الخوف علي الوطن بعد ضياع الأرض

يقدم هذا المقال المنظور الفلسطيني لوقع هزيمة 67 المدمر على فلسطين، وآلية تخلي الأمة العربية، وأنظمتها خاصة، عن تلك القضية المحورية، ووقع هذا التخلي بطريقة جدلية فاعلة على الجانبين معا.

إبراهيم أبراش

مناسبة هذا الحديث هو مرور ذكري (نكسة 1967) في ظل أجواء مشحونة بالتوتر في الشرق الأوسط وعلي المسار الفلسطيني تحديدا، وكما هو الأمر في السنوات السابقة لم يتوقف العرب كثيرا عند هذه الذكري لا رسميا ولا شعبيا، ربما لأنها نكسة كما تسمي أو ذكري أليمة، نسيانها أفضل من تذكرها. التجاهل الرسمي العربي قد يكون مبررا إلا أنه بالنسبة للفلسطينيين فالأمر يحتاج لوقفة مراجعة وتقييم، حيث أن أسباب النكبة وتداعياتها ما زالت حاضرة وما يتعرض له الفلسطينيون اليوم هو بسبب هذه الحروب العربية الفاشلة التي سموها مرة بالنكبة ومرة بالنكسة، ولكن هل استفاد العرب من دروس الهزيمة سواء علي مستوي الاستعداد لتصحيح الأخطاء السياسية والعسكرية أو علي مستوي دراسات إستراتيجية معمقة تستخرج الدروس والعبر من الهزيمة؟ وهل تملك الأنظمة العربية الجرأة للاعتراف بمسؤوليتها عما آلت إليه الأمور علي المسار الفلسطيني؟

كانت هزيمة عسكرية بمعني الكلمة وليس مجرد نكسة
من يريد تصحيح الخطأ أو يضع أسس تحويل الهزيمة لنصر ولو جزئي عليه الاعتراف أولا بالخطأ وبالمسؤولية عن الهزيمة. ولكن للأسف تعوّد الإعلام العربي علي نعت ما جري في حزيران (يونيو) 1967 بالنكسة، كما ينعت ما جري في 1948 بالنكبة، واستعمال مصطلحي النكبة والنكسة لا يدخل في باب جمالية اللغة العربية وكثرة المترادفات فيها، فالمصطلحان ليسا مرادفان لغويان لكلمة هزيمة. الاستعمال لم يأت بشكل اعتباطي بل هو تعبير عن نمط تفكير وثقافة سياسية ورسالة يراد توصيلها مفادها تبرئة الذات من المسؤولية أو تخفيفها فعندما نقول نكبة فمعناه تحميل المسؤولية الي قوة خارجية أو سبب لا قدرة لنا علي دفعه، فالنكبة هي فعل خارجي لا دور ولا إرادة لنا في حدوثه، فالقدر هو المسؤول أو التآمر الخارجي الخ. ونفس الأمر بالنسبة للنكسة، فهي مصطلح يوحي وكأن الجسم العربي كان سليما وانتكس، فيما الواقع يقول إن هزيمة حزيران (يونيو) حدثت لأن الجسم العربي لم يكن أساسا سليما، ولو كان الوضع العربي مهيأ وقويا لما كانت الهزيمة، كما ان القول بالانتكاسة يوحي وكأن الهزيمة كانت حدثا عابرا ثم يعود الوضع صحيحا كما كان والواقع أن الوضع العربي لم يكن صحيحا ولم يعد صحيحا وقويا ما بعد الهزيمة، وفي هذا السياق كانت قمة الخرطوم بلاءاتها المعروفة ـ لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل ـ كمحاولة لتجميل صورة الوضع العربي.

لم يعد اليوم خافيا علي أحد أن من اهم اسباب الهزيمة هو عدم امتلاك العرب لا إرادة ولا استراتيجية حرب ضد اسرائيل، فالحديث عن الحرب والتحرير والشعارات الكبيرة التي سادت قبيل حرب حزيران (يونيو) لا يعني أن القادة العرب كانت لهم استراتيجية للحرب ضد إسرائيل، وقد قالها عبد الناصر قبل حرب حزيران (يونيو) لوفد من زعماء غزة من بينهم الدكتور حيدر عبد الشافي، حين خاطبهم قائلا من يقول لكم ان لديه خطة لتحرير فلسطين يضحك عليكم ويبدو ان بعض الأنظمة والحركات السياسية ما زالت تضحك علي الفلسطينيين وعلي شعوبها بتوظيف نفس الشعارات الكبيرة. ولكن هذه المرة بايديولوجية دينية. ونخشي أن هزائم قادمة لا محالة لأن إسرائيل ما زالت دولة عدوانية وقد تلجأ لحرب جديدة للتغطية علي ما تمارسه من تهويد واستيطان للأرض، وفرض لسياسة الامر الواقع في الضفة وغزة، ولأن الانظمة والحركات لا تملك اية استراتيجية موحدة بل هي متصارعة مع بعضها البعض أكثر من صراعها مع إسرائيل، ومن يملك استراتيجية حرب لا بد أن يكسبها في مواجهة من يخوض حربا دون استراتيجية.

الحرب وانتكاسة المشروع القومي
إذا استثنينا الفترة الممتدة ما بين حرب 67 ورحيل جمال عبد الناصر، وهي الفترة التي يمكن أن يستشف منها استمرار نهج الصمود والمواجهة ـ بالرغم من ملابسات اعتراف عبد الناصر بمشروع روجرز ـ إذا استثنينا هذه الفترة، فإن نتائج حرب حزيران (يونيو) أدت الي تراجع ملموس في قوة دفع حركة التحرر العربية بكل توجهاتها القومية العربية والاشتراكية واليسارية والشيوعية، سواء علي مستوي المشروع الوحدوي أو علي مستوي تحرير فلسطين. فما بعد حزيران (يونيو) تقوي التيار الاقليمي أو القطري علي حساب التيار القومي، وكانت أجلي مظاهر هذا الارتداد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ما بين إسرائيل وأكبر دولة عربية وقائدة حركة التحرر العربية آنذاك، وهي الاتفاقية التي لم تكن مجرد اتفاق بين دولتين بل هي نقطة تحول استراتيجي في المنطقة. أدت الي تحول في طبيعة الصراع وأهدافه واطرافه، وهو التحول الذي ما زالت مصر الرسمية تتمسك به ويعلن عنه الرئيس مبارك في كل مناسبة ـ استراتيجية السلام. قد يقول قائل: ولكن حرب اكتوبر (أو نصر اكتوبر كما يسمونه) محي عار هزيمة حزيران (يونيو). ودون التهوين من التضحيات التي قدمها العرب ـ وخصوصا الجيشان المصري والسوري ـ في حرب اكتوبر فإن هذه الحرب لم تكن علي قاعدة تحرير فلسطين، أو في إطار استراتيجية قومية عربية، بل علي قاعدة البحث عن حلول جزئية علي الجبهتين المصرية والسورية فقط ـ حتي الاردن الذي أضاع الضفة الغربية لم يشارك في الحرب ـ وهذا ما اعترفت به مصر عندما سمتها حربا تحريكية تهدف الي تحسين شروط التفاوض وعلي أساس استعادة الارض المصرية والسورية المحتلة في حزيران (يونيو).

كما أن القول بأنها نصر مؤزر هو قول مبالغ فيه، وهو توصيف ينبع من نفس العقلية التي عبرت عن حربي 48 و67 بمصطلحي النكبة والنكسة، فحرب اكتوبر يمكن تسميتها تجاوزا نصرا لأن الجندي العربي بالفعل أبلي فيها بلاء حسنا من جهة، ولأنها خرجت عن مألوف الحروب العربية، أي لم تكن نكبة ولا نكسة من جهة أخري، فهذه الحرب لم تحرر أرضا ولم تستعد حقوقا، السوريون دخلوا الحرب والجولان محتلة، وخرجوا منها والجولان محتلة، والمصريون لم يستعيدوا سيناء بالحرب بل بمفاوضات استمرت سنوات، وهي مفاوضات أعادت لهم سيناء منقوصة السيادة. وكان الثمن تكبيل مصر باتفاقية كامب ديفيد وإخراج مصر من ساحة المواجهة مع إسرائيل وترك الفلسطينيين ومصيرهم. بل يمكن القول إن (نصر) اكتوبر كان أخطر علي القضية من هزيمة حزيران (يونيو).

ما قبل حزيران (يونيو) كانت حركة التحرر الوطني الفلسطينية تهتدي بالميثاق القومي الفلسطيني الموضوع عام 1964 وهو الميثاق الذي كان يتعامل مع القضية ويعبر عنها بمفردات قومية، بمعني أنه كان يجسد البعد القومي للقضية سواء علي مستوي تعريف الصراع أو أدواته أو علاقة منظمة التحرير بالدول العربية، ولكن يلاحظ أنه بعد الهزيمة حدث الانتقال من (الميثاق القومي) إلي (الميثاق الوطني) ـ 1968 هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في الاسم، بل هو تحول استراتيجي إن كانت بوادره موجودة قبل الهزيمة فإن هذه عجلت بنضج التحول ومنحه شرعية الوجود. كان الجديد في الميثاق أنه تفهم ـ دون أن يعلن عن ذلك مباشرة ـ أن العرب لم يعودوا جادين بالالتزام بالقضية الفلسطينية وانهم تخلوا عن استراتيجية التحرير لغياب الإرادة أو لغياب الإمكانات بالنسبة لمن هو صادق في التزامه، وتحرك الفلسطينيون وخصوصا حركة فتح لتفعيل شعار (التحرير طريق الوحدة) بدلا من الشعار القومي (الوحدة طريق التحرير)، ولتعلي من شأن الهوية الفلسطينية والكيانية الفلسطينية واستراتيجية حرب التحرير الشعبية علي حساب استراتيجية الحرب النظامية. ولكن هل يمكن للفلسطينيين أن يهزموا دولة هزمت جيوش الدول العربية؟ وهل يمكن لثورة فلسطينية أن تنجح في واقع رسمي عربي في حالة تعارض مع فكر الثورة أو عدم قبول واحتضان الدول المحيطة بفلسطين والمستضيفة لهم لقوات الثورة الفلسطينية؟ كثيرة هي التساؤلات التي طرحها مفكرون آنذاك، ما بين متهم للثورة الفلسطينية وخائف عليها. ودخلت الثورة الفلسطينية الميدان بعنفوان، متسلحة ومستقوية بالهزيمة الرسمية العربية وبصعود الوطنية الفلسطينية. ولكن هل كان قادة المنظمة وخصوصا قادة فتح يعتقدون بالفعل أنهم قادرون لوحدهم علي هزيمة إسرائيل؟

يمكننا القول دون شطط في التأويل أو التحليل إن فلسطنة القضية عزز التوجهات نحو التسوية أو الحلول المرحلية في الساحة الفلسطينية، فمباشرة بعد هزيمة حزيران (يونيو) تم طرح شعار الدولة الديمقراطية العلمانية وهو الشعار الذي بلَّغ رسالة للإسرائيليين عن الاستعداد الفلسطيني للعيش مع اليهود في دولة واحدة ـ الميثاق الوطني لم يكن يعترف إلا باليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين قبل 1948 ـ وبعد تشرين الاول (أكتوبر) تم تبني البرنامج المرحلي ـ برنامج السلطة الوطنية علي أي جزء من أرض فلسطين ـ وفي نفس العام ـ 1974 ـ تم الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، ثم الاعتراف بها بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة. هذه التحولات المتسارعة بعد هزيمة حزيران (يونيو) إن كانت عززت الهوية الفلسطينية واستقلالية القرار الفلسطيني في مواجهة التدخلات العربية، إلا أنها في نفس الوقت جعلت فكر التسوية أكثر إلحاحا وحضورا، فالعالم لم يقترب من الاعتراف بالمنظمة لأنها تمارس حقا مشروعا بالمقاومة المسلحة أو لأنه يؤيد هدفها بالقضاء علي إسرائيل، بل لأن المنظمة أصبحت أكثر استعدادا للحلول الوسط، وأكثر ضعفا من أن تستطيع القضاء علي إسرائيل بعد انفكاك الحلفاء العرب من حولها. أو بمعني آخر كان الاعتراف الدولي والعربي نوعا من الاستدراج للشعب الفلسطيني للانخراط بالعمل السياسي الرسمي والابتعاد عن العمل المسلح، وكانت إسرائيل الأكثر تخوفا من التحول الفلسطيني نحو العمل السياسي والدبلوماسي لأن هذا العمل كفيل بأن يمنح الفلسطينيين مزيدا من التأييد والتعاطف الدولي.

هذه التحولات خلقت الظروف المواتية للأنظمة العربية لتكشف عن نواياها الحقيقية وتتهرب من التزاماتها تجاه القضية بشكل سافر ودون مواربة، تحت شعار (نقبل بما يقبل به الفلسطينيون) وأن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، و(إننا لسنا أكثر فلسطينية من الفلسطينيين) الخ ولكن بعدما ضيعوا كل فلسطين. وكان لا بد لأن يصاحب نهج التسوية بتقديم تنازلات، لأن التسوية تعني التفاوض والتفاوض يعني وجود قضايا متنازع عليها، والمفاوضات تحسم نتائجها لصالح الأقوي بكل ما تعنيه كلمة قوة من دلالات عصرية، والفلسطينيون وبعد تهرب العرب من مسؤوليتهم القومية، وبعد ما تعرضوا له في لبنان، وما بعد خروجهم منه، لم يكونوا الطرف الأقوي الذي يفرض الشروط. ومن هنا كانت اتفاقية أوسلو وما تبعها، وما يجري اليوم من مواجهة ما بين الفلسطينيين في الداخل والإسرائيليين في ظل صمت عربي مريب ومتواطئ هو نتيجة لأخطاء تراكمت علي مر السنيين، والأخطاء ليست أنهم نهجوا طريق السلام بل لأنهم لم يحسنوا التعامل مع فكرة السلام ولم يمتلكوا إستراتيجية واضحة للسلام.

رفع الحصار هو أقل ما يمكن تقديمه تكفيرا عما اقترفوه
وهكذا لو عدنا لأصول المشكلة لوجدنا أن فلسطين ضاعت بسبب حرب سبعة جيوش عربية مع حركة صهيونية وليدة عام 1948. ثم نتيجة حرب بين إسرائيل وثلاثة دول عربية عام 1967، نصف فلسطين ضاع نتيجة هزيمة الجيوش العربية في 1948 وما تبقي ضيعوه بحرب 1967. والمأساة في الأمر أن الذين ضيعوا فلسطين لا يريدون الاعتراف بمسؤوليتهم، بل يحملون المسؤولية للفلسطينيين، حتي وصلت الوقاحة ببعض منابرهم الإعلامية للقول بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود وأنهم فرطوا بأرضهم! وعندما نقول بالمسؤولية العربية لا نقصد أننا نطالبهم بتحرير الأراضي المحتلة، وإعادة الأمور إلي ما كانت عليه قبل 5 حزيران (يونيو) 67 مثلا، بل الاعتراف الأخلاقي بالمسؤولية والوقوف لجانب الفلسطينيين لمواجهة الحصار الجائر المفروض عليهم اليوم. إن اقل ما يمكن للعرب تقديمه للفلسطينيين هو رفع الحصار المفروض عليهم وأي أموال تقدم لهم لا يمكنها تعويض الويلات التي حلت بالشعب الفلسطيني نتيجة حروب العرب مع الإسرائيليين، وعليه فإن ما تقدمه الأنظمة العربية اليوم للفلسطينيين المحاصرين ليست مساعدات إنسانية أو منة منهم، بل هي أقل ما يجب تقديمه لأنهم سبب مصائب الفلسطينيين بعد العدو الإسرائيلي.

قد يحاول البعض رد الكرة للملعب الفلسطيني بالزعم أن ما يعانيه الفلسطينيون يعود لأخطائهم وسياساتهم فهم الذين يتحملون المسؤولية عن الحصار وهم الذين يتصارعون مع بعضهم البعض الخ، ومن السهل علي هؤلاء المغرضين استعمال ورقة الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني لتشويه الصورة وتمرير ما يريدون من تحريض ضد الفلسطينيين. لا شك ان الاقتتال الداخلي ألحق إساءة كبيرة بالقضية الوطنية، ولكن ما كان لهذا الاقتتال أن يكون لو لم يكن احتلال. وما كان الاحتلال لولا هزائم الجيوش العربية، وتهرب الأنظمة من مسؤولياتها. ولم يقتصر الأمر علي ذلك فقد استمرت أنظمة وحركات عربية وإسلامية بالتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي حتي جاز القول بان الاقتتال الفلسطيني الداخلي هو حرب بالوكالة عن أنظمة وحركات خارجية، فهذه لم يكفها التهرب من المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني، بل تواصل توظيف القضية لخدمة أجندتها الخاصة مخفية أهدافها المغرضة وراء شعارات وبعض المال والسلاح يدفع لهذه الجماعة الفلسطينية أو تلك.
اليوم وبعد أربعين عاما علي هزيمة حزيران (يونيو) التي أدت لضياع الأرض هناك خوف حقيقي علي الوطن، والوطن أكبر واهم من الأرض، الوطن هو وحدة وتماسك الشعب وهو الهوية والمشروع الوطني، وبعد ما جري من اقتتال داخلي ومع الحالة الخطيرة التي تمر بها الدول العربية والمنطقة وإطلالة مشاريع وصاية جديدة علي الشعب الفلسطيني، يصبح الخوف هو علي الوطن وعلي المشروع الوطني.

كاتب من فلسطين