بمناسبة رحيل صاحب (الآداب) تعيد (الكلمة) هنا نشر افتتاحية عددها الأول التي تشكل مانفستو ثقافي لعصر بأكمله، وتقدم معها شهادة كاتبة سورية، تلقت خبر رحيل صاحب الآداب في مدريد، على دور (الآداب) في تكوين وعيها ورؤاها. وتشكل هذه الشهادة مع مقال المحرر عن سهيل إدريس محاولة متواضعة من (الكلمة) لرد بعض دين سهيل إدريس ومجلته الكبيرة على الثقافة العربية.

سهيل إدريس ومجلة (الآداب)

أثير محمد على

تحت أقدامي كان الرصيف يرتحل مع امتدادات الشمس، بينما عالم ذرائعي يُسقط ظلال التشيؤ واللامبالاة فوق المتروبوليس.

أفعمتني شهوة الورود البرية، تمهلت عند الناصية وانتظرت دوري:

ـ ماريا من فضلك تلك الزهرة.

غرزت بائعة الأزهار الغجرية عينيها النديتين في وجهي، وصكّ صمتها عبارة "النسيان منّة". ناولتني الزهرة الوامضة ولم تضف.

بينما كانت سويقة عباد الشمس تنسرب في عنق مزهريتي الرهيفة، تشرّبت دخيلتي السرّية أضواء بعيدة ناحلة، وارتعشت من مرقدها ذكرى لقائي الأول مع مجلة "الآداب".

لازالت حدة صوت العجوز شيرين تتناهى من سنوات طفولتي تحذرني من الاقتراب من الغرفة الطينية خلف الدارة الريفية:

ـ هناك تعشعش العقارب، من يقترب يرتحل، لا تنبشي فيها، لا تنبشي في شرك الزمن.

رغم الفضول والخوف لم أقترب من المحظور، إلا مع فتوتي الأولى، عند انتصاف عقد الثمانينات، خلال عطلاتي المدرسية التي كنت أقضيها في الضيعة. تجاوزت تطامن شيرين وعبرت بخطواتي المرتبكة باب الغرفة الطينية الخشبي، التقطت حواسي حجاب صمت مرتجف، ورائحة سنين عتيقة تشربتها العتمة الخافتة. غبت خلف الباب المنفرج ورنوت لأضلاع ضوء الضحى، وهي تتكسر فوق الكومة الورقية.

في فضاء هذا النور بدأت رحلتي مع بقايا كتب وصحف ومجلات أفراد عائلتي الكبيرة، الذين ارتحلوا واستقروا المدينة في مرحلة شبابهم الموافقة لعقد الخمسينات من القرن الماضي.

أضحت الغرفة الطينية مخبأ طقوسي السرية، وبدأت أنبش في شرك الزمن، حيث كانت الكلمات تنطلق من قمقمها محملة بأصوات بشرية، بينما موحيات شفيفة تتمظهر من كثافة الورق المادية.

بعيداً عن الأعين، كان الاختلاء مع الحبر الأحمر والأزرق في الصحافة المصورة يحفز ذهني بالغواية، وكلما غمّقت أكثر بقراءة صفحات شطآن الأحاسيس، استعارات العشق، كوى الأفكار التي تتصارع، رجوم الظلم، كاريكاتير عوالم الأنس، التجليات التاريخية... كنت أحدق في أعماقي وأنتشي وأنا أتغلب على الخوف من الخوف. تراكيب اللغة بدت لي قوافل سفر في المخيلة، ولسع عقارب الكلمات كان وخز مهمازٍ دفع جواد نفسي للانطلاق في أشواط التجربة.

هناك مقابل الروايات المتراكمة كانت أعداد مجلة (الآداب) تستقر في ركن الغرفة القصي إلى جوار أعداد من مجلات (الهلال)، (المضحك المبكي)، (الحديث)، (الأديب)، (شعر)... وفوقها تركت الصفحات التي خطها جدي من سينيّة البحتري. لاحقاً عرفت في مجلة "الآداب" مرجعية كثير من الأفكار والقيم الأخلاقية والمثل المعرفية التي ربّيت عليها في مناخ عائلتي الصغيرة في دمشق... أفكار وقيم جيل عربي ساهمت هذه المجلة في تشكيله والحوار معه.

قبل خمس سنوات من صدور العدد الأول من "الآداب" كانت نكبة العرب في فلسطين قد أثخنت المشهد العربي بالجراح والكآبة المشؤومة. من هذا المناخ المشهدي الشاحب كانت ولادة الفعل العربي بصيغة الصيرورة: حركة الضباط الأحرار سنة 1952 في مصر، وصدور مجلة "الآداب" 1953 في بيروت. كل من "الريّس"(1) و(الآداب) خاطبا المواطن العربي من المحيط إلى الخليج العربي، ولخطابهما استمع العربي، وقرأ فيهما الأمل والتفاؤل السياسي والثقافي على التوالي.

ومن ذاكرة الثقافة العربية تنشر (الكلمة) لعدد هذا الشهر افتتاحية رئيس تحرير (الآداب)، وهو يطلق مجلته للنور، في شهر كانون الثاني 1953، ومعها نصغي معاً لصوته وراء السطور.

لسهيل ادريس، حيث يرقد ملتزماً صمت الكلمة، زهرة عباد شمس. 

الآداب
مجلة شهرية تعني بشؤون الفكر
تصدر عن دار العلم للملايين ـ بيروت
المدير المسؤول: بهيج عثمان
رئيس التحرير: الدكتور سهيل ادريس
العدد الأول، كانون الثاني 1953
 

في هذا المنعطف الخطير من منعطفات التاريخ العربي الحديث، ينمو شعور أوساط الشباب العربي المثقف بالحاجة إلى مجلة أدبية تحمل رسالة واعيةً حقاً. وصدور "الآداب" منبثقٌ عن وعي هذه الحاجة الحيوية. أما تلك الرسالة التي تحملها، فتقوم على الأسس الكبرى التالية: تؤمن المجلة بأنّ الأدب نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة: هي غاية الأدب الفعّال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به. والوضع الحالي للبلاد العربية يفرض على كل وطنيّ أن يجنّد جهوده للعمل، في ميدانه الخاص، من أجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري. ولكي يكون الأدب صادقاً، ينبغي له ألا يكون بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه. 

رسالة الآداب
وهدف المجلة الرئيسي أن تكون ميداناً لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم، ويُعدّون شاهداً على هذا العصر: فيما هم يعكسون حاجات المجتمع العربي، ويعبّرون عن شواغله، يشقون الطريق أمام المصلحين، لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل المجدية. وعلى هذا، فإنّ الأدب الذي تدعو إليه المجلة وتشجّعه، هو أدب "الالتزام" الذي ينبع من المجتمع العربيّ ويصبّ فيه.

والمجلة، إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعّال، تحمل رسالة قوميّةً مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على الأيام أن يخلقوا جيلاً واعياً من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم، ويكوّنون نواة الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلة، بواسطة كتّابها وقرائها، في العمل القومي العظيم، الذي هو الواجب الأكبر على كلّ وطنيّ.

على أنّ مفهوم هذا الأدب القوميّ سيكون من السعة والشمول حتى ليتّصل اتصالاً مباشراً بالأدب الإنساني العام، ما دام يعمل على ردّ الاعتبار الإنساني لكل وطني، وعلى الدعوة إلى توفير العدالة الاجتماعية له، وتحريره من العبوديات الماديّة والفكرية، وهذه غاية الإنسانية البعيدة. وهكذا تُسهِم المجلة في خلق الأدب الإنساني الذي يتسع ويتناول القضية الحضارية كاملة، وهذا الأدب الإنساني هو المرحلة الأخيرة التي تنشدها الآداب العالمية في تطوّرها.

وفي المنهج العامّ للمجلة أن تعمل على إخراج كثير من الأقلام المبدعة التي تؤثر الصمت والاختفاء على الظهور في نشرات هزيلة لا تعطي فكرة جيّدة عن الأدب العربي الحديث. والمجلة إذ تُخرج هذه الأقلام من عزلتها، تتيح لأصحابها أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم، فيحاولون الابداع ويُغنوا الأدب العربي بنتاج جديد.

وفي هذا النطاق كذلك، ستعمل المجلة على إبراز حيوية الأدب العربي الحديث وخصبه وغناه، إذ ستشجّع الألوان المحلية والطابع الخاصّ لكل أدب، ستضمّ صفحاتها نتاج أقلام تعتقد أنها تعبّر بصدق وإخلاص عن خصائص الأدب في بلادها.

ومن أهداف المجلة أن تثير من القضايا الفكرية ما يُحي الحركة الأدبية الهامدة في البلاد العربية ويفسح المجال واسعاً للمناقشات والمطارحات والمعارك القلمية. ولابدّ من أن يكون لهذه الحركة أثرٌ بعيد في الإقبال على الكتابة والقراءة كلتيهما. وهذا النشاط جميعه جديرٌ به أن يعطي الأجنبي فكرة صحيحة عن الأدب العربي الحديث ومشاركته في الحركة الأدبية العالمية. والواقع أن النتاج العربي المعاصر يكاد يكون مجهولاً في الأواسط الأجنبية؛ ومردّ ذلك قبل كل شيئ إلى فقدان مجلة أدبية راقية تستعرض النشاط الفكري في البلاد العربية وتفسح المجال للأقلام القوية.

وكما ستحاول "الآداب" أن تعطي الأواسط الأدبية الأجنبية صورة صادقة عن نشاط العرب الفكري، فهي ستهتمّ اهتماماً شديداً بالآداب الأجنبية، فتعطي القارئ العربي صورة واضحة عن أحدث النتاج الغربيّ، عرضاً ودرساً ونقداً، وبذلك توفر لقارئها ثقافة عامة مديدة الآفاق، ثم أنها ستتيح للأدباء والمفكرين العرب أن يتفاعل نتاجهم بالنتاج الغربي، فيكتسب قوةً وعمقاً، فيما هو يحتفظ بطابعه وخصائصه الذاتية.

وستُعنى المجلة عنايةً خاصة بالنقد الأدبي وبالقصة، فتحاول في الباب الأول أن تقوّم الآثار الأدبية، القديم منها والجديد، تقويماً موضوعياً مجرّداً يضع كل كتاب في موضعه الصحيح، دون ما اعتبار لأحكام سابقة لم تُملها غالباً إلا رغبة متغرّضة في التقريظ أو في التجريح. وسوف تشجّع في هذا الباب أيضاً جميع ألوان النقد الذاتي. أما في باب القصة فستفسح المجال واسعاً للجيل الجديد من أدباء الشباب الذين يستلهمون واقع مجتمعهم ويصوّرون عصرهم خير تصوير.

بهذا كله، سيتاح "للآداب" أن تكون مرجعاً مهما من مراجع الأدب العربي الحديث يستشيره كلُّ من رغب في الاطلاع على النشاط الفكري العربي، ولا سيما المستشرقون الذين لا تنقطع شكواهم من فقدان المراجع التي تمكنهم من دراسة الأدب العربي المعاصر. وسوف تنشر المجلة في كل عدد من أعدادها دراسات واسعة عن الاتجاهات الحديثة في أدب الكتّاب العرب، في جميع ألوان نتاجهم، وستعهد بهذه الدراسات إلى متخصّصين ينتمون إلى مختلف البلاد العربية.

بتلك الرسالة، وبهذا المنهج، تتقدّم "الآداب" إلى قرائها، آملة أن تجد عندهم التشجيع الذي يُمكنها من متابعة حمل رسالتها وتحقيق منهجها.

سهيل ادريس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- جمال عبدالناصر