سعيد الكفراوي.. يا قلب مين يشتريك

يا موت من يجابهك

حسين عبد الرحيم

 

عن عمر يناهز الثمانين عاما رحل الحكاء العظيم والكاتب الكبير سعيد الكفراوي، بعد صراع مرير مع المرض اللعين، الذي لم يحجب أساطيره ولم يخفه؛ بل زاده إصرارا على الضحك بسخرية من الوجع، ضاربا بالآلام عرض الحائط، ليواصل محبته للبشر بلا مقابل ولا كدر ولا شكوى من البخل عليه بالسؤال من قريب أو بعيد، من محب أو كاره. ومن هو الكاره لآية النبل القاص سعيد الكفراوي، الذي جابه قسوة الحياة بالسخرية، وعطش القلم بمداد الحنين وحبر القلب ودم البصيرة المسفوح في هدر ورجرجات التذكر، والتدبر بحرفية الصنعة المدفوعة بمهارة وموهبة حاذقة.

كتاباته التي تخطت الخمسة عشر مجموعة قصصية كانت تضرب في مقولات وأحجية، تفكك ثبات العقل ليلين مع الخلق والبشر، وحتى مكونات الطبيعة القاسية بحثا عن براح لتنفيس رغبات المكلوم والمكبوت من خلال التماهي والتوحد مع المصائر المبهجة، التي تنتصر للحلم والحق والعدل والجمال. بل وخلود القيمة بعرفانية وشوف حكاء من زمن الأساطير. لا تكاد تفرق بين مايحكيه أو يكتبه من نصوص شفاهة، أو يمليه عليه حنينه للتحقق من النبوءة الفاتحة لطاقات الجمال والخير.

سعيد الكفراوي الذي أخلص لفن القصة القصيرة إخلاص التائب لربه الرقيب الغفور في وقت تجلى الكثير من النقاد بتدشين مقولات زمن الشعر وزمن الرواية، ظل الكفراوي قابضاً على جمر الحكايا، يستحلبها من عطش يقيني مراوغ. يخاتله السارد بقنص ذرى ووهج المأساة والملهاة، وتحكمهما في مسار ومسيرة بني البشر في محاولات شتى لسرقة الفرح، حتى في تلك القرى التليدة على تخوم، وفي رؤى الغيطان والزرعة المصرية، يانعة وجدباء، مخضرة وآفلة معوجة، من ضرع الأبقار والجاموس تتوالى الحكايات في سرد مفعم بالجوى والشوق والتوق للفرج والفرح والنجاة من سلطات ظالمة في التحكم والحكم على مصائر الناس، وطحن وتذويب أحلام الفقراء والمهمشين من كل حدب وصوب.

كان عمنا الجليل قادرا بوعي ويقظة جارحة على استنطاق الحيوانات والأشجار ورمال الصحاري أعلى الكثبان الرملية، قبل مطالع الوديان. عبر علاقة بدأت معه وبه ومن خلاله، عرفت حكايا الكتابة قبل الكتاب، في جمعية النقد الأدبي، وجمعية محبي الفنون، وفي بيته القديم المواجه لمنزل الراحل محمد ناجي بمدينة نصر وقريبا من سونستا كانت جلساتي معه عقب عودته من سفره البعيد، الذي قضي فيه ما يقارب العقدين من الزمان. لأسأله عن الحال؟ فيرد في شرفته المتسعة للأحبة والأولياء والباحثين عن الدفء والونس (كان لابد من هذه الرحلة لتكتمل الحكايا في الداخل والخارج. حكايا الناس الطيبين قبل الأشرار .. حدثته عن مجرى العيون وستر العورة فبكي لما سمعه برقرقة من عين دامعة دوماً، ببريق الحب والوله والحنين لمجهول ما كان لايرى إلا من خلال، من قرّب فانكوى، وعرف فغوى، وتمهل فاستوى بالجوى، لينطق متربعا على عرش المواويل وأطفال القرى وسمار الموالد والبهاليل والممسوسين، وطالقي الأرواح العفية في عتمة البلادة والصحاري المقفرة الكدرة.

عبر أكثر من خمسة عشر كتابا قصصياً كانت الرحلة الإبداعية قد صالت وجالت بفنون وفتون القص للانتصار للحياري، فكانت الوقفة قبل التوديع، وقفة كان يحكي عنها بفسحة للتأمل، من أجل إنجاز رواية وحيدة، واحدة، حلم بها وحدث عنها محبوبته، والتي كان لرحيلها أبلغ الأثر وسواده على شئونه وأيامه، وهي زوجته الفاضلة السيدة «أحلام» التي سبقته إلى جنة المحبين للبشر، ساندته ورافقته كثيرا فلم تكن إلا بلسماً وضحكة حنون تصدح في بيت الوالي «الكفراوي».

كانت الرواية التي حلم بها قد صارت حجر عثرة غير قابلة للتحقق، وكان فن القصة وجِنّها قد تلبس الكفراوي بالفعل، ليعلن الفرادة ومن قبلها الاستحواذ على ملكات وفيوض الكاتب قبل تجلياته الوحدانية، ورفض اي شريك ابداعي او مسار كتابي آخر. حتى لو كانت، الرواية الحلم، لتتبلور مكانة وقوام وكيان السارد والحكاء العظيم الذي أخلص للقرية المصرية بسحرها وطلاسمها، إلا من قنص غائر في قلب عاصمة المعز، مثلت في طلقة اخترقت الركام لتنفد من بين علم الجامعة الأمريكية المهيمن في ميدان التحرير، ليبرز سطوة الآت ويستشرف المستقبل، في كشف مبكر للهيمنة والسطوة وتراجع الحريات وتفشي الاستبداد.

رحم الله الكاتب والقاص الكبير سعيد الكفراوي الذي ترجمت غالبية أعماله للإنجليزية من خلال دينيس جونسون ديفيز البريطاني المولد والذي كانت تربطه علاقة حميمية وفريدة بالراحل الكبير سعيد الكفراوي، الذي رحل اليوم عن دنيانا ولم يمت، فهو الباقي بكتاباته ونبله وإنسانيته وأساطيره المفرطة عن الناس الطيبين، ودعنا في حزن وصمت ونحن نردد من خلفه: «يا قلب مين يشتريك، يا موت من يجابهك .. يا حزن من يغلبك».