سعيد الكفراوي... راهب القصة القصيرة

يوسف القعيد

 

شرفت جائزة الدولة التقديرية في الآداب لهذا العام، بحصول سعيد الكفراوي عليها. وذلك يُعتبر استحقاقا تأخر عن تاريخه كثيرا بالنسبة لسعيد الكفراوي. فربما كان سعيد الكفراوي الأخير في أبناء جيل الستينات الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية. وعندما رشح لها، كان الكل يسألني هل معقول أن سعيد الكفراوي لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية سوى هذا العام؟! كنت أقول له: نعم. كان يستغرب ردّي ولا يصدقه. ويوشك أن يطلب منّي دليلا يؤكد صدق كلامي.

وسعيد الكفراوي الوحيد من بين جيلنا الذي أخلص بلا حدود لكتابة القصة القصيرة. وعندما تحولنا جميعا لكتابة الرواية، ظل هو مخلصا لما يؤمن به، ولم يتحول عن كتابة القصة القصيرة أبدا. ورغم أنه أعلن كثيرا جدا أنه بصدد كتابة رواية، فإن هذه الرواية لم تخرج إلى الوجود أبدا، ولم تعرف طريقها للنشر رغم كل ما قاله عنها، لدرجة أنني تصورت أنه يتحدث عن كتابة رواية لم يكتبها لأسباب غامضة لم أعرفها.

عرفت سعيد الكفراوي مبكرا جدا، بعد أن جئت من قريتي إلى القاهرة مجندا في القوات المسلحة المصرية، وذهبت إلى مقهى ريش لمقابلة نجيب محفوظ. يومها كان سعيد الكفراوي أهم الذين سمعتهم يتكلمون، وقد حسدته على كلامه، كان يتناوب الكلام في جلسة نجيب محفوظ ثلاثة: أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وسعيد الكفراوي. وكنت أنظر إليهم كما لو كانوا قد جاؤوا من المريخ. فهم يفعلون ما لا أجرؤ على فعله.

جاء سعيد الكفراوي من المحلة الكبرى ضمن مجموعة جاءت من هناك. أذكر منهم الآن جابر عصفور، ابن المحلة الكبرى ونصر حامد أبوزيد ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو، جاؤوا من قرى المحلة أو من المحلة نفسها إلى القاهرة. جاءت بهم مواهبهم الأدبية وكتاباتهم الأدبية.

عندما ظهر سعيد الكفراوي على مقهى ريش، كان يسكن على حواف مدينة القاهرة، لكنه كان يتميز بشيء لم نعرف الطريق إليه أبدا، ألا وهو تغيير مسكنه أكثر من مرة. وتلك شجاعة لا تتوفر لنا كثيرا. ربما جاء به إلى مقهى ريش المرحوم جمال الغيطاني. وقد يكون جاء من تلقاء نفسه، لكن مجيئه إلى ريش ارتبط في ذهني بجمال الغيطاني. لأسباب ربما تاهت من الذاكرة الآن.

انتقل سعيد الكفراوي إلى مدينة نصر. سكن في شارع قريب من كازينو لاباس القديم وعاش فيه. عندما زرته في سكنه لفتت نظري مكتبة عامرة باذخة فيها الكثير من الأعمال الأدبية المهمة الجديدة. وكان سعيد كريما جدا في إعارتنا كتب هذه المكتبة. وكنا نستعير الكتب منه ونقرؤها وربما لا نردّها إليها.

ترك «سعيد» مسكنه الذي يقع عند حدود القاهرة في عزبة النخل، التي كانت بعيدة في تلك السنوات البعيدة، لكنه كان سعيدا بالحياة فيها، ويحدثنا عن الرحلة منها إلى وسط القاهرة كما لو كانت من الرحلات الجميلة والسهلة في حياته، لكنه لم يبق فيها طويلا.

هاجر «سعيد» بعد إقامته في مدينة نصر إلى حي المقطم، وسكن قريبا جدا من السكن الذي كان يعيش فيه إبراهيم أصلان ـ يرحمه الله رحمة واسعة ـ زرته في بيت المقطم مرة أو مرتين، وتمت كلتاهما بالصدفة، وكانت معه نفس المكتبة العامرة بالجديد من الأعمال الأدبية الصادرة، خصوصا في بيروت أو دمشق. كان نشيطا جدا في اقتناء الكتب الجديدة، وكان يحدثنا عنها وكأنه يحرّضنا كي نستعيرها لقراءتها، ولم يطلب أبدا إعادتها له مرة أخرى.

ورغم حبه لتغيير مسكنه، فإن إقامته في المقطم طالت كثيرا. ويبدو أن التقدم في العمر يحرم الإنسان من شجاعة تغيير مسكنه كجزء من المغامرة التي نعيشها في مراحل شبابنا وتتخلى عنا أو نتخلى عنها كلما تقدمنا في العمر. وهكذا ظل سعيد الكفراوي في المقطم.

ابنه عمرو الكفراوي، الذي ترك مصر مؤخرا ليعيش في كندا، احترف تصميم أغلفة الكتب، وأصبح علامة يشار لها بالبنان. عندما ذهبت لأحضر عقد قران عمرو اكتشفت أن الشابة التي اختارها لتكمل معه رحلة عمره هي الشقيقة الصغرى للمذيعة التليفزيونية والإعلامية المصرية منى الشاذلي. وعندما رأيت منى الشاذلي في المسجد الذي عقد فيه قرانه على شريكة عمره، قلت لنفسي كم تبدو الدنيا واسعة وضيقة في الوقت نفسه. من كان يتصور هذا؟ ومنى نفسها دهشت كثيرا جدا عندما رأتني. رغم أن علاقتي بسعيد لا تثير دهشة أحد، بل ربما كانت من الأمور الطبيعية جدا.

صعب أن يكتب الإنسان عن «سعيد» ولا يكتب عن أحلام شريكة عمره ورفيقة دربه، التي تبدو جزءا من ذكريات كل واحد منا عندما يحاول أن يتذكر سعيد الكفراوي. وقد جعلتْ من بيت سعيد بيتا لنا جميعا. ترحب بنا وتطعمنا كأننا أشقاء لها، أو أعضاء في أسرتها الصغيرة، وتكرمنا وتحتفي بنا دون كلمات، تقدم أهم ما عندها لنا وكأنها تقدم ذلك لأبنائها أو أشقائها أو أقربائها.

كان «سعيد» يحدثنا عن النصوص التي يكتبها. وقد ذكّرني بذلك بيحيى الطاهر عبدالله، الذي كان يتلو علينا من ذاكرته قصصه التي يحاول كتابتها. كان يحفظها عن ظهر قلب، ويتلوها علينا كما لو كانت قصائد شعر، سواء من شعر العامية أو الفصحى.

يوم أن حصل سعيد الكفراوي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، شعرت كأنني أنا الذي حصلت عليها، أو شاركته فيها، أو أن لي نصيبا منها. ويبدو أن وصولها إليه متأخرة جعل لها طعما يختلف عن الطعم الذي يشعر به من يحصلون عليها في وقت مبكر. فكلما طال زمن حصول الإنسان على شيء أو تأخر عليه، فإن ذلك يضفي على الجائزة طعما من نوع خاص.

بقي أن تعرف أن سعيد الكفراوي وُلد العام 1939 بقرية كفر حجازي بمحافظة الغربية. إن رأيته لن تصدق أبدا أنه في السابعة والسبعين، أطال الله في عمره. وأنه بدأ كتابة القصة القصيرة من الستينات ليصبح أحد أعلامها. صدر له حتى الآن اثنتا عشرة مجموعة قصصية تعد إضافة مهمة لفن القصة القصيرة مصريّا وعربيّا، وإن من مجموعاته القصصية: «بيت العابرين، حكايات عن ناس طيبين، مدينة الموت الجميل، البغدادية، يا قلب من يشتريك، دوائر من حنين». وقد صدرت له مؤخرا مختارات قصصية.

 

21 يونيو 2016