سعيد الكفراوي الذي ذهب مبكرا إلى مدينة الموت الجميل

سيد محمود

 

في قصة له بعنوان «الصبي فوق الجسر» كتب القاص الراحل سعيد الكفراوي على لسان الراوي السؤال التالي: من الذي جلبه من البلاد البعيدة ودق بجناحيه المسامير ... هناك في وجه الشمس ؟ لم أعرف ... أنا ذلك الصبي الذي تحيرني أبجدية الأشياء! وتكاد تكون العبارة إيجاز بليغ لرحلته الإبداعية التي امتدت عبر سنوات عمره حيث رحل عن 81 عاما، إذ ترسخت في كتاباته كلها فكرة السؤال والرغبة في محاورة الزمن، والنظر للعالم بعين الطفل التي تتسع بفضل الدهشة .

ومع إعلان موته تركزت عبارات الرثاء عند نقطتين رئيسيتين: الأولي، ولعه الشديد بالقص الشفاهي حيث كان يقدم بوصفه حكاء ماهر، أقرب إلى الحكي منه إلى الكتابة، والنقطة الثانية، تناولت ارتباطه الأصيل بفن القصة، فهو بخلاف أغلب كتاب جيله، لم يتحول لكتابة الرواية، وقضى حياته غير قادر على مغادرة هذا الفن أو الإيمان بأننا في زمن الرواية .

والمتأمل في المسيرة الإبداعية للراحل يسهل له أن يلاحظ مجموعة من السمات الفنية التي تضيء عالمه الفني المتفرد بين كتاب جيله، الذين اتسم عطاءهم بالتنوع الذي لا يلغي وجود علامات جامعة تضعهم جميعا في سياق عام .فقد جاء أغلبهم من فئات الطبقة الوسطى التي راوغتها شعارات ثورة 23 يوليو 1952 في تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي بدايتها اعتبروا أنفسهم ممثلين لمشروعها الوطني إلى أن اتسعت مسافة الاختلاف، وتجلت في الموقف من الديموقراطية، ثم في التعامل مع هزيمة العام 1967 التي كانت نقطة فاصلة دفعت هؤلاء المبدعين لإجراء مراجعة جذرية شاملة، أوجدت مواضعات فنية جديدة للقص الروائي، وخلقت تحديات فنية جديدة وطرحت أسئلة عن الشكل الأمثل للتعبير .

وفي حين ذهب جمال الغيطاني إلى التراث سعيا للبحث عن شكل في السرديات التاريخية يعينه على تجاوز الهزيمة، وجد آخرون في موجات العبث والوجودية أو في تمثل كتابات فرانز كافكا حلا إبداعيا، وشكلا من أشكال الاستجابة للتحدي الكبير الناتج عن الهزيمة، وتفسخ خطاب الواقعية والالتزام الأدبي، الذي رافق التحول السياسي العميق وتجلى هذا النموذج بوضوح في كتابات محمد حافظ رجب وصنع الله إبراهيم التي كانت فاضحة للمناخ العام، بفضل طابعها الكابوسي ونزعتها التجريبية الأصيلة .

وسعت كتابات أخرى لمراجعة موقف مثقف الطبقة الوسطى وتأمل هزيمته ومال لهذا الاتجاه بعض المبدعين لعل أبرزهم بهاء طاهر وعلاء الديب وجميل عطية إبراهيم لكونهم كانوا من أبناء المدن .وفي المقابل تبنى القادمون من خارج المدينة خيارات أخرى تنظر في ثراء البيئات المحلية وما تطرحه من حلول فنية تواكبت وموجة صعود للفانتازيا الشعبية في الفن التشكيلي، استندت على مصادر سوريالية عالمية وأعادت في نفس الوقت الاعتبار لعالم الأساطير والحكايات الشعبية. وكان هذا العالم هو المصدر الرئيسي لإلهامات يحيي الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب وعبد الحكيم قاسم ومحمد البساطي وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وسعيد الكفراوي الذي استلهم تجاربه القصصية كلها من هذا العالم الثري بتقاطعاته مع العوالم البصرية لعبد الهادي الجزار وحامد ندا وسعيد العدوي.

واستثمر كتاب هذا الجيل إجمالا طفرات في تقنيات السرد تحققت مع شيوع ترجمات وليم فوكنر وأرنست هيمنغواي، وبدأت تستأنف دروس يوسف إدريس في التقاط اليومي والهامشي، وتعمل على تحويله إلى موضوع للسرد من دون إهمال الأسئلة الوجودية التي كانت تعمقها روايات نجيب محفوظ في روايات المفارقة الفلسفية التي غلبت على إنتاج سنوات الستينيات. واختط سعيد الكفراوي لنفسه خطاً سرديا مائزاً، يقترب في شاعريته من لغة يحيي الطاهر عبد الله، وعوالمه السردية الغرائبية التي تخلط بين الواقعي والفانتازي، وتبتكر لغة شفاهية. ولعله كان من بين أكثر كتاب هذا الجيل سعيا لفهم مشروع الكاتب الرائد يحيي حقي في الاستجابة لحساسية اللغة اليومية.

ومن يقرأ أعمال سعيد الكفراوي التي جمعتها الدار المصرية اللبنانية في مجلد بعنوان زبيدة والوحش ضم مجموعاته القصصية الست الأولى، لا يمكن له تفادي هذه السمة. وقد أخرج الكتاب وصمم غلافه ورسم اللوحات المصاحبة للقصص، ابنه الفنان عمرو الكفراوي، في ما يمكن اعتباره ورشة عمل تجاور بين النص واللوحة من ناحية، ومن ناحية أخرى على الجمع بين حكمة الأب وتمرد الابن.

وتبدو لغة القص في المجلد لغة تداولية يومية، تلائم العالم السردي الذي يقاربه فهو إما عالم يستثمر في ذاكرة الطفولة وما تلح عليه من تساؤلات وجودية عن الموت والحياة والرغبة والجموح؛ وإما هي كتابة ساعية للتعامل مع الاغتراب الذي فرضته أسباب العيش في المدينة، ويكاد فيها أن يعيد ما طرحه أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه العذب (مدينة بلا قلب).

وما يؤكد هذا الملمح في كتابات الكفراوي نظرته لعالم القرية وعلاقاتها الاجتماعية البسيطة، في مقابل تعقد علاقات المدينة التي تغري بالجموح. لذلك تبدو كلمة الحنين واحدة من أكثر الكلمات تكرارا في عناوين قصصه (حنين للماء/ ظل للألفة). وهي أيضا مدخل لفهم ثراء هذا العالم والتعامل معه من زاوية تأمل فكرة الفناء. وهي أيضا فكرة مهيمنة؛ ولا تستند على ادراك صوفي للعالم، كما في قصة (صندوق الدنيا) بل تنبع من نزعة عدمية تفيض بالرغبة والجموح، حيث تحتفل الكتابة بالنسيان والزوال، أكثر من توقفها أمام فكرة الخلود.

وفي أحد حواراته قال «الكفراوي» إنه اهتم بالمنطقة الغامضة من القرية المصرية، «منطقة الأحلام والمكبوت الغرائبي وعلاقة الحيوان بالإنسان»، مضيفا أن «الموت» محور أساسي جِدًّا في كتاباته، ليس الموت الفيزيقي الذي يتبعه بدد، ولكن موت الانتقال إلى العالم الآخر، لذا كان يسعى دائمًا من خلال قصصه إلى خلق الأبدية.

ومن أكثر الأمور إثارة أن الكفراوي في قصص كثيرة يقوم بحالة من حالات كسر الإيهام، ويتحدث عن نفسه كبطل، وعن عائلته وأسماءأبنائه ورفاقه (الشاعر محمد عفيفي مطر) بالتحديد، والأخير هو أحد الذين شغلتهم الأساطير الشعبية انطلاقا من تصور فلسفي عن الموت والميتافزيقا. وكان من بين أكثر الأصدقاء تأثيرا في حياة الراحل، كما تكررت إشارته في قصص أخرى إلى واقعة اعتقاله في العام 1970 التي جاءت بسبب قصة نشرها في مجلة (سنابل) التي رأس مطر تحريرها، وتم تفسير محتواها على أنها تنقد نظام الحكم آنذاك. واستمرت تلك التجربة لنحو 6 أشهر وتركت أثرا عميقا في رؤيته للعالم خلال النصوص التي نشرها بعدها. وشاعت معها حكاية أن الراحل نجيب محفوظ استلهم منها شخصية إسماعيل بطل رواية الكرنك .

وفي عالمه الإبداعي الثري انحياز واضح لقضايا المقموعين، مع تحرر بالغ من العبء الايديولوجي، وعناية فائقة بالتكوين البصري لأي مشهد. وهي سمة متفردة عنده من حيث العناية باللون والرائحة. وقد تمتعت العين الساردة للكفراوي بطاقة الإدراك الفعال لما يخلقه تداخل الصور والعوالم، حيث يلهث القارئ دوماً وراء هذه الشبكة المعقدة من الصور والتماثلات البصرية التي تطارده، وتقصي تغييرات الزمن المحبوس في المكان. ولعلها تقارب في انشغالها بهذا الجانب ما تطرحه سينما محمد خان من تساؤلات عن المدينة، وما يفني فيها وما يبقى. كما في قصته الفاتنة «يوم غائم» التي ترصد تغيير المدينة وتؤرخ لتدهورها، حيث كتب: للسوق رائحة من توابل، وللأزقة عرقها القديم، ولكل درب مسلكه، حيث المتاهة والهواء يختلط بالانكسار، الوقت منكسر، وكرامة الأشياء تضوي في الجلد المنقوش، والمكان يتشبث بزواله.

وتظهر قصة «جارنا الذي يحب قراءة الكتب» إغراء الكتابة عن عالم العجائز، حيث يمكن الإنصات بسهولة لمسيرة الزمن والسعي وراء خيط غير مرئي، يذهب بالقارئ إلى عوالم الأطياف الحلمية التي لا تعبأ بالموروث البالي رغم سعيها لاستثمار الحيوي فيه. ولذلك تفيض هذه الكتابة بما تقدمه المنامات من حلول سردية، وهي ذاتها الحلول التي عاد إليها عندما توقف عن الكتابة في سنواته الأخيرة. وبدأ رحلته في الحكي الشفاهي، الذي سمح له دائما بفك الحكايات وإعادة تركيبها. في كل مرة يحكيها تكتسب حياة جديدة، فهو المؤمن بحكمة أستورياس التي دونها كمدخل لكتاباته: "من يجعل وهو يرحل، أو يموت، أهله يتذكرونه ويستمرون على الإحساس بأنه يعيش معهم، لا يكون قد رحل نهائيا، لا يكون قد مات تماما ."

 

عن محلق الجمعة (الأهرام)