شهادة عن سعيد الكفراوي

سمير الفيل

 

(1)

في سنتين فارقتين هما 1971، 1972 رأت مجموعة من الكتاب الشبان في مدينة دمياط أن تشكل جماعة أدبية خارج قصر الثقافة، وبدأت التحرك وزيارة جماعات مشابهة لها في عدد من المدن القريبة جغرافيا : بورسعيد، المنصورة، المحلة الكبرى. تلك المجموعة التي دشنت أول تجمع غاضب يرفض المؤسسة الرسمية كما جاء في مانفيستو (جماعة 73) وقد كتبه محسن يونس ومعه سمير الفيل ومحمد علوش، ثم التحق بالمجموعة مصطفى العايدي، ومن بورسعيد السيد النعناع.

مثلت زيارتنا لمجموعة المحلة الكبرى نقلة نوعية لأننا قابلنا كتابا متحققين يحمل كل منهم طموح التجاوز، والرغبة في التفرد، في حجرة منفردة هي لجار النبي الحلو قابنا معه مجموعة من الأدباء: سعيد الكفراوي، محمد المنسي قنديل، أحمد الحوتي، محمد فريد أبوسعدة. وتردت أسماء منها: رمضان جميل، محمد صالح. وأظن أن زيارتنا عرفتنا باسم كاتب مهم من المنصورة قابلناه فيما بعد هو محمد المخزنجي.

في تلك الغرفة قرأ محسن يونس قصصه وقرأت أنا ومحمد علوش قصائدنا. ومازلت احتفظ برسالة من جار النبي الحلو، تسجل انطباعه حول الزيارة والخطاب مؤرخ في 1 مارس 1973:
«كان اللقاء متوهجا، ورائعا، وأحسست إحساسا رومانسيا خائبا في البكاء بعدما تحرك القطار .. كانت اللحظات عمرا .. وأشعاركم ـ أنت وعلوش ـ تاريخا من الصداقة .. ولم نكن نملك غير التفاؤل في أننا لابد سنراكم جميعا»
.

(2)

تمضي الأيام وتتوثق علاقات الصداقة بعد أن قرأنا لتلك المجموعة المتسمة بالنبوغ والاستنارة، وفي عام 1984 احضر بمدينة المحلة ندوة لمناقشة مجموعة قصصية لجار النبي الحلو. من حضورها: سعيد الكفراوي، خيري عبدالجواد، القاص النوبي ابراهيم فهمي، محمد أبو قمر، محمد العزوني، محمود حنفي كساب، وجار النبي الحلو نفسه مع ابنه وابته وهم أطفال. كان محمد المنسي قنديل قد اصبح طبيبا، والمخزنجي كذلك، وكانت حجرة جار النبي الحلو مكتوب على جدرانها قصائد لمحمد سيف، وزين العابدين فؤاد وشعراء آخرين.

سيقوم عراب الجيل الجديد عبدالفتاح الجمل بالنشر للكتاب الشباب الواعدين في المحلة والقاهرة ودمياط .. وستبرز أسماء مهمة جدا بكتابة مختلفة منها: سعيد الكفراوي، ومحمد المنسي قنديل، جار النبي الحلو .

(3)

يوزع علينا سعيد الكفراوي ”مدينة الموت الجميل”، ونقرأ له ”ستر العورة” ونتأكد أننا أمام قاص باهر، يقدم نصوصا سردية في غاية العمق والأصالة، ويصبح لكتاباته قدرا من الإشارة لجيل قادم يشق طريقه بعنفوان وقوة، من فترة ”السبعينيات” ليقدم تجارب تتجاوز إلى حد كبير ما قدمه جيل سابق يرتبط بفترة ”الستينيات”، ويتأكد لنا من جديد كون سعيد الكفراوي ”رأس حربة” لمجموعة كتاب يتسلحون بالموهبة ويرتبطون بالاستنارة، ولديهم طموح كبير في أن يطرحوا نصوصا مفارقة للسائد. هذا ما فعله بالضبط كتاب المحلة الشباب ومجموعة من كتابة القاهرة والإسكندرية، ربما كانت هناك تجارب يؤبه لها في هذا الموقع أو غيره. هؤلاء كتاب لهم حساسيتهم الخاصة ـ حسب إشارة إدوار الخراط ـ وقدرتهم على التعامل الحي مع متغيرات الواقع السياسي والاقتصادي كما عبر عن ذلك ملفات أعدها بصبر ودأب الشاعر محمد كشيك في ”الثقافة الجديدة”، ونظّر لها عدد من النقاد منهم: د. صبري حافظ، د. غالي شكري، أ. سامي خشبة، د. حامد أبو أحمد، وغيرهم.

(4)

تمضي السنوات، ويكون مبهجا أن تتغير الخريطة الإبداعية بظهور نقاد جدد، وتتفجر ”أسئلة السرد الجديد” فيسعى أمين عام مؤتمر أدباء مصر في دورة مرسى مطروح ( 22ـ 24 ديسمبر2008) لطرح تلك الأسئلة لتكون هي المحور الأساسي في المؤتمر. رأس هذه الدورة الروائي خيري شلبي، وحضره كاتبان مهمان جدا: الكاتب ابراهيم أصلان، والكاتب سعيد الكفراوي.

جرت بين الكتاب الجدد وبين سعيد الكفراوي حوارات مهمة ومفيدة تتضمن التجارب الحديثة، الشفاهي والمكتوب، الواقعية السحرية، الآفاق المتوقعة للنص الجيد. اتصور أن المؤتمر كان ضروريا لرفع الغشاوة عن أعين نقاد ظلوا يروجون لفترة طويلة للواقعية الاشتراكية فيما كانت عربات القطار قد غادرت المحطة إلى جهة أخرى.

(5)

قرأت مجموعات عدة لسعيد الكفراوي، وقد وضعت تصورا مبدئيا حول فن القص لديه ووجدت علامات بعينها ربما تحدد تجربته رغم القول بأن تلك التجربة لم يكتب عنها بشكل كلي.

سأحاول رصد بعض العلامات والإشارات التي لمحتها في قص سعيد الكفراوي:

1ـ القضايا الحيوية التي تساق على محك القرية المصرية، لكنها تضرب بعمق في مفهوم الهوية المصرية.

2ـ التقشف اللغوي، والاقتصاد. فأنت أمام لغة مصفاة، ذات نكهة حريفة، بلا ثرثرة، ولا عواطف رومانسية زائفة.

3ـ ظلال الأسطورة المندسة في قماشة السرد. بحيث يمكن للمتلقي أن يجد في الحكاية معان تخصه، لكنها تخص الواقع في عمق أعماقه.

4ـ المعرفة الحكيمة، التي تتسلل عبر القص، فتضفي على النصوص طابعا حكيما. حتى وإن بدت الحكمة ابنة القرية، دون تحديد قائلها على وجه الخصوص.

5ـ العين البصيرة، المتأملة، التي لا تأمن للغرباء، فتعاملهم بتوجس وحذر وحرص زائد.

6ـ نقاء السريرة، وطيبة القلب، والتي تتمثل في طريقة الحكي الأقرب للشفاهي دون أن يفقد النص ثقله المعرفي، ولا توجهه الجمالي.

7ـ ارتباط الكاتب بالثقافة المعاصرة، ونمو السرد ليطرد الخرافة، فيضعها في حيزها التاريخي دون زيادة أو نقصان.

8ـ يقبض الكاتب على حكمة الحياة، وما تسربه إلينا من رؤى، وكوى ضوء، فلا يهزمنا الواقع لأننا ندرك أنه في صيرورة.

9ـ تبدو تأملاته عميقة، فهو يتفاعل مع عناصر الحياة من بشر وحيوانات وطيور، بشكل يشير إلى تمتعه بحس إشراقي أصيل.

10ـ للأماكن وجودها، ولها دور مهم في تماسك النص، والكاتب قادر على رصد التحولات الاقتصادية والسياسية وأثرها على المشهد الاجتماعي.

11 ـ يميل الكاتب بشكل واضح للانتصار للإنساني على حساب غيره، وهذه درجة تقترب من مفهوم التصوف. غير أن الكتابة هنا تلعب دورها في تخفيف القبضة الحاكمة للأفكار المطلقة.

وهذه العناصر قد تجمعه بكتاب آخرين غير أن كتابات سعيد الكفراوي القصصية تنقل لك بهجة الحياة ولا تسورها بأجواء غاضبة، قاتمة، غامضة. وهذا عنصر فارق.

(6)

أصدر المجلس الأعلى للثقافة بمصر ثلاث مجلدات تضم مختارات من عيون القصة القصيرة المصرية. من إعداد وتحرير الأستاذ الدكتور حسين حمودة، وقد قدم الروائي خيري شلبي للأعمال بشكل كلي، وكان ذلك مواكبا للمؤتمر الأول للقصة القصيرة سنة 2009.

تم اختيار قصة لسعيد الكفراوي بعنوان ”شرف الدم”، في الصفحات من 575 إلى 584 .

جاء في تعريف الكاتب ما يلي :

سعيد الكفراوي (من مواليد 1939)، من أعماله: ”مدينة الموت الجميل”، ” ستر العورة”، ”سدرة المنتهى ”، ”مجرى العيون”، ”دوائر من حنين”، ”البغدادية”، ”يا قلب من يشتريك”، ”شفق ورجل عجوز وصبي“.

لو أردنا الاقتراب من عوالمه القصصية سأقتطع فقرة من النص: «على عتبة الدار، تحت السراج المطفأ المعلق في العقد المتآكل، تجلس عمتي ” مريم”، عندما أحست بي وضعت كفها على جبهتها وتأملتني لحظة ثم قالت: ”ها أنت قد جئت”، ولما سألتها عن أخي خفقت عيناها الكليلتان وقالت بدون أن تنظر ناحيتي: ”كلهم هناك”، وأشارت بيدها ناحية المغارب، ثم أردفت ”يبنون المقبرة«.

من نفس القصة أضع فقرة اخرى:

»على حصير مفروش فوق ظل التمرحنة، قبض ابن عمي أسفل الجوال وقلبه أمامي. هوت على الحصير الجماجم الخربة، تصطك بعضها وتحدث صوتا مكتوما اخترق قلبي . كانت موحشة وشائهة وقد اخترقها البلى والرميم.

شعرت للحظة كأنني أقف على الشاطيء الآخر للأبدية، همست وأنا أتأمل العظم الخارج من لحده القديم ـ أهلي

(7)

في ديسمبر سنة 2019، يعقد مؤتمر أدباء مصر في مدينة بورسعيد، كنت أحضر جلسة نقدية، وخايلني إشارة من يد الأستاذ سعيد الكفراوي، كان بجانبه الأستاذ محمود الورداني. كلمني الكفراوي عن نصوص كنت قد نشرتها في الهيئة العامة للكتاب، واستمر حديثنا لفترة قبل أن أهبط معهما درجات السلم للحديقة.

سعيد الكفراوي ـ كما لمحته ـ يتأمل الأشجار ومساحات الخضرة، ويرنو للفضاء البعيد.

أشعر به رجل ما يزال يحمل قلب طفل، ولديه حزن عظيم قد استولى على كيانه كله. لكنه يشعر أن امامه الوقت ليضع شتلة أخرى في أرض السرد.

كانت هذه هي المرة الاخيرة التي رأيت فيها عمي: سعيد الكفراوي. القلب النابض بحب الناس في ”كفر حجازي“، وكل البسطاء الذين انتصر لهم في كتاباته السامقة.

14

نوفمبر 2020.

نقلا عن موقع (صدى ذاكرة القصة القصيرة)