تحضر السياسة بكثافة كبيرة في شعر وترجمات يوسف، وفي أغلب مجموعاته تظهر الرؤية الأيديولوجية إلى قضايا العالم، من العراق القديم والحديث، إلى فلسطين والجزائر والمغرب، وسبارتاكوس وكتائب الزنج ولينين، وصولا إلى حوادث وقضايا وتواريخ وجغرافيات العالم على اتساعه،

رثاء درويش لسعدي وعداء «الشيوعي الأخير» للثورات!

حسام الدين محمد

 

اشتريت في صباي مجلد «الأعمال الكاملة لسعدي يوسف» وبدأت محاولة لم تنجح في نسج علاقة روحيّة عميقة بذلك الشعر، لكن العلامة التجارية التي كان يوسف قد صنعها لنفسه، تركت أثرا لديّ يربط بين الشيوعية والشعر، فنشرت بضع قصائد في جريدة ماركسية باسم مستعار استعرت فيه اسم الأخضر (الذي استخدمه في قصائد كثيرة) للتنكّر، وشغلني ذلك المجلد الأول عن متابعة الإنجازات الكبيرة التي حققها الشاعر، بعد أن تخفف بعض الشيء من أثقال السياسة الباهظة، وإعاقات الأيديولوجيا، كما هو الحال في «ديوان طنجة» (2012) و»خريف مكتمل» (2017) إلخ.

مسّتني، مع ذلك، قدرات يوسف الشعرية الهائلة التي تجلت في ترجماته الفذة لكافافي «وداعا للإسكندرية التي تفقدها» و»إيماءات» يانيس ريتسوس، وستترك تلك الأشعار المترجمة أثرا لا يمكن نسيانه، ستطبع طريقة نظرتي للعالم، وخصوصا ما اجتباه من إرث كافافي الإغريقي الإسكندري، الذي اخترق قضايا شعريّة عميقة، عبر التنقل في التاريخ وقلق الهويات والثقافات.

٭ ٭ ٭

كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ثمانينيات القرن الماضي قصيدة بعنوان «فرس للغريب» وهي نص غريب فعلا، لأنه حافل بمفارقة كبرى فموضوعه رثاء درويش للشاعر العراقي سعدي يوسف، الذي مد الله بعمره ليشهد وفاة درويش عام 2008.

توفي يوسف (المولود عام 1934) بعد ثلاثة وثلاثين عاما من تاريخ نشر تلك القصيدة التي رثته، وثلاثة عشر عاما من وفاة محمود نفسه (المولود عام 1941).

يخاطب درويش في تلك القصيدة يوسف قائلا: «تكلم لنصعد أعلى وأعلى» طالبا منه المضي «في أعالي الكلام» وهي صورة يمكن أن تحيل إلى ملحمة الخلق البابلية، وجملتها الإيقاعية الأولى «عندما في الأعالي» كما استعاد مواضيع وأماكن ظلت تحضر في شعر يوسف (الزنوج وروما وقيصر وجلجامش ورامبو، وباريس ولندن ونيويورك وموسكو وبغداد).

ليكتمل الجدل بين الشاعرين فقد استخدم الشاعر العراقي موضوع الملحمة، لاستلهام مسرحية نشرها في العدد 29 من «الكرمل» في تموز/يوليو 1988 بعنوان «عندما في الأعالي» وستحضر فلسطين وقضايا مشتركة عديدة بين الشاعرين، خصوصا خلال الفترة اللبنانية، وبعد الشتات الذي لحقها، وكان اسم سعدي هو الاسم الثاني بعد «بيان الكرمل» لإطلاق المجلة في عددها الأول عام 1981، الذي كتبه درويش، وكان الثاني في العدد الثاني، وكذلك في العدد السابع عام 1983 حيث سينشر الشاعر العراقي قصيدة بعنوان «إلى ياسر عرفات» يقول في بدايتها: «لي وردة بيديك/ قد أحببتها حتى بلغت منازل العشاق/ لكن الحبيبة سوف تبقى في يديك».

٭ ٭ ٭

التقيت سعدي يوسف عام 1999 قبيل سقوط صدام حسين، وقد رأى خلال لقائنا به، أنا وزميلي الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، أن الحلّ للمأساة العراقية هو رحيل الديكتاتور العراقي مع 12 من قادته الكبار، وهو ما بدا اقتراحا شعريا هابطا من الميثولوجيا: من المسيح والحواريين (مع عكس المعنى الديني) 12 شهرا في السنة، والرقم الذي هو في تفسير المنامات: الحصول على ما تريد بعد وقت طويل من المشقّة، لكنّه، من جهة أخرى دعا إلى «مصالحة وطنية» وهو ما ألّب عليه كثيرا من المثقفين والساسة العراقيين، وقد رأى في مقالة له عام 2015 أن طرحه كان سيجنّب العراق الويلات المهولة التي خاضها.

علّق يوسف في شعره وكتاباته كثيرا على أحوال العرب عموما، وشؤون العراق منذ ما قبل ثورة 1958، ومرورا بتاريخه اللاحق وصولا إلى الاحتلال الأمريكي وما بعده، وقد استهدف نظما وأشخاصا كثيرين بنقده، لكن ما هو رأي الشاعر الذي ظل طيلة حياته يبشّر بالثورة عندما تحضر الثورة فعلا، لكن ليس على شكل انقلاب عسكري بل حراك شعبي؟

في نص كتبه في 15/12/2019 حول الحراك الشعبي العراقي: «أزعم أن الهدف الرئيسي في هذا الحراك، لا يعدو الرغبة في توسيع الدائرة الضيقة لإدارة شؤون البلد المحتل» وإذا كان هذا «معتدلا» ويمكن إدخاله في باب الواقعية فإن الكارثة الحقيقية كانت في تعامله مع الثورة السورية بالهجاء والسخرية والرفض، وذلك منذ بداياتها الشعبيّة التي شهدت مظاهرات بمئات الألوف.

٭ ٭ ٭

تحضر السياسة بكثافة كبيرة في شعر وترجمات يوسف، وفي أغلب مجموعاته تظهر الرؤية الأيديولوجية إلى قضايا العالم، من العراق القديم والحديث، إلى فلسطين والجزائر والمغرب، وسبارتاكوس وكتائب الزنج ولينين، وصولا إلى حوادث وقضايا وتواريخ وجغرافيات العالم على اتساعه، ولم يكن ممكنا لشخص يسمي نفسه «الشيوعي الأخير» في قصائد كثيرة، أن يتفلّت أبدا من السياسة بحيث انعجنت فيها الأيديولوجيا بالقضايا الشخصية (بما فيها البائسة منها) ورغم ما أعطته تلك الهالة السياسية من قوة وحصانة فقد أضعفت، من جهة أخرى، جمالية الشعر، والنثر، وتقلبت بين هجاء عنيف لاذع جريء للاحتلال والمساهمين فيه من العراقيين، وفظاظة وكاريكاتيرية وشعبوية خفيفة لا تليق أبدا بشخصية كبيرة مثل سعدي.

لم يفهم السوريون الثائرون على نظام بشار الأسد أبدا موقف سعدي يوسف من انتفاضتهم الهائلة، ومن الثورات العربية التي سخر منها بقوله: «الدجاج، وحده، سيقول: ربيع عربي» معتبرا أن ما جرى في الساحات العربية من تونس إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن والبحرين ليس إلا «أمرا صدر من دائرة أمريكية معينة» وبذلك اتهم «الشيوعي الأخير» الشعوب العربية بالعمالة للأمريكيين، وامتدح لاحقا «انتصارات الجيش السوري» واصفا بضعة لاجئين سوريين علقوا على حدود الصحراء الكبرى بأنهم «مرتزقة فرنسا» وأنهم فلول «الجنرال برهان غليون».

يحضر في موقف سعدي يوسف من الثورات ثقل الأيديولوجيا اليسارية المتهالكة التي تجعل كل ما تمسّه «الإمبريالية الغربية» عدوّا، وهو ثقل ميتافيزيقي لأنه من المعلوم تاريخيا أن الحكومة الألمانية ساهمت في تمويل ونقل فلاديمير لينين إلى روسيا، وفي دعم البلاشفة، كما في دعم جناح تروتسكي «الثوري» ويحضر تراث عصاب جماعي مؤامراتي تمتزج فيه النظرة الدينية للشر والخير، مع الانقلابات الشخصيّة الفالتة من عقال المنطق و»الديالكتيك»!

في اتخاذه صفة «الشيوعي الأخير» (وهي صفة دينيّة مقلوبة) امتد هجاء سعدي الفائض للتاريخ والعالم والأشخاص، في جرأة لا يُحسد عليها، لأنها تخلط بين الأيديولوجي والسياسي والشخصي. في واحدة من هذه الاندياحات المتناوبة بين السياسي والشخصي تواصل معي سعدي مرّة لنشر نصّ كتبه في هجاء عُمان وأهلها، وكان سبب ذلك زيارة له مع صديقة إليها، انتهت بهجرها إياه وبقائها هناك مع أحد الشعراء المعروفين، الذي رحل عن عالمنا لاحقا، وقد امتنعت عن نشر تلك القصة لأنها كانت في رأيي، ستشكل نقيصة بحقه كشاعر وكإنسان، وأعتقد أنه أدرك سوء هذا المهبط الذي نزل إليه فلم ينشر تلك الورقة.

في الإرث الأدبيّ الهائل الذي تركه سعدي سيتناقص كثيرا حجم الشعر الذي مسّته أفاعيل الأيديولوجيا، وسينشغل كثيرون بالتهشيم الذي قام به مأخوذا فيه بتاج «الشيوعي الأخير» القادر على هجاء الشعوب والإسلام والثورات!

 

كاتب من أسرة «القدس العربي»