فاطمة المرنيسي: فعلا، شهرزاد ليست مغربية

عبد الصمد الكباص

ليس هناك ما هو أسوأ من تلقي خبر رحيل مفكر كبير أو شخصية أدبية أو فنية فذة. في ذلك طعم انعراج مرحلة، أو نهاية مقطع أثير من التاريخ بأسئلته وشكوكه وآماله . فهاهي المرنيسي ترحل، مخلفة عالمنا محاطا بحزمة من الشكوك الجدية حول مصيره، ومصير القيم التي شكلت محور نضال الحالمين النبلاء، وفاطمة منهم ، الذين يصدقون أن الحرية هي التي ستنتصر في نهاية المطاف ، وأن تقاسم الحقوق بالتساوي والتضامن والعدالة ستكون لحمة الأسرة الإنسانية في كل مكان، وأن العالم سيكون أجمل لأن الجوهر الإنساني سيطفئ نيران الحقد والتعصب للمصالح العمياء التي لا تنتج إلا الخراب.
فاطمة المرنيسي اسم كبير لتغير عميق في الزمن الثقافي المغربي . فقد غطت أعمالها المشحونة بجرأة لم يسبقها فيها أحد من الباحثين المغاربة ، صيغة جديدة في إدراك القضايا الأكثر عمقا والأكثر تأثيرا ليس فقط في ثقافة المغاربة والعرب، ولكن في اختناقات حياتهم الجماعية والفردية، أي تلك القضايا التي ظل التعامل معها محكوما بصمت مريب، وبواجب عدم الكشف والتناول .

مع فاطمة المرنيسي أضحى للمغاربة سبيل مفتوح لمواجهة أسئلتهم المحرجة، التي تدق عميقا في جذور الإشكاليات الكبرى التي تحسم مصيرهم. فببصيرتها السوسيولوجية، تمكن الزمن الثقافي المغربي المعاصر، من التمرن على سؤال الهيمنة الذكورية، باعتبارها نظاما عاما صاغ تفرعات تاريخ طويل، فرغ نفسه في أشكال من الحكم امتدت من حكم الدولة إلى حكم الفرد. ووزعت المجتمع حسب هندسة جنسية، دعمتها منظومة قيمية ونتجت عنها تراتبيات قاسية.

لم تكن فاطمة المرنيسي فقط واحدة من أشهر مفكري المغرب المعاصر، وصاحبة الأعمال الناجحة التي حصدت اهتمام ثقافات شعوب أخرى فترجمت إلى العشرات من اللغات، ولا المتوجة بجوائز وتكريمات عالمية لا يسع المرء إلا أن يفخر بها، بل كانت أيضا واحدا من الأعمدة الثقافية التي لا يمكن تصور المغرب المعاصر من دونها . فهذا المغرب ليس فقط سلسلة الأحداث التي رتبت قواه، ولا الصراعات التي أدارت تطوره ، ولكنه ، وفي الصميم ، جملة الأسئلة التي ولّدت وعيا بضرورات جديدة، ذلك الوعي الذي صار اليوم أليفا وعاديا ، لأن شروط مخاضه العسير أضحت محجوبة عن الأعين .

فمثلما حرر عبد الكبير الخطيبي، وعينا من السبات الذي يغرقنا فيه منطق الهوية، وفتح أمامنا فرصة التفكير في رصيد وجودنا الثمين من الاختلاف ، فتحت فاطمة المرنيسي ، وعينا على أسئلة حادة في جرأتها حول منظومة الذكورة، ولحظة ولادة المرأة كحق وكمجال لإنصاف المجتمع لنفسه. ويسرت بروز سؤال الجسد الذي صار اليوم انشغالا خاصا لجيل جديد من المفكرين المغاربة، أي أنها، بخلاصة مركزة، رفعت سقف الحرية فوق رؤوس المثقفين، وجعلت الأجيال الجديدة من المفكرين تحرك أسئلتها بيسر كبير.
ظلت فاطمة المرنيسي واحدة من أولئك الكتاب الذين قال عنهم هنري ميللر في عمله "الكتب في حياتي"، إنهم يفتحون كتاب الحياة من أجلنا، حيث يتلاحم لديهم الفكر والوجود والفعل، ويحظون بحياة فريدة وملهمة بالنسبة لنا. وبقدر ما نجحت المرنيسي في كشف سلطة التأويل على النص، هذه السلطة التي رسمت في تاريخنا مآسي وحلقات دامية من الظلم المتواصل ، نجحت أيضا في أن تمنحنا فرصة التخفف من النظرة المبتذلة للسياسة. إذ ليس المهم هو إسقاط حكومة وتعويضها بأخرى، وإنما الأهم هو صراع الكائن من أجل حريته . تلك هي السياسة الأعمق، أي دفع الكائن إلى الوعي بضرورة التحرر من سجن من صنعه الخاص.
لم تصنع فاطمة المرنيسي فقط كتبا ومؤلفات، بل بنت من خلال حياتها نصا رفيعا في جماليته. فكما هو الأمر بالنسبة لباقي حكماء العالم، خبرت الحياة حتى الثمالة، ووهبت الحياة.

فقد كانت من طينة أولئك الكبار، الذين " لا يسعون لفرض سلطتهم على الإنسان . . بقدر ما يسعون إلى فتح أبواب الحياة، وجعل الإنسان جائعا إلى الحياة، ليبتهج بالحياة. . "هنري ميللر فاطمة المرنيسي رحلت ، ولم يرحل سؤالها. فكل ما نحتكم إليه اليوم، كجيل من المثقفين والمفكرين، من جرأة وجسارة في التناول والمساءلة، لم يكن سوى تقاسم لذلك الميراث الثمين الذي خلفته عبر أعمالها الشامخة، من نفاذ الرؤية، ودقة التوصيف، وشجاعة المساءلة. إنها نصب كبير في قلب ثقافتنا، سيظل يحركنا ويطالبنا بمزيد من الجرأة والإبداع.