القسم الثالث: دراسات عن إدريس الخوري

إدريس الخوري بين الحياة والكتابة

عبدالرحيم العلام

 

إدريس الخوري قاص وناثر وكاتب مقالة من الطراز الرفيع. تتميز كتاباته بنكهة خاصة، في توظيفها لأسلوب خاص وللغة رشيقة، على مستوى التعبير والسرد والتقاط التفاصيل وصوغ المفارقات الاجتماعية، هو الذي بدأ مساره الأدبي شاعرا، مثل صديقه الأديب الراحل محمد زفزاف، كان ذلك في مطلع الستينيات من القرن الماضي، غير أن الخوري سرعان ما طلق الشعر، كممارسة، وإن احتفظ بالكثير منه في كتاباته القصصية، ليعانق عوالم كتابة الخاطرة والقصة والنصوص والمفتوحة والمقالة إلى اليوم، إذ مازالت مقالاته تطل علينا من بعض المنابر الوطنية والعربية، في الوقت الذي عرفت فيه قصصه طريقها إلى سلسلة «الأعمال الكاملة»، نشرتها وزارة الثقافة المغربية في مجلدين كبيرين، مما يشي بحدوث تراكم لافت في مدونة الكتابة القصصية عند الخوري، كما هو الحال بالنسبة لمقالاته وكتاباته الأخرى المفتوحة.
ومن يتأمل شخصية إدريس الخوري في محاولة للاقتراب منها، سيفاجأ بكل هذا الزخم الذي يطبع شخصيته، إذ سرعان ما تتزاحم أمامنا صور الرجل ومحطاته الحياتية والإبداعية الغنية، بحيث يصبح من الصعوبة، هنا، حصر شخصية «أبادريس» – كما يعرف بهذا الاسم في الأوساط الاجتماعية وبين أصدقائه ومريديه – وتحديد ملامحها العامة ومساراتها الحياتية المتعددة، وإدراك خصوصياتها واستثنائيتها، في امتداداتها الزمنية والحياتية، بحيث تبدو شخصية الخوري كمثل ذلك النهر الذي لا يتوقف عن الجريان والعطاء، إذ سرعان ما تتدافع أمامنا ملامح الرجل، لنستعيد محطاته البيوغرافية المتوهجة والمؤثرة، فتلتئم أمامنا في فوضى جميلة، إلا أنها تأبى أن تنتظم في صورة واحدة.
هكذا، قلت في نفسي لأحاول تسجيل كل خاصية على حدة، فشخصية إدريس الخوري تنسج من حولها الكثير من الصور والعلائق الحياتية والاجتماعية والثقافية، تلك التي ما فتئت تعمق لديه الشعور بالحياة وبملذاتها، وبأنها تستحق فعلا أن تعاش. فهل يكفينا أن نتحدث عن إدريس الخوري الإنسان في علاقته بذلك الطفل الذي كانه، أما «الشيخوخة الظالمة»، فلم تنل من كاتبنا شيئا، ولم تعرف طريقها إلى جسده، وإن أحيل منذ مدة على المعاش من قبل المؤسسة. أما بالنسبة للخوري، فالمعاش هو الذي سقط عليه سهوا، فجسد الخوري لا يمكن أن ينتمي إلى تلك الأجساد التي تقتلها رطوبة «الأيام والليالي»(1)، ويعييها القعاد، وتبتلعها كماشة الأزمنة، و«فساد الأمكنة»، وكأنني أطرح سؤالا مؤرقا: متى ينام إدريس الخوري؟ ومتى يكتب؟ هو الذي يصحو اليوم كله، يلبس النهار ويلبسه الليل، فالحياة هي مدرسة الخوري الدائمة، لذلك تجده يرنو إلى مكتبه، بعد أن يكون قد كتب الواقع ومسحه بحواسه، أي قبل أن يتحول المحسوس والمرئي إلى أسود على أبيض. يعيد الخوري ترتيب الواقع وتحويل اليومي والمعيش إلى لغة وكتابة، تختزلان مغامراته ومرئياته وأحاسيسه، من منطلق علاقات تستمد نسغها وقيمتها وبهاءها من فضاءات متشابكة، يتداخل في تكوينها المركزي بالهامشي، ويغمرها الليل والضحك وفتنة الكتابة والجمال والصفاء والعين والذاكرة والقراءة والسفر واشتهاء الأمكنة والموسيقى والسينما والمسرح واللوحة، فضلا عن انتصاره اللامحدود لكل ما هو نبيل ومتواضع وشعبي..

ويكفينا فخرا أن الخوري يضع «أبوته» رهن إشارة الجميع، صغيرا كان أو كبيرا، شعبيا كان أو متعالما.

تجده لا يتوانى في الترحيب بمناداتنا له بـ «أبادريس» (الأب إدريس)، فيحصل أن يجد كل واحد منا في الرجل صورة ما لأبيه المفترض. هكذا، تصبح معاشرتك لإدريس الخوري، ولو كانت عابرة، كلها فرح وانتشاء، إذ سرعان ما يغمرك بحميميته ودفئه وألفته في التواصل والكلام، وهو واحد من كتابنا القلائل، الذين لن يشعروك أبدا بأنك آتٍ من زمن مختلف، إذ لن تكلفك شخصيته الكثير من الجهد لأجل اقتحامها منذ اللقاء الأول، وإن كان اقتحاما مشروطا وفي حدود معينة.

تقدم لنا تجربة إدريس الخوري الكتابية عالما متكاملا ومتداخلا، نستضيء به في حياتنا، ونتوسل به في كلامنا اليومي، ونستلذ برحابته في أحلامنا، بمثل رحابة أحلام إدريس الخوري الخاصة والعامة، اعتبارا لنكهة كتاباته وسحرها، من منطلق ما تضمره بين ثناياها من سخرية وصفية ونقدية مبدعة، على اعتبار أنها تجربة نابعة من تراكم استثنائي في المعيش وفي التجربة الذاتية، ومن تأمل ذاتي بعيد وممتد في الواقع وفي تحولات المجتمع وأوعاء الشخوص.

وإذا كان جل ما كتب عن إدريس الخوري ينصب حول كتاباته القصصية تحديدا، فقد ارتأيت، أنا، أن أتوقف عند جانب أساسي من كتاباته المفتوحة، التي جمعها في كتب مستقلة، وتحقق اليوم، هي أيضا، تراكما مهما، لما لها من قيمة جمالية ودلالية لافتة، فضلا عن أهميتها المرجعية في مشهدنا الثقافي والأدبي المغربي، لكونها تلامس قضايا وأجناسا وظواهر أخرى لم يتحقق حولها الكثير من التراكم المرتجى، من قبيل كتاباته عن التشكيل والسينما والفضاءات والوجوه والحالات

هكذا، يسافر بنا إدريس الخوري في كتاباته ومقالاته الصحفية داخل عديد العوالم والثقافات واللغات والفضاءات والفنون. ففي كتابه الأول، غير القصصي، «فضاءات: انطباعات في المكان» (2)، ينكشف أمامنا مدى عشق الخوري للسفر واكتشاف العوالم والمعاني والوجوه، موازاة مع رغبة أزلية لديه في الارتحال في الأمكنة وفي الهويات، وفي التواصل مع الأشخاص العاديين والبسطاء والمجانين والعقلاء. من هنا، تنجلي أمامنا جوانب من ثقافة الخوري البصرية، وقدرته الخارقة على الوصف والتقاط التفاصيل واللامدرك، وتشغيل الذاكرة، والتنبيه إلى الأشياء التافهة والعابرة في حيواتنا وفي مجتمعاتنا، تلك الأشياء التي تأبى أن تنكتب لدى البعض، لكنها تتحول عند الخوري إلى لغة وتخييل ومتعة، وإلى مادة حكائية شفافة، يقدمها الخوري بأسلوبه الخاص وبجرأة سردية نادرة، هو الذي يمتلك ثقافة موسيقية غنية، وأذنا سميعة، فضلا عن رحابة وسمو ذوقه السينمائي والتشكيلي، الأمر الذي يجعلنا نحترم في الخوري محليته وشعبيته وبساطته، كما نقدر فيه انفتاحه على ثقافات العالم وفنونه.

في كتاب «فضاءات»، نلج مع الخوري فضاءات مغربية وأخرى عربية، وثالثة غربية، لنستمتع من خلال عين الخوري اللاقطة، وعبر دقة تسجيله ووصفه للأشياء بكل افتتان وجاذبية، بنكهة الأمكنة وسحرها وخصوصياتها. فداخل الفضاء الواحد، تنكتب سير مجموعة من الفضاءات الأخرى الموازية، وكأن كل فضاء يشكل مشروعا مؤجلا عند الخوري لرواية محتملة، أو هي في طور التشكل. فالسرد المغربي لا يفتقد الحكايات والموضوعات، بقدر افتقاده مثل هذه العين الرائية والحاكية، ومثل هذه الذاكرة المتجددة باستمرار، كي تتحسس الجمال، وتنفذ إلى أغواره السحيقة، ولكي تعدد، أيضا، من مستويات تلوين التخييل والكتابة عن الفضاءات واكتشاف رمزيتها وكنهها وعلاماتها. ويشكل ذلك في اعتقادي أحد الجوانب المجسدة لصعوبة الكتابة الأدبية عموما، بما هي كتابة تتطلب عينا رائية، شديدة الحساسية، ولغة مطواعة، كثيرة السيولة، من أجل استيحاء المرئي، وسرد المضمر والهامشي والمكبوت والمتحول والزئبقي، كما تتطلب أذنا شديدة الإدراك لعسعسة الليل ولتنفس الصباح، وجهدا معرفيا ووصفيا جبارا، لأجل إعادة تمثل الفضاءات، جغرافيا وتاريخيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، بدل تقديمها عارية إلا من شخوصها وبياضها وخشونتها ونتوءاتها وغرابتها وروائحها وضيقها..

هكذا ينبهنا الخوري في كتابه «فضاءات» إلى أشياء عديدة لم نكن نحن لنعيرها اهتماما خاصا، لولا مثل هذه الكتابات، التي يقدمها الخوري مرة ساخرا ومنتقدا ومرة محللا وشارحا. فمراكش، في نظره، «ذاكرة ملفوفة بالوقائع. وهذا المجال الطبيعي بحاجة إلى عين لتراه جيدا وتستنطق مكنوناته»(3).
على هذا النحو، يعبر بنا إدريس الخوري في رحلة شائقة في عديد الفضاءات التي استهوته، وهي تروي جوانب من ذاكرتها التراثية والتاريخية والمجتمعية والثقافية، الماضوية والراهنة، كما تروي حكايات تحولها وتبدلها في الزمان، من الجنوب المغربي إلى الاتحاد السوفييتي، ومن الماء، حيث الدار البيضاء هنا، إلى الماء، حيث الخليج هناك.

يبلغ الافتتان بالتقاط المشاهد والصور والتفاصيل والجزئيات والسلوكات ذروته، في كتابه «من شرفة العين» (4)، وكأننا بالخوري يغنينا عن تحريك عيوننا نحن كي تتعب عيناه هو، فنحس بجميع نصوصه طالعة منا وإلينا. نلج مع الخوري فضاءاته، وننتشي بسخريته، ونحزن لحزنه، كما نفرح لفرحه. تنشرح أساريرنا بانتقاداته وتنفجر مكبوتاتنا بتهكمه الذي يولده لعبه باللغة في نصوصه، هذه التي تنوب عنا أحيانا حتى في حواراتنا الداخلية مع أنفسنا. فمن ميزات الخوري أنه يفكر بصوت جهوري حتى في التلفزيون، وهو ما قد لا يعجب البعض، فتجدهم يتهافتون نحو دفن رؤوسهم في الرمل.
من هنا، يراودني السؤال نفسه مرة أخرى، لِمَ لم يكتب الخوري الرواية حتى الآن، رغم تمكنه من أسرارها ومعرفته بمسالكها؟ أهو هروب من «لوثة» أصابت هذا الجنس التعبيري عندنا، كما أصابت الشعر والقصة؟ أم أن الرواية مستحيلة الكتابة عند الخوري هي «الحياة» في جوهرها، هي هذا الزمن الهارب دوما من قبضتنا. فلو كتب الخوري الرواية – وأكرر أن كل نص من نصوصه يشكل، دون مبالغة، مشروعا لرواية مؤجلة- لأسعف الرواية المغربية بنصوص ما زال مشهدنا الروائي يحلم بها، ولأدرك نشوة القراءة عندنا من التلاشي والزوال. فكثير من نصوصنا الروائية لا تقدر بعد على إضحاكنا، وتفتقر للسخرية والمفارقة والوصف والحياة، كما تفتقر لأن تجعلنا نتأمل ذواتنا في سوريالية واقعنا، وفي مظاهر حياتنا أيضا. كل هذا، توفره لنا كتابات الخوري المفتوحة المنفلتة من التجنيس والتصنيف.
نكتشف في إدريس الخوري، من خلال كتابه «بعيدا عن النص.. قريبا منه» (5)، شخصية كاتب من عيار آخر، كاتب يتقن لعبة عشق النصوص، ويحسن تلذذها والقبض على خصوصياتها. يتقن الخوري في كتابه قراءة الظواهر بجرأة نادرة أيضا، بشكل يجعلنا نصنف هذا الكتاب في باب الكتب الممتعة والنادرة في مشهدنا الثقافي المغربي. ويمكن تلمس جوانب من متعة هذا الكتاب وندرته في مواده، وفي الطريقة التي كتبت بها مقالاته وعولجت بها ظواهره وقضاياه، سواء تلك التي لها علاقة بمشهدنا الثقافي المغربي أو بالمشهدين الثقافيين العربي والغربي.

 تتشيد مقالات هذا الكتاب على رؤية ذاتية وذوقية، تمزج بين ما هو تأملي وما هو انطباعي مفتوح على أسئلة تصب في صميم المشهد الثقافي العام، بعيدا عن صرامة المنهج والقراءة النقدية المتخصصة. وهو بعد يضفي على مقالات هذا الكتاب نكهة نابعة من إحساس المؤلف بتبدل العالم من حوله، ومن تأثره به، كما أنه نابع من طبيعة تصوره لبعض قضايا المغرب الثقافي، أو غيره من الأقطار الأخرى، عبر رؤيته وقراءته الخاصة لها، في مراحل تعتبر من أغنى فترات ثقافتنا المغربية الحديثة، وخصوصا في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وهو ما يدفعنا إلى تصنيف هذا الكتاب، مرة أخرى، في إطار ما يمكن تسميته بـ «المقالة الإبداعية»، على غرار ما يعرف، أيضا، بـ «النقد الإبداعي".

يعالج الخوري في هذا الكتاب عديد المواقف الشخصية حول مجموعة من القضايا التي ما زالت تطرح باستمرار وبجرأة أخف أحيانا في مشهدنا الثقافي المغربي، من قبيل موقفه من النقد الأدبي الذي يرمي إلى تشييء النص، إلى الحدود التي تفقد فيها الكتابة متعتها الجمالية- البصرية وحتى الحسية، غير أن هناك من يشد عن هذه القاعدة وعن هذه الفوضى، ويستشهد الخوري، في سياق آخر، بكتابات عبد الفتاح كيليطو.
الموقف نفسه يتخذه الخوري من النقد العربي الذي سار في طريق الإعجاب المتبادل والانبهار والتعسف في إطلاق الأحكام والإسقاطات الكثيرة، هو الذي يظل سائرا في طريق مسدود. من ثم، فإن العملية النقدية المطلوبة اليوم، في نظر الخوري، هي عملية فهم وتأويل بحسب تأويل النص نفسه..
وبنفس الجرأة والحس، يدلي إدريس الخوري بآرائه حول بعض القضايا التي لم تفقد بريقها التداولي بعد، كقضية الفرانكفونية. كما يعيد تفكيك بعض المفاهيم والألقاب التي كانت مشاعة في وقت مضى (كالإمارة والعمادة)، ويبرز بالتالي رفضه لتسمية «الأدب النسائي»، فيعتبره محاولة لإحداث قطيعة وهمية بين جسد وآخر. إلى جانب ذلك، تنكشف أمامنا، أيضا، قدرة الخوري الإبداعية على قراءة النصوص الأدبية، في تباينها الزمني والجغرافي، كما يلج بنا داخل فضاءات ثقافية حميمة ومؤثرة، موازاة مع استحضاره، بطريقة ساحرة في الاستذكار، لأسماء أدبية وفنية من هنا وهناك..

وفي كتابه «كأس حياتي»(6)، نكتشف في الخوري ذلك الفنان الذي يسكنه ويتملكه، فنان بسعة الفن، في توسله بعين ساحرة تتحسس الجمال بفتنة ودقة، في اللوحات وفي الصور الفوتوغرافية، في الألوان وفي المعارض، من هذا الزمن أو ذاك، لدى فنانينا القدامى والمحدثين، أو لدى غيرهم من الفنانين العرب والغربيين. يضعنا الخوري، في هذا الكتاب، أمام ثقافة بصرية وجمالية لافتة، وأمام معرفة راقية بعالم التشكيل والصباغة وفن الرسم، ومن خلال ذلك يؤرخ الخوري لذاكرة الحركة التشكيلية والفنية ببلادنا، في اتجاهاتها وأسمائها وخصوصياتها. وهو من خلال ذلك كله، إنما يحمي بعض خصوصياتنا وإنجازات فنانينا من النسيان والمحو، في زمن غدت فيه الأشياء والإنجازات تتلاشى بسرعة وبإيقاع مدمرين.
لا يقتصر اهتمام الخوري بالتشكيل على متابعاته الدؤوبة للحركة التشكيلية في المغرب، عبر حرصه المتواصل على حضور معارض التشكيل وقراءة التجارب في هذه المدينة أو في تلك، بقدر ما هو اهتمام عام، مباشر وغير مباشر: مباشر، عبر اهتمام الخوري بعنصر المشاهدة عموما (إدمانه الممتد على مشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية)، وغير مباشر، كما يتبلور ذلك في متخيله القصصي وفي مقالاته ونصوصه المفتوحة. فكتابات الخوري القصصية، كما هو الشأن بالنسبة لمقالاته، تحتفي بالعين وبالرؤيوية (voyeurisme)، بشكل مبهر، يتفوق به الخوري على كثير من أدبائنا، على اعتبار أنه اهتمام، أيضا، بالتشخيص والوصف، وبتمثل الفضاءات والإحساس بوطأة الأمكنة.
أما في كتابه «التتياك السياسي» (7)، فتبلغ السخرية مداها، بما هي سخرية من أنفسنا ومن تغير العالم والظواهر من حولنا، في لعبة شبيهة بلعبة «التتياك» (أي خلط الأوراق، أو «الضميص» بلغة لاعبي الورق عندنا). في هذا الكتاب، يعيد الخوري للغة الكلام ولعديد الألفاظ المتداولة شعبيا، بعض حيويتها، كما يعيد الاعتبار لأبعادها الدلالية والإيحائية الموازية، خارج استعمالاتها اليومية. والخوري، من خلال ذلك، إنما يعيد ترتيب فوضانا في زمن انفلات المعاني وانهيار القيم في مجتمعنا.
على هذا النحو، إذن، تعبر بنا كتابات الخوري من فضاء إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى، ومن ظاهرة ساكنة إلى أخرى متحولة، ومن اسم من زمننا إلى آخر من غير زمننا، ومن نص شعري إلى آخر قصصي، إلى ثالث تشكيلي، فرابع سينمائي، فخامس مسرحي… فتجده يعبر عن ذلك كله بلغة سلسة ورشيقة وساخرة.

يفتتن الخوري بأشياء كثيرة، فيحول فتنتها إلى عشق وتلذذ، وإلى سخرية وضحك. يقول الخوري –على سبيل المثال فقط لا الحصر- متحدثا عن المفكر المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي: «لم يكن أكولا مثل فلاسفة اليوم".

تلعب الكتابة، في مقالات الخوري، لعبتها الماكرة، فتنقلنا في سفر دائم في أزمنتنا العربية، وفي خيباتها وهزائمها ومسراتها وتسلط أنظمتها، كما تجعلنا نتذكر أسماء ربما نكون قد نسيناها أو تناسيناها، أسماء سرقها الإحباط والوهم والموت منا، إلا أن الخوري يجعلها تحيا مجددا بيننا، وهو ما سيشكل، أيضا، موضوع الكتاب المقبل لإدريس الخوري، في جانب منه، حول بورتريهات متنوعة عن وجوه من زمننا الثقافي والأدبي والفني بالمغرب.

 

هوامش:
1-
هي رابع مجموعة قصصية صدرت لإدريس الخوري، عن دار النشر المغربية، البيضاء 1980.
2-
إدريس الخوري، فضاءات: انطباعات في المكان، دار الكلام، الرباط 1989.
3-
المرجع نفسه، ص9.
4-
إدريس الخوري، من شرفة العين، شركة طوب للاستثمار والخدمات، الرباط 1996.
5-
إدريس الخوري، بعيدا عن النص.. قريبا منه، منشورات البوكيلي، القنيطرة 1997.
6-
إدريس الخوري، كأس حياتي، كتابات في التشكيل، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط 2000.
7-
إدريس الخوري، التتياك السياسي، سلسلة شراع، طنجة 2000.

 

(مجلة نزوى)