من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية

يبلورالناقد الفلسطيني هنا أطروحة متكاملة وبالغة الأهمية عن مسيرة الرواية العربية من استشراف المستقبل عبر صبي واعد، إلى استبدال الهزيمة به إنسانا معوقا، وصولا إلى آليات نقض البنية الروائية للهزيمة.

فيصل درّاج

كيف رسمت الرواية العربية هزيمة حزيران؟ يبدو السؤال بسيطا، جوابه في الرجوع إلي جملة روايات محددة، سبقت الهزيمة أو تلتها، وصنعت عطبا إنسانيا شاسعا، زامل الجنود قبل الذهاب إلي المعركة، واكتسح الأرواح جميعا، بعد انتصار الجيش الإسرائيلي. غير أنٌ السؤال، في شكله السابق، لا معني له، لأنٌه يحتاج إلي صيغة أخري: هل هزيمة حزيران هزيمة كالهزائم الأخري، أم أنٌها "هزيمة خالقة"، "أخرجت العرب من التاريخ"، بلغة الاقتصادي المصري فوزي منصور؟ وإذا كانت هزيمة محمد علي باشا، في القرن التاسع عشر، قد عطٌلت إمكانيات تحديث المجتمع المصري، ألم تغلق هزيمة حزيران أفق المجتمع العربي في القرن العشرين؟ وهل شكٌلت هذه الهزيمة موضوعا من مواضيع الرواية العربية، أم أنٌٌها مثٌلت شرطا مأساويا لتجدٌد وتجديد وضع هذه الرواية؟ أمران أساسيان صدرا عن هزيمة حزيران في علاقتها بالرواية: تجديد الشكل الروائي تعبيرا عن سقوط فترة اجتماعية تاريخية محدٌدة، وانفتاح الرواية العربية علي موضوع ثابت، لا يزال يتناسل، بأشكال مختلفة حتٌي اليوم، عنوانه التمزٌق الاجتماعي المستمر.

رواية الصبي الواعد
تتكشٌف دلالة هزيمة حزيران في الحقل الروائي في الفصل بين مجازين روائيين، يحيل أحدهما علي زمن تقدٌمي صاعد، مطمئن إلي مستقبل ذهبي، ويحيل ثانيهما علي زمن متقوٌض ينفتح علي السديم. تمثٌل الأول ب "الصبي الواعد" الذي يحمل المستقبل في مساره المتنامي الذي لا يقبل بالاتداد، وتجسٌد المجاز الثاني ب "الإنسان المعوٌق"، الذي كلٌما وقف تداعي، أو الذي يولد متداعيا لا يستطيع الوقوف. حمل المجاز الأول "زمنا خلاصيا" يضع في حاضر العرب مستقبلا مشتهي، طافحا بالأمل والثقة والسعادة، يحتضن التحرٌر الاجتماعي والوطني في آن، وأفصح المجاز الثاني عن "زمن سديمي" لا مجال فيه للرؤيا السعيدة، ولا للطفل الذاهب سعيدا إلي المدرسة.

حين كتب محمد حسين هيكل روايته (زينب)، التي أعطت الرواية العربية ولادة رسمية، عهد بالسرد إلي صبي نجيب، يعشق الريف المصري ويحنٌ حنينا شديدا إلي "جيوش الشمس" في مصر الفرعونية، ويطلق لسانه تعابير جديدة، تتحدٌث عن "الهيئة الاجتماعية"، التي تحتاج إلي المساواة، وعن المرأة المتعلٌمة، التي يحق لها أن تختار شريكا ترضي به، وعن فلاحين متضامنين "يأخذون بلون من الحياة يشبه الاشتراكية". فصل هيكل بين القائم وما يريد، وعيٌن الصبي النجيب صوتا مثقفا طليقا، في مفرداته الحداثية أصداء لتعاليم جان جاك روسو ـ وسواء كان الصبي راضيا عن "أهل الريف" أم غير راضي عنهم، فإنٌ في حياته المديدة القادمة، فهو لا يتجاوز الثانية عشرة، ما يضمن إصلاح ما يجب إصلاحه ـ ساوي الروائي، بشكل مضمر، بين نمو الصبي السليم، وآفاق مجتمع عليه أن يقتفي آثار الصبي المشبع بالتمرٌد ـ بعد حوالي عقدين من الزمن جاء توفيق الحكيم بروايته (عودة الروح) المحدٌثة عن روح مصرية متضامنة، إذ الواحد في الكل والكل في واحد، والمحدٌثة أيضا عن شعب ينجز الثورة حين يريد، ثورة 1919 كانت، أم غيرها من ثورات محتملة ـ وضع فوق العائلة "صبيا واعدا"، يحب مصر وتحبه مصر، تعلٌم كي يكون ناطقا باسم الأمٌة وآمالها ـ وصبي الحكيم كصبي هيكل، فهما متماثلان في العمر تقريبا، ويجدٌان في طلب العلم ويخاطبان المستقبل، ويعشقان أنثي جميلة، لو كان الجمال أنثي لكانها ـ وما الصبي الأول، كما الثاني، إلاٌ الضمان الأكيد، الذي يبعث "الأنثي الجميلة" من "موتها"، أو يضع مصر القديمة الجميلة في مصر الجميلة القادمة ـ
حين أراد عبد الرحمن الشرقاوي، بعد الثورة المصرية، أن يساجل رواية(زينب)، وأن يعطي (عودة الروح) قراءة جديدة، كتب روايته الشهيرة: (الأرض)، التي استبدلت ب "الريف الهادئ المخترع"، الذي قال به هيكل، ريفا حقيقيا يحتضن جمال الطبيعة وشقاء الفلاحين وكدٌهم في سبيل الحياة. و مع أنٌ في "بطلة الأرض" ما يستأنف الأنثي الجميلة، الموزٌعة علي عملي هيكل والحكيم، فقد كان في محياها علامات التعب والغبار ـ بيد أنٌ السجال، الذي أراده الشرقاوي من وجهة نظر "الواقعية"، لم يمنعه من استعادة "الصبي الواعد"، الذي أوكل إليه الروائي سرد صراع الفلاحين مع السلطة وكبار الملاٌك. أرسل هيكل الصبي الذهبي إلي ريف مصري مخترع، واخترع الحكيم روحا مصرية متجانسة يقودها "صبي منقذ" توزٌع علي المدينة والريف، وجاء الشرقاوي بصبي ريفي يتعلٌم في المدينة ويشهد علي عظمة "البطل الإيجابي". آمن الروائيون الثلاثة بمجيء "مستقبل خلاصي"، علماني متحرر لدي الأولي غامض لاهوتي ملفع بالأسرار لدي الثاني، واشتراكي يصوغه العمٌال والفلاحون لدي الثالث.

لم يكن مجاز الصبي الذهبي خاصا ببدايات الرواية المصرية، التي أسهم في توطيدها صبي ضرير في (أيام) طه حسين، إنٌما لازم الرواية العربية فترة طويلة، أغلقتها هزيمة حزيران. ففي روايته الأولي (الرغيف) 1939 استعار اللبناني توفيق يوسف عواد "صبيا" من نوع آخر، يذوق الشقاء كل الشقاء، في طور الحكم العثماني، ويتغلٌب علي المصاعب مبشرا بشمس جديدة. كان في "صبي عواد" شيء من صبي هيكل، يري إلي جمع حديث يحرٌر من جهله وعقائده القديمة، وشيء من "صبي الحكيم"، المبشٌر بمستقبل تحرٌر من الاستعمار الخارجي ـ لم يفت الروائي اللبناني أن يدرج في روايته أنثي جميلة، هي صورة عن الوطن الجميل، وعن مستقبله الأكثر جمالا ـ وفي بداية خمسينات القرن الماضي، حين كان النهوض الوطني ينشر أجنحته من الخليج إلي المحيط، اتخذ الجزائري محمد ديب، في روايته (الدار الكبيرة)، من الصبي النبيه بطلا له، فالصبي جائع محصٌن بالكرامة، تلميذ يعرف الفرق بين فرنسا والجزائر، ويعرف أنٌ "الوطن الأم" هو الوطن الذي لا يفد أهله من الخارج. ولأنٌ في مسار الصبي البيولوجي، المنتقل من نماء إلي آخر، صورة عن مسار وطنه، فقد كان في نهاية الرواية ما يبشٌر بالثورة الجزائرية، وما يعد باستقلال أكيد.

بعد عقد من الزمن وأكثر كتب الفلسطيني غسان كنفاني روايته (ما تبقي لكم)، مستفيدا من رواية فوكنر (الصخب والعنف) محتفيا بالصبي الذهبي احتفاء غير مسبوق. فبعد أن ذاق الصبي ذل اللجوء والإهانة والامتهان الذاتي، يذهب إلي مغامرة مجيدة، تضع في طريقه عدوه الصهيوني، ويصارعه ويخرج، مع مطلع الشمس، منتصرا. ذهب الصبي إلي قدره، تحرسه الأرض والليل، وتحرسه أولا عزيمة عنيدة، تخلق ما تريد خلقه وتطرد زمن السلب إلي غير رجعة. ولأنٌ في الصبي أرواح المتمرٌدين جميعا، تنتصر أخته، في اللحظة عينها، علي "النّتّنْ الفلسطيني" مستقدمة مع أخيها النصر الوطني المرغوب. لا غرابة أن يتكئ المغربي عبد الكريم غلاب في روايته (المعلٌم علي)، التي كتبها في منتصف السبعينات المنقضية تقريبا، علي مجاز الصبي الوضيء، حين أراد أن يكتب عن فترة الاستقلال الوطني، الممتد من عام 1930 إلي ما تلاها من سنين.

اتسمت رواية "الصبي الواعد" بصفات أساسية متماثلة: فهي تمحور الفعل الروائي، بشكل واضح أو مضمر، حول شخصية أساس، يمثٌله صبي لا ينقصه الإقدام ولا النجابة، وهي تأخذ بزمن متجانس يتقدٌم واضحا ولا سبيل إلي ارتداده، وهي تتوٌج جميعا بنهاية متفائلة تفصل بين زمن سلبي مضيء وزمن إيجابي حاضر قادم في آن. وهي نادرا ما تلتفت إلي عالم الإنسان الداخلي، مكتفية بزمن خارجي يسري مستقيما من موقع إلي آخر. والأساسي في هذا كلٌه هو الحقبة التاريخية الفاصلة بين طور مضي لن يعود وطور قادم، كما لو كان "البطل الإيجابي" خالقا للتاريخ قبل أن يكون محصلة له. تمثٌل هذه الروايات بعامة، باستثناء رواية محمد ديب، شكلا روائيا تقليديا، محدٌد البداية والنهاية والشخصيات والخطاب.

لا غرابة أن يدرج نجيب محفوظ، صاحب البصيرة الواسعة، في (ثلاثيته) شابا واعد، هو "فهمي"، ويقوده إلي الموت، مبتعدا عن ثنائية الانتصار والهزيمة، في شكلها البسيط، وأن يتعامل مع "صبي نبيه"، هو كمال. لكن محفوظ، الذي لا يراهن علي زمن مراوغ لا يراهن عليه، يدفع بصبيه إلي تشاؤم شديد، فهو لا يثق بالتاريخ، ويكتفي برصد سطوة الزمن، التي تبدٌل الأنثي الباذخة الجمال إلي عجوز صلعاء، تمشي حافية القدمين وتلبس مما يلبس الرجال. كان العراقي الشيوعي غائب طعمه فرمان، الذي لم تروٌضه مقولات "الواقعية الاشتراكي"¢، قد وضع في عام 1966 روايته (النخلة والحيران)، التي تحيل علي أربعينات القرن الماضي وعلي الاستعمار الإنجليزي. لكن فرمان، الذي سيكتب بعد حوالي عقدين عمله الحزين (آلام السيد معروف)، اقتفي آثار صبي ضائع لا يرجي منه الكثير ناشرا منظورا متشائما، لا ينتظر من زمن الاستقلال القادم خيرا. ومع أنٌ علي الفلسطينيين أن يلتحقوا بفكرة الأمل أينما كانت، فقد أرسلت سحر خليفة بالأمل إلي جهنم في روايتها (الميراث). وقضي إبراهيم نصر الله علي "صبيه الواعد" بالموت في عمله (طيور الحذر)، وهي رواية حزيرانية رأي الطرفان أنٌ الزمن الفلسطيني جزء من الزمن العربي، وأنٌ الزمن العربي يكاثر متاحف الكوابيس لا أكثر.

من الصبي الواعد إلي الإنسان المعوٌق
بعد أن تحوٌلت هزيمة حزيران إلي هزيمة ولود لفظ "الصبي الواعد" أنفاسه، تاركا المكان لمخلوق مشوٌه، هدٌه الرعب ودمٌره الحصار. سيكتب صنع الله إبراهيم في (اللجنة) عن إنسان مذعور يأكل أطرافه، وعن بشر يشبهون الآلات في (ذات)، وعن "صبي غير واعد" لا شرف له في رواية (شرف)، وسيكتب محمد البساطي في (أصوات الليل) عن بشر يؤرخون حياتهم ب "الخيبات القومية" وصولا، لاحقا، إلي بشر يسلٌعون وجودهم الإنساني، كما هو الحال في مجازه المبهر في (دق الطبول). أما رضوي عاشور فتأملت تداعي الأحلام في (أطياف) ، مثلما رأي إدوار الخرٌاط أفقا مزنٌرا بالسواد في روايته (يقين العطش). وبعد التداعي والتقوٌض والاغتراب يحلٌ الموت تعبيرا عن واقع لا يمكن السكن فيه، واحتجاجا علي عالم فارقته القيم. يذهب المغترب إلي الموت في رواية بهاء طاهر (الحب في المنفي)، ويذهب إليه مجدٌدا في عمله (واحة الغروب)، وينتظر الموت العجوزّ الوطني في عمل رضوي عاشور (قطعة من أوربا)، ويأتي الموت بسيطا شفافا في رواية عزت القمحاوي (غرفة تري النيل)، وهو أفق (السيد معروف) لغائب فرمان، وهو خيار البطل (رالف رزق الله في المرآة) لربيع جابر، وهو حاضر في أكثر من عمل لعلاء الديب وجعل إلياس خوري الموت أفق بطله في عمله الملحمي (بوابة الشمس)، ونشر أطياف الموت في عمل رهيف التقنية إلي درجة الندرة عنوانه (يالو).

وإذا كانت روايات ما بعد هزيمة حزيران قد تمحورت حول الاغتراب المنتهي إلي التفكك، فقد شاء بعض الروائيين أن ينجز مجازا روائيا خاصا به، يفصل بين مرحلة وأخري، ويعين المرحلة الأخيرة، كابوسا ثقيلا منتصرا لأمد طويل. رحٌل محمود الورداني، في (الروض العاطر)، إنسانه المغترب إلي "ما وراء الواقع"، مستنجدا ب "يوتوبيا" لا وجود لها، واختزل الأزمنة كلها إلي زمن رعب نموذجي في (أوان القطاف). أمٌا يوسف أبو ريٌة فقد دفن الصبي الواعد إلي الأبد، آخذا بمجاز "الصبي المسخ" في روايته (تل الهوي)، منتقلا إلي مجاز "المجتمع المسخ"، في روايته (ليلة عرس)، قبل أن يري إلي حاضر موحل ينكٌل بالأزمنة السابقة في روايته (عاشق الحي).

ربما كان في عري الحاضر وانحطاطه ما أعاد بعض الروائيين إلي الماضي، بحثا عن معني حاضر هرب منه المعني، حال رضوي عاشور في روايتها (غرناطة)، وجمال الغيطاني في (الزيني بركات) وممدوح عزام في (قصر المطر) ونبيل سليمان في (مدارات الشرق) وواسيني الأعرج في عمله الكبير (الأمير)، وربيع جابر في (يوسف الانجليزي). إضافة إلي هذا جاءت علوية صبح، في روايتها (دنيا) بمجاز مدهش متعدد المستويات عنوانه "المشلول المستبد"، الزائف في رجولته، والكاذب في أخلاقه، والانتهازي في ممارساته، والعاجز عن قضاء حاجاته، دون أن يمنعه عجزه عن أن يشل غيره وأن ينشر الشلل علي ما يشاء، مذكٌرا بتلك المقولة الذهبية التي تحدٌثت عن الأموات الذين يحكمون الأحياء. أموات في تفكيرهم وأموات في كرههم للحياة وأموات في تعصٌبهم المميت، يحكمون الأحياء الحقيقيين ويمارسون تسلٌطهم السهل علي جماعات بشرية أقرب إلي القطيع. كانت هدي بركات، في عملها (أهل الهوي)، قد قلبت، وبمفارقة ساخرة، معني العقل والجنون في مجتمع يشتق الصواب والخطأ من فوهة المسدس.

شكٌلت الرواية العربية شهادة نموذجية فريدة علي تحوٌلات مجتمع مهزوم، كلٌما أراد تجاوز الهزيمة سقط في هزيمة أخري، متهمة أنظمة بائسة توزٌع الاستبداد علي العقول والأرواح، وتقذف بالمتمرٌد إلي اغتراب لا شفاء منه. كانت هذه الرواية، وفي ممثلها الأكبر نجيب محفوظ، قد رأت هزيمة حزيران قبل وصولها حين أبصرت، في (ثرثرة فوق النيل)، أرواحا فارغة تحوٌل السلطة إلي مزرعة والوطن إلي مكان للمتعة، وحين رأت في (اللص والكلاب) الفراق المبكٌر بين المجتمع والسلطة. وإلي الرواية النبوءة تضاف رواية حليم بركات (ستة أيام) 1961 التي سردت أحوال بلدة تهزم عدوها بالبلاغة، وتنهزم أمامه سريعا ساعة المعركة. ورواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) قريبة من رواية بركات، فقد ألقت بشخصياتها الفلسطينية إلي "المزبلة"، وذلك في زمن قومي بدا صاعدا ولا سبيل إلي إيقافه.

نقض الهزيمة بالشكل الروائي الجديد
تعاملت الرواية العربية مع هزيمة حزيران بشكلين لا متكافئين: شكل أول بسيط يتأمل الجنود والوجوه المختنقة والفساد الداخلي وأجهزة المخابرات، وذلك الخراب الذي تحجبه الشعارات والبلاغة السلطوية، وشكل ثان أكثر عمقا، ذلك أنٌ الرواية لم تندٌد بالهزيمة، علي مستوي المضمون إن صح القول، إنٌما رفضتها ورفضت الواقع الاجتماعي الذي أنتجها متوسلة أدوات فنية جديدة، وملتمسة منظورا روائيا جديدا، كما لو كانت الرواية وهي تعلن عن سقوط أشكال أدبية تقليدية تعلن، أولا، عن سقوط واقع هزم، وسيظل مهزوما إن بقي مسيطرا. أعطي الراحل إميل حبيبي في (سداسية الأيام الستة)، التي تحدٌثت عن آثار الهزيمة علي شعب فلسطين في الضفة والقطاع، شكلا روائيا مبتكرا، يقوم علي ست لوحات متتابعة، يوحٌدها الإيقاع، تبيٌن أنٌ الرواية لا تتحدٌد ب"موضوعها"، كما يقال عادة، بل ب "البنية الداخلية"، التي تتجاوز الموضوع والمضمون معا. وبسبب هذه البنية، التي لا تمتثل إلي معيار متداول، اختلف النقٌاد في تصنيف الرواية، فهي "لوحات قصصية" تارة، و"مجموعة قصصية" تارة أخري. ولم يشأ حبيبي في عمله اللاحق (سعيد أبي النحس المتشائل)، الذي عالج هزيمة حزيران أيضا، أن يستسلم إلي معايير "الرواية الواقعية"، فلجأ إلي الموروث الأدبي العربي وأضاف إليه (كانديد فولتير) وشيئا من رواية التشيكي ياروسلاف هاشيك (الجندي الطيب شفايك)، منتهيا إلي عمل مركب، يحلٌل واقع الهزيمة ويرفضه. كان هاجس البحث عن حداثة روائية وطنية، إن صح القول، هو في أساس إنتاج رواية (الزيني بركات) لجمال الغيطاني التي تقصٌت أسباب الهزيمة في كل زمن محتمل. ينطبق ذلك، بأقساط مختلفة علي رواية (الزمن الموحش) للسوري حيدر حيدر، وموضوعها المباشر هزيمة حزيران وانعكاساتها علي المثقفين، الذي تمردوا علي الواقع العاجز بشكل عاجز أيضا. نقدت هذه الرواية الواقع المسيطر لغة، فانزاحت عن اللغة السردية التقريرية والتمست "نثرا شعريا"، إن صح القول، وأدرجته في بنية روائية مخلخلة،كما ذهب محمد برادة ذات مرة، تعبيرا عن واقع فقد تماسكه وصلابته. ولعل نقد الواقع المهزوم عن طريق "التبعيد اللغوي" هو المتكأ الذي أقام عليه إدوار الخراط مشروعه الروائي، محاولا أن يستبدل باللغة المباشرة الشفافة لغة أكثر كثافة وإيحاء.

وإذا كان حبيبي وجمال الغيطاني قد حاورا الموروث الأدبي في النص الروائي، فقد آثر حليم بركات أن يستفيد من الأسطورة والرمز في (عودة الطائر إلي البحر)، التي قرأت الآثار الاجتماعية لحرب حزيران من ناحية، والأسباب الاجتماعية التي أسهمت في الهزيمة من ناحية ثانية. ومما لا شك فيه أن هزيمة حزيران، التي تأملها السوري الراحل هاني الراهب في عمله (ألف ليلة وليلتان)، هي في أساس مشروع عبد الرحمن منيف، الذي ساءل التاريخ الحديث الذي أنتج الدولة العربية المهزومة. فبعد خماسيته الشهيرة (مدن الملح)، التي تأملت التبعية والسلطة التابعة، عاد إلي تاريخ العراق، في ثلاثيته (أرض السواد)، موحيا بأن ما جري في الربع الأول من القرن التاسع عشر يجري من جديد في النصف الثاني من القرن العشرين.

نقضت الرواية العربية الواقع السلطوي المهزوم بأدوات روائية. فبعد النص الواضح الشفاف جاء نص معتم يسائل كثيرا ويقرر قليلا، وانتهت النهاية المتفائلة إلي غير رجعة، وزال الخطاب التقريري اليقيني مفسحا المجال لنص روائي قابل لأكثر من تأويل، وصعدت رواية الفرد المغترب صعودا غير مسبوق. وإذا كان نجيب محفوظ قد أطلق رواية "الفرد المغترب" في روايته (اللص والكلاب)، فقد أصبح هذا الفرد، بعد هزيمة حزيران، ثابتا روائيا، اعتمد عليه الأردني تيسير سبول في (أنت منذ اليوم)، وهي رواية حزيرانية، والسوري نبيل سليمان في رواية حزيرانية أخري هي (جرماتي)، والعراقي فؤاد التكرلي في رواية غير حزيرانية هي (المسرٌات والأوجاع)، وصولا إلي أعمال يوسف القعيد وغالب هلسا وغيرهما.

نتيجتان لا بدٌ من الإشارة إليهما، تقول الأولي: إذا كانت فلسفة التقدم قد أسست لظهور الرواية العربية وتطورٌها، فإن هزيمة "أيديولوجيا التقدٌم"، بعد الخامس من حزيران، أعاد هذا التأسيس، منتقلا، بشكل مأساوي، من المنظور المتفائل المفتوح إلي منظور متشائم مغلق. وتقول الثانية: إن هزيمة المشروع الحداثي العربي هزيمة شاملة مستمرة، حوٌلت الرواية، وهي جنس أدبي حداثي، إلي جنس أدبي مغترب، يعيش علي هامش مجتمع تقليدي، يرواح مهزوما إلي تخوم التفكك والاستنقاع. ذلك أن الحديث عن الرواية، كعلاقة اجتماعية، لا ينفصل عن الحديث عن جملة علاقات ترتبط بها، مثل الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية السياسية والحوار الاجتماعي والقارئ الحديث، وتحرٌر المرأة والاعتراف بنسبية الحقيقة، وهي جملة علاقات يميل المجتمع العربي اليوم إلي التخلٌص الكامل منها.

نصرت هزيمة حزيران الرواية العربية عن طريق السلب، ففتحت لها فضاء واسعا، يتأمل ولادة الأحلام وموتها، ويستبعد اليقين، ويستنكر الواضح البسيط المطمئن، ويطرد البلاغة التي تفصل بين الكلمات ومواضيعها، ويري إلي تلك المسافة الباهظة الفاصلة بين مدي التاريخ الطويل وحياة الإنسان القصيرة والبالغة القصر رغم هذه "الفضائل"، التي تثير الأوجاع، أخذت الهزيمة بيد القارئ المسيطر إلي مخزن ثقافي يقيني هائل، لا مجال فيه لحوارية النص الروائي والحقيقة النسبية، ولتلك الكلمة المقلقة الجميلة: الاحتمال، التي يقوم عليها المنظور الروائي.