في سينما 67: مصر عمارة انهارت بسبب مقاول فاسد!

يقدم الباحث المصري هنا استقراءه للسياق الذي ظهرت فيه الأعمال السينمائية التي تناولت الهزيمة، وطبيعة الموقف الرسمي والنقدي منها، ويتعرف على عدد من ظواهر الفيلم المصري ومساراته في تلك القراءة.

عصام زكريا

ما الذي تغير في السينما المصرية عقب زلزال الخامس من يونيو المدوي؟ ولكن هل كان ينبغي أن يتغير شيء؟ بالنسبة للحكومات، ولكثير من السينمائيين، هناك اعتقاد أن السينما ليس دورها الحديث عن الآلام والهزائم، وانما التوجيه والترفيه، وعلي أقصي تقدير، يمكن عرض المشاكل ولكن مع التبشير بالحلول وبث روح التفاؤل. قد يكون من المدهش أن يرتفع عدد الافلام التي تم انتاجها خلال السنوات التي تلت 1967 أو أن تنتاب السينما موجة من الضحك الهستيري تؤدي الي لمعان نجوم الكوميديا وبزوغ جيل جديد من الكوميديين الجدد، أو أن تتسع مساحات العري فوق سيقان وصدور الممثلات، وربما نجد من الطبيعي أن يسعي بعض الفنانين الي التعبير عما حدث بطرق أكثر جدية، وأن تمتد ثورة الطلبة والشباب التي اندلعت في ذلك الوقت الي مجال السينما، فتظهر حركة وأسماء جديدة تحمل أفكارا سياسية وفنية جديدة. ولكن من السهل تبرير كل هذه الظواهر بما فعلته الهزيمة.

لذلك فان السؤال الذي يحتاج الي البحث فيه هو لماذا اثرت الهزيمة بهذه الطريقة أو تلك تحديدا؟ وهو يحمل ضمنيا سؤال آخر هو لماذا لم تؤثر الهزيمة بطريقة أخري؟ دعونا نتتبع أولا بعض الظواهر التي اعقبت الحرب، والتي قد تكون مرتبطة بما حدث بطريقة أو أخري. في السنوات التي سبقت 1967 انخفض عدد الافلام المنتجة سنويا من 45 فيلما عام 1964 الي 41 فيلما عام 1965 الي 36 فيلما عام 1966 خلال النصف الاول من 1967 تم عرض 18 فيلما كان آخرها فيلم (عندما نحب) اخراج فطين عبدالوهاب. الذي بدأ عرضه في الخامس من يونيو بالضبط، وبعد أيام تم توقف دور العرض لحوالي شهر تقريبا قبل أن تعود لممارسة نشاطها بدءا من 15 يوليو بعرض الفيلم المصري الايطالي المشترك (أبوالهول الزجاجي). شهد النصف الثاني من العام عرض 16 فيلما أخري ليصل اجمالي ما عرض خلال العام الي 34 فيلما. العام التالي 1968 شهد ارتفاعا كبيرا حيث وصل عدد الافلام المعروضة الي 48 فيلما. ولاحظ أننا نتحدث هنا عن الافلام المصرية فقط بدون الافلام الاجنبية التي تعرض في مصر. في عام 1969 وصل عدد الافلام الي 45 فيلما ارتفعت الي 47 في العام التالي وظلت في هذا المتوسط علي مدار السنوات التالية.
وبالنسبة للافلام التي انتجتها الدولة ممثلة في مؤسسة السينما فقد بقيت في المتوسط المعتاد دون زيادة أو نقصان ملحوظين فقد عرض لها 19 فيلما عام1966،20 فيلما عام 1967، 17 فيلما عام 1968، 13 فيلما عام 1969. وليس صحيحا الادعاء القائل أن النظام السياسي أصدر توجيهات بالتركيز علي الافلام الكوميدية والخفيفة عقب الهزيمة. وانما علي العكس سنلاحظ ان معظم الافلام الجادة التي عبرت عن الهزيمة ووجهت انتقادات مباشرة أو مبطنة الي حكم عبدالناصر هي من انتاج الدولة نفسها، مثل (المتمردون) و(القضية 68) و(الرجل الذي فقد ظله) و(شيء من الخوف) و(الناس اللي جوه) و(الاختيار) و(أغنية علي الممر) وغيرها!

العمارات المنهارة
في عام 1967 قبل أسابيع من اندلاع الحرب، عرض فيلم (المخربون) للمخرج كمال الشيخ عن قصة ابراهيم البعثي (سبع مداخل للقاهرة)، الذي يدور حول مدرسة تسقط فوق التلاميذ، ليكتشف المهندس أحمد (أحمد مظهر) الذي يذهب لمعاينة أسباب سقوط المبني، أن المقاول المسئول قام بالتلاعب بالمواصفات بمعرفة بعض الموظفين المرتشين، وعندما يشعر الجناة بالخطر يدبرون له هو قضية رشوة! فيما بعد تكررت كثيرا هذه الفكرة حول البناء الذي يسقط، والتي تجسد شعور (الزلزال) الذي احدثته الهزيمة المفاجئة، وهي فكرة مرتبطة بلاشك بصورة مصر القوية الشامخة التي شيدتها الثورة، والتي رمزت لها ببنائين عملاقين طولا وعرضا هما برج القاهرة والسد العالي، ومرتبطة بصورة مصر التي يرمز لها بالاهرامات في عصر الفراعنة، وقلعة محمد علي في العصر الحديث، وربما كانت أحدث صورة لهذه الاستعارة هي رواية (عمارة يعقوبيان) لعلاء الاسواني.

كمال الشيخ هو أحد القلائل الذين أرقتهم ممارسات ثورة يوليو المعادية للديمقراطية والحكم المدني، كما يظهر في واحد من أوائل الافلام التي كشفت انتهازية بعض قيادات الثورة وهو (اللص والكلاب) عام 1962 والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ الشهير التي كانت أول عودة له الي الادب بعد سنوات من الانقطاع، وهي الاولي في سلسلة روايات تنتقد ممارسات الثورة منها (السمان والخريف) التي تحولت الي فيلم من اخراج حسام الدين مصطفي عرض عام 1967، وعرض قبل أسابيع من الحرب أيضا، ومنها (ميرامار) التي قام كمال الشيخ بتحويلها الي فيلم عام 1969، وهو أول عمل يوجه فيه نقد صريح ومباشر الي الثورة، حتي لو كان هذا يأتي علي لسان شخصية طلبة مرزوق (يوسف وهبي) الباشا السابق، ولكن شخصية سرحان البحيري (يوسف شعبان) الانتهازي الخائن الذي ينضم الي الاتحاد الاشتراكي تؤكد أن بعض ما يقوله طلبة مرزوق صحيح تماما!

ينتهي فيلم (المخربون) المصنوع قبل 1967 بنجاح المهندس في التغلب علي الفاسدين، وتسليمهم للشرطة في النهاية، ولكن كمال الشيخ يعود الي فكرة البنايات الفاسدة عام 1975 مع السيناريست رأفت الميهي ليقدم واحدا من أفضل الافلام السياسية المصرية علي الاطلاق وهو فيلم (علي من نطلق الرصاص). في هذا الفيلم يقوم الموظف الشاب مصطفي (محمود يس) بمحاولة اغتيال رئيس مجلس ادارة شركة للاسكان الشعبي (جميل راتب)، ويتبين فيما بعد انه فعل ذلك انتقاما لمقتل صديقه المهندس سامي (مجدي وهبة) الذي اكتشف تلاعب الشركة بالمواصفات الفنية مما يؤدي الي انهيار أحد المباني فوق سكانه، ويقوم رئيس الشركة وعصابته بتلفيق تهمة للمهندس وقتله في السجن، ولم يكتف بذلك، بل قام بالزواج من خطيبة المهندس السابقة (سعاد حسني).

صورة البناية المنهارة تتضح كأفضل مايكون في فيلم (القضية 68) للمخرج صلاح أبوسيف، والمصنوع عام 1968 وهو أول فيلم يتعرض لهزيمة يوليو. (لقضية 68) المأخوذ عن قصة لطفي الخولي، يدور حول مبني سكني في حارة شعبية. يملك المنزل منجد عبدالسلام (صلاح منصور) وهو رئيس اللجنة التي يشكلها أبناء الحارة لخدمة مصالحهم، والتي تتكون من شخصيات يرمز كل منها لاحد التيارات السياسية، الحرس القديم المتمسكين بالقوانين وما يخدم مصالحهم والشبان المتمردون علي التقاليد والمطالبين بالتغيير من الجذور ومنجد (الذي يرمز اسمه بوضوح الي ناصر) رجل طيب القلب ولكن ضعيف يري أن حل المشاكل يأتي بالمناقشة لا الحسم، وضعفه وعدم حسمه هذا يتسبب في النهاية في سقوط المبني فوق أصحابه من أصحاب الافكار القديمة. أحد التيارات الاتحاد الاشتراكي القديم، وهو التنظيم السياسي الوحيد الذي كان مسموحا به قبل أن يقوم عبدالناصر، تحت وطأة الهزيمة بعمل انفراجة ديمقراطية، وبالسعي الي كسب الجيل الجديد من الشباب الثائر علي الهزيمة الي صفة من خلال تشكيل التنظيم الطليعي الذي كان لطفي الخولي أحد وجوهه البارزة، وقد اشتعلت خلال السنوات التي تلت 1967 معركة ضارية بين التيارين ، ظهر أحد فصولها عقب العرض الاول لفيلمه (القضية 68) حيث قام بعض ممثلي الاتحاد الاشتراكي بالاعتداء علي مخرج الفيلم صلاح أبوسيف أمام دار العرض، كما قاموا بتنظيم مظاهرة ضد الفيلم أدت الي انهاء عرضه قبل أسبوع واحد، ولم يعرض هذا الفيلم مرة أخري الا حديثا جدا.

تتكرر فكرة البناء الآيل للسقوط في فيلم (الناس اللي جوه) الذي اخرجه جلال الشرقاوي عام 1969 عن قصة للاديب المصري المقيم في فرنسا ألبير قصيري، والتي تدور خلال أربعينيات القرن العشرين حول منزل يوشك علي السقوط ويرفض وكيل المالك اصلاحه، ويرفض مالكه أن يلتقي بسكانه المتزمرين ويطردهم، ولكن ما يتسبب في سقوط المنزل في النهاية ليس سلوك ملاكه وانما حسب رؤية ألبير قصيري البصيرة هو سلوك سكانه أنفسهم الغارقين في الانانية والخلافات وفي ازدواجية التزمت والانحلال الجنسي!

الدولة تنتج وتمنع!
أحد الآثار السريعة لهزيمة يونيو كان انطلاق موجة من الغضب والشماتة ضد النظام الحاكم، وتمثل هذا في السينما في بعض الافلام التي رسمت صورة رمزية لمصر، وما يجري فيها في هذه الفترة من خلال مكان محدود، قد يكون مستشفي كما في (المتمردون) لتوفيق صالح، أو قرية صغيرة كما في (شيء من الخوف) لحسين كمال أو 'بنسيون' صغير كما في (ميرامار) كمال الشيخ. ليس في هذه الافلام حديث مباشر عن يونيو 1967 أو مصر ما بعد ثورة يوليو 1952بإستثناء (ميرامار)، ومع ذلك فقد تعرضت هذه الافلام وأصحابها لمتاعب كبيرة بسبب ما وجهته من نقد الي النظام. (المتمردون) الذي كتبه صلاح حافظ واحد من أجرأ هذه الافلام خاصة انه قدم عام 1968 مثل (القضية 68) أي عقب الهزيمة بشهور. يرسم (المتمردون) صورة رمزية اشتراكية لمصر وللعالم الثالث عموما من خلال مستشفي في الصحراء ينقسم الي جناحين، الاول للاثرياء ونزلاؤه أقلية، والثاني للاغلبية الفقيرة التي تعاني من سوء المعاملة والاهمال الشديد، ويتمرد المرضي ويقررون الاستيلاء علي المستشفي ويطردون مديره القديم ويختارون طبيبا شابا ثوريا كان يؤيد تمردهم وهو الدكتور عزيز (شكري سرحان)ولكن النظام الجديد يتحول الي نسخة من النظام القديم نفسه، نفس الطبقية والديكتاتورية.

كان توفيق صالح يعد للفيلم قبل يونيو 1967 ولكن مع الهزيمة أصبح لكل شيء معني واسقاط واضح ويقتبس الناقد علي أبوشادي في كتابه (السينما والسياسة ) دار شرقيات 1998 من حوار لتوفيق صالح مع الناقدين الفرنسي جي هانيبال والتونسي خميس خياطي قوله: "انفجرت حرب يونيو 1967 ورمتنا في الهزيمة، فأخذ فيلمي بعدا باهرا في تنبؤاته .. لم يعد في الامكان أن أنفي حقيقة أن طبيب (المتمردون) هو عبدالناصر بالذات، خصوصا أنه يذهب بعد الهزيمة الي اقتراح استقالته." تعرض (المتمردون) لمذبحة رقابية وقام ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك باجبار المخرج علي حذف حوالي 25 دقيقة، وعلي اضافة نهاية جديدة، تؤكد ان ثورة يوليو هي الحل. ولكن في العام التالي 1969 سمح بعرض فيلمين من أكثر الافلام جرأة في نقدهما للنظام السياسي الناصري وهما (شيء من الخوف) و(ميرامار). واذا كان (المتمردون) ينتهي بتقديم الدكتور عزيز لاستقالته فان (شيء من الخوف) ينتهي بعتريس، الديكتاتور الجديد الذي يخلف جده الديكتاتور الذي يحكم قرية الدهاشنة، وقد تم حرقه حيا هو ورجاله من قبل الجموع الغاضبة!
ومن القصص الشهيرة أن عبدالناصر شاهد الفيلم في منزله بعد أن وصلته تقارير الرقابة المعترضة ضده، وانه سمح بعرضه كاملا بعد ان قال قولته الشهيرة "لو احنا كده نبقي نستاهل الحرق!"

أثار (ميرامار) الذي كتبه ممدوح الليثي عن رواية نجيب محفوظ واخرجه كمال الشيخ جدلا أكبر بين الرقباء من بين كل الافلام السابقة بسبب العبارات الصريحة التي تهاجم الثورة، بالاضافة الي بعض العبارات ذات التلميحات الجنسية، والتي يرد معظمها علي لسان طلبة مرزوق الاقطاعي السابق، وكذلك بسبب شخصية سرحان البحيري عضو الاتحاد الاشتراكي الانتهازي. وتروي الرقيبة السابقة اعتدال ممتاز في مذكراتها (مذكرات رقيبة سينما 30 عاما) الهيئة العامة للكتاب 1985 قصة التدخلات الكثيرة من مسئولين في وزارة الثقافة والاتحاد الاشتراكي، وحتي مؤسسة السينما التي انتجت الفيلم، لمحاولة حذف الكثير من مشاهد الفيلم الي أن قامت بالاتصال برئاسة الجمهورية لحسم الامر من أعلي جهة في الدولة، ويروي جمال الليثي منتج الفيلم ـ¬ كما يكتب محمد صلاح الدين في كتابه (السينما والسلطة) مكتبة مدبولي 1996 ـ¬ كيف ان عبدالناصر شاهد الفيلم بنفسه مع نائبه أنور السادات وأسرتيهما، وانه طلب من السادات اعادة مشاهدته مع المسئولين والموافقة عليه كاملا وانه قال يومها لمن حوله: "النظام الذي يقع من فيلم أو مسرحية يبقي نظام خرب ومخوخ .. اتركوا الكتاب والفنانين يعرضوا أعمالهم بحرية" ولكن جمال الليثي لايذكر كيف عرف أن عبدالناصر قال هذه العبارات! في النهاية شاهد السادات الفيلم مع وزير الثقافة ومسئولي الاتحاد الاشتراكي، ووافق علي عرض الفيلم كاملا باستثناء عبارة واحدة تأتي علي لسان إحدي الشخصيات تقول "الستات حيوانات ويستاهلوا ضرب الجزم" في حين سمح بعشرات العبارات الاخري التي تهاجم الثورة وحالة البلد.

كان (ميرامار) مثل الافلام سابقة الذكر (القضية 68) و(المتمردون) و(الناس اللي جوه) و(شيء من الخوف) من انتاج الدولة ممثلة في مؤسسة السينما، وهو ما يثير في الذهن عدة ملاحظات منها أن القطاع الخاص في مجال السينما كان في مجمله غارقا في السينما التجارية، وربما يكون هذا من تأثير الدولة نفسها التي وقفت من قبل ضد قيام القطاع الخاص بانتاج اية أفلام سياسية جادة، وربما يشير الي أن المثقفين المصريين كانوا وربما لايزالون يعتبرون أنفسهم جزءا من الدولة، حتي لو اعترضوا علي ممارساتها، وأن الدولة مسئولة عنهم باعتبارها الأب والأم في النهاية، أو قد يشير الي أن الدولة رأت أن هذه الاعمال في النهاية نوع من التنفيس عن الغضب يساعد علي ألا يتحول الاحباط أو الغضب الي ثورة أو أنها سعت الي 'خطف' الغضب من الناس، أو ربما يكون ببساطة أن أصحاب هذه الافلام السياسية الجادة غير التجارية وجدوا أن القطاع الخاص لا يمكنه المغامرة في هذه الافلام التي قد تتعرض للمنع أو للخسارة، المادية وبالتالي توجهوا الي المؤسسة باعتبارها الجهة الوحيدة التي يمكن أن تنتجها!

الهزيمة النفسية!
خلا عام 1970 من أية افلام تحمل توجهات سياسية ناقدة، وبالعكس فان فيلمي (الارض) ليوسف شاهين و(شروق وغروب) لكمال الشيخ مخرج (ميرامار) كانا نوعا من الدفاع عن، والتمسك بأفكار ثورة يوليو. ولكن وفاة عبدالناصر في الشهر التاسع من العام يبدو انها فتحت جرح الهزيمة والحزن مجددا، وفي نفس الوقت حررت كثيرا من المبدعين من الخوف الذي زرعته صورة الاب المتوفي. كان يوسف شاهين أول من نظر الي البعد النفسي في أسباب الهزيمة ونتائجها، عوضا عن البعد المكاني والاجتماعي في الافلام السابقة وذلك في فيلمه (الاختيار) الذي جسد فيه عزت العلايلي شخصيتي التوءم سيد ومحمود، أو المثقف الفصامي مزدوج الشخصية، الذي تمزق بين التمسك بفرديته وجنوحه وبين قلمه ونفسه للسلطة. حتي ذلك الحين لم يجرؤ فيلم من الافلام السابقة علي التعرض للواقع وما حدث في يونيو 1967 صراحة، ولكن في فيلمه التالي (العصفور)، المصنوع عام 1972، يقدم يوسف شاهين وكاتب السيناريو لطفي الخولي رؤية تحليلية مباشرة للفساد وسوء القيادة وضعف النخبة المثقفة وغيرها من العوامل التي أدت الي الهزيمة في 67 رفضت مؤسسة السينما رفضا تاما انتاج هذا الفيلم أو المساعدة في انتاجه، مما دفع شاهين الي اللجوء للحكومة الجزائرية، التي كان قد انتج بأموالها من قبل فيلمه عن (جميلة بوحريد). وأصبح (العصفور) أول انتاج مشترك لشاهين، وهي الطريقة التي سيلجأ لها بعد ذلك للخلاص من شروط الانتاج للدولة، وشروط الانتاج التجاري المحلي. ولكن حتي بعد انتاج الفيلم رفضت الدولة عرضه رغم انه عرض في الكثير من بلاد العالم، وحظي باعجاب نقدي بالغ، ولم يقدر له العرض في مصر الا بعد قيام حرب اكتوبر 1973 بعام كامل في أغسطس 1974 وحتي بعد عرضه، رفض وزير الثقافة آنذاك يوسف السباعي قرار لجنة جوائز الدولة بمنحه جائزة أفضل فيلم. وأجبرهم علي تغيير النتيجة ليخرج الفيلم بدون اية جوائز حيث اعترض علي منح الجائزة لمخرج 'شيوعي'!

يرسم 'العصفور' صورة بانورامية لمصر خلال الفترة السابقة علي حرب 67، الداخلية تحاول إلهاء الناس بقصة عن مجرم خطير في الصعيد، والصحفي اليساري يوسف يقوم بعمل تحقيق حول الفساد المستشري في القطاع العام، والمثقفون يضيعون الوقت في بيت الخياطة بهية في مناقشات لا طائل من ورائها، ورءوف ضابط الشرطة الشاب حائر بين السلطة التي يمثلها زوج أمه الضابط الكبير بالداخلية، وبين 'شلة' المثقفين في بيت بهية، وأثناء استغراقه في النوم في حلم جنسي مع فاطمة ابنة بهية تقوم حرب 67 ويقتل أخوه ضابط الجيش، وتسقط الهزيمة مدوية فوق رءوس الجميع. ويعرض الفيلم جزءا من خطاب التنحي لعبدالناصر والمظاهرات التي قامت فور انتهاء الخطاب تطالبه بالبقاء، ونستمع في الفيلم الي أغنية الشاعر أحمد فؤاد نجم والمطرب الشيخ إمام (مصر يا أمة يا بهية) كما نستمع الي نشيد 'راجعين شايلين في ايدينا سلاح' للموسيقار علي اسماعيل الذي سيتحول الي نشيد وطني فيما بعد!

كان (العصفور) أول فيلم يستخدم فيه خطاب تنحي عبدالناصر، وهو الخطاب الذي سيقدم في العديد من الافلام بعد ذلك في سياقات مختلفة، وأذكر أنني أحصيت مرة حوالي عشرة أفلام قدمت هذا الخطاب، منها (إحنا بتوع الاتوبيس) و(أحلام صغيرة) و(أيام السادات) وغيرها ومن المدهش أن يكون خطاب الهزيمة هذا هو اللقطة التاريخية الأرشيفية الاكثر استخداما في السينما المصرية علي الاطلاق، أكثر جدا من بيان ثورة يوليو، أو اعلان انتصار أكتوبر، أو خطاب السادات الذي أعلن فيه زيارته الي القدس أو غيرها! وغالبا ما يرتبط صوت عبدالناصر المتهدج وهو يعلن الهزيمة وتقديمه استقالته بشجن شديد يثير في النفوس الشفقة علي الذات والبكاء. وهو مشهد حاسم ومؤثر بشكل رهيب في (العصفور)، ربما لا يضاهيه تأثيرا سوي مشهد جنازة عبدالناصر في فيلم شاهين التالي (عودة الابن الضال).

قبل عرض (العصفور) كان فيلم (الخوف) للمخرج سعيد مرزوق هو أول فيلم يصور عدوان1967 والفيلم الذي عرض في بداية عام 1972 يبدأ بالعدوان علي مدن القناة، وتهجير المواطنين منها، ويعرض قصة الفتاة سعاد (سعاد حسني) التي تهاجر من السويس الي القاهرة والتي تربطها قصة حب بأحمد الشاب (نور الشريف) الذي يعاني من خوف مرضي بسبب القهر السياسي. هذا القهر الذي سيقدم بصورة أوضح لاحقا في أفلام مثل (زائر الفجر) 1972 الذي تم منعه تماما، ومات مخرجه الشاب ممدوح شكري محسورا بمستشفي الحميات في سرير بالدرجة الثالثة، بعد أن قام الاطباء بتشخيص مرضه خطأ، في شكل من أشكال الفساد والاهمال التي يتحدث عنها فيلمه الممنوع. ولم يعرض الفيلم الا عام 1975، والغريب أن فيلما آخر يتحدث عن قهر مراكز القوي وزوار الفجر بصورة أكثر نقدا وهو (الكرنك) لعلي بدرخان قد تم السماح بعرضه دون مشاكل عام 1973، كما سمح في العام التالي بعرض فيلم (إحنا بتوع الاتوبيس) لحسين كمال الذي يتناول مراكز القوي والاعتقالات غير القانونية وينتهي بهزيمة 67 باعتبارها النتيجة الطبيعية لهذه الممارسات غير الديمقراطية.

ولا ينبغي أن نختم الحديث عن سينما ما بعد 1967 دون الاشارة الي "جماعة السينما الجديدة" التي شكلها عدد من شباب السينمائيين اليساريين عقب الهزيمة احتجاجا منهم علي الاوضاع السائدة في السياسة والسينما، وكان من أفلامهم المهمة فيلم (أغنية علي الممر) للمخرج علي عبدالخالق وتأليف علي سالم، والذي يدور حول مجموعة من الجنود البسطاء الذين يتصدون العدوان الاسرائيلي علي سيناء حتي آخر نفس من حياة آخر واحد فيهم، وهو فيلم 'حربي بطولي' لايعيبه سوي النبرة الحزينة الكئيبة التي تقدم بها هذه البطولة، ويمكن مقارنته بفيلم أمريكي حديث جدا يدور عن فكرة مشابهة وهو(300) لملاحظة الفارق في تناول البطولة. ومن الافلام القليلة جدا التي قدمتها "جماعة السينما الجديدة" أيضا فيلم (أبناء الصمت) 1974 للمخرج محمد راضي عن رواية الأديب مجيد طوبيا الذي يبدأ بحرب 67 ثم حرب الاستنزاف نهاية بيوم العبور في 73 وهو الفيلم الذي يعتبر همزة الوصل بين سينما 1967، وسينما أكتوبر1973.

خلاصة

من الغريب أن يتعرض (القضية 68) و(المتمردون) الي هذا البطش، في حين يمر بسلام فيلمان آخران يحملان نقدا مماثلا وربما اقسي الي النظام الناصري، وهما (شيء من الخوف) و(ميرامار). وقد حاولت أن أفهم سبب هذه التفرقة بالرجوع الي تفاصيل المعارك الرقابية التي خاضتها الافلام الاربعة، بالاضافة الي ما تعرض له فيلما (العصفور) و(زائر الفجر) بعد ذلك، وقد تم البطش بهما أيضا. في حين تم السماح بعرض (ثرثرة فوق النيل) و(الكرنك) و(إحنا بتوع الاتوبيس) ولكنني لم اعثر علي اجابة مقنعة سوي أن المسئولين والرقباء كانوا علي استعداد لتقبل النقد الذي يوجه من اليمين، في حين أنهم كانوا مفرطي الحساسية فيما يتعلق بأي نقد يأتي من يسار الحكم. وقد اتضح هذا فيما بعد في المسار الذي اتخذته السياسة المصرية نحو اليمين والتراجع عن الافكار اليسارية تماما. (القضية 68) و(العصفور) من تأليف لطفي الخولي و(المتمردون) من تأليف صلاح حافظ و(زائر الفجر) من تأليف ممدوح شكري، والثلاثة يمثلون مثقفي اليسار في ذلك الوقت. في حين أن مؤلفي الافلام الاخري هما ثروت أباظة اليميني الرجعي، ونجيب محفوظ المعتدل، ناهيك عن انهما يمثلان المثقف الرسمي المقبول من الدولة بدرجة أو أخري كما أن جلال الحمامصي مؤلف (إحنا بتوع الاتوبيس) صحفي رسمي يمثل نظام السادات! الاكثر من ذلك ان اسم ممدوح الليثي هو القاسم المشترك الاعظم بين أفلام (ميرامار) و(ثرثرة فوق النيل) و(الكرنك) و(المذنبون) وكلها أفلام يمينية محافظة تحمل كراهية شديدة لليسار والاشتراكية، والكثير منها يحمل تحريفات عن الروايات الاصلية لنجيب محفوظ، ورغم ان الاديب الكبير اعترض علي التغييرات التي قام بها ممدوح الليثي في (ميرامار) الا انه سمح له بعد ذلك بتحويل العديد من رواياته الي أفلام، وممارسة نفس التعديل والتحريف!!

ويمكن ايضا أن تلاحظ أن مخرجي الافلام التي تعرضت للبطش وهم صلاح أبوسيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وممدوح شكري كانوا محسوبين علي اليسار، ومتهمين بانهم شيوعيين في حين أن مخرجي الافلام الاخري هم حسين كمال (شيء من الخوف) و(ثرثرة فوق النيل) و(إحنا بتوع الاتوبيس) وكمال الشيخ (ميرامار) وكلاهما محسوبان علي اليمين، أما علي بدرخان مخرج (الكرنك) فقد وقع هو وفيلمه، باعترافه واعتراف نجيب محفوظ أيضا في فخ مواكبة "لموجة الرجعية للهجوم علي الثورة" علي حد تعبير محفوظ في كتاب (الرؤي المتغيرة في روايات نجيب محفوظ) تأليف عبدالرحمن أبوعوف،¬ الهيئة العامة للكتاب 1991 والذي يمكن أن نستخلصه من هذا هو أن ما نطلق عليه "أفلام 1967" التي عبرت عن سخط الناس وانتقادهم لكل ما أدي الي الهزيمة، قد تم التلاعب بها من جهة السلطة وتوجيهها لخدمة النظام الجديد الذي تم تدشينه في سبتمبر عام 1970 بوصول السادات الي الحكم، وهو نظام لم يبدأ يومه الاول بعد موت عبدالناصر، ولكن كان موجودا خلال حكمه، وازداد قوة بعد هزيمة يونيو. وربما يكون عبدالناصر قد سمح بعرض فيلم (شيء من الخوف) بدافع ترك المثقفين يفرغون من غضبهم، أو بدافع اثبات انه ديمقراطي وقد كلف عبدالناصر نائبه أنور السادات بالسماح بعرض فيلم (ميرامار) من هذا المنطلق أيضا ويبدو عبدالناصر في هذه القصص فعلا مثل منجد عبدالسلام صاحب منزل (القضية 68) الطيب المتردد، ولكن السادات كان له دوافعه الاكثر وضوحا، وهي إعلاء المد اليميني الذي اتخذ من هزيمة 1967 فرصة للشماتة والتكشير عن أنيابه من جديد!