يطرح الناقد المغربي في هذه الشهادة تصوره لوقع الهزيمة على بنية الواقع العربي السياسي منه والثقافي ويبلور فيها بعضا من نفاذ رؤيته التي طرحها بشكل تفصيلي في مقاله في (الكلمة) عدد 3 "الإصلاح المحرر: تفعيل جدلية السياسي والثقافي".

الأفق المفقود

محمد برادة

تردٌدت في الاستجابة إلي الحديث عن النكسة بعد مرور 40 سنة عليها،لأنني أضيق بترداد ما قلناه وقاله آخرون عن تلك الواقعة التي كشفتْ المستور، ووضعتْنا وجها لوجه أمام الواقع المخيف من دون رتوش أو تمْويه. إلا أن إعادة طرح السؤال في السياق الحالي، قد يدفعنا إلي محاولة الخروج من التحليل الجاهز وتكرار المعجم المتحدٌر من صدمة حرب 1967. وما أكتبه هنا، لا يتعدٌي محاولة رصد بعض تجليات النكسة في سياقنا العربي الراهن، من دون ادٌعاء تقديم "العلاج"، لأن هذا الزٌعم يقودنا إلي الانخراط في "أحلام يقظة" تتدفق فيها الاقتراحات والحلول من غير تدقيق في شروط الإنجاز والتٌحضير للفعل المثمر، القادر علي أن "يعضٌ" لحم الواقع بدلا من فقاعات الاستيهام!

لكنني أريد، بدْء،أن أتساءل عن الوضع الاعتباري لكلمة "نكسة": هل هي مصطلح يحيل علي واقعة تاريخية، وفي الآن نفسه يستدْعي إلي ذهننا حزمة من الإمكانات النظرية التي يمكن تشغيلها لتوْليد معرفة جديدة، تسمح بمجاوزة السياق التاريخي الذي تولٌّد عنه المصطلح؟ أم أنها مجرد كلمة تحيل علي نتيجة حرب دارتْ بين إسرائيل وبعض الدول العربية؟ إذا أخذنا كلمة "نكسة" في دلالتها الثانية، فإنها ستندرج ضمن نفس المعجم الذي استمِدٌتْ منه كلمة "نكبة" بعد انتصار المشروع الصهيوني وطرد الفلسطينيين من أرضهم.

* * *

وعندما ننبش قليلا، سنجد أن نكسة، مثل نكبة، تخفي أكثر ممٌا تجلي. إنها تخفي فداحة الهزيمة والانهيار، وتخفي ما هو أبعد وأعمق، أي عجز الدول العربية عن الانخراط في القرن العشرين استنادا إلي منطق العصر وقيّمه الفاعلة، المغيرة لدفٌة التاريخ ولسلوكيات الأفراد.

من هنا، تبدو كلمة نكسة محايدة لأنها توحي بأن ما وقع عابر وأن هناك بعد كل انتكاس نهوضا، ومن ثم وجّب التذكير وإحياء الذكري لاستثارة الهِمم... صحيح أن النكسة لا يمكن أن تصبح قدّرا إلي الأبد، غير أن ما تنطوي عليه من تمويه قد يطيل من عمر العواقب المتولدة عنها، ويؤخر تبلور وعيي مضاد للنكسة. لذلك أري أن علينا أن نستبدل "نكسة" بكلمة أخري تكون أقرب إلي المفهوم باعتباره "تاريخا وأداة"، أي يشير إلي الواقع ويسعف في ذات الآن علي تحليله ومجاوزته. وفي هذا الصدد، أفكر في ربط نتائج حرب 1967 بمفاهيم أخري تعوض كلمة نكسة، مثل: بداية التدهور، عهد الأفق المفقود، النهوض المعاق... وأدعو بهذه المناسبة، فلاسفتنا إلي ابتداع مفاهيم ومصطلحات تسعفنا علي تحليل الوقائع الأساس في تاريخنا، وتطوير التفكير فيها.

والملاحظة الثانية، هي أن كلمة "نكسة"، من كثرة استعمالنا لها في دلالاتها الغائمة، قد تحول دون تسمية ما عرفناه لاحقا وما نعيشه حاليا من نكسات، أقصد: الاحتلال، التشرذم القومي، التبعية لسياسة أمريكا، التنازل لإسرائيل من دون مقابل... علي رغم ذلك، سأقدم تصوري لانعكاسات النكسة علي الوضع العربي بعد أربعين عاما، داعيا القارئ إلي استحضار الملاحظات السالفة التي تؤشر علي التعقيدات الملازمة لهذا الموضوع نتيجة اضطراب كلمة نكسة وما تنطوي عليه من التباسات عديدة.

(1) أنا أعتبر أن نكسة 1967 تستمد جذورها من نكبة 1948 المتمثلة في ضياع فلسطين وانتصار الصهيونية وزرْع جسم معادي يستأنف مهمة الاستعمار في شكل آخر، ويعوق مشروع النهوض العربي الذي انطلق منذ بداية القرن العشرين. وإذا كانت مسؤولية الصهيونية والقوي العالمية المساندة لها راجحة، فإن مسؤولية الأنظمة العربية كانت أيضا جسيمة: وهو ما سيدفع بعض القوي الوطنية، وبخاصة داخل الجيوش العربية، إلي الانقلابات في وصفها وسيلة لتصحيح الأوضاع وتثبيت دعائم ما كانتْ تروٌج له علي أنه "ثورة" بطبيعة الحال، الانقلاب أو الثورة من فوْق علي ما قد يحملانه من تغيير يظلان وسيلة لترسيخ الديكتاتورية واستبداد الدولة. في هذا الإطار، نلاحظ أن الدولة في البلدان العربية ـ بعد الاستقلالات ـ سرعان ما انتقلتْ من دولة وطنية تجسد نتائج الكفاح ضد الاستعمار، إلي دولة تناصب العداء للمجتمع المدني وتنفصم عن تطلعاته الديمقراطية والإصلاحية، معتمدة علي تعزيز أجهزة القمع لتأبيد نظام تسلٌطي.

(2) ما سمٌي بنكسة 1967، كان فاصلا مضيئا لخبايا الأنظمة المتحوٌلة من أفق وطني إلي مأزق الاستبداد والبيروقراطية والأّدْلجة الفوقية. وكانت الضربة القاسية من نصيب مصر، باعتبارها آنذاك، تمثل القوي المناهضة للاستعمار الجديد، وتتبني مشروعا لقومية عربية تراهن علي قيم حداثية... لكن النكسة كشفت ما كان مستورا تحت غلائل إيديولجية مهلهّلّة (ناصرية، بعثية، وهٌابية)، وشملت مجموع مكونات المجتمعات العربية، فانفضحتْ أرجل الطين التي كانت تستند إليها الأنظمة. ولم تكن هناك قوي يسارية مهيأة لاستلام الحكم وتصحيح أسس الدولة الوطنية، وتنظيم الصراع الديمقراطي، فأصبح الطريق ممهدا أمام تنامي وصعود الأصولية التمامية في تجلياتها المختلفة.
وامتدادا لهذه النكسة، نلاحظ أن ما حرصت عليه الأنظمة المهزومة أمام إسرائيل، هو تقوية أجهزة القمع ومصادرة حريات الشعب، واستجداء المساندة الخارجية، وتحويل الصراع مع العدو إلي مبارزة دبلوماسية من دون مواجهة أسباب الهزيمة الحقيقية. ولا ننسي أن المدّد البترولي في دول الخليج العربية ساعد علي تليين المعركة، وملاشاة فكرة مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين ولأجزاء من أراضي الدول ذات السيادة! وهذا ما قوٌي ظهور فكرة "الإصلاح" ضمن البنيات الموروثة وبتعاون مع أمريكا وأوروبا، وتسخير أموال البترول لاستبدال المشروع القومي التحرري بآخر يماشي مصالح وستراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها. ولعل ما قيل عقب مؤتمر القمة العربية الأخير في الرياض، يلخص أبعاد هذه التبدلات: فقد علق أحد المحللين بأن ما يطمح إليه ملك المملكة السعودية هو أن يضاهي، في السياق الحالي، مكانة جمال عبد الناصر لكن من دون دعوة إلي الاشتراكية! وفي هذا تعيين للسقف الذي أفرزته النكسة.

(3) خلال الأربعين سنة الماضية،انْضاف عنصر العوْلمة ومنطقها الهيْمني، الربْحي، إلي واقع تسلٌط الأنظمة وعجزها عن مجاوزة النكسة، ليضيف إلي نكسة 1967 نكسات وجروحا متوالية، أبرزها احتلال العراق وتأجيج الحرب الطائفية، واستدامة الإرهاب لتبرير استمرار الأنظمة القائمة.

(4) إلاٌ أن العقود الأربعة المنصرمة ولٌدتْ ردود فعل إيجابية بين المفكرين والمثقفين وعامة المواطنين العرب. تنبٌّه الجميع إلي أن "الدولة العربية" هي مجرد جهاز للقمع ومصادرة الحريات والعجز عن حماية الأرض والتاريخ والإنسان. من ثمٌ موجّة الوعي المدني العميق باتجاه الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطنة، والمطالبة بإعادة النظر في مفهوم القومية العربية ووضعية الأقليات داخل الدولة، وتوسيع حقل الهوية وانعكاساتها الدينامية، بل والمطالبة بفصل الدين عن الدولة لوقف استغلال قيم تخص علاقة الفرد بربٌه وعقيدته... باختصار، هناك وعي متعاظم بضرورة صهْر الدولة في بوتقة المجتمع المدني، لتصبح تعبيرا حقيقيا عن تطلعات الشعب لا سيفا مسلطا علي الرٌِقاب.

وما يسترعي الانتباه طوال هذه العقود الأربعة، هو حرب لبنان الأخيرة التي حققتْ خلالها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله نوعا من الانتصار، حطٌّمّ أسطورة التفوق الإسرائيلي وكشف تناقضات ومأْزق الدولة العبْرية التي لا تريد السلام وتري فيه نهايتها...وفي الآن نفسه، برهنتْ المقاومة اللبنانية علي أن المواجهة مع أقوي دولة في الشرق الأوسط يمكن أن تكون لصالح العرب إذا توفٌر التخطيط والتصميم علي تحرير الأرض وصدٌِ العدوان.

* * *

هذه الوّمّضات المضيئة وسط حلْكة الليل العربي، تؤشر علي إمكان مجاوزة النكسة إذا قررتْ المجتمعات العربية مواجهة عمق المعضلات والعوائق، بشجاعة وجذرية: لكن هذا موضوع يجرٌنا إلي إشكالية أخري أكثر تعقيدا، لذلك أعود إلي تلخيص تأثير نكسة 1967 في نظري، علي الأوضاع السياسية والثقافية بما هيّ عليْه الآن:

سياسيا: هناك تزايد في تدهور الأوضاع السياسية نتيجة عجز الأنظمة عن إعادة الاعتبار لنفسها ومجتمعاتها، أمام اليد الطٌولّي لإسرائيل وطغيانها. وفي الآن نفسه، ليس في وارِد الدول العربية السعي إلي استئناف النهوض علي أسس صلبة ومجزية: بل نلاحظ حرصا من لدن هذه الأنظمة علي الاستمرار في السلطة عبْر التٌرهيب والترقيع والتوريث وخطب النوايا الرنٌانة الميٌتة ساعةّ ميلادها.

بِتوازي مع ذلك، يتنامي وعي وطني وقومي مناهض للأنظمة وسياسة الدولة، لكن نسبة بارزة من المواطنين تنجذب إلي البديل الأصولي الماضوي، الذي يستثْمر أخطاء الدولة ويوظف الدين في أغراض سياسية... من ثم، يبرز بقوة مأْزق ارتهان المستقبل العربي بين اختياريْن: "اللحظة الأصولية" المهيْمنة (هل هي ضرورية أم عابرة؟)، واستمرار الأنظمة السلطوية التي تقدم نفسها الآن علي أنها الدٌرع الواقي من التماميٌة المتطرفة.

ثقافيا: نسجٌل في مجال الثقافة والإبداع، أن نكسة 67 حررتْ المبدعين من التبعية تجاه إيديولوجيات التبشير وتمويه الواقع أو التحايل علي مجابهته. بعبارة ثانية، أدرك المبدعون والمفكرون أن عليهم أن يتخلوا عن احتضان وّهْمِ المراهنة علي سلطة الدولة أو الحزْب في التغيير وتثوير المجتمع. بدلا من ذلك، انعتقوا من شرنقة الإيديولوجيا والشعارات، ليستعيدوا كامل سلطتهم النقدية، ويستوحوا الجدلية الدائمة، الفاعلة في الأعماق وثنايا المسالك والنفوس التي تستعصي علي التدجين والترويض.

باختصار، أقنعت النكسة المبدعين أن عليهم أن يمارسوا مغامرتهم من دون الاستناد إلي جدار السلطة أو الاستظلال بِفيْء الإيديولوجيا، إذا شاؤوا التقاط النبْض المتنامي، الكفيل بتعزيز مقاومة النكسة.
أريد أن أقول ختاما وبصراحة، إنه بعد 40 سنة علي النكسة، لا أري بالملموس أفقا يدعو إلي التفاؤل، لأن الثغرات والأسباب التي أدٌت إلي الانتكاس شبه المزمن لا تزال قائمة. وقوي اليسار إذا وجدت فكريا وإبداعيا فإنها ما تزال تفتقر إلي وجود سياسي ملموس، منْغرس في نسيج المجتمع بحيث يشكٌل تيارا مضادٌا مصارعا للأنظمة والأصولية علي السواء.

ما هو موقفي أنا، إذن، من هذه النكسة التي فاجأتني في عنفوان شبابي وعايشتها منذ ذاك؟
أكتب، أتأمل، أتعلم أن أفكر بصوت عالي، أتدثٌر بالتخييل لتمْرير ما لا تستوعبه اللغة المباشرة. أترصٌد تلك الالتماعات الواعدة وسط أفق مدلّهمٌ. أترقٌّب الومض المعلِن عن برْق يبدٌد ظلمة السماء، وأتذكر ما قاله أحد اليائسين من أننا عندما نشعر أن اليأس بلغّ منتهاه، حينئذ تنْبثق قوة كامنة لتجدٌد الأمل وتعيد للفعل جدْواه، وتفتح البوٌّابات أمام التغيير.