المركزية الأوروبية ترسم حدود الخير والشر

الليبرالي الأبيض: أنا الحق، والحق أنا

أنـس الأسـعد

 

تتواصل العمليّة العسكرية الروسية في أراضي الشرق الأوكراني. في مقابل ذلك، تنكشف شيئاً فشيئاً الحبكةُ الرّثة للإعلام الغربي في تعاطيه مع المسألة، ابتداءً من الجهر الفاحش بعنصرية بيضاء، وكلام عن لاجئين بعيون خضر وشعر أشقر، وصولاً إلى النداء بوجوب المقاطعة الإعلاميّة والفنّية لكل ما يَمُتّ لروسيا بِصلة. ويبدو أنّ تلك الدّعوات تذهب باتجاه التّنفيذ لا على طريقة «صيد الساحرات» فحسب، ولو أنّ التشبيه بات مكرّراً وعريقاً في أوروبا الغربية وأميركا منذ نهاية الحرب الباردة، بل إنّها دعوات تتعدّى حالة التّطيُّر السّاذجة تلك من كلّ ما هو روسي، إلى الالتباس بمفاهيم «التضامن» وكونيّته التي روّجتها الميديا الغربية في العقد الأخير وفقاً لميزان التنوّع الليبرالي المُختلّ، فصار لِزاماً على دول الجنوب والأطراف أن تُثبتَ ولاءها، وتتخلّص من أدران «الإرهاب» بعبور نُخَبِها من خلال هذه البوابة فقط. «أنتَ تتضامن مع الرّجل الأبيض إذن أنت موجود» اليوم تُعادُ صياغة هذه الشعارات النّمطية بشكلٍ يستنزفُ كلَّ التّعديلات المطلوبة؛ للتّوافق مع ادّعاء مظلوميّة مُبتذلة أمام «آخَر» ليس له أي وظيفة سوى احتكار الشّر.

تتوازى نداءات المقاطعة الفنّيّة مع ارتفاع وتيرة العقوبات السياسيّة والاقتصادية، ولا يُمكنُ حصر أي جِهة هي التي أطلقتِ الشّرارة؛ بالنظر إلى ما تُبديه المؤسَّسات الغربية في ما بينها من تَسابُق على إعلان القطيعة والطّرد. ولو بدأنا من آخرها، فعلى الصّعيد السينمائي، أعلن منظّمو «مهرجان كان السينمائي» أنّهم لن يستقبلوا وفوداً روسيّة في الدورة 75 المُزمَع عقدُها بين 17 و28 أيّار (مايو) المقبل، في حال لم يتوقّف الصِّراع، أو لم ينتهِ بطريقة مقبولة للشعب الأوكراني. وقد ذُيّلَ الإعلان بإشارات عن الوفاء إلى مقاومة فرنسا للاحتلال النّازيّ 1939 في غمزٍ واضح يكشفُ كيفَ تنظُر الميديا الغربية إلى روسيا وشخص رئيسها بوتين. من جهتها، أعلنت شركة «وورنر ميديا» أنّها ستجمّد عرضَ فيلم «باتمان» في الصّالات الرّوسية، وحَذَت حذوها شركتا «ديزني» و«سوني بيكتشرز». ولم يتخلّف عملاق البثّ الشبكي نتفليكس عن اللحاق بالرّكب، إذ أعلنت الشبكة عن فضّ الاتفاق مع التلفزيون الرّوسي الذي ينصّ على توزيع قنوات تلفزيونية روسيّة بشكل مجاني في البلاد، ومن بينها القناة الأولى الحكوميّة.

تبقى الجبهة الأسخن تلك التي تشغلُها مواقع التّواصل الاجتماعي، إذ خفّض عملاق التّواصل فايسبوك (ميتا) المحتوى الخاص بوسائل الإعلام الحكوميّة الروسيّة، وردّت الحكومة الروسية على ذلك بفرضها قيوداً على وصول مستخدمي فايسبوك على الأراضي الرّوسية، وفق ما أعلنت عنه «الهيئة الرّوسية للرقابة على الاتصالات» (روسكوم نادزور). ولم تكن الحال مع تويتر أفضل، هو الذي تتّهمه الهيئة بنشر معلومات زائفة حول تطوّر الأوضاع في أوكرانيا. كما انضمّت إلى القافلة شركة «آبل» التي صرّحت بوقف بيع كلّ منتجاتها وحجب بعض التطبيقات، وهذا بالضّبط ما نادى به قبل أسبوع وزير التحول الرقمي في أوكرانيا ميخائيل فيدوروف. وتراصفتِ الضّغوط من غوغل ويوتيوب اللتين لم توفّرا فرصة في الامتثال لسياسات التقييد والحظر، ولكن اللّافت أنّ تطبيقات مثل «تيك توك» (ByteDance) خرجت عن كونها منصّات أقل شأناً، وحاولت الانخراط في اللعبة العالميّة، وتحقيق نقاط «إنسانيّة» من خلف الاجتياح الرّوسي، رغم أنّ هذه الشركة الصّينيّة سبق أن تعرّضت لضغوط أميركيّة من قبيل تقييد ومنع ما هو «صيني»... تلك اللحظة المجنونة التي كان على رأسها دونالد ترامب.

بالانتقال إلى ميادين كالرياضة والموسيقى والأكاديميا، فيبدو أنّ دويّ المقاطعة صارَ موازياً لأصوات المدافع. منظمة الفيفا التي تُقدّم وتؤخّر بُلداناً وفقاً لأهواء سياسيّة عالميّة وجدت في الحرب فرصةً ملائمة للعوم في التّيار الجارف من دون أي تكلّفٍ أو نَظر، المنظّمة ذاتها التي عاقبت ومنعت لاعبين رفعوا شعارات للتضامن مع غزّة المُحاصرة، قرّرَت استبعاد المنتخب الروسي من التّصفيات المؤهّلة لكأس العالم في قطر 2022، وهذا ما تطلّب ردّاً من الاتحاد الروسي لكرة القدم الذي وصف القرار بـ«التمييزي»، وانسحبَت قراراتُ الاستبعاد على المنتخب الرّوسي للسيدات، والأندية المُشاركة في «الدوري الأوروبي». وفي الوقت الذي تبدو فيه دعوات المقاطعة مُراوِحة بين الجذب الإعلامي والحرص على استغلال الجماهيريّة، وهذا يجد لهُ الكثير من الانتهازية في عالم الميديا، تأتي دعوات المقاطعة الأكاديميّة أو «التّحفُّظ» من بعض الجامعات لأعمال ومقرّرات تتناول الأدب الروسي وأعلامه الذين ماتوا في القرن الماضي أو ما قبله، لتُذكّر بنبوءة الرّوائي الروسي فيودور دوستويفسكي بأنّ الجَهلة لن يتركوه يرتاح حتى وهو ميّت. هذا ولم نقُل شيئاً عن سحب «أوركسترا زغرب الفيلهارمونية» (كراوتيا) مقطوعات لتشايكوفسكي كان منوياً عزفُها في «قاعة حفلات فاتروسلاف ليسينسكي»، وإلغاء دار الأوبرا الملكيّة في لندن عروض فرقة «باليه بولشوي» لهذا الموسم، ومطالبة «دار أوبرا سكالا» في ميلانو من المخرج غيرغييف توضيح موقفه من الحرب في أوكرانيا، وتخلّي «أوركسترا ميونيخ» عن المايسترو الروسي فاليري غيرغييف المؤيد لبوتين.

وفي الوقت الذي يتنادى فيه إعلاميون ومثقفون وكتّاب من كلّ صوب لإشهار وضعيّة القطيعة، تُقابَلُ أصوات أُخرى من خارج روسيا بالاستهجان والاستنكار لمجرّد أنّها اتخذت موقفاً نقدياً من هذه المقاطعة. فالكاتب النّمسوي بيتر هاندكه الحائز «نوبل للآداب» عام 2019، يتعرّض لحملة انتقاد وتشنيع وتنمّر، ومِمَّن؟ من أصوات اليسار الديموقراطي في أوروبا، ومن شخصيات كالرّوائي سلمان رُشدي الذي نصّبته الدّوائر الغربية «مثقفاً متمرّداً» طيلة عقود (لو نعود إلى نقد المفكر الراحل هادي العلوي لكتابات ومواقف رُشدي، كم تبدو قزمة كونيةُ الليبرالي وتضامنيّتها أمام الروح النّقدية لهادي العلوي التي عرّت النّزعة الغرباوية المتكثّفة بنموذج طويل عريض واجهتُه رشدي). أمّا هاندكه فلم ينحَز، بل اكتفى بعدم التوقيع على عريضة إدانة الغزو التي ضمّت أكثر من ألفِ صوت لمثقفين وكُتّاب. وهذا الموقف كان كفيلاً ـــ بنظر بعضهم ــــ لإطلاق الدعوات ضدّه لسحب الجائزة منه. بهذا تعلنُ الثّقافة الليبرالية عن نفسها بوصفها سلاحاً للحشد في خندق واحد: خندق الحقيقة المُكتفية بذاتها وهي تواجه «توحُّش الآخر غير الحضاري وشرّه المطلق»، وبوصفها دعوة للتعقيم أيضاً، مُضحّية بمبدأ «الاختلاف»... تلك الدّعوة الليبرالية التي لا يُقرَع ناقوسُها إلّا وفق مواقيت عواصم الأورمركزيّة فقط. ها هي صحيفة «وول ستريت» تستحضرُ على صفحاتها بياناً في التمييز العِرقي: روسيا تعود إلى ماضيها الآسيوي، مُشبّهةً عمليات الرّوس العسكرية بالحنين إلى الغزو الشرقي الذي قادَه جنكيز خان في القرون الوسطى!

كلّ ما صدرَ من بهرجة وصخب تضامني مع أوكرانيا المَغزوّة، لم نسمع منهُ شيئاً أثناء الهَبّة الفلسطينيّة في أيّار (مايو) العام الماضي. نحنُ معنيّون بفلسطين ولا يُمكنُ تحييدُ قضيّتها عند أي حدث سياسي أو عسكري بهذا الحجم. إذ لم نجد وسيلة واحدة تتبنّى عن فلسطين ما تتبنّاه وتبثّه من طقوس حفلة التضامن القائمة الآن. بل تعدّى ذلك إلى تقييد وحظر تلك الوسائل لأصوات إعلاميّة وفنّية وثّقت جرائم الاحتلال. في الأمس القريب، طردت شبكة DW الألمانية خمسة صحافيين عرب واتّهمتهم بـ «معاداة السّامية» لمجرّد وقوفهم مع فلسطين. المؤسسة ذاتها اليوم، أيّ الخطابات تتبنّى؟ وإلى مَن تنحاز؟ ألسنا معنيّين بفلسطين أكثر بكثير ما تعنيه أو ما يجمع أوكرانيا بألمانيا؟ لذا يُمكنُ القول إنّ خطاب المقاطعة في النموذج الأوكراني، قُلِبَ على رأسه، فُرِّغَ وراحَ يرطنُ به كلّ من يريد. وهذا يُعيدُنا إلى المربّع الأوّل الذي انطلقنا منه، ويجعلُنا ننظر في حال النُّخَب العربية من حولنا، وهي تتبّناه وترفعه وفقَ إرادة المركز، وبالأمس القريب كانت تَستفظعه وتعدُّه رجساً غير «حضاري»، فقط لأنّه موجّه ضد كيان غاصب كإسرائيل.

 

عن (الاخبار اللبنانية)