رحيل مصطفي المسناوي

الصورة الغامضة في الفنتازيا

محمـود قاسـم

في الثقافة العربية يحذر علي المرء أن يكون متعدد الموهبة خاصة في مجال الكتابة والابداع، ليس ابدا بسبب ان الكاتب يوزع اهتماماته في مجالات عديدة، كما يدعون، وليس أيضا عملا بالمقولة الشعبية أن صاحب بالين كاذب، وصاحب ثلاثة منافق، أي ان علي الكاتب أن يطمس مواهبه المتوازية، كي يسهل متابعته وتصنيفه علي امر واحد فقط ،عليه أن يتابعه وحده، والا صار هو المنافق والكاذب. والعقلية العربية بذلك تضع كافة المحظورات علي هذا النوع من الكتاب، وتصنفهم بالخطأ، وأنا اري أن الكاتب الذي ينصاع لهذه الاحكام انما يقتل في داخله المواهب الأخرى ’وأنه من الأفضل أن يكون مثل صلاح جاهين الذي كان يكتب الشعر ويرسم الكاريكاتير بالقوة نفسها، لكن ما أقصده هي فنون الكتابة، فكم من شعراء عرب متميزين، هجروا الشعر تماما عندما تقبل الناس رواياتهم باستحسان، وفضلوا دفن القريحة الشريعة، واكتفوا بالنثر في المقام الأول ومنهم الروائي الفلسطيني -الأردني ابراهيم نصر الله، ونماذج عربية عديدة.

ولعل سبب هذا النوع من عدم القبول يرجع الي أن عقلية المثقف العربي نفسها لا تميل الي التعددية، فأنا اعرف الكثير من الأدباء الذي يتعاملون مع السينما علي أنها فن تأتي أهميته بعد الابداع الأدبي، والرواية بشكل شخصي، وهناك روائيون لم يذهبوا قط الي قاعات السينما ليس فقط لمشاهدة الأفلام، بل أن أحدهم لم يذهب لمشاهدة الأفلام المأخوذة عن نصوص أدبية كتبها، ولا أكاد أشك في أن أغلب النقاد السينمائيين من أصدقاء الراحل مصطفي المسناوي كانوا يعرفون أنه كان قاصا متميزا، وبالتالي أكاد أشك في أن احدهم قد قرأ أدبه، فبالنسبة لهم، فان الراحل هو الشخص الذي يحضر معهم مهرجانات السينما المنتشرة في العالم العربي وخارجه، يتحدث في السينما، ويكتب المقالات حول الأفلام، وصار المسناوي مثقفا له وجه واحد في عيون السينمائيين، والغريب أن الكاتب قد أراد أن يحتفظ بهذه الصورة فاتجه الي النقد السينمائي يكتب الكثير من المتابعات، والنقد السينمائي الحاضر في فعاليات المهرجانات حتي لم نتعرف علي ناقد مغربي آخر في هذه الانشطة.

تري هل تبقي الكتابات النقدية السينمائية، وهل ضاعت النصوص الأدبية التي كتبها مع الزمن؟ انها قسوة الكتابة في النقد السينمائي، تشد صاحبها اليها، ويمكنها أن تقضي علي هذه الكتابة الأخرى، وفي النقد السينمائي العربي قليلا ما تجد واحدا منهم يكتب في الأدب أو يتابعه بالقوة نفسها، وهم يكشفون عن قصور ثقافي ملحوظ، فليست هناك نظريات نقدية، أو اساليب كتابة نقدية في السينما لدينا، مثلما في الأدب، ونادرا ما تري واحدا منهم يقرأ الرواية المأخوذ عنها فيلم ما، وتلك الف باء الأشياء في تناول النص.

مصطفي المسناوي الذي رحل عن اثنين وستين عاما اتقن ثلاث لغات هي العربية والفرنسية والاسبانية، ولم يدرس السينما بل درس الفلسفة وقام بتدريس الأدب، وهو أيضا ممن كتب النقد السينمائي بمنظور أدبي، كما اتجه الي كتابة البحث الأدبي الفلسفي منه الاجتماعي. ولو أن النقد السينمائي لم يجذبه لصار لدينا الطاهر بن جلون آخر حسبما تقول بذلك النصوص الأدبية القديمة التي كتبها في بداية حياته، ويمكن عمل مقارنة بين النص القصصي المنشور في عام 1989 باسم " ثلاث رسائل الي السيد المدير"، وبين النصوص الأدبية التي نشرها الطاهر بن جلون قبل هذا التاريخ بأعوام قليلة تحت عنوان "ماتت أشجار اللوز متأثرة بجراحها"، فهي نصوص تمزج بين الواقع والفنتازيا (الخيال الجامح)، وبين السياسة، وقد كتب المسناوي هذا النص في باريس، علي الطريقة الأوربية، القارئ العربي يحب الفنتازيا الأرضية علي غرار "الف ليلة وليلة "، ولا يميل أن يحلق بها الي أماكن وأزمنة أبدية، ويبدو هذا واضحا في النص الذي بين ايدينا فالعنوان "رسالة الي المدير العام" . يبدو علي غرار عنوان النص الأدبي الذي كتبه الايطالي دينو بوتزاتي تحت عنوان "رسالة الي رئيس التحرير"، المنشور في مجموعته القصصية "السيد كاف". فنحن أمام فانتازيا معاصرة تخص الكاتب، وفيها يتضح التخييل الذي اصاب الراوية الذي يكتب رسالة لرئيسه المباشر في ثلاثة صور متباينة، تجعلك تشعر انك في كوابيس متلاحقة .اكثر من أجواء الفنتازيا الحقيقية، فالمخيلة العربية حين لا تتحمل التخيلات الحادة في الفنتازيا، فإنها ترجعها الي الكوابيس من أن تقبلها، كأن يفاجئ الأمر وهو ينظر الي المرآة صباحا أن وجهه لم يعد في مكانه، ويصير عليه ان يتصرف بشكل طبيعي، ما يعني انه لم يفقد الوجه الذي اختفي، ولكن فقط علي انه لايري الوجه، اي انه موجود، ولاشك ان الوجه لو اختفي فعلا في أجواء الفنتازيا لتغيرت الصورة تماما، ومن هنا يأتي سحر التخيل، فكل كاتب له كل حدود التخيل اللامحدود كي يصف لنا عوالمه، وارجع في ذلك الي تولكين.

الا أن كاتبنا يفعل مثل أقرانه العرب، التخييل الجامح في حدود أرضية، وهكذا كتب عمالقة الأدباء من طراز كافكا في "المسخ" وبوتزاتي في "صحراء التتار"، انه خيال حاضر قريب كثيرا من عوالمنا الأرضية، ولعل أكثر من قام بصياغة هذه الأجواء هو محمد حافظ رجب في مصر. تتمثل الفنتازيا هنا في صورة أقرب الي لوحات السرياليين التي اعتدنا علي رؤيتها كأشياء جمالية جديدة، فالمواطن الذي يكتب الي مديره العام، موجود في مكان مجرد و تصعب تسميته. وهو في الغالب وسط طبيعة غاضبة غامضة، من الصعب استيعابها، والامساك بها، خالية من كافة أنواع الكائنات، يحدثنا الراوية أنه بينما كان في اوروبا يركب القطارات التي تهتز فوق القضبان فان أرضه التي ينتمي اليها قد أصابها زلزال مدمر، نزلت فيه السماء بقسوة علي الأرض فحولتها الي فاجعة حقيقية، هو لم يشهد الزلزال حين نزل من السماء، لكنه رأي طلوع الأرض الي أعلي بعد أن انتهي الزلزال، لقد تحرك في زمن قياسي مكانيا بين السماء والأرض، احس بالاهتزاز، وهو في قطارات اوروبا، وعندما رجع بوعيه دون جسد رأي بعضا من علامات الكارثة، منها أحداث حقيقية قرأ عنها الكاتب في الصحف، مثل الطائرة الهولندية التي سقطت فوق سوق سمك، ولاعب كرة وسيم يتم زفافه علي مغنية حولاء، وصور أخري قد نراها في الواقع، لكنها أنسب الي الصور غير التقليدية في الفنتازيا.

يمتلئ النص الأدبي بالكثير من هذه الصور التي تتزاحم في مخيلة الكاتب، ومنها ترنح الناس جميعا ذات اليمين واليسار: ما جاء في النص القرآني ما يعني ان تري الناس سكاري وماهم بسكاري،، وتتعدد الصور، فالكاتب يري عودة الأرض الي السماء بعد انتهاء الزلزال، ويري الأشياء اقرب الي ما يحدث يوم القيامة دون اشارة الي ذلك. وكما اشرنا فان الصور هنا مقرونة بالطبيعة، الكاتب شبه وحيد، ويمكن ان نقول انه يري كابوسه الخاص، ويعيش قيامته التي تقوم من أجله . فجميعنا نري كوابيسنا بمفردنا، ولكل منا قيامة خاصة، وأن لكل منا سفر رؤية خاص به.

هذه الحاشية بمثابة نبع ضخم للعديد من الصور الكابوسية الثابتة والمتحركة التي تنبعث منها، وتأتي عبقرية النص أن الصورة هنا تتنوع أشكالها حتي وان ظلت في اطار الطبيعة، ومنها الي الصور المتجددة في الحاشية الأولي، حيث يصبح النص بمثابة مجموعة متعددة من اللوحات المتجاورة، المتجددة، لرجل يقف في مكان يؤدي الي كل الاتجاهات، ورجل آخر يحاول أن يلم شتاته، ويبحث عن صدفته المفقودة، ورجل ثالث يبحث عن النبع الزلال، ثم رجل يتطلع الي نفسه في صورة وجه آخر ليس بين الاثنين اي تشابه، احدهما سعيد لأن هناك من ينظر اليه، يرتعش ويكتشف ان هذا الآخر لا يتعدي أن يكون سلحفاة فقدت غطائها وراحت تتضاءل. هذه الصور هي قصص منفصلة تشكل في مجموعها صورة مليئة بالحشد في هذا النوع من النصوص تتحول الي حشد من الصور اللامتناهة.

الا أنه في نهاية النص فان الكاتب يأخذ واحدة من هذه الصور ويحولها الي نص قصصي تفصيلي ملئ بالغرائبيات، وهو يحكي عن نفسه أن امرأة طويلة الشعر، سوداء العينين طلبت منه أن يحمل عنها رضيعها حتي تتمكن من جدل ضفائرها، وما أن فعل ما طلبت حتي راحت تمزق ملابسها، وتصرخ في الفضاء أن هذا الرجل هو والد الطفل، وأنه لا يريد الاعتراف به، انها صورة تبدو طبيعية، لكنها مليئة بالغرائبيات، فالراوية يحكي لنا كقراء انه لا يعرف هذه المرأة، وأنه قضي سنوات حياته كلها في السجن منذ أن كان في بداية الصبا حتي خرج لتوه وهو علي اعقاب الشيخوخة. ودون أن يستمع اليه أحد فان الناس انهالوا عليه ضربا بشكل مبرح، ويؤكد الراوية انه ليس في كابوس"كنت يقظا وعيناي مفتوحتان الي آخرهما" ما يعني ان هذه القصة ليست من الأحلام او الكوابيس هي اقرب الي الواقع، مغموسة بالفنتازيا
هذه محاولة سريعة لقرأه نص أدبي يمكنها أن تبقي طويلا بصورها المتراكمة في الذاكرة، وقد اخترنا تقديمها كنموذج لإبداع كاتب تخلي عن عالمه الإبداعي لصالح النقد السينمائي، فهل خيرا فعل؟