وقع صدمة يونيو الرهيب وثقافة الهزيمة

هذه شهادة على ما جرى لمثقف مصري عاش وقع هذه الصدمة الرهيب عليه وعلى أبناء جيله، وشهد كيف انقلب رفض الهزيمة إلى قبول بها، وتهادن معها، ثم تغلغل مواضعاتها في كل ثنايا الواقع العربي الردئ.

صبري حافظ

هل مرت حقا أربعون عاما على هذه الأيام العصيبة التي تمخضت عن هزيمة 1967؟ هل مرت أربعة عقود كاملة على هذه التجربة الفاصلة بين الحلم الممتد باتساع السماء، والضربة القاصمة التي أزالت الحلم ـ من وقتها وحتي اليوم ـ من حياة كل مصري، وأحلت الكآبة والهزيمة محله؟ بل ومن حياة كل عربي يحلم بوطن حر وشعب سعيد. لأنني أزعم أن الحلم العربي ـ بل المشروع العربي بالنهوض والتقدم والتحديث ـ الذي وجهت له تلك الهزيمة ضربة مدمرة لم يفق أبدا من ضربتها المصمية. ولم يستطيع الإنسان العربي أن يستعيد توازنه النفسي والسياسي طوال تلك السنوات الأربعين التي انصرمت منذ وقوعها. لأن الإنسان العربي لم يعش في تلك العقود الأربعة التي سماها الكثيرون بالزمن الردئ، غير ثقافة الهزيمة، التي ظل يعاني من وقعها جيلا بعد جيل برغم كل الادعاءات الكاذية بالانتصارات الموهومة. ولم يمارس لحظة نشوة وطنية أو أنتصار حقيقي منذ هذا التاريخ البعيد ـ باستثناء الأيام العشرة الأولى من حرب اكتوبر 1973. وسرعان ما بدأ بعدها ما سمي بالثغرة، وردم العدو الصهيوني للقناة، وإنشاء طريق عبرها تمر عليه أرتال دباباته وألياته الغازية، وتوغل جيشه أكثر من ثلاثين كليومترا متجها نحو القاهرة. ثم تتابعت فصول الانتكاسة التي تمخضت عن محادثات الكيلو 101، وزيارة القدس المشؤومة، ومعاهدة كامب دافيد، وانتصار الهزيمة، وفتح العدو الصهيوني سفارته في القاهرة التي كانت لاتزال وقتها أكبر العواصم العربية حجما وقيمة.

فإذا كانت مصر قد رفضت الهزيمة عقب وقوعها، ورفضها العرب معها عبر لاءات مؤتمر الخرطوم الشهيرة، فأن تكريس الهزيمة لم يكتمل في تصوري إلا بمعاهدات كامب دافيد، وفتح العدو الصهيوني سفارته ـ المرفوضة شعبيا ووطنيا ومستقبليا ـ في القاهرة. إن انتصار الهزيمة على الطريق الممتد من محادثات الكليو 101 وحتى اتفاقات كامب دافيد، هو السر عندي في حالة التخبط والعجز والهوان التي تغلغلت في شتى مناحي حياتنا العربية، واستمرت تجلياتها في التفاقم عبر هذه العقود الأربعة، وصولا إلى ما نعاني منه اليوم في فلسطين والعراق والسودان ومختلف أنحاء العالم العربي، لا على الصعيد السياسي وحده، وإنما على أصعدة كثيرة أخرى ليس السياسي إلا تعبيرا عنها، من الاقتصاد إلى الفكر والثقافة وحتى الممارسات اليومية الاجتماعية وحالة الشعب العربي المزاجية والنفسية وهو يرى اتساع الهوة بشكل غير مسبوق في تاريخنا الحديث بين رؤاه وأحلامه ومشاعره، وبين ممارسات الأنظمة العربية المختلفة التي تحكم باسمه، وتتمرغ ـ بل وتمرغ كرامة شعوبها معها ـ في وهاد الذل والتبعية والهوان أمام عدو صهيوني / أمريكي يزداد على الدوام صلافة وعتيا، ويستمد من عجزنا قوة وغطرسة.

وكيف أكتب عن هذه التجربة أو الذكرى الأليمة التي عشتها بكل ذرة في كياني في مرحلة التفتح والتكوين؟ أأكتب عن وقع الهزيمة عليّ شخصيا، وعلى جيلي الذي كان وقتها في شرخ الشباب، تخرج بالكاد من الجامعة وشرع يصوغ رؤاه الخاصة، ويبلور قناعاته واجتهاداته، ويحلم بمستقبل عريض يتمنى فيه لبلده ـ الذي استقل حديثا وأخذ يبني قاعدته الصناعية والاقتصادية ـ مستقبلا زاهرا؟ أم أكتب عما تركه غياب المشروع العربي من آثار دامية على مر تلك العقود الأربعة أدت بنا في النهاية إلى أن أصبحنا رجل العالم المريض؟ وأتاحت فرصة استشراء المشاريع الصهيونية والأمريكية المضادة في المنطقة بكل ما جرته عليها حتى الآن من ويلات تتجلى آثارها الدامية على امتداد المشهد العربي الحزين من العراق وحتى فلسطين، ومن لبنان وحتى الصومال ودارفور. أم أكتب عن تفشي ثقافة الهزيمة في كل مناحي حياتنا الثقافية والاجتماعية طوال العقود الأربعة الأخيرة وما تركته فيها من جروح لا تندمل؟ بصورة أصبحت معها الهزيمة عاملا فاعلا في كل خطاباتنا السياسية والإعلامية والاجتماعية والأدبية. فكل كتابة عن جانب من هذه الجوانب لابد لها أن تجلب معها أمشاج من الجوانب الأخرى. ليس فقط لأن كل هذه الجوانب المختلفة مترابطة ومتفاعلة وتترك كل منها بصماتها على الجوانب الأخرى، ولكن لأنه لايمكن لأي تناول لأبعد الأمور عن هذا الحدث مثل وضع أي فن من الفنون أو الآداب العربية اليوم، أن يتم بحق دون أخذ آثاره عليه بعين الاعتبار. فلأبدأ إذن بوقع لطمة الهزيمة المدوية عليّ وعلى أبناء جيلي. كنت وقتها قد أنهيت دراستي الجامعية حديثا، وبدأت الكتابة والنشر. وكنت طوال سنوات الطلب الجامعية أتردد بانتظام على ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية التي كانت تعقد في "كازينو أوبرا" والتي كانت مدار جدل نقدي حول الثقافة والسياسة والواقع. وكان لهذه الندوة كما كان لحلقات المثقفين الكثيرة التي كانت تعج بها القاهرة في الخمسينات وسنوات الستينات الأولى (من نادي القصة ودار الأدباء إلى رابطة الأدب الحديث، وجمعية الأمناء، والجمعية الأدبية المصرية وحتى مقاهي إيزافيتش وريش وإنديانا) دور كبير في تكوين وعي عقلي علماني نقدي بين كثير من أبناء جيلي. في هذه الندوات تعرفت على كثير من أبناء جيلي من الكتاب من أمل دنقل وجمال الغيطاني حتى محمد أبوسنة وعفيفي مطر وسيد حجاب، وتعرفت على كثيرين من مثقفي الأجيال السابقة، وخاصة من الجيل السابق علينا مباشرة. وكانت هناك أكثر من حلقة يلتقي فيه أبناء هذا الجيل الجديد كانت أبرزها ندوة أنور المعداوي التي تعرفت فيها على رجاء النقاش وعبدالمحسن بدر، وعبدالجليل حسن وغالب هلسا وبهاء طاهر وسليمان فياض وأخرين. وكانت هناك حلقة أخرى تتشكل حول صفحة المساء الثقافية التي كان يحررها عبدالفتاح الجمل، وثانية حول مجلة (المجلة) التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي تعرفت عبرهما على عبدالحكيم قاسم والدسوقي فهمي ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبدالله وعزالدين نجيب وآخرين، ناهيك عن شلة الفنانين التشكيليين التي كانت تتحلق حول شقة العجوزة ومصطفى الحلاج ومحمد جاد وسيد خميس. وجلبت إلى هذا العالم مجموعة من زملاء الدراسة مثل صلاح عيسى وأنيس البياع وكنا نلتقي بكثافة في مقاهي القاهرة الزاهرة وقتها من ريش إلى إيزافيتش ومن إنديانا إلى قهوة الحرية.

في هذه المحافل والندوات تكون عقل هذا الجيل النقدي، ووعيه بسلبيات نظام عبدالناصر الذي كان الكثيرون ـ في البلدان العربية خاصة ـ يتغنون به. وتكون معه وعي واضح بأن خطاب النظام السياسي ينطوي على كثير من التناقضات، ولا يحظى ـ بين هذا الجيل الجديد خاصة ـ بقدر كبير من المصداقية، فالوعي النقدي وعي شكي. لم يقتنع بسهولة بكل إيجابيات النظام الناصري على كثرتها، فقد كان يروم المزيد، بالرغم من احتواء النظام لكثير من مثقفي الأجيال السابقة علينا من جيل توفيق الحكيم وحسين فوزي وطه حسين، وحتى جيل عبدالرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ويوسف إدريس وصولا إلى جيل صلاح عبد الصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. ناهيك عن المستفيدين من النظام والذين التفوا حول قوميساره الشهير ـ يوسف السباعي ـ من أمين يوسف غراب ومحمد عبدالحليم عبدالله وثروت أباظة وحتى يوسف الشاروني وإدوار الخراط. وبالرغم من حدة هذا الوعي النقدي ـ التي وضعتني مع شريحة من أبناء جيلي خاصة على يسار النظام الناصري ـ كان ثمة حس غالب بين الجميع، بما فيهم أبناء جيلي عامة، بالتفاؤل والقدرة على تحقيق الحلم العريض بالعدل والحرية. وكانت الانجازات الاجتماعية الكبيرة والانتصارات السياسية الواضحة لعبد الناصر والتي كرست مكانة مصر وقيمتها الدولية كدولة رائدة في مجالات التحرر الوطني وعدم الانحياز تترك آثارها الإيجابية على كل شيء، من الاقتصاد والثقافة وحتى الواقع الاجتماعي والمزاج الشعبي العام. حتى في كثير من الأشياء التي لم تعجبنا وكنا ننتقدها بحدة ـ وغالبا همسا أو تورية ـ في نقاشاتنا ولقاءاتنا وكتاباتنا جميعا، لم تكن من النوع الذي يورث اليأس. فلا يوجد عامل قادر على إثارة حمية أمة واستنهاض طاقاتها الخلاقة مثل تحقيق النصر في معركة كبيرة. وكانت معركة الاستقلال من احتلال دام أكثر من سبعين عاما معركة كبيرة بكل المعايير. بلغت ذروتها في النصر السياسي الكبير الذي أسفرت عنه معركة العدوان الثلاثي، وهو ما مكن النظام الناصري من إحفاء حجم هزيمته العسكرية. ولو تعامل النظام وقتها مع الهزيمة العسكرية بما تستحقه من جديه ووعي لربما استطاع أن يتجنب قعقاتها المدوية من جديد بعد أقل من عشر سنوات ـ ولكن تلك قضية أخرى كما يقولون. فالنصر هو أكسير الحياة ومحرك النهضة الجمعية والشعبية الكبير. صحيح أن هناك بلادا نهضت من وهاد الهزيمة ونجحت في علاج آثارها الدامية ـ ودائما ما يضرب المثل بألمانيا واليابان في هذا المجال ـ لكن هذا النهوض يبهت إزاء ما يحققه النصر في الشعوب من ثقة عارمة في النفس وحماس شعبي كبير للإنجاز وإطلاق لكل الطاقات المضمرة. وقد نجح نظام عبدالناصر، برغم كل سلبياته وأهمها غياب الحريات، في إطلاق تلك الطاقة على الإنجاز، وتحقيق طفرات اجتماعية ضخمة في مجال الحراك الاجتماعي وفتح الأفق الذي كان مسدودا لعقود أمام الطبقات الشعبية العريضة في تعليم ملائم وحياة كريمة.

وكنت قد بدأت الكتابة في مجلة (الآداب) البيروتية بتوجهاتها الناصرية والقومية المعروفة والتزامها السارتري الشهير. فقد ملأت وعي هذا الجيل بكتابات جان بول سارتر بعدما أتاحت أعماله الكاملة تقريبا له باللغة العربية. وأذكر أنني نشرت بها عام 1964 دراسة ضافية عن رواية نجيب محفوظ الجديدة وقتها (الطريق) بعنوان "الصمت والجائعون إلى الحرية: محاولة لفهم رواية الطريق" قدمت فيها قراءة للرواية على أنها تقرأ واقعا مترعا بالصمت والمخاوف والقضبان غير المرئية، يعاني من التمزق والخوف وفقدان الهدف، وتسيطر عليه وجوه كريهة ورؤى شائهة عجوز، وتقدم شخصيات يمضها الجوع للحرية، ويطيش بحثها عن "سيد الرحيمي" برغم توقها الكبير له. ولم تكن الدراسة تقدم تحليلها للنص الروائي وحده، وإنما تقدم معه تحليلا سياسيا ينتقد الواقع المصري في عز ارتفاع موجة المد الناصري، وانتصارات التحولات الاشتراكية التي ملأ خطابها الصحف، والتي كانت يتغنى بها شيوعيو تلك المرحلة الذين أطلقهم عبدالناصر من سجونه ـ ذلك العام ـ لينضموا للتنظيم الطليعي وقصته المعروفة. إذن كنت ـ وكان كثيرون من أبناء جيلي ـ على وعي واضح بتناقضات المرحلة الناصرية أو ـ حسب تعبير أمل دنقل فيما بعد ـ كان هذا الجيل هو زرقاء اليمامة التي شهدت الخطر القادم وحذرت منه ولم يصدقها أحد.

ومع ذلك كان وقع الهزيمة علينا مدوخا، ليس لأنها كانت مفاجئة، فقد رأينا الشروخ التي تسربت منها قعقعاتها، وقرأنا شفرات هذه الشروخ في روايات نجيب محفوظ النقدية المتعددة التي كانت آخرها (ثرثرة فوق النيل) و(ميرامار) قد وضعت كثيرا من النقط على كثير من حروف تلك الشروخ. وحذرنا منها ولم يستمع لتحذيراتنا أحد. بل لقد زج بعدد منا في السجن (الاعتقال السياسي) قبل وقوعها بشهور، وكنت واحدا منهم. ولولا تدخل جان بول سارتر العظيم وقتها لبقينا فيه وأدركنا زلزالها في محبسه. ولكن تدخل سارتر وحواره الحاد والصريح مع عبدالناصر في مارس من عام 1967 أدى إلى الإفراج عنا. ويبدو أن وضعي الشخصي ـ وهو وضع كثيرين كانوا معي في تجربة هذا الاعتقال السياسي الغريب من أبناء جيلي من المثقفين مثل غالب هلسا وإبراهيم فتحي وصلاح عيسى وجمال الغيطاني وسيد حجاب ويحيى الطاهر عبدالله وآخرين ـ كان أشبه بالوضع الاستعاري الدال. فقد كنا لانزال نعاني من آثار تلك التجربة، تجربة الاعتقال السياسي، ولم أكن شخصيا قد شفيت بعد من عقابيلها من قرحة المعدة والأثنى عشر وآلام الكلى، إلى كوابيس مرحلة مابعد الإفراج. في هذا الوضع الغريب الذي كنت لا أزال أتلمس فيه شيئا من العقل وأستجمع قواي على مواصلة الكتابة والإنتاج جاء ـ بعد أقل من ثلاثة شهور من هذا الإفراج ـ زلزال الهزيمة الرهيب. وبدأنا نعاني جميعا ـ حينما أقول جميعا فإنني أتحدث عن معرفة وثيقة بما عاناه الكثيرون منهم وكنا جميعا أصدقاء حميمين لم تتوزع بنا السبل بعد ـ من وقعه المدمر علينا. كان وقع الهزيمة علينا مدوخا ـ ليس لأننا تفاجأنا بها ـ ولكن لأن حجمها فاق كل تصوراتنا وأعتى كوابيسنا. وأصاب الكثيرين منا بنوع من الشلل. أذكر أنني لم أستطع بعدها الكتابة لشهور، وحاولت أن أتلمس العزاء في الترجمة. وكانت هذه هي الفترة التي ترجمت فيها كثيرا من الشعر الروسي الذي ظهر بعد ذلك في كتابي (الأدب والثورة).

لكن ما خفف وقع الهزيمة عليّ ـ وعلى جيلي بأكمله ـ كان رفض عبدالناصر القاطع والفوري والصارم لها قولا وفعلا: بلاءات مؤتمر الخرطوم، وحرب الاستنزاف. كان رفض الهزيمة وإعادة بناء الجيش بشكل جدي مكنه من تحقيق ما حققه في حرب 1973، هو الشيء الذي اتفقنا فيه كلية مع عبدالناصر وإن لم نرض كليا عن تجنبه تحويل هذا الرفض إلى فعل مقاومة شعبي خلاق يتغلغل بنية الواقع والمجتمع ويعيد تثويره من الداخل. وكان موت عبدالناصر وملابسات هذا الموت بعد سبتمبر الأسود هو الموت الرمزي لهذا الرفض، والذي بدأ بعده تحول المسار نحو تكريس الهزيمة لا محو آثارها المرعبة. لأن تغلغل الهزيمة في نسيج الواقع، ووعي الإنسان المصري والعربي من بعده، لم يبدأ في تصوري إلا بعد وصول السادات للحكم وانفراده به عبر ما دعاه بثورة التصحيح. فقد خلقت آليات حكم السادات ما دعوته في دراسة ضافية نشرت في مطالع الثمانينات بالمناخ الثقافي الطارد والفراغ المخلخل للهوية الوطنية ـ منذ مسلسل إغلاق المجلات وطرد المثقفين من الاتحاد الاشتراكي والإعلام، ونقل أساتذة الجامعة إلى وظائف حكومية .. إلخ، وحتى الإجهاز على اليسار وفتح الباب على مصراعيه أمام اليمين الإسلامي للانفراد بالجامعة ـ وتكوين جيل جديد على أسس معاداة العقلانية والعلمانية والعودة إلى يقين إطلاقي جامد ـ والساحة السياسية والثقافية على السواء، في عهد الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، وما دعاه بدولة العلم والدين، وهي دولة لم تقم على العلم ولا على قيم الدين الحنيف الإيجابية بأي حال من الأحوال، وإنما على النهب وتكوين الثروات غير المشروعة، والتبعية الكاملة للسياسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة. ألم يكرر على مسامعنا اسطوانته المشروخة عن احتياز أمريكا لتسعة وتسعين في المئة من أوراق اللعبة؟!

وقد نجم عن هذا المناخ كما ذكرت في تلك الدراسة الضافية طرد المثقفين المعارضين من البلاد، والإجهاز على الصوت الذي دعم رفض الهزيمة ووطد دعائم المقاومة في الوجدان الوطني والشعبي معا. وفتح الباب أمام عودة اليمين المتأسلم الذي لاقي الأمرين في عصر عبدالناصر، برغم الدعم السعودي والأمريكي. ونجح نظام السادات في أن يفرغ مصر من عقلها النقدي، وأستاتذة جامعاتها المستنيرين الذين دفعتهم الضائقة الاقتصادية الناجمة عن "الانفتاح السداح مداح" إلى العمل في الجزيرة العربية والخليج. وفي غياب حراس القيم تحولت الجامعة إلى مباءة للتخلف ومعاداة العقل والبحث العلمي (ولا أريد أن أذكر القراء هنا بما جرى لنصر حامد أبوزيد). وإذا ما فرغت الجسد من العقل أصبح من الممكن التنكيل به ببساطه ويسر، وهذا هو ما حدث ومازال يحدث حتى اليوم. فبدون تفريغ مصر من عقلها ما كان لها أن تقبل أية تسوية منقوصة، كتلك التي أسفرت عنها اتفاقات 1978. وجاءت تلك التسوية في كامب دافيد لتعزل مصر عن محيطها العربي، وتأتي بالعدو الصهيوني إلى قلب القاهرة التي كبلتها اتفاقاته، ولكنها أطلقت أيدي هذا العدو الصهيوني الفاجر ليجتاح أول عاصمة عربية بعد ذلك الاتفاق المخزي بسنوات قليلة عام 1982. وبعد أن كان السادات قد قضى نحبه على أيدي من مكنهم من الاستقواء والتمادي في تنفيذ مشروعهم الخاص والخبيث. لكن المثير للتأمل حقا ـ والذي يهدهد الأمل ـ أن الحس الشعبي المصري الوطني الصادق لم ينطل عليه أي من خطابات مرحلة السادات المضلله، بل لقد خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه، من شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمالا وحتى شواطئ بحيرة ناصر جنوبا ليجرد السادات من شرعيته في انتفاضة 1977 الشهيرة، والتي توجه بعدها كلية إلى العدو يستجديه ـ في خطاب الكنبيسيت الشهير ـ صلحا منقوصا، هو ما أسفرت عنه كامب دافيد بعد عام من هذا التجريد الشعبي من الشرعية والمصداقية.

كان مناخ مرحلة السادات الطارد في السبعينات هو ما دفع بي ـ ككثيرين غيري ـ إلى الخروج، ولم أستطع العودة بعدها برغم عودات كثيرة. بل لم يستطع من خرج وعاد أن يعيد عقارب الساعة التي وجهها السادات ناحية اليمين وناحية العدو إلى اتجاهها الوطني المقاوم القديم. ولا استطاع من بقي أن يتصدى للطوفان. فقد كان أهم ما انجزه السادات هو الإجهاز على المشروع العربي برمته. دون أن يطرح بدلا منه مشروعا مغايرا. وأرجو ألا ننسى هنا الصلة بين إعلانه المبكر أن حرب 1973 هي آخر الحروب رغم أنها لم تحرر بعد شبرا من الأرض المحتله وبين اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وهي بداية اندلاعات الحروب العربية العربية ومسيرة الدمار التي أوصلتنا إلى استباحة بلد عربي كبير كالعراق والحرب الفلسطينية الفلسطينية، واستباحة الدم الفلسطيني وسط صمت عربي محبط ومريب. لأن هذا الإعلان لم ينطو فحسب على تخلي مصر عن القضية الفلسطينية، وعزلها عن بقية القضايا العربية كي تحصل على فتات ما احتل من أرضها، ولكنه كان بداية التوجه الإقليمي الذي أنجب كل تجليات التردي والهوان التي تتابعت من بعده.
والواقع أن أفراغ السادات لمصر من عقلها النقدي هو الذي مكن نظامه من الاستمرار بعد انتفاضة 1977 من ناحية، وهو الذي حول مسار شرعية السلطة من شرعية شعبية تمتع بها نظام عبدالناصر برغم كل سلبياته، إلى شرعية تابعة تستمد سلطتها لا من التقاء مشروعها مع الأماني الشعبية والوطنية، وإنما من رضا العدوين الأمريكي والصهيوني عنها. فقد كانت زيارة الكنيسيت التي جاءت بعد تلك الانتفاضة بعدة شهور علامة فارقة في هذا التحول الجذري البشع والمريب. فقد انفرط بعدها العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها على مختلف الأصعدة، وتحررت مؤسسة السلطة العربية ـ بنوع من الفجور السافر ـ من هذا العقد الملزم تجاه مواطنيها على مختلف الأصعدة الثقافية والوطنية والاجتماعية والذي تجلى في انهيار خدمات الصحة والتعليم والثقافة وكل أشكال الاستثمار في البشر وفي المستقبل. وانصب اهتمام الأنظمة العربية على تكريس قبضتها على السلطة لا باعتبارها أداة لتحقيق المشروع الوطني، وإنما لاستباحته، وتوطيد استرتيجيات التبعية على حسابه، وتكبيل طاقات الشعب وسد الأفق أمام كل طموحاته. بدءا من طموح الشباب المشروع في حياة كريمة، ومسكن معقول، ووظيفة آمنة، ومستقبل يعد بالازدهار، مرورا باتساع الفجوة المهولة بين ناهبي الثروات وسواد الشعب الفقير، وانتشار أحزمة الفقر العشوائية حول كل المدن العربية الكبيرة، وتنامي أماكن تفريخ التخلف والإرهاب فيها، وتحول استراتيجيات معاداة العقل إلى خطاب سياسي وديني مقبول، وصولا إلى وأد آمال الوطن في مكان جدير به عالم اليوم الذي أصبح فيه عالمنا العربي ـ كما ذكرت في افتتاحية العدد الأول من (الكلمة) ـ هو رجل العالم المريض مع بداية القرن الحادي والعشرين. يعود إليه الاستعمار ويرتع في كل أرجاءه أمام صمت الأنظمة المريب. وأصبح هم النظام العربي في عصر تكريس الهزيمة هو فصل السلطة السياسية، والطموح في توريثها، عن المجتمع المدني، والتفنن في تكبيل الثقافة وقمع المعارضة، وتحويل النظام السياسي إلى نظام تلفيقي بين ماضوية كسيحة وعجز سياسي واجتماعي واقتصادي مهين.
في هذا المناخ الجديد لا نجد مشروعا وطنيا أو قوميا بدلا من المشروع الذي ضربته الهزيمة، وأجهز عليه السادات، يواجه مشروع التبعية وعودة الاستعمار، سوى المشروع المتأسلم الهزيل والمدعوم بأموال النفط العربي ونفوذ الولايات المتحدة السياسي. وكما انقلب هذا التيار على السادات نفسه ـ وفق قانون فرانكشتاين الذي صاغته ماري شيللي في رائعتها الشهيرة بأن من يخلق مسخا لابد أن ينقلب عليه ويقتله ـ ها هو ينقلب على بيت سعود وعلى أمريكا نفسها. وها نحن نعاني لعقود متتابعة من العسف الصهيوني والبطش الأمريكي معا. وأهم من هذا كله وأخطر في ظني هو أننا غرقنا في مستنقع ثقافة الهزيمة التي تحول فيها المثقف من حارس للكلمة إلى كلب حراسة لأنظمة فاقدة للمصداقية والشرعية، تستمرئ الخنوع وتجلب على الوطن العربي كله عار الذل والتبدد والهوان. وها نحن بعد أربعين عاما تم فيها تكريس الهزيمة وتحقق انتصارها المدوي على شتى الجبهات، نشهد الاستباحة الثالثة لفلسطين حينما استباح الفلسطينيون أنفسهم ـ بعد سنوات من الحصار الجائر ـ كل الرموز والمحرمات الفلسطينية، وانقلبت حماس على فتح، وفتح على حماس، وأراق الفلسطيني أكبر المحرمات، وهو الدم الفلسطيني، بينما مغتصبي فلسطين على الأبواب يشاهدون، يبنون المستوطنات، ويشيدون الجدار، ويشمتون، وهم يشهدون العالم على وحشية الفلسطيني أو بالأحرى على نجاج مخططهم في توحيش الفلسطيني! وها هو العربي / والمسلم في كل مكان يصبح رمزا للتوحش والتخلف والإرهاب بين شعوب القرن الحادي والعشرين التي تبني مجتمعاتها، وتحقق لمواطنيها التقدم والرخاء، بينما نزداد تخلفا وتبعية، وتنخفض معدلات النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في عالمنا العربي المريض.
لكن ثمة بصيص من أمل! وهو أمل ثقافي محض. لأنه لاتزال هناك قطاعات من العقل العربي تقاوم هذا كله برغم معاناتها من التهميش. فبرغم غياب المشروع القومي، وما يتبعه من غياب لغة مشتركة تتغلغل في الخطاب الأدبي والفكري وتصوغ وعيا جمعيا وطنيا نقديا مقاوما. وبرغم التشتت الذي أصاب المجتمع العربي والتخلخل في بناه الاجتماعية التي اتسعت فيها الهوة بين شرائح متخمة تتمرغ في ثراء سفيه، وجموع عريضة تعاني من الجوع المادي والمعنوي على السواء. وبرغم انسداد الأفق أمام الأجيال الجديدة واستحكام الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها. برغم هذا كله بدأ الأدب العربي والعقل العربي من ورائه في تخليق خطابه المغاير الذي يطرح بقوة تناقضاته مع هذا الواقع المرفوض. هذا الخطاب الجديد الذي يخلق وعيا عقليا ونقديا مغايرا هو الأمل الباقي في الخروج من هاوية ثقافة الهزيمة المدمرة التي يتمرغ فيها الواقع العربي منذ ذلك التاريخ الأليم، ولايزال يصبو للتملص من إسارها.