فيما تسيل منه نظرة طفل خبيث وهو يهلضم بكلام عن الأكاديميين وعبدالمحسن بدر، وجابر عصفور، وآخرين. كان يحاول أن يستفزني، فهمت أنها طريقة ما لنكش الآخر، فخيبت ظنه، وظللت صامتاً وأنا أحدجه بغباء، وتابعت عملي. كنت طبعاً، أعرف قصصه القصيرة الجميلة: القرين، ورغيف البتانوهي، ولا أحد وروايته القصيرة أصوات. ولكنه ظنني أكاديمياً صغيراً سيلهو به كما ظننته وجيها ريفياً.
يأتي إلي مجلة إبداع مبكراً،
يعلق نظارته علي شعره الناعم، ويهدر نور عينيه القليل، في قصص ومقالات، لا أحبها، ويجادلني في الشعر، وكانوا في إبداع يظنون أن ثمة عصابة من الأشرار، تخطط لإفساد الشعر، وأنا واحد منهم. كانت اعتدال عثمان، المهذبة الصارمة تناديه بأستاذ سليمان. ولم أجد بداً من النداء بعم سلمان.
لكن هذا العم صحبني يوماً
إلي مقهي بوسط البلد، وفتح قلبه لي، وبعد زجاجتي بيرة كان كلاناً يعامل صاحبه، كأنما يعرفه منذ زمن طويل. كان يحب الحكي، وأنا أحب السمر. صحيح أنه ظنني، في الأول، واد من بتوع الحداثة التراثية، وقصص الأزهريين، لأن أبي كان منهم، وحكاوي القري المنسية علي شاطئ النيل، ودلتاه. من يومها لم أعد أناديه بالعم. أحياناً أدعوه أمام الأغراب بالأستاذ، لكني دائماً أدعوه باسمه مجرداً، وحين أكون رائق المزاج أدلله بنصف اسمه.
الآن حين يغضب مني،
يلسن، اقتداء بمجمد البساطي، أنني من عيال يحيي الطاهرة فأغيظهما قائلا: إن يحيي يمثل شبحاً لكل الأدباء، حتي بعد موته.
مع هذا كنا نخوض معارك كلامية،
كلانا ضد صاحبه. عن يوسف إدريس، ومحفوظ، وهيمنجواي- "استاذه" الذي لم يخن وصاياه قط. ولكن حين يجتمع هو والبساطي، علي، أخرج لهما الأسلحة السرية، فأروح أتحدث عن عبقرية كونديرا، وبورخيس، وسلمان رشدي، متلذذا بالحديث عن نمط الكاتب الحقيقي الآن، الذي لم يعد كافياً له أن يتحدث عن الأشياء الواقعية التي رآها بأم رأسه، بل لابد من الثقافة الواسعة، والخيال الجامح، والمجاورة بين الأساليب، والسخرية من كل شيء، ملقياً مدائح، أحياناً أبالغ فيها - عن (أطفال منتصف الليل)، و(كائن لاتحتمل خفته)، و(العار)، و(ثلاثية نيويورك)، و(مدن لا مرئية). وهي الروايات التي يراها كلاهما، أو أحدهما، رواية مثقفين، لا كتاب مبدعين.
أحياناً
أقول إن سليمان مجنون، فها هو في السبعين يقطع في البرد القارس، شوارع القاهرة ليلا، متوقفاً كل خمس خطوات، مهتاجاً، وهو يدحض رأياً لم يعجبه. وها هو يتحدث عن مشروعات وهمية، تحتاج، لكي تنجز إلي جيوش من الباحثين، مشرفاً في اتهامي بالمحافظة، لأنني ما بعد حداثي، أشك في دور متميز للمثقف. وحين أنسي نفسي وأتحدث عن الفرق الباطنية، والفروق بينها، يحدجني بنظرة شذراء حقاً ويقول: كل دا معناه إن البشر مجانين.
البشر مجانين وهو العاقل
لذلك حين لم يجد مفراً
من دخول الأزهر، اشترط عليهم في الأسرة، "ألا يدخل أحدٌ من أخوته الأزهر بعد ذلك، كان يكفي واحدا ليفدي الجميع، ويرضي جدي وأبي". هكذا حكي لي بعد عقود. وهو يتحدث عن حياته الأولي. وهو يحكي لي كثيراً، وينسي أنه حكي، فيعيد ما حكاه. أظل منصتاً، وأنا أجهد ذهني للمقارنة بين صيغ الحكاية الواحدة. وأحياناً أشاكسه فأكمل له الحكاية. في الأول كان يبوخ حماسه، ويبتسم، ويصمت. بعد ذلك كان يرفع يده، ويسكتني، ويكمل الحكاية في مسار آخر. سألت صفيه ونجيه ابوالمعاطي أبوالنجا، الذي نظر إلي في هدوئه المعتاد. وابتسم ماكراً- كلاهما حين يبتسم، يبدو طفلاً مكشوفاً، وقال:
- إن سليمان يحكي عني حكايات كثيرة. في الأول كنت أشك فيما يحكيه، وأحياناً أحاول أن أعترض. لكنني كنت أخاف أن يغضب. وبيني وبينه كنت أجادله في بعض ما يحكيه، الآن اقتنعت أن كل ما يحكيه سليمان حدث.
الآن ما إن يبدأ الحكي،
أسأله: دي حكاية، ولا قصة قصيرة؟.
- يعني حصلت، ولكنه من غرائب الاتفاق أم تأليف؟.
- ولماذا أكتبها؟
- لأنك كاتب.
- الكتابة لم تصنع شيئاً له قيمة. نحن نكتب منذ الكاتب المصري.
- أنت تخاف الكتابة. اعترف.
- زمان كنت حين تجيئني فكرة أو خاطرة، آخذ أوراقي وأزوغ من كل شيء إلي مقهي أو كازينو. الآن. لا.
يتكلم سليمان فتتحول الكلمات إلي وجوه وعيون وأصوات
: فلاحون وأزهريون، أمهات وبنات بدءاً من جدته التركية التي يحمل ملامحها، وأبيه الشيخ الأزهري الذي يبدو في الصور، نحيلاً، نبيل القسمات. وجده الذي كان يحبه علي نحو خاص، وانتهاء بغالب هلساً، وعبدالجليل حسن، ووحيد النقاش، هؤلاء الذين حكي بعض حكاياتهم في "كتاب النميمة".
مرة،
اجتمع بعض الأصدقاء في جلسة استرخاء واقترح غالب هلسا أن يجيبوا علي بعض الأسئلة، مثل من تأخذ معك في أجازة، من تترك معه زوجتك، من تفضي إليه بسر يؤرقك. وحين فتحوا أوراق الإجابات، اتفق الجميع علي أن الوحيد الذي يمكن أن يتركوا زوجاتهم معه هو سليمان.
- وأنت ماذا فعلت؟.
أسأله مداعباً،
ولسذاجته يجيب: قمت وقفت، وقلت لهم: طيب، لو فيكو راجل يجرب يسيب مراته معايا.
رجل حكيم علي طريقته
. حين حصل علي جائزة العويس منذ سنوات، قابلته، وفي نيتي أن أتحدث معه، وعلي وجهي قناع حكيم. عملت قبل مجيئي بروفة. كان سليمان سيجلس قبالتي وأمامه مشروبه، ساخناً أو بارداً. وكنت سأقول له إن عليه ألا يبعثر هذه النقود، بل يجب أن يضع لها خطة، حتي لا يضطر لترك الكتابة والتقاط الرزق من هنا وهناك. لكنني لم أصبر حتي تصل إلي المكان الذي سنجلس فيه، كنا نمشي معا وقلت له ما أردت في لهوجة، لكنه فهم مقصدي. ظل صامتاً، ثم تحدث في أمور أخري وحين جلسنا فاجأني بأن كل النقود طارت.
-طارت؟
- نعم. أعطيت لفلان كذا، ولفلان كذا...
صمت ثم تابع
:
- بذلك أكون قد أديت ما علي تجاه الجميع.
هكذا تري أنه رجل حكيم وعاقل
. جاءت الفلوس وطارت. وعليه أن يواصل الحياة كما كان دوما. ثم يشكو بعد ذلك من الواقع، الذي يجعلك تترك عملك، لتجري وراء لقمة العيش. لكن فلنكف عن الكلام الآن، فها هو قادم متدثراً في ملابسه الصوفية الثقيلة، أعزل إلا من بسمته المعلقة علي شفتيه، كالقنديل المعلق علي باب لينير لك، ويدعوك إلي الدخول.
ادخل فلديه الخبز والنبيذ والمعجم
.
وهو يحب السمر
كأي فلاح من الدلتا يحب السمر