رموز ذلك الشعر، تكمن مباشرة تحت سطح مخادع، كأن الشاعر يستعير لإيصالها طريقة شعراء العامية الذين يتلاعبون بالألفاظ، لإخفاء سر يتواطأ القارئ أيضاً على إخفائه: ما الذي قد صنعت بنفسك؟ هكذا كان سعدي يوسف يسأل نفسه في إحدى قصائده، كأنه يسأل الحزب عن المشكلة التي ورّط أنصاره فيها.

أيّها «الشيوعي الأخير»... ما الذي قد صنعت بنفسك؟

سعـد هادي

 

لم تكن قصائد سعدي يوسف في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد صدور ديوانه «الأخضر بن يوسف ومشاغله» (1972)، تمثّل شعراً مجرداً. جيل سنوات الانفتاح النسبي الذي «مهّد لحروب ومآس ونكسات»، أخذ يتداولها في السر والعلن، يحتفي بها، يعدّها منشورات غير رسمية من شاعر هجر الالتزام الحزبي كما كان يصرح دائماً ... لكن «شبهة» الشيوعي لم تهجره. كانت تلك القصائد تعبّر إلى حدٍّ ما عما يريده كل قارئ، ببساطتها ووضوحها وموسيقاها الخفية، ورموزها التي لا يتطلب تفسيرها مشقة كبيرة ... رموز ذلك الشعر، تكمن مباشرة تحت سطح مخادع، كأن الشاعر يستعير لإيصالها طريقة شعراء العامية الذين يتلاعبون بالألفاظ، لإخفاء سر يتواطأ القارئ أيضاً على إخفائه: ما الذي قد صنعت بنفسك؟ هكذا كان سعدي يوسف يسأل نفسه في إحدى قصائده، كأنه يسأل الحزب عن المشكلة التي ورّط أنصاره فيها.

صاحب «قصائد مرئية» (1965) و«نهايات الشمال الأفريقي» (1972) و«حانة القرد المفكر» (1997)، كان شعره مناسباً لتلك المرحلة، إذ يعبّر بشحنات متقطعة عن حالة الشك التي تراود الجميع، سياسياً واجتماعياً. نموذجه الشعري الذي وصل آنذاك إلى أوج اكتماله لغوياً ورؤيوياً وفنياً، كان على تناقض مع ما يحيط به. فبينما كان اليسار التقليدي يتخبّط في مآزقه، وكانت أساطيره على وشك الانهيار، كان سعدي مضطراً إلى مناجاة الآخرين، وإعادة صياغة أحلامهم، ومواساة وجدان وطني يعيش أخطر لحظات وجوده، وقد أعيد تكرار مقاطعه الشعرية في قصائد الآخرين، كما لم يحدث لشاعر عراقي من قبل. ربما لأن قصيدته ذهبت بعيداً عن البنية التقليدية للقصيدة الحرّة التي أوجدها السياب ونازك والبياتي، ببلاغتها الموروثة عن العمود الكلاسيكي، ورومانسيتها ومحاولاتها لمقاربة الأسطورة. كان قد توصل منذ بداياته إلى تأليف نموذج جديد، يستعير لغة الحياة اليومية ومشاغلها وتفاصيلها، ويعيد سرد حكايات منها، تبدو ظاهراً بلا معنى، لكنّها تخفي الكثير. محاورات، أو رسوم لأشخاص، أو صور لأماكن، أو استعادات من الذاكرة، تبدو كأنها لا تنمو، بل تتهدج كالكلام، وصولاً إلى الجملة الأخيرة التي تختزن مفارقة، وقد لا تختزن أيضاً.

لكن تلك القصيدة لم تتطوّر. القصيدة التي ابتكرها سعدي يوسف، وأعاد من خلالها تأسيس عالمه الشعري، ظلت كما هي. كلما قرأتَ قصيدة كتبها بعد السبعينيات تساءلتَ: أين قرأتُها من قبل؟ قصائده تبدأ وتنتهي في نقطة الاكتشاف الأولى ذاتها، حتى كأنه أسير لها. ظل سعدي حكواتياً، تروي قصيدته حدثاً ما، لم يقترب من الميتافيزيقيا كما فعل مجايلوه، ومن جاء بعدهم. أكثر من ذلك: لقد ظهر مراراً في قصيدته شبح القصيدة الكلاسيكية الموروثة الذي حاول الخمسينيون - بلا جدوى - طرده من قصائدهم. ثمة رصانة أسلوبية فيها، ونحت للغة على طريقة أبي تمام والبحتري، وجرس موسيقي خفي تفضحه الأسطر المقفاة، أو شكل القصيدة المدورة الذي اعتُبر من مكتشفات الحقبة الستينية: «نهاري نهار الناس حتى إذا دجا الليل بي هبت تنهب السهب منهبا عواصف شتى».

أخيراً قال سعدي في حديث لـ«أخبار الأدب» القاهريّة: «أستطيع أن أحذف كل ما كتبت وأكتفي بعشر قصائد، أقول إنّها هي كل ما كتبت. لكن كي أصل إلى هذه القصائد، لا بدَّ من أن أكتب ألف قصيدة». لهذا السبب ربما كان يصر على تكرار تجربته بلا تنويع. ومجموعة «الشيوعي الأخير يدخل إلى الجنة» («دار المدى» - 2007)، لا تخرج عن هذا الإطار. قصائدها تلخّص بدقة كل ما فعله الشاعر من قبل، قد يختلف ما ترويه القصيدة جزئياً، لكنّ ملامحها الشكلية واحدة. نتوقع بالضبط من السطر الأول ما سيحدث بعد قليل، ليس عبر استقراء الحدث نفسه، بل من خلال التركيبة المألوفة للقصيدة التي نعرفها مسبقاً... وذلك لا ينفي تألّق الجملة الشعرية، إذا أُخِذَتْ بمعزل عن سياق القصيدة: «صديقي لم يقل لي عن جواد الريح شيئاً، هل تراه ألحق الأشياء بالشعراء؟/ كم ساءلتني امرأة هل استمتعت بالميلاد؟/ عيناي متعبتان... أسبوعين أحفر دون منقطع وأحفر».

الشاعر الذي يتخفى خلف قناع الشيوعي الأخير، حين يُسأل من أي حزب أنت؟ لا يعرف ماذا يجيب! فأحزاب المدينة كلها وقعت في قبضة الاحتلال، مرحبة بجنوده وبنوده... لكنه يقول أخيراً: «إني حزب نفسي». يلوذ الشاعر هنا بماضيه الذي أنكره مرة، ماضيه الملتبس، بل ماضينا، يعطي للكتابة مبرراً: آخر أنبياء اليسار المخدوعين يعترف بأخطائه، ليعوض عن خراب الحاضر.

وسعدي يوسف، بإصراره شبه اليومي على كتابة الشعر كما يبدو من تواريخ قصائده، لا ينطلق من حالة شعرية ذهنية بذاتها، كما يفعل معظم الشعراء الآخرين، بل ينطلق من حدث أو من تفصيل يومي، ويعيد تأليف ما تأثر به شعرياً. هناك دائماً مرجعية واقعية لقصيدته. في قصيدة «الشيوعي الأخير يذهب إلى السينما»، يورد ما يسميه «ملحوظة مهمّة جداً» تتضمن شرحاً لعناصر كتابة الخبر الصحافي تبدو كأنها مقحمة على النص. وهناك دائماً تشابه ظاهر بين ما يكتبه نثراً (جمع بعضه في «يوميات الأذى»، دار نينوى - 2005) وقصائده. كلاهما يستعير من الآخر، لكن بينما تنتزع القصيدة نفسها من الأرضي، وتكتفي بذاتها. تهبط المقالة الموجزة التي يكتبها بلغتها الحادة، وطابعها الهجائي، إلى العالم السفلي لتعبّر عن مشاغل الشاعر، وتلقي الضوء إلى حد ما على طريقته في العمل.