أخيراً رحل في قطار الفجر.. وترجَّل عوليس القصيدةِ العربيَّة كالنسر المدمَّى الجناحين عن قمَّة الألم، لاحقاً بوحيده وفلذةِ كبدهِ حيدر، ألقى سعدي يوسف عصا الترحال واستقرَّ بهِ النوى في بلاد الضباب والأزهار الاصطناعية.. بعيداً عن بساتين دجلة وشموسِ أبي الخصيب

سعدي يوسف تلميذ السيَّاب الأنجب ومتمِّمُ قصيدته

نمر سعدي

 

"سأرحلُ في قطارِ الفجرِ

شَعري يموجُ، وريشُ قُبَّعَتي رقيقُ

تناديني السماءُ لها بُروقٌ

ويدفعُني السبيلُ بهِ عُروقُ

سأرحلُ…

إنَّ مُقتبَلِي الطريقُ

سلاماً أيها الولدُ الطليقُ!

حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ

ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقاً

وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ"

أخيراً رحل في قطار الفجر.. وترجَّل عوليس القصيدةِ العربيَّة كالنسر المدمَّى الجناحين عن قمَّة الألم، لاحقاً بوحيده وفلذةِ كبدهِ حيدر، ألقى سعدي يوسف عصا الترحال واستقرَّ بهِ النوى في بلاد الضباب والأزهار الاصطناعية.. بعيداً عن بساتين دجلة وشموسِ أبي الخصيب ونوافذ النخيل وأضواءِ السواقي الصغيرة وغناء الصبايا السمر في جنوبِ العراق.. يا لها من لحظة مغمَّسةٍ برمادِ الفجيعة، سعدي الذي تربَّى معظم الشعراء العرب على قصائدهِ التي أثَّثت مخيالنا الإبداعي وذاكرتنا الشعريَّة.. سعدي الشعراءُ في شاعرٍ.. المترجمون في مترجم.. وووو.. مرَّة سألته عن علاقته بالسيَّاب وأثر السيَّاب على تجربته.. تنهَّد واسترسل: "بدر الحقيقي العميق صعب، في أنشودة المطر يحذف كلمة اللؤلؤ من أحد سطور القصيدة لحقيقة علمية تقول أن الصدى لا يردِّدُ حروف اللين.. كانَ يكنُّ احتراماً للشعر حتى هذهِ الدرجة".

يتبادر إلى ذهني قولٌ لأحد مذيعي إحدى القنوات الأدبية مقدمَّا سعدي في حوار أدبي متلفز.. "سيكون معنا سعدي يوسف.. أكبر الشعراء العراقيين الأحياء" وأضيف أنا "وأكبر الشعراء العرب الأحياء".. كتب سعدي يوسف كثيراً.. كتب كما لم يكتب شاعر عربي من قبل،منذ البحتري وابن الرومي، تنفَّسَ الشعر وعاشَ القصيدةَ كما ينبغي.. وخاضَ التجربة بكل أبعادها وتفاصيلها واجتراحاتها وانزياحاتها وفتوحاتها، جماليَّةُ قصائده مذهلة.. لغته مشتعلة.. مزهرة.. شاعرٌ لا يتكرَّر.. مذهلٌ حدَّ الإرباك.. يعرفُ كيفَ يستولي على قلبِ القارئ ويتوَّغلُ فيه، يشيرُ للقصيدةِ فتتبعهُ كأنها مسرنمة.. يناجيها فتجيبهُ.. كيف لشاعر يستدعي القصيدة فتجيبهُ..؟! كأنها على موعد معهُ.. أو كأنها تجري في دورتهِ الدمويَّة، أسرَّ لي مرةً أنه يشعرُ وكأنهُ يكتب أوَّل قصيدة لهُ في كل مرَّة يجلسُ مراوداً فيها القصيدةَ عن نفسها.. عاش سعدي كما ينبغي لشاعر أن يعيش.. رسم تفاصيله الصغيرة بريشة فنَّان محترف.. مزجَ امرئ القيس بشكسبير.. أبا تمام بت س اليوت.. المتنبي بغرائبية ويتمان.. لوركا بطرفة ابن العبد.. شاعرٌ أشبهُ بموجة أو تنهيدة تمحو الفاصل بين المتن والهامش. يانيس ريتسوس العربي، كتابته مزيج غامض وعبقري من أسلوب السيَّاب وأبي تمَّام.. لوركا وويتمان.. ذكرَّتهُ بقولته في أحد حواراته الطويلة أنه لا يحتاج من كلِّ مدوَّنةِ البشريَّة الشعريَّة سوى لديوان أوراق العشب وديوان أبي تمَّام لو قدِّرَ لهُ أن يختارَ عزلته وجزيرته النائية، تجدُ في جملته إشراقات الشعر الصيني والشرق آسيوي متجاورة مع التماعات ومقاربات الشعريَّة العالميَّة، الأوروبيَّة والأميركيَّة. ولكن نفس السيَّاب واضح فيما وراء السطور.. كيف لا وسعدي هو التلميذ الأنجب لرائد الحداثة والامتداد المطوَّر له.. لوركا أيضاً يشعُّ بأقمارهِ وغاباتِ الزيتون ونوافير الورد والرياحِ الخضراء. كأنَّ سعدي موجز شعري جمالي واختصار بديع لجميع شعراءِ الأنسانيَّة.

سعدي علَّمنا أبجديَّة الضوء وحرَّر لغتنا من زوائد البلاغة، أحاطنا بحنان الأب وأحطناه بالحب.. محط أنظارنا والأفئدة.. شعراء لا يحصون تعلَّموا منه.. كلٌّ يطيل التحديق في أساليبهِ.. منحوتاتهِ.. تنويعاته المجازيَّة.. تجربته الغنيَّة الممتدَّة على مدار سبعة عقود، كلٌّ يريد اللحاق والتأثُّر به.. كان القدماء إذا قالوا المدينة فإنما يقصدون روما وإذا قالوا الخطيب فإنما يعنونَ شيشرون.. أما تاريخنا الأدبي الحديث فسيذكر أننا إذا قلنا الشاعر فإنما نقصد سعدي يوسف.. فتى البصرة الناحل الذي ملأت قصائدهُ الدنيا وشغلت الناس.. العلامة الفارقة والإضافة الاستثنائيَّة الأهم والأكبر في تجربة شعرنا العربي الحديث.

رحلَ السيَّاب في ذروة الشبابِ وفي أوج نبوغهِ الشعري ولكن سعدي يوسف برهافتهِ وبشفافيَّة روحه الشاعرة وموهبته النادرة توَّغلَ في الغابةِ الاستوائيَّةِ وفي بريَّةِ المجازات أكثر.. توغَّل كما لم يتوَّغل شاعر عربي حديث من قبل.. كانت القصيدة وصيفته الأبديَّة.. غزالة شمسهِ النافرة.. حارسةَ الحلم.. والقريبةَ كأصابعِ العاشقةِ حولَ وجهِ البحيرةِ.. معجونةً بنبض قلبهِ وأقربَ من حبل وريدهِ أو تجري في مجرى أنفاسهِ.. مغسولاً بأمطارها ومحترقا بها.. ومضيئا ليلَ غوايتها بقنديل ليمون في قلبهِ.. كانَ الامتداد الحقيقي الأعمق والأجمل والأكمل لتجربةِ بدر المتجدِّدة.. النابضة.. والتي يهبُّ صداها من وراء الخلود ومن كوى الأحلامِ المورقة...

مغزى كلامي أنه لو امتدَّ العمرُ بالسيَّاب كما امتدَّ بسعدي فأغلبُ الظنِّ أنه سيكتبُ منجزاً يسبحُ في فضاء واحدٍ مع منجز سعدي الشعري.. مع تفرُّد صوت سعدي لاحقا في بداية السبعينيَّات وكتابته لقصائد ممتازة تشكِّلُ علامات جماليَّة رئيسيَّة لم ينجُ من منحوتاتها وتأثيراتها أي جيل شعري لاحق...

ليس يمْكِنُ للمرءِ، أن ينتقي، كلَّما شاءَ

في لحظةٍ، أصدقاءَ قَدامى

ومثل البيوتِ العتيقةِ

مثلَ قِلاعِ الممرَّاتِ

مثل الخيولِ الـمُسِنَّةِ

يمضونَ عاماً فعاما

وأنتَ ستمضي إلى حيثُ يمضونَ

في نِعمةٍ من نُعاسٍ

وفي نغمةِ النايِ إذْ تتلاشــى تماما

وداعا سعدي.. أيها الأخضر بن يوسف.. يا حوذيَّ القصائد والمرايا والرياح والمنافي.. لمن ستتركُ لبلابَ حمدانَ خلفكَ.. لمن؟!