عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي

عصـام بن الشيخ

محطات "الرحلة المرنيسية" في تفكيك قيود البطريركيّة العربية على "الحريم"… حول أعمال عالمة الاجتماع المغربية "فاطمة المرنيسي". تشتغل عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي Fatéma Mernissi، المولودة في مدينة فاس سنة ١٩٤٠، على مشاريع نقديّة أدبيّة وأكاديمية هامة، في رحلة الانتصار للمرأة العربية المقهورة، لتضع نفسها في مواجهة حجج البطريركية الذكورية لفئة "مبغضي النساء"، الذين مارسوا وصاية تحكميّة والغائية ضدّ دور وكيان المرأة، مختبئين وراء "تأويلات" فقهية "مساءة التوظيف"، لا تعكس تطبيقاتها في الواقع، ما ورد في مضامين النصوص الإسلامية المقدّسة، التي تؤكّد على ضمان حقوق المرأة، وصون كرامة النساء "شقائق الرجال".

خلال ثلاثة عقود من الكتابة التراكميّة في ميادين البحث السوسيولوجي والفكر والأدب، قامت فاطمة المرنيسي بتحليل أسباب التسيّد الذكوريّ القهريّ على المرأة العربية، من خلال الحفر في النصوص الشرعيّة "القرآن" والحديث "السنّة النبوية الشريفة"، لتأكيد دفاع الإسلام عن المرأة كأساس يلغي كلّ الافتراءات المسيئة للدين الحنيف، حيث تنطلق من تصميمها على تفنيد مبرّرات التسلّط القائمة على مزاعم دينية "غير صحيحة التأويل"، قبل أن تقدّم اضاءاتها النقدية، في إبراز الأدوار والمساهمات "الخفيّة" للمرأة في التاريخ الإسلاميّ، وتثبت خطأ حجبها في السرد التأريخيّ، أو التغطية المقصودة على وجودها في التراث الإسلاميّ، وتذكّر في المقابل، بانعكاسات الهزيمة التاريخية للمرأة القيادية المسلمة، أمام منظومة المفاهيم التراثيّة "البيتيّة/ المنزليّة"، الجاهزة والمقولبة، وأثرها في تنميط "تمثّلات إخضاع النساء" في غالبية المجتمعات الإسلامية الحديثة، وحصرها في صور: "الحرمة، الحجب، المنع، السجن، القيد، اللعن، الوأد، التأثيم، الضلعنة … وغيرها".

الصداقة مع الخصم. . في سبيل التمكين الفكريّ للنساء قدّمت المرنيسي من خلال فكرها الألمعيّ وأسلوبها الجريء في النقد، قراءات جديدة للتراث، كسرت من خلالها المحاذير و"التابوهات/ المحرّمات" المتمركزة على الفكر التقليديّ الذكوريّ "أحاديّ البعد"، مؤكّدة أنّ مصير المجموعات النسوية الصامتة، متوقّف على وعي المرأة العربية بذاتها، وإيمانها باستحالة تأويل نصوص الرسالة الإسلامية، بطريقة قد "تمنهج" قهر المرأة، أو تحاول أن تمنعها من المساهمة في إبراز شخصيتها السياسية، والتعبير عن رأيها بكلّ حرية. فالنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، لم يمارس أيّ تمييز ضدّ المرأة المسلمة، بل أكّد مساواتها والرجل في الحقوق، من منطلق "التناسب" و"التبادليّة"، وجعل حقوق النساء، معيارا يقيس به المجتمع الإسلاميّ، حقوق الرجال.

يقترب طرح المرنيسي من نقد المفكّر الفرنسيّ الراحل روجيه غارودي لأطروحات التحرّر المفرط الذي نادت به سيمون دو بوفوار في مؤلفها الشهير "الجنس الآخر/ الثاني"، وتزدحم الأجندة البحثية لفاطمة المرنيسي بالانتصار للمرأة العربية المقهورة، لكنّ ضمن "الحدود" والأطر الشرعية، التي لا تمنعها من المشاركة السياسية بشكل تمييزيّ قطعيّ أو نهائيّ، وتعلن رفضها للنموذج الغربيّ من التحرّر "التمرّديّ" للفيلسوفة الوجودية سيمون دن بوفوار، حين تنقد التجربة البطريركية للرجل الغربيّ.

تناقش المرنيسي أطروحات دعاة النزعة الأبوية في عالمنا العربيّ، انطلاقا من "إعلان الصداقة مع مزاعم نزعة المحافظية"، ولئلا تعلن الخصومة مع البطريركيين بشكل مباشر، قبل أن تبدأ رحل التفنيد العلميّ لأسس نظريات "التأثيم" و"الضلعنة"، التي تدين وبصورة تهجّمية "المرأة"، منذ ما سمّي بخطيئة حواء الأولى، بإخراجها سيّدنا آدم من الجنّة، وبأنّها خلقت من "ضلعه الأعوج"، ناهيك عن نظريات الانقلاب على "الإله الأنثى" في الفكر النسوي الغربي اللاهوتيّ، حيث تمّ تذكير الآلهة، وتأنيث صور ومظاهر العجز والتخلّف والضعف والتقييد والسلبية والانهزامية وسوء القيادة … وجعلها لصيقة بـ"المرأة/ الكائن غير المرئي"، مقابل منح صفات "الذكورة" كلّ مقومات العلوّ والرفعة و"القوامة" مساءة التوظيف في واقعنا العربيّ، والفحولة، واحتكار الرجل لميزات الظهور المستمر، الرئاسة، الذكاء والاقتدار والتفوّق والجمال والعبقرية. . أو الصفات الأساسية، التي صيّرته المحرّك المركزيّ للتاريخ الإسلاميّ بأطواره المختلفة، فيم احتلت النساء مكانة توصّلت بهنّ إلى الهامش، بل والحضيض (القاع)، حين أضحى "تشييؤها" أو "حيونتها"، ظاهرة مألوفة ومعتادة.

المرنيسي أشهر من نار على علم في الغرب؟ عندما تتولى امرأة بوزن فاطمة المرنيسي مسؤولية الدفاع عن المرأة العربية ضدّ البطريركية الأبوية Patriarcat/ Patriarchy و"الهيمنة الذكورية The Hegemonic Masculinity"، فهي تتسلّح بكلّ ما تمتلكه من قدرات معرفية وأهداف رسالية، لتضع نفسها في مواجهة تبعات تكريس التراث الذكوريّ، وكافة الأطر المفهوماتية الجائرةThe Unfair Concepts المنضوية تحته، وما تنطوي عليه من ممارسات التمييز والعنف الرمزي ضدّ النساء، إذ لا تهمل المرنيسي في بحثها التفكيكيّ للسلطوية الذكورية، الصفات المشتركة لما اصطلح على تسميته "الجنس المقموع" أو "الكائنات غير المرئية"، المحكوم عليها: "بالمنع، واللاّوجود، والصمت"، كما يقول الفيلسوف الفرنسيّ البنويّ ميشال فوكو Michel Foucault ١٩٢٦–١٩٨٤م، في ثلاثيته الشهيرة "تاريخ الجنسانية"، حيث يقهر الرجل الغربي كما العربيّ، المرأة، لكن بوسائل العولمة، المختفية والمستترة.

صنّفت فاطمة المرنيسي ضمن فئة أقوى ١٠٠ امرأة عربية، بعد أن حصلت سنة ٢٠٠٣ على الجائزة الإسبانية للآداب، عن أعمالها الهامة في بحث قضايا المرأة، حيث انتقلت هذه الباحثة النسوية المتميّزة من السياق الأكاديمي والبحث العلميّ، إلى عالم الرواية والأدب، كما فعلت وتفعل العديد من المفكرات العربيات أمثال هدى شعراوي، نوال السعداوي، ميّ زيادة، ميرفت حاتم، رجاء بن سلامة، عائشة التايب، أمال قرامي، نفيسة لحرش. . وغيرهنّ، كما صنعت المرنيسي اسما لامعا وسط مجتمع الكتّاب العرب في الغرب، يضاهي أسماء عالمية من وزن سيمون دو بوفوار، كريستينا وولف، ألكسندرا كولنتاي، سعاد جوزف، نائلة كبير … وغيرهنّ. وقد أفادها حضر كتابها الشهير "الحريم والسياسي… النبي والنساء" في المغرب، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في جعلها محطّ اهتمام القرّاء والنقاد والباحثين في عالمنا العربي وخارجه، خصوصا وأنّ قضية المرأة قد تحوّلت إلى "قضية سياسية وثقافية عالية الشحنة، تؤجّج الصراع بين الجنسين" في كلّ بقاع الأرض، وأضحت التجربة البحثية للمرنيسي، تجربة "مرجعية" في تصحيحها للنظرة الخاطئة عن الشريعة الإسلامية.

مشروع إسقاط البطريركية في الرحلة العلمية والأدبية لفاطمة المرنيسي . . الأفكار والأدوات النقدية . . كتبت فاطمة المرنيسي كتابا هاما حمل عنوان: "ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية"، وانطلقت منه في مناقشة فرص الخروج عن المنهج البيولوجي والطبّ الجنساني، بعد اعترافها بدور هذا الإطار المعرفيّ الهام، في تبرير فاعلية أو سلبية المرأة، معلنة استغناءها عن المعيار البيولوجيّ لصالح الحفر في التراث الدينيّ بأنواعه ومشاربه ومدارسه النظرية المختلفة.

تتقاطع المرنيسي مع التحليل الذي يعتبر أنّ خطاب المرأة في القرآن الكريم يأخذ شكلين رئيسيين، الأول "مصرّح بهّ"، والثاني "غير مصرّح به"، ويحمل دلالات نفسية هامة عن المرأة، لأنّه ينقل عبر القصص القرآني حالات عديدة من النساء اللواتي كان لهنّ مكان في العديد من الديانات السابقة التي سبقت ظهور الإسلام، إضافة إلى النساء اللواتي لعبن أدوارا هامة في فترة الإسلام، قبل انقطاع الوحي وختم الرسالة الإسلامية بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فمثلما مجّد القرآن وشكر سلوك زوجة فرعون وملكة سبأ ومريم ابنة عمران، فقد ذكر مصير زوجة نوح وزوجة لوط.

أسّست فاطمة المرنيسي لخطاب نسائي عقلانيّ في المغرب، لأنّها أضفت شرعية على مطلب تحرّر المرأة وبشكل مختلف، لكنّها تعود في كتاب "الحريم والسياسي… النبي والنساء"، لتنقد البطريركية المستبعدة للنساء في التجربة الثيوقراطية الإسلامية "الاكلوريسية" أثناء الخلافة، وفسّرت بعض سلوكيات "مبغضي النساء" عبر العصور التي سيطر عليها الملوك فيما بعد، قبل أن تصل إلى النماذج المعاصرة من حكم الأئمة والملالي، الذين أشرفوا على تجريد ملايين المواطنات المسلمات من حقوقهن السياسية. وتعتبر المرنيسي السفر والحفر في مكنونات التراث الإسلاميّ رحلة محفوفة بالمخاطر، وتنذر بالانزلاق في مواجهة الرقابة المتشدّدة على النصوص المقدسة، ومن الواضح أنّ "مفهوم الحدود" مفهوم مركزيّ في منظومتها الفكرية حسب الباحثة السورية فاطمة حافظ، لأنّها اعتمدت على استخراج "مفهوم الحريم"، الذي قسّم الفضاء المجتمعيّ في التاريخ الإسلامي، إلى فضاء داخليّ محرّم على الرجال، وفضاء خارجيّ مفتوح على الرجال ما عدا النساء، فـ"الحرمة" حسب المرنيسي هي: "ذلك المكان المقدّس، الذي يمنع على الرجال دخوله، لكن يمنع أيضا على المرأة الخروج عن الحيّز المحدّد له".

حفرت المرنيسي في التراث الإسلامي باستخدام منهج التأويل المعاصر للتراث، الذي يدير ظهره لمنهج التحليل البيولوجي، كما يقول المفكر تركي الربيعو، للحصول على إجابات مقنعة تفسّر التناقض القائم بين إجلال الإسلام للمرأة من جهة، وقهرها في التاريخ الإسلامي في المقابل، حيث تقترب المرنيسي من ميشال فوكو في بحث العلاقة بين الجنس والسلطة والمعرفة، لكنّها تختلف مع طرح المفكرة النسوية المصرية نوال السعداوي التي ولدت سنة ١٩٣١، التي تدافع عن تحرّر المرأة، باستخدام المنهج العلميّ الطبّ الجنساني والبيولوجيّ، الذي يؤكّد انتفاء وجود أيّ دليل علميّ في البيولوجيا والفيزيولوجيا أو عم التشريح، يثبت أنّ المرأة أقلّ من الرجل عقلا أو جسدا أو نفسية.

الاستفادة من السياق العالميّ للنسوية العالمية. . المرنيسي بين الشرق والغرب. . النهوض بأوضاع المرأة العربية. . لمواكبة عجلة التاريخ لقد تحوّل هدف تمكين المرأة The Women’s Empowerment، في خطط هيئة الأمم المتحدة سنة ٢٠٠٠، إلى أحد أهمّ أهداف الألفية الثالثة The Millenium Goals/ Les Objectifs du Millénaire الهدف الإنمائي الثالث، وخرجت القضايا الجنسانية من دائرة الخجل المطلبيّ، ولم تعد "تابو" محرّما معرفيّا أو مفهوما مقدّسا، بعد تضمينها أجندات هيئات المجتمع المدني العالمية والإقليمية الدولية والمحلية. ولم يعد هناك مجال لتلافي الخطاب النسويّ، الذي عرف ظهور خطاب نسويّ متطرّف، بعد أن أصبحت بعض الحركات تتبنّى منظورات راديكالية ومفاهيم متطرّفة، تعمل على تصعيد الصراع ضدّ الرجل عن طريق التهديد باحتمالية "الاستغناء النسائي عن الرجال"، حيث لا تدعم المرنيسي فكرة تأسيس مجتمعات ماتريركية أمّويّة أنثويّة Matriarchy/ Matriarcat تحت سلطة الأم، لتلغي سلطة الأب، بل تحاول أن تساهم في تغيير وضعيات مركزية الرجل وهامشية الأنثى، وإعادة توزيع السلطة بين الجنسين على أساس المساواة بين الجنسين، كما حاجج المفكّر المصريّ الراحل عبد الوهاب المسيري في مؤلفه الشهير قضية المرأة: بين التحرير والتمركز حول الأنثى، حين استفاد من تحليل كارل ماركس، الذي فكّك تمفصلات حركة "تاريخ الانقلاب على الملكية المالية والعقارية للمرأة"، وتحوّلها من الملكية الماتريركية الخاصة، نحو الملكية البطريركية العامة، التي ألغت تحكّم النساء في مصادر التموييل "التمكين الماديّ والاقتصاديّ للمجتمع الماتريركيّ".

كما تابعت المرنيسي تفرّد المفكّر العربي الراحل هشام شرابي في تفكيكه لظاهرة النظام الأبوي "البطريركية" وتعريتها دفاعا عن قهر الأغلبية من الجنسين، وهي تدرك تماما أنّ الغرب نفسه شهد سجالا محتدما حول حقوق المرأة، حين وقف جون ستيوارت ميل "نصير المرأة" في مواجهة تيار تنويريّ واسع، ممانع لفكرة المساواة بين الجنسين على الصعيد السياسي، حيث رفض "ميل" مبرّرات استبعاد النساء من الصراع على السلطة، وشعورهنّ بتدنّي مساواة مواطنتهنّ مع الرجل في التجربة الانجليزية، وهو الذي رفض وبشكل صريح أن تحرم النساء من جميع الامتيازات السياسية الممنوحة للرجال، ناقدا الفلسفة التمييزية للحداثة الغربية، بجرأة كبيرة، لم تستطع مجابهة واقع فرضه، منطق قادة وسياسيين عظماء عبر التاريخ، تتوقف فكرة الديمقراطية في عقولهم، على الرجال دون النساء، كما هو حال السياسيّ الأميركيّ توماس جيفرسون الذي قال على الرغم من تأكيد إعلان الاستقلال الأمريكيّ أنّ جميع البشر خلقوا متساويين: "لا بدّ على النساء أن يستثنين من المناقشات والوظائف العامة لأنّ اختلاطهنّ بالرجال، سيؤدّي إلى الانحطاط". أو فلاسفة متنوّرين كما هو حال الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche ١٨٤٤–١٩٠٠م، الذي أطلق مقولته الشهيرة: "المرأة فخ نصبته الطبيعة/ The woman is a trap installed by nature"، منبّها من خطر الخطاب التحرّري النسوي، وجون جاك روسوJean Jaques Rousseau ١٧١٢–١٧٧٨م، الذي قال مخاطبا النساء: "إنّ حظّ جنسكنّ أن تتحكّمن دائما في جنسنا، كزوجات وأمّهات، لا كمواطنات"، معتبرا أنّ "الهيمنة الذكورية على النساء، سلوكات طبيعية".

التعليم … "السلاح الأساسي" للتحرّر عن البطريركية … تحدثت المرنيسي عن أهمية استخدام تعليم المرأة في منع ممارسات التمييز بين الجنسين، وأعطت مثالا عن الأيديولوجيا الاستعمارية التمييزية التي كرّست اللامساواة بين الجنسين في فترة الاستعمار الفرنسيّ للمغرب، كما اعتبرت عمل المرأة وحصولها على مهنة مأجورة خارج البيت، نهاية لمرحلة ونسق تاريخيّ بطريركي، على الرغم من أنّ نساء القرى والأرياف عرفن مفهوم العمل، قبل المرأة المدنية في الحضر، وبكثير. أما في كتابها "هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟ "، فدرست المرنيسي تاريخ الحريم في العصر العباسي وفي الحكم التركي والأندلسي، وأكّدت في ذلك السرد التاريخيّ الهامّ، الكلفة والخطورة العالية لظهور أيّة شخصية نسوية في الفضاء العام، أو ارتباطها بأحد الساسة أو جميع السياسيين، أو بقضية سياسية معينة.

أما في كتاب "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، ترى المرنيسي أنّ النساء كنّ "عنصر تمرّد دائم" على ظاهرتي الاستبداد والاغتراب، وأعطت مثالا بالجاحظ "نصير المرأة" الذي قال: "إنّ امرأة موهوبة ومتعلّمة، لن تستغلّ موهبتها في السيطرة على سيّدها". كما اعتبرت المرنيسي أنّ ما توصل إليه طه حسين بأنّ "الخلاص، يبدأ، حين يحدث حوار بين المضطهد والمضطهد"، وينطبق ذلك على مقصد "نضال النساء في سبيل التحرّر" حسب المرنيسي، التي "لا تخشى محاورة الرجال، خاصة فئة محاججي البطريركية الذكورية". أما في مؤلفها الهام "أحلام النساء الحريم"، فقد بحثت مسألة "الحرمة" والنساء "اللامرئيات"، الحريم اللواتي يتمّ إخفاؤهنّ وراء الجدران، وكشفت الجوانب المعتمة لكافة الظواهر المرتبطة بها، ويقترب عملها النقديّ من دائرة أعمال السوسيولوجيّ الفرنسي من أصل جزائريّ مالك شبل، الذي قام بتفكيك وتعرية خبايا الرمزيات الجنسانية للجسد والحجاب والحريم في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

كما توصلت المرنيسي إلى كشف أحوال النساء في مؤلفها الهام "سلطانات منسيات" الذي سردت فيه تجارب لقائدات سياسيات في التاريخ. وقد سبق هذه المؤلفات جميعا، دراسات سابقة أعدّتها فرق عمل بحثيّة، ترأستها فاطمة المرنيسي في الجامعة المغربية، جمعت أسماء سوسيولوجيين مرموقين أمثال: فاطمة الزهراء أزرويل مترجمة معظم مؤلفات المرنيسي السابقة، المختار الهراس، رحمة بورقية وعائشة بلعربي، وتناولت المرأة في الخطاب السلفي، وتكريس الفوارق الجنسانية في التراث السلفي ضمن السلسلة الهامة المشهورة بعنوان: "ملامح نسائية: مقاربات نسائية"، وعالجت أطروحات التراثيين الذين يعتبرون خروج المرأة من البيت "عملا مستنكرا"، كما عالج مؤلف آخر لنفس المجموعة، قضية اقتباس القوانين الفرنسية في التشريع المغربيّ الذي يعتبر الشريعة الإسلامية أهمّ مصادر التشريع، والتناقضات المتوقعة بين استخدام التشريع الغربي الوضعي والتشريع الإسلامي الإلهيّ المقدّس.

في المقابل، تستنكر المرنيسي خطاب الحركات النسوية العلمانية الراديكالية، المناهضة للثيوقراطية الراشدة وتدعو إلى التحرّر الجنسيّ، أو شرعية الإباحية والخروج عن الاحتشامات الراشدة، وضرب التابوهات "المحرّمات" الدينية عرض الحائط. لذلك قام المفكر المصريّ الراحل نصر حامد أبو زيد بتشخيص دوائر الخوف من الحداثة بالنسبة للمرأة العربية، واختار فكر فاطمة المرنيسي نموذجا، حين أطلق على ظواهر الخوف من الديمقراطية، الحرية، الحداثة: "دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي"، فهو ينظر بتوجّس كبير إلى إتباع ما ستفرضه الحداثة من تحولات، فالخوف على الأسرة من تحرر المرأة، والخوف من خروجها إلى العمل، والخوف من دخولها ميدان السياسية، والخوف من السفور بنزع الحجاب ساتر الجسد … تشكّل توليفة بين الضمير والنزعة التحررية والانتكاسة النفسية . . وغيرها من محطات النقد الداخلي، فالتمسك بالحجاب على سبيل المثال استخدم في جميع معانيه لنقد سلوك المرأة المسلمة، واعتبار أنّ خلعه إشارة واضحة للخروج من الحداثة، ويخلص أبو زيد، إلى أنّ المراجعات المرنيسية، مقيّدة بالحدود الشرعية، حيث ترافع المرنيسي وبثقة، عن الحدود الشرعية، وعن التجربة الحضارية الإسلامية لتميّز "الأنانية" العربية الإسلامية التي تنتمي إليها، عن الآخر الغربي العلمانيّ.

تطبيع "وجود المرأة" في الفضاء العربي العام . . لا حقوق نسوية في ظلّ الاستبداد والتسلّط. . تناقش المرنيسي الدوافع التي جعلت الثيوقراطيّين المتأخّرين، يحرّمون اشتغال "الحريم Harem" بالسياسة، ويعتبرون دورها السياسي الحزبيّ أو الجمعويّ أو النقابيّ أو حتى الثقافيّ الإنسانيّ: "بدعة تبثّ الاضطراب في انسجام الجماعة"، باعتبار الحركات النسوية "جماعات سلبية" مفرّقة للوحدة المجتمعية، "ذكورية القيادة"، منسجمة البناء.

فعندما تصطف النساء في صفّ "المجتمع المهيمن عليه" و"الفئة المحرومة من الحقوق". . ويوصف سلوكها التمرّديّ على الذكورة، بـ"هاجس التمرّد الانطوائيّ" غير العقلانيّ، نجد المرنيسي مدافعة صلبة ضدّ استبعاد المرأة كما فعل جن ستيوارت ميل. كما قام السوسيولوجي الفرنسي الراحل بيير بورديو Pierre Bourdieu ١٩٣٠-٢٠٠٢م بتعرية ظاهرة "العنف الرمزي" ضدّ المرأة، وتفكيك "بنى التقسيم الجنوسية الجائرة" في المجتمعات المعاصرة، ومبرّراتها غير المنطقية في تنميط الصور والأدوار الجنسانية، في مؤلفه الشهير حول: "الهيمنة الذكورية"، الذي خصّصه لدراسة المجتمع الأمازيغيّ الذكوريّ في منطقة القبائل الكبرى "جبال جرجرة" بالجزائر.

تقترب شخصية المرنيسي العلمية، من المدرسة السوسيولوجية "البوردوية" إذا صحّ التعبير، في إنتاجها للمعرفة، ذات العلاقة بقضية تحرّر المرأة العربية من السلطوية البطريركية الذكورية. تطلّ ظاهرة "تأنيث الاستبداد Feminization of Tyranny برأسها، في مواجهة الفلسفة النسوية الحديثة ورواجها المعرفيّ، لتضع الحركات النسوية في مأزق واقعيّ كبير. فعندما تحصل النساء على حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية يكفلها القانون، دون أن تتمتع غالبية المجتمع بنفس تلك الحقوق، فإنّ "تأنيث الاستبداد" يعني حدوث استغراق لأهداف الحركات النسوية في تصاميم الدولة التسلطية، للانقضاض على الحريات العامة، وتأجير أو رشوة الحركات النسوية لأغراض سلطوية، عبر إدخالها ضمن آليات "ديمقراطية الواجهة الشكلية"، فكثيرا ما تسيل هذه الفرص لعاب الحركات النسوية الوصولية، التي تستعجل تحقيق مثل هذه المكاسب، زاعمة أنّها تساهم في تحرير المجتمع بـ"طرقها الخاصة".

لفاطمة المرنيسي موقف لافت بهذا الخصوص، تظهر فيه احترافيتها الأكاديمية كسوسيولوجية متمرسة، وتقول إنّ انتخابات كثيرة وقوائم طويلة تتمخّض عنها فئة محدودة أو شبه منعدمة لفئة النساء، اللواتي لا يمكنهنّ التوصّل إلى الفوز في الانتخابات، واعتبرت أنّ منح الدستور حقّ التصويت والترشّح للنساء هو مجرّد نصوص ديماغوجية تضمنها القوانين الانتخابية العربية لكن من دون فعالية، حيث فرضت السياسة الواقعية على النساء الالتزام بطلب الحقّ الأول دون الثاني.

أشارت المرنيسي إلى نضال الإصلاحيّ النهضويّ المصريّ قاسم أمين ضدّ التقييد المتعمّد للنساء والامتيازات الحصرية اللامحدودة للرجال، "فلا عجب كما تقول المرنيسي أن تتمخض عن انتخابات يشارك فيها ملايين المصوتين على آلاف المترشحين، فئة قليلة من النساء البرلمانيات الفائزات"، إذا لم تكن هذه النسبة معدومة وكارثية، فالمرأة العربية المهمّشة تحتل مكانة المنفيّ والمقنّع والمحجّب في المجتمع التقليدي، وليس من السهل عليها بلوغ مراتب نضال المرأة الغربية التي توصلت بصعوبة إلى تحقيق ما حققته بعدما احتاج ترسيخ الديمقراطية عدّة قرون من التجربة والخطأ.

غير أنّ المرنيسي لا تزال تعتبر تصويت المرأة "قنبلة موقوتة" في عالمنا العربي، بسبب ما يحمله الصوت النسويّ من فرص التغيير، وقوة رمزية، لا يمكن لأيّ فئة أخرى أن تضاهيه. كما تناضل المرنيسي باعتبارها باحثة مرموقة، تنتمي إلى مجتمع باحثي "النسوية الإسلامية"، لتعرية ظاهرة "تبرير عزل أدوار المرأة في البحوث الاجتماعية التاريخية المعاصرة" على الرغم من أنّ النساء "يحملن نصف التجربة الجماعية في العالم".

تبحث المرنيسي منطلقات حجج ومزاعم تبرير ملابسات "حجب الجانب الأنثوي للعلم Hiding the Feminine Side of Science"، بغرض تغييب أصوات النساء في الدراسات الأكاديمية العربية والإسلامية، وتطبيع ظاهرة "التحيّزات الجندرية للمعرفة The Gender biases of knowledge"، أو ما أصبح يسمى بظاهرة: "عمى الجندر Gender Blindness/ Genre Cécité". وقد كلّفها ذلك، التنقيب عن المعلومات في جميع المصادر الإسلامية الأصلية، سفرا شاقا بين المكتبات العالمية، وقراءة عشرات مجلدات التفاسير القرآنية والصحاح النبوية.

 

الجزائر