كان يا مكان

فاطمة المرنيسي

ترجمة: عبد الغني بومعزة

 

«ولدت سنة 1940 في حريم أحد قصور فاس، مدينة مغربيّة من القرن الثامن، تقع على بعد خمسة آلاف كلم غرب مكة وألف كلم جنوب مدريد أحد أعتى عواصم المسيحيّة القديمة». هكذا تبدأ فاطمة المرنيسي حكايتها، اقصد روايتها الموسومة "أحلام نساء - طفولة في حريم"، شلال من قصص وحكايات طفولة يتعايش ويتماهى الغرائبي والعادي فيها وكأنّهما عالم واحد، ومنذ صدور الرّواية 1994 في نيويورك بعنوان "Dreams of Trespass"، والعمل يلقى نجاحا ورواجا كبيرا إلى هذا الوقت وقد ترجم إلى عديد اللّغات. ولا تنكر الرّوائيّة أنها مازالت لحدّ الآن أسيرة هذا العمل الأدبي الذّي عرّف العالم بها رغم أن مجال بحثها هو علم الاجتماع بامتياز. فاطمة المرنيسي باحثة مغربيّة، مفكّرة وروائيّة، هوايتها المفضلة النّبش في التّابوهات والكشف عن خباياها وتسليط الضّوء على الأبيض والأسود في المجتمع العربي، يشهد الجميع لها بالجرأة والشجاعة ما أكسبها احترام الغربيين، وقد منحت نظير اجتهادها جائزة الأمير استورياس للآداب [نوبل إسبانيا] في أكتوبر 2003، ويعتبرها البعض أوّل كاتبة مغربيّة تحدثت بجرأة عن عالم بلادها المظلم الذّي يكتنفه الغموض المقرون بالظلم والدّيكتاتورية، تحدّثت عن تزمامارت "باستيل المغرب" ودرب مولاي الشّريف، الكوربيس وقلعة مكونة والكومليكس، وهي أمكنة مشؤومة وملعونة عند المغاربة، أمكنة الذّاكرة الجّماعيّة السّوداء لمغرب القرن الماضي. وقد ألفت أحد أكثر مؤلفاتها إثارة للجدل [الحريم السّياسي، النّبي والنّساء] سنة 1987، وقد صادرته الرّقابة آنذاك وكتاب آخر تعرّض لنفس ما تعرّض له كتابها السّابق وهو [الحجاب والنّخبة الذّكورية]، وصدر لها سنة 1991 كتاب [المغرب عبر نسائه] كتاب تحقيقي إن صحّ التعبير، حيث قامت المؤلفة برصد يوميات وحكايات وذاكرات نساء مغربيات، نساء من كلّ الطبقات المجتمعيّة، عاملات، قرويات، خادمات بيوت وزوجات ومتعلمات و..، وكان الهدف منه إسماع صوت المرأة المكبوت. وفي سنة 1992 صدر لها [الخوف من الحداثة، الإسلام والدّيمقراطية] وهي، حسبما كتب عنه النقاد، دراسة في القهر الدّيني، ولها أيضا مؤلفات أخرى [شهرزاد ليست مغربيّة/ سلطانات مغربيات/ هل انتم محصنون ضدّ الحريم؟/ الجّنس والإيدولوجيا والإسلام]، ويبقى كتابها [نساء على أجنحة الحلم/ 1995] أهم ما كتبته لأنه يخصّها هي، اقصد مؤلّف سيرة ذاتيّة عزيز عليها كما وصفته، كتاب تسرد فيه حكايتها هي، سيرتها الشّخصيّة منذ الطفولة والصّبا، كتاب تجمع فيه أحداث متخيّلة مشحونة بصور ذاكرة شديدة الثّراء والحساسيّة والشّجاعة لتجربتها الشّخصية في الحياة، إنه حكاية امرأة ككلّ نساء العالم العربي، امرأة تعاني من قهر التقاليد والثقافة الذّكورية المتبجّحة والسّطحية وعمى الوعي وجهالة مجتمع، اليوم، فاطمة المرنيسي تتابع عملها كأستاذة جامعيّة بجامعة محمد الخامس..

[ 2 ]
قراءة رواية "أحلام نساء، طفولة في حريم" أشبه بالسّفر في عوالم ألف ليلة وليلة، لكنّها أكثر واقعيّة، نسافر مع المرنيسي في حريم حقيقي بأحد قصور مدينة فاس التّاريخيّة، فاس العتيقة والرّوحيّة، ولدت فيها سنة 1940، عندما كانت إسبانيا تحتل الشّمال وفرنسا تحتلّ الباقي من المغرب، تقول [كان الفرنسيون متعطشّين للسيطرة والهيمنة، لقد قطعوا كلّ هذه المسافات لغزو البلاد، بينما أعطاهم الله بلاد جميلة، مدن حديثة ونظيفة، غابات جميلة وعميقة، براري خضراء غنيّة، أبقار أكبر من أبقارنا تدرّ الكثير من الحليب، لكن من الواضح أن الفرنسيين كغيرهم من الأوروبيين توّاقون لاحتلال الشّعوب الأخرى واستغلال خيراتها، كانت هذه مشكلتهم.] شيّد الفرنسيون لأنفسهم مدينة جديدة خاصة بهم تختلف عن المدينة القديمة التّي كانوا يخشون المغامرة فيها، كانت شوارع وزنقات فاس قديمة، مظلمة ومتعرّجة، فاس المدينة القديمة لا تروقهم، تشعرهم بالغربة، بأنهم دخلاء يجهلون كلّ شيء عن ثقافة المكان والإنسان، إنه الاحتلال الفرنسي، احتلال من منظور ساخر ولاذع من خلف أسوار الحريم، بالطبع لا تقصد فاطمة المرنيسي حريم الشّرق القديم، حريم ألف ليلة وليلة، يحرسه رجال سود البشرة وعبيد وغلمان، حريم الفنتازيا والشّهوة والرّغبات الجّامحة، بل هو حريم عائليّ، اجتماعيّ، فوالد فاطمة وعمّها كلاهما متزوّجان من امرأة واحدة، يعيشان مع جدّتهما وبعض العمّات وعائلاتهم، الحياة في حريم فاس منظمة هرميّا، تحكمها الحدود والتقاليد الصّارمة، لكن فاطمة الصّغيرة، الفضوليّة صنعت لنفسها عالما تخيليّا بعيد عن النّمط السّائد بين الجّدران والأسوار، يحلّق بها خيالها بعيدا عن متاهة ما تسمّيه بالحدود، بينما النّساء أسيرات واقعهن اليومي، بين جدران قلعة الحريم، يحلمن باختراق هذه الفواصل الحازمة والحدود لرؤية ما يحدث في الخارج الممنوع، من خلف بوابة السّجن الكبير ذو الهندسة الأندلسيّة الجّميلة، كانت أم فاطمة تعلم ابنتها وتربيها على كسر حواجز الخوف الذّي هو بالنّسبة لفاطمة حريم داخل حريم، كانت تغرس بداخلها ثقافة الثورة، تشجّعها مثلا على التّسلل على رؤوس أصابعها لمشاهدة عصافير وأزهار وورود الحديقة [أهمس للعصافير فوق الأزهار، سلام، سلام، كنت ألعب ألعابي المفضلة التّي اخترعتها بنفسي في ذلك الوقت..] ثمّ تضيف:[كنت العب ألعابي الخاصة بي فتشعرني بنوع من الحرية، بالاختلاف عن الآخرين،هي لعبة أجدها مفيدة حتّى في هذا الوقت،يكفي ثلاثة شروط لا غير ولا أقلّ،الشّرط الأوّل أن تكون سجين مكان ما، الثّاني أن يكون لديك مكان تجلس فيه لوحدك والثالث أن تقتنع بتواضع أن وقتك لا يهم الآخرين، اللّعبة في غاية البساطة، أجلس على عتبة ما وأراقب بيتنا، أراقبه وكأنني لا أعرفه أو إنني أراه لأوّل مرّة..]..
[ 3 ]
"شامة" راوية الحريم تتقمّص دور شهرزاد وهي تحكي مختارات من ألف ليلة وليلة، فتسحر بها الصّغيرة فاطمة، وكان لهذا السّحر تأثير غريب على الصّغيرة التّي أصبحت معجبة، ليست معجبة فقط، بل ماسورة بسحر الحروف والكلمات[تأكّد لي وأنا أسمع قصص لالة شامة أن سعادتي مرتبطة بقدرتي على نطق وفهم وكتابة الحروف]، تكتشف الحكاية المثيرة "مينا" العبدة التّي لا عائلة لها، لالة راضيّة المتعلّمة لكنّها شديدة المحافظة. تقول إن الحريم حماية للمرأة وستر لها وعليهن أن يحمدن الله على هذه النّعمة، أيهما أفضل لهن؟ البقاء في البيت أو الخروج للشّارع للعمل أو ما شابه ذلك فتصبح عرضة للرّجال، أيضا لالة يسمينة جدّة فاطمة ويعيش معها جدّها "التازي" المزاوج، لديه نساء في الحريم نفسه وأخريات في المزرعة التّي يملكها، الفرق بين الحريمين، هو أن حريم المزرعة بدون جدران، أو بدون أسوار كما هو الحريم التقليدي، حريم"على الهواء مباشرة" تقول المرنيسي ساخرة، لكن "الحدود" واضحة وبارزة ولا يجرا احد على تجاوزها، وبالمقابل نساء حريم المزرعة محظوظات، فبمقدورهن الخروج للحقول، ممارسة فلاحة الأرض، بل حتى ركوب الخيل والرّكض بها وأمور أخرى مسليّة، إذا، تقول فاطمة أن لا احد يشعر بالضّجر والرّتابة، الطبيعة، الفصول الأربعة ومواسم كثيرة حيث لنساء حريم المزرعة طقوسهن الكثيرة [لا نشعر بالرّتابة في المزرعة، لأننا نستمتع بخرير مياه الوادي، زقزقة العصافير ونسمات ريح الرّبيع الخفيفة والمنعشة، نسمات تخلخل برقّة الحدود وتبعثر هرميّة الحريم دون أن يشعر بها أحد]، لالة ياسمينة امرأة قويّة الشّخصيّة، واثقة من نفسها ولا تقبل المقاطعة أو الرّفض، بركان حقيقيّ، في شجار دائم مع الزّوجات، هناك "لالة ثور" استفزازية ومعتدّة بنفسها، رغم أنها من عائلة ارستقراطية وأنها أحضرت معها الأثاث والجّواهر والحليّ إلا أنها وجدت نفسها برفقة نساء اقلّ منها، ينحدرن من طبقات اجتماعية تحتقرها، تقاسم الحريم كلّ أشيائها[وجدت نفسها محصورة مع نساء متواضعات وبسيطات، تقاسمهن كلّ شيء، مصير واحد وقدر بائس، تدرك وهو إدراك حزين أنها تقاسمهن حتى زوجها]،ما يميّز الحياة في الحريم هو أن نساءه يتعلمن درسا مهما، وهو التعايش مع بعضهن رغم حساسيّة المشاعر والعواطف المشحونة بالتوتر، فقط المرأة الذّكية والحكيمة تعرف كيف تعيش الحالة وكأنها سمكة في نهر، لا فرق بين الأسماك مادام هناك زوج يقبل بهن في حياته، مثلا، غرسن شجرة موز ليايا الزّوجة السّوداء القادمة من السّودان حتّى تشعر بأنها في بيتها، من كلّ نساء الحريم استطاعت فاطمة نسج علاقة صداقة متينة مع الفارسة الرّيفية لالة تامو، كانت لالة تامو ملفتة للنظر بشكلها الخارجي، جسدها والحلي والأسلحة التّي تتزيّن بها، ولم يمر وقت طويل حتى تزوّجت بالتازي، كانت جميلة، متمرّدة وشهيّة [اكتشفت نساء الحريم انه توجد طرق أخرى لتكن مغريات وجميلات]..

 [4]
تكتب فاطمة المرنيسي عن القرآن الكريم والإسلام وتحكي كيف أنهم كانوا يطلبون منها أن تحفظ آيات قرآنيّة دون أن تطرح سؤالا [كنت أعرف أنه لا أحد، عندما أقول لا أحد فإنني أقصد الجّميع سيطلب مني رأيي في موضوع من موضوعات الدّين، كلّ التقاليد، الطقوس وعادات فاس مكتوبة بأحرف كبيرة يصعب نسيانها، بالطبع أقصد فاس المدينة التّاريخية الحافلة بالأماكن والمساجد والمعابد المقدّسة..]، تتحدّث عن الهندسة العمرانيّة، ليست هندسة واحدة بل هندسات كثيرة، هندسة أندلسيّة، يهوديّة وفرنسيّة وهذا ما يجعل من فاس مدينة متفرّدة عن دون غيرها ولا ينافسها غير مراكش الجّميلة ومكناس الأنيقة والرّباط الكبيرة، لكن تبقى فاس دائما ذات نكهة خاصة، تكتب عن العائلة، التّعليم وعن الحياة الاجتماعيّة في الحريم الذّي أصبح بالنّسبة لها مع مرور السّنوات ثقيل، مرهق للنّفس والأعصاب بسبب التّفاصيل المكرّرة والسّطحيّة، الأطفال يكبرون، يتزوّجون وبرفقة عائلاتهم الجّديدة يقيمون في الحريم نفسه، ما يتغيّر هي الذّهنيات [تتغيّر العقليات بالتدرّج، كلّ واحد من هؤلاء يركن لمخيلته التّي تأخذه إلى الفضاءات الموعودة، عوالم بعيدة وجديدة تبعدهم عن المكان الذّين عاشوا فيه، يبنون لهم ولعائلاتهم الصّغيرة ملاذات آمنة لأحلامهم الكثيرة]، كلّ واحد منا يطرح الأسئلة، أسئلة ملحة وجريئة ولكنها مكتومة الأنفاس عن الحريم، هو الخوف من التابو أو الخوف من الحقيقة الخطيرة أو أنها خطوة كبيرة للرحية المنشودة نقيض ثقافة القبيلة؟، هي أيضا تطرح ذات الأسئلة التّي يمنع على الفتاة أن تطرحها، الكلّ يحلم بالسّعادة، كيف تكون؟ ما مصدرها؟، حتى أم فاطمة تحلم بأن تشاهد بناتها وقد أصبحن نساء جميلات، متحرّرات، يعشن حياة عادية خارج الأسوار، اكتشاف العالم بأشكاله المختلفة التّي تسرّ وتسعد النّاس [العالم الحقيقي بالنسبة لها يتجاوز الحريم وفاس،عالم أشبه بكوكب لا تشوبه شائبة جنون البشر وجهلهم، حيث المنازل بدون أبواب ولما لا بدون أسقف، والنوافذ الكبيرة تطلّ مباشرة على الحديقة]، ثمّ تكتب [أدركت وأنا أقرأ أفكار آمي أن حياة المرأة هي متتاليات من الفخاخ، لذا كانت دائما تمنّي نفسها أن تطير منسجمة مع رغباتها في تغيير العالم والبحث عن موطأ قدم في مكان آخر.]، لا تغفل أيضا الحياة السّياسيّة في ذلك الوقت، الوطنيون المناضلين، جبهة واحدة ضدّ الاحتلال الفرنسي، العبوديّة، تعدّد الزّوجات ودعوة الآباء لإرسال بناتهن للمدارس.

[ 5 ]
كلما تعمّقنا في "أحلام نساء، طفولة في الحريم" تفاجئنا الرّاوية فاطمة الرمنيسي وهي تسرد علينا حقائق وحقائق منها ما يتقبلها العقل وأخرى يرفضها، تحكي وتطرح الأسئلة البسيطة، الصّعبة وحتى منها السّاذجة، أسئلة حول ما يدور حولها ولا تجد من يجيبها، تسأل عن [المسيحيين القادمين من أرض الثلج]، نقرا فصل بأكمله حول العالم،عن الحرب العالمية الثانيّة، الألمان الذّين احتلوا فرنسا واضطهدوا اليهود، اكتشفت بحادة ذكائها المشاكس هي وابن عمها أن الألمان يقتلون كلّ شخص لون شعره أسود!!،إذا ماذا فعلت؟، [عندما اكتشفت أنا وابن عمي أن الألمان يقتلون أيّ شخص يكون لون شعره اسود قررت تغطية شعري بمحرمة أما سمير ففكّر في صبغه بلون آخر، سألني إن كان لون "الحنّة" يناسبه فوافقته، ثمّ اخبرني انه لا يرغب أن تصيبه لعنات هتلر، ملك ألمانيا]، والأجمل عندما تحكي عن الطائفة الأندلسيّة، أي المغاربة من أصول أندلسيّة في فاس، والطائفة اليهودية التّي تقطن في حيّ خاص بهم اسمه " Mellah"، والذّين كانوا يعيشون في انسجام وسلام مع المسلمين، ثمّ تتحدّث عن أميرة لبنانيّة صاحبة صوت مهيب اسمها "اسمهان"، [صوتها نغمة جميلة وعسليّة لا يقاوم سحره، يجرف قلوب النّساء برخامته وهشاشته، كانت تغني الحاضر، حاضر الرّغبات المجنونة، حاضر يخرجنا من واقع الأسوار والأبواب المغلقة، كلّ نساء الحريم تحلمن بحرقة مثلها هي، تحلمن بلحظات سعادة وهن يرقصن في أحضان رجل غربيّ، رجل يعرف كيف يفهمهن، يشاركهن السّعادة الحقيقيّة، نساء الحريم يحلمن بالسّكينة ولا تأتّى هذه الحالة إلا بالحبّ والسّعادة، هي قطيعة جذرية مع قوانين الجّماعة ومتطلبات القبيلة، لكن ما فائدة الحياة بدون أن نعيشها بهذا الإحساس الجّارف، حتى لو حياة تشبه حياة اسمهان القصيرة لكنها حياة اختارتها برغبة منها لكنها يا لها من حياة، في نظرهن هي أفضل بكثير من حياتهن المطبوعة على احترام التقاليد في مؤسسة تزرع الحداد وتقبر أوهام حياة واعدة بالأمل]، الإحساس بالعيش الحقيقي يبدأ أولا بالبحث عن الانبهار بالمجهول، مجهول المجازفة والغير العادي، إنه المختلف الذّي لا يمكننا الإمساك به [أقصد الحياة الوحيدة الجّديرة بالعيش بدون حدود أو لا شيء..]،ثمّ [الكرامة أن يكون لديك حلم، حلم يعطيك رؤية لعالم ما يكون لك فيه مكان، حتّى لو كان مكانا صغيرا لتغيير الأشياء، ليس كلّها بل بضع أشياء، حتى لو حدث وكنت في حريم).