رسالة العراق

خمس سنوات من الاحتلال .. من الوجع العراقي

فاروق يوسف/ علاء اللامي/ منذر الأعظمي
 

بمناسبة مرور خمس سنوات على احتلال العراق، نقدم هنا هذه المقالات الثلاث التي تسطر كل منها بطريقتها الخاصة بعض تجليات الوجع العراقي/ أم تراه الوجع العربي في زمن التردي والانهيار؟

(I)

بغداد الجنة تحت أقدامهن:

ماذا عن الأمهات اللواتي انتظرن طويلا؟

فاروق يوسف


    إلي أمي

(1)
أبدأ من حيث انتهوا: لم تحتل أمريكا العراق وحده، بل احتلت العراقيين أيضا. يتساوي في ذلك المقاوم والمتعاون، الرافض والمتصالح، رجل المبدأ والانتهازي. لقد وجد الجميع في الاحتلال ذريعة وجود. وهناك نفر صريح في انحطاطه وجد في ذلك الاحتلال ذريعة عيش. وإذا ما كان الاحتلال ليس غاية في حد ذاته، كذلك فان مقاومته و خدمته ليستا غايتين منفصلتين عما سبقهما وعما يحيط بهما وعما تسعيان إليه. مقاومة الاحتلال هي الأخري تنطوي علي منفعة. مثلها مثل عبادة الخالق. في الحرية هنالك شيء من الليل، ولكن هل للعبودية نهارها؟ أعتقد أن الكثير من الردح الذي مورس من قبل المتعاونين مع المحتل من مثقفي الشتات العراقي يحتمل تأويلا من هذا النوع. لقد تعبنا من المنافي، وحان موعد عودتنا إلي الوطن يقول لك أحدهم فيما يكشف استقواؤه ببطش أكبر قوة عسكرية في العالم عن نفاقه. وعلي الرغم من أن المنافي لا تصنع أوطانا وأن فكرة الوطن البديل هي واحدة من أكبر الأكاذيب فان سلوك المتعاونين من المنفيين السابقين مع المحتل يكشف عن عجزهم عن تخيل العراق وطنا محتملا، ذلك لأنهم ذهبوا إليه هذه المرة باعتبارهم موظفين وخدما في ماكنة الاحتلال ليس إلا ولم يعودوا إلي العراق في صفتهم مواطنين. ما يؤكد ذلك أن الواحد منهم ما أن ينتهي عقده المبرم مع سلطة الاحتلال أو من يمثلها حتي يعود إلي مكان إقامته في الخارج، بل ان معظمهم ذهب إلي العراق ليمارس وظيفته وحده تاركا عائلته في مكانها، بعيدا عن تلك الأرض الخطرة. ناهيك عن البعض ممن صار يمارس وظيفته في خدمة المحتل من مكان إقامته في الخارج، حيث مراكز البحوث والمنتديات الثقافية وسواها من الواجهات التي ينفق عليها المحتل نفسه. عراقيون يعملون بعقود في بقعة من الأرض شاءت الصدف أن يكون اسمها العراق مثلما يفعل بالضبط الكندي أو النرويجي أو الهندي حين يذهب إلي العمل في دبي علي سبيل المثال، من غير أن ننسي الإشارة إلي أن هناك اختلافاً بين الحالتين: فالأجنبي الذي يذهب إلي دبي إنما يضع خبرته في خدمة الإماراتيين (ولو من خلال الشركة الأجنبية التي يعمل فيها)، أما العراقي الذي يذهب إلي العراق متعاقدا مع المحتل فانه يضع خبرته في خدمة المحتل ضد السكان الأصليين، الذين تشاء الصدف أن يكونوا أهله.

(2)
لم نجد بغداد يقول لك. بغداد هذه لا نعرفها يضيف. عن أي بغداد يتحدث هذا الشخص الذي أتي من أجل أن يري بغداد محتلة، مهانة ومستباحة؟ حدود الكلام ضيقة. فبغداد التي نعرفها والتي يعرفها الآخرون لم تعد موجودة منذ زمن بعيد. فالمدينة التي فرض عليها حصار أسطوري يذكر بأزمنة عاشتها البشرية في ظل خيال وحشي انقرضت أجزاء كثيرة من روحها، وتدهورت قدرتها علي أن تنتج الجمال، أن تتماهي مع الحب، أن تقف بأبهة علي الحافات بسبب ذلك الحصار الذي التهم أكثر من نصف مليون من أطفالها وسلم الملايين من أبنائها إلي الفاقة والعوز والحرمان. ولكن هناك ضعة لا يمكن إغفالها في ذلك السؤال الذي يبحث عن بغداد كما لو أنها مدينة مفتوحة. فبغداد التي سلمها الحصار إلي الاحتلال لا بد أن تكون مدينة أخري. مدينة لا تقيم علي السطح مثلما كانت تفعل دائما بغنج في استقبال زوارها. لقد مضي ذلك العهد بعد أن سقطت عليها أطنان القنابل وبعد أن تعهدت القوي الدولية بإعادتها إلي العصور الحجرية. ولأن بغداد ليست مدينة مسالمة خنوعا وإلا ما سميت بمدينة السلام (حيث تسمي العرب الأعمي بصيرا)، فانها لم تكن موجودة في استقبال قتلتها ومرشديهم وخدمهم. لقد اختفت بغداد. المدينة التي شيدها المنصور وأعزها الرشيد بلمعان ذهبه وقربها المأمون من بابل غريمتها بالحكمة. بغداد الأخري التي ما أنتظرها أحد لن تقف هي الأخري في انتظار أحد. كانوا يبحثون عن الروح فيما كانت أيديهم تنهش الجسد. أوقعتهم بغداد في فخها إذن. وإذا ما كان المحتل لا يفكر إلا بالاستيلاء علي جسد بغداد فإن خدمه كانوا يحلمون بالقبض علي روح تلك المدينة الغامضة التي صانت شرفها في أكثر الأزمان حلكة. لقد اكتشفوا أن لا فائدة من البحث عن أمهاتهم وطفولاتهم ودفاترهم المدرسية والمقاهي التي تركوا علي مناضدها أكواب الشاي ساخنة والأسواق التي يتنشق فيها المرء عطر البركة ما دامت المدينة كلها قد أدارت لهم ظهرها. ولكن بدلا من الاعتراف بخيانتهم توهموا أن بغداد خانتهم. وكانوا محقين في ذلك. لذلك أفتي أحدهم بان يكون الاحتلال أبديا لئلا تسفك مزيد من الدماء بسبب الاحتقان الطائفي في المدينة التي لم تكن قبل قدومهم تعرف معني الطائفية أو العنصرية العرقية. لقد عشت جزءاً من طفولتي وصباي في حي يسمي بـ (حي الأكراد) ولم أشهد يوما ما علامة تشير إلي شعور بالتمييز العنصري. لم تكن هناك مسافة تفصلني عن صديقي الكردي إلا لغة أمه التي كانت توحي له بالابتسام. وكما أري فان واحدة من أعظم جرائم المثقفين الموالين للاحتلال تكمن في قبولهم بمبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية. في هذه النقطة بالذات يكون العراق قد انتهي ولم يعد الحديث عن بغداد إلا مجرد لغو فائض.

(3)
لم تكن بغداد عاصمة سياسية لعراق يمكن أن يعهد بفعالياته إلي مدن أخري. كانت بغداد هي العراق كله دائما. وإذا ما كان النظام السابق قد أظهر عجزا لافتا في الدفاع عن بغداد في وجه الغزو الأمريكي فلأنه لم يشأ التعرف علي بغداد جيدا من قبل. كانت بغداد تخيفه وهو القادم من صحراء لم تعنه علي التعرف علي متاهة أخري. لغز بغداد يكمن في أنها كانت حاضنة العراق. معني العراق يقيم في ثنيات هذه المدينة الساحرة، المركبة مثل اسمها، العصية علي الفهم، الفارة من كل محاولة استيلاء. وإذا ما كان جنود الاحتلال قد عادوا إلي بلدانهم بأحجار تذكر بحضارة وادي الرافدين فان العملاء لن يتركوا إرثا لأولادهم سوي شعور غامض بالخيبة. سقط العراق كله تحت الاحتلال غير أننا لم نعثر علي مدينة كان اسمها بغداد. لقد اختفت تلك المدينة إلي الأبد، كما لو أنها لم تكن موجودة، هل عشنا فيها حقا؟ يا له من عقاب عبقري تخترعه مدينة لمن يخونها من أبنائها. ليت المدن تفعل ذلك دائما. كانت خطوط جواد سليم تتنزه في جسد البغدادي كما لو أن ذلك الجسد خارطة للكون فيما كانت أغاني رضا علي تستفز ذلك الجسد لكي يكون الآخر الذي يتحدي التغيرات. رئة العراق وفكرته عن العالم بغداد كانت. الجنة تحت قدميها. ليست بلدا بل فضاء تعبير غادره ابن زريق متيما ليمسك به أبو حيان شقيا بعبقرية ألوهيته. ما لم يكن يفكر به خدم المحتل أن بغداد التي تشوقوا لرؤيتها وجاؤوا إليها أخيرا في صفتهم خدما لمحتلها هي مدينة أخري. مدينة يحق لها أن تقول: لا في اللحظة التي تكون فيها الـ نعم نوعا من العدم. لقد انتهت بغداد إلي أن تكون موجودة لا في صفتها مدينة أحلام بل في صفتها أشلاء مدينة، تكون مدهشا لو استطعت الخروج من متاهتها. بغداد هي متاهتنا. ولكن ماذا عن الأمهات اللواتي انتظرن طويلا؟

 شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد

(II)

مجزرة العقل العراقي


علاء اللامي

مرعبة هي الأرقام والمعطيات الجنائية التي كشفت عنها وزارة الداخلية العراقية، مطلع الشهر الجاري، مارس/ آذار 2008، بخصوص ظاهرة اغتيال وخطف العلماء وذوي الكفاءات العراقيين. بل هي خرافية إن شئنا الدقة! برزت هذه الظاهرة منذ اليوم الأول للاحتلال، ثم اتسعت بشكل مذهل مخلّفة آلاف القتلي والفارين، لدرجة أضحي معها من النادر العثور علي أستاذ جامعي أو طبيب متخصص أو باحث في أغلب المحافظات العراقية، بل في العاصمة بغداد.

تزعم وزارة الداخلية أن عدد المعتقلين المتّهمين بالتورّط في قتل وخطف ذوي الكفاءات والعلماء بلغ ثمانية آلاف متهم، بعضهم منتظم في جماعات قتل متخصصة، وأن عدد الأحكام بالإعدام الصادرة بحق أعداد منهم بلغ 600 حكم، فيما أطلق سراح عدد مماثل ممن لم تثبت عليهم التهم، وحكم بالسجن المؤبد علي ألفي متهم. وضمن نهجها البوليسي السطحي، الهادف لتمييع وتشويه حقيقة ما يحدث، وللتغطية علي الأسباب الحقيقية والقتلة الحقيقيين، قدمت الوزارة أحد الأمثلة علي أولئك المجرمين، وهو شخص يدعي محمد عادل علوان حسين القيسي من سكان منطقة الأعظمية إلي الجمهور زاعمة انه قتل وحده ما لا يقل عن 60 شخصية علمية وفكرية وإنسانية، بينهم الدكتور جاسم محمد الذهب عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد وابنه محمد وزوجته مني فاضل إبراهيم، فضلاً عن اعترافه خلال جلسات التحقيق معه بقتل الدكتور صباح خلف صخيل معاون عميد كلية التربية الأساسية في جامعة المستنصرية مع سائقه فارس غيدان حسين.

تثير هذه الأرقام الحكومية، التي وصفناها بالخرافية، العديد من الأسئلة التي لن يجرؤ وزير الداخلية علي الإجابة عنها، ومنها:

ـ إذا كان عدد المدانين والمحكومين بالإعدام والمؤبد 2600 مدان، وإذا كان مجرم واحد من هؤلاء قتل ستين عالماً وأستاذاً، فكم هو العدد الحقيقي أو التقريبي للعلماء وذوي الكفاءات القتلي والجرحي والمختطفين؟

ـ وهل يعقل أن تتمكن هذه الظاهرة الدموية من المجتمع العراقي إلي هذا الحد في صمت وسرية وعدم اكتراث، أم أن هذا المجتمع، الذي تعيش وتنشط فيه وزارة السيد البولاني، هو مجتمع مريض مؤلف في جملته من مجرمين وقتلة محترفين، علي شاكلة المجتمع الامريكي الذي أسسه المهاجرون الأوروبيون البيض حين كان ثمن الإنسان أرخص من رصاصة تطلق من مسدس رجل الكاوبوي؟

ـ لماذا يجري إهمال الأدلة والمعلومات الكثيرة التي قدمها ذوو الضحايا والجهات المدنية المستقلة، ولماذا تهمّش وتُقصي الآراء ووجهات النظر والاتهامات الموثّقة التي قدمها علماء وأساتذة نجوا من الموت، والتي تتهم أطرافاً لم تأتِ الداخلية العراقية علي ذكرها، كالموساد الإسرائيلي، ومخابرات دولة الاحتلال، والميليشيات المحلية الطائفية المرتبطة بمخابرات دول إقليمية مجاورة للعراق، فيما يجري التركيز دائماً علي تورط تنظيم القاعدة التكفيري في هذه المقتلة الفظيعة كطرف رئيسي (وهو لا يمكن تبرئته تماماً بحجة أنه دخل في مرحلة الكسوف الحركي والنبذ الاجتماعي حالياً)، إضافة إلي أعداد كبيرة من مجرمين جنائيين عاديين نبتوا كالفطر؟

ـ لماذا تستمر هذه الظاهرة بالانتشار، رغم الفتوحات الأمنية والقضائية البطولية التي تزعم الحكومة القيام بها، تستمر حاصدة المزيد من الضحايا ومهددة مستقبل العراق العلمي والحضاري؟

لقد أشارت جهات اعتبارية، وأقلام مستقلة عديدة، صراحة أو ضمناً، إلي تورط إسرائيل، وأيضاً إيران في هذه المذبحة التي تستهدف العقل العراقي، فيما تحدثت أطراف أخري بلغة مواربة يحتمها واقع الحال المأساوي. فقد قالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة بغداد سناء الداغستاني إن هناك جماعات تعمل بأجندات قد تكون مدعومة من جهات دولية لا تريد للعراق أن يستقر ويواصل مسيرته في العلم والبناء، مشيرةً إلي أنها تقف وراء حوادث استهداف الأساتذة والأكاديميين علي اختلاف تخصصاتهم العلمية والفنية. كما وجهت أطراف أخري الاتهام إلي جهات معارضة للحكم القائم حالياً، وتحمل السلاح ضده كحزب البعث، بالتورط في اغتيال عدد من العلماء والأساتذة الذين شاركوا في الانتخابات المهنية والنقابية خلال عهد الاحتلال بوصفهم خونة أو مرتدّين، وخصوصاً من متخرّجي الجامعات البريطانية والأمريكية، كما يقول أستاذ جامعي من المؤيدين للحكم القائم حالياً. وللإنصاف، يمكن اعتبار الاتهام الأخير ـ حتي في حال صدقيته ـ اتهاماً جزئياً وقد يكون كيدياً ولا يفسر الظاهرة بكاملها، لأنه لا يخلو من البواعث الحزبية والذاتية لمن أطلقه. كما تحدثت منظمات غير حكومية منها مثلاً منظمة عراقيون في تقريرها السنوي عن تصفية أكثر من 3200 عالم عراقي في مجالات واختصاصات مختلفة علي يد جماعات تستغل تردي الوضع الأمني في البلاد لتنفيذ مخططاتها، ويمكن اعتبار هذا الرقم للضحايا متواضعاً جداً، إذا ما أخذنا بالحسبان الأرقام الألفية السابقة الذكر لوزارة الداخلية.

هذه المعطيات والأسئلة والحيثيات، لا وجود لها في ذهن الناطقين الإعلاميين بلسان الداخلية العراقية التي تريد تبليع الجمهور قصصاً غرائبية من طراز ألف ليلة وليلة عن مجرم هاجم جزيرة الواق واق وقتل ستين عالماً بمفرده (ودون مساعدة من الجنيّ الراقد في مصباح علاء الدين!) وعن مئات الأحكام بالإعدام وآلاف الأحكام بالسجن المؤبد أصدرها مولاهم السلطان فيما البلد يتصحر ويفقد علماءه كل أسبوع وكل يوم بل وكل ساعة. وأخيراً، فإذا كان صحيحاً ومثيراً للأسي القول إنه ليس بالوسع القيام بالكثير الحاسم لخرق سقف الزيف والتزييف وتدليس الأدلة وحجب الحقائق، في بلد محتل من قبل أعتي قوة عسكرية شهدها تاريخ البشرية، ويدار بواسطة شركة محلية حكومة قائمة علي أقذر أنواع المحاصصة الرجعية المنافية للتاريخ، فإن من العدل تماماً أن نكرر مع صحافي عراقي كتب قائلاً إن أقل ما نقدمه إلي الرجال والنساء الذين حرموا حياتهم بسبب نهضتهم بالتقدم العلمي والتقني للوطن هو أن نلاحق قتلتهم إلي آخر زاوية من زوايا الأرض، وأن نلح علي المطالبة بحقنا في متابعة أصغر تفاصيل الأمر.

كاتب من العراق

(III)

مؤشرات حرب الاستنزاف في العراق


منذر الأعظمي

رغم الشكوك حول المناخ الاعلامي الأمريكي الراهن والترويج لمؤشرات النجاح في العراق، لا تزال الصحافة ومراكز البحوث الأمريكية مصدرا مهما لاستقراء الأوضاع ككل، اذا ما نظر اليها مع ما يلتقطه المرء من مصادر عراقية محلية معايشة للأحداث آنيا. والاستقراء لا يعني تلقي المعلومة بل البحث في ضمنياتها وتبعاتها. وهو أمر يتعلمه منذ الصغر كل من ينشأ تحت القمع أو الاحتلال، حتي بدون تدريب أو تعليم، كأغلب العراقيين، فيقرأ ما بين السطور، ويشكك، ويمحص في ما يذاع.

لنأخذ كمثال التقرير المنشور في صحيفة الهيرالد تربيون يوم 22 آذار (مارس) الجاري عن الضباط الأمريكيين وأدوارهم المحلية في العراق. أحد الضباط الذين يشير اليهم التقرير مسؤول عن منطقة جسر ديالي في جنوب شرق بغداد، البالغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، وتبلغ ميزانية الضابط لهذه المنطقة وحدها مليون دولار شهريا، معتمدا علي رؤساء العشائر وجماعة أبناء العراق المسلحة المحلية. وتطبق ترتيبات مشابهة في أغلب المناطق حيث نجح المحتل في العمل مع جماعات محلية كانت تقاتله سابقا، وباتت الآن مدعومة من قبله للعمل باسم مجالس الصحوة أو الاسناد، بعيدا عن الحكومة والمجالس المحلية.

فلو اعتبرنا هذه الحالة نموذجا للعراق، عموما، لاستنتجنا بضعة أمور جوهرية. فلو تحدثنا عن 100 الي 150 منطقة مماثلة تشمل العراق كله، يديرها ضباط شبان يتمتعون بسلطات مطلقة، كما يبدو، سنتحدث عن ميزانية تتراوح ما بين المليار الي الملياري دولار سنويا. هذه أرقام تقترب من ميزانية العراق ككل في فترة الحصار، أو من تكلفة كل موظفي الحكومة العراقية الحالية، أو من مجموع ما استطاعت الحكومة العراقية الحالية صرفه رسميا علي اعادة الاعمار في عام 2007 كله بصرف النظر عن السرقات والاهدار. وبالتالي فقد عاد الوضع الي ما كان عليه في أول شهور الاحتلال وقبل لعبة الحكومة والسيادة والانتخابات، اي الي حالة تجوال عشرات من الضباط الأمريكيين، كل في رقعته، وهم يحملون معهم حقائب من الدولارات للتوزيع الفوري حسب هواهم. ويسمي التقرير الضباط المعنيين مالكي الأرض. بالاضافة الي امتلاك كل مستشار امريكي وزارة أو مديرية حكومية، وفرق التوجيه تدير أو تشرف أيضا علي كل قطعة عسكرية وأمنية، ثم هناك القوات النظامية الأمريكية وحليفاتها الباهظة الثمن، وتكنولوجياتها وأقمارها الصناعية، وحاملات طائراتها... الخ. وهذا هو سبب التكاليف الباهظة والاستنزاف.

غير ان هناك استنزافا أكبر وأبعد مدي. فقد كان عنوان التقرير الجيش الأمريكي يفقد ضباطه مع استمرار حرب العراق، اشارة الي أن 8 من 10 من هؤلاء، وأغلبهم لا يزال في مقتبل العمر، يتركون الخدمة بعد انتهاء دورتهم في العراق. لأسباب عديدة من بينها خطورة الوضع وكون خبرتهم العملية الادارية تؤهلهم للعمل في الشركات الخاصة بدلا من الخدمة في الجيش.

ويجدر بنا الانتباه هنا الي استخدام تعبير حرب العراق في عنوان الهيرالد تربيون. فالعالم يعترف أن الحرب التي بدأت بالغزو عام 2003، لم تنته. وبالنسبة لنا تحول الاحتلال بفعل المقاومة العراقية الي حرب تحرير وطنية بدت للبعض في عام 2007 قريبة من حسم عسكري مماثل للنموذج الفيتنامي أو الجزائري، ثم اتخذت صيغة حرب الاستنزاف، بطابع متميز من المد والجزر وما تتكشف عنه، في كل حين، من تحولات سياسية.

يأتي الاستنزاف من جانب الولايات المتحدة، لأنها مع فشلها المريع في العراق غير قادرة علي التخلي عن خزان النفط العراقي الا عبر تعرجات مديدة، أو عبر تحولات اقليمية ودولية جوهرية، ومن ضمنها استعدادها لاجراء صفقات محلية معقدة. وقد لا يتغير الوضع حتي يتم تغيير الادارة الأمريكية وازاحة اليمين المتطرف تماما. ذلك لأن أية ادارة أمريكية مقبلة ستحاول بكل جهد الحفاظ علي محط قدم في العراق، بعد أن أصبحت تقديرات التكلفة المترتبة علي احتلاله ثلاثة تريليون دولار أو أكثر حسب تقديرات المستشار الاقتصادي الأمريكي ستغليتز، أي أكثر من ميزانية عام كامل للحكومة الأمريكية الفدرالية كلها، وحوالي عشرة أمثال معدل العجز السنوي الأمريكي للسنين الأخيرة. وبالتالي فقد نشهد في العراق انعطافات وتوازنات وتحالفات معقدة، وفترات من ازدواجية الهيمنة، بين المقاومة والاحتلال، وبين الاحتلال والمليشيات المدعومة من ايران، وثلاثيا بينها، قبل أن ينجلي الموقف.

ان الاستنزاف العسكري للولايات المتحدة في العراق له جانب سياسي ومعنوي في عامه الخامس. لأن تاريخ الاحتلالات يشير الي أن فشل القوة الساحقة في السنين الثلاثة الأولي لا يمكن تعويضه. ويجدر بنا التأكيد هنا علي أن تناقص عدد القتلي الأمريكيين الي الثلث في عام 2007، من معدل 110 في الشهر في الربع الثاني من العام الي 33 في الشهر في الربع الأخير، ليس مقياسا دقيقا لتراجع المقاومة اذا أخذنا بنظر الاعتبار أمرين مهمين: الأول أن نسبة الجرحي الي القتلي تتزايد باستمرار. فقد كانت هذه النسبة في الحروب الأمريكية قد ارتفعت من 4:1 أثناء حرب فيتنام الي 1:8 في بداية الحرب في العراق، وهو الرقم الذي لا يزال معلنا رسميا، ثم الي 1:15 فعليا في الوقت الحاضر، أي بمعدل 15 جريحا لكل قتيل، مع ما يترتب عليه من التكاليف الباهظة لانقاذ المرضي ثم رعاية الكثيرين منهم مدي الحياة.

وهذا يعني أن عدد الاصابات الكلية التي تشمل القتلي والجرحي سوية، لم تنخفض بالنسبة الدراماتيكية التي تظهرها أرقام القتلي المعلنة. والأمر الثاني هو ازدياد خصخصة الحرب، أي الاعتماد علي الشركات العسكرية والمرتزقة المتعاقدين وشركات الحماية الذين لم تعد أرقام خسائرهم تذكر منذ فترة، ثم اختفت مؤخرا، علي الرغم من أن عددهم ي قارب الأعداد الفاعلة في القوات النظامية الأجنبية، وتمويلهم أضعاف تمويل تلك القوات كمعدل للفرد الواحد، و حصانتهم أكثرمن الجنود الأمريكين. ويقومون بتنفيذ مهماتهم بسرية كاملة وتحركاتهم متكاملة مع عسكريي الاحتلال.

أما في الجانب العراقي وتحوله الي مفهوم الاستنزاف، فمن الملاحظ النضج والواقعية التي يبديها العديد من قوي المقاومة العراقية في تقييم مسيرة التحرير العراقية. فلقد تجنبوا، غالبا، المكابرة او التعامي عما أصاب الجسد الاجتماعي العراقي من تصدع طائفي وعرقي منذ العام الثالث للاحتلال. وعلي الرغم من تركيزهم علي أن السبب الأساسي هو سياسات الاحتلال المدروسة والشراسة الاقصائية والاستحواذية لعملائه الطائفيين المحليين، فقد نبهوا، ايضا، الي مسؤولية أخري تقع علي عاتق قوي تكفيرية متطرفة مقاومة مهما كانت ضآلة نسبتها ضمن مجموع المقاومة المسلحة العراقية، وهي قوي أما مخترقة، ويتم استخدامها كأداة من قبل جهات تقوم بتجنيدها وتمويلها وفق أهداف الاحتلال أو قوي أخري اقليمية أو عراقية، أو أنها جماعات ضالة يسودها الجهل وأخذت بأساليب الثأر وتأجيج الصراعات المحلية والعشائرية وتفتيت النسيج الاجتماعي، وتتخللها الجريمة المنظمة. وتتركز الاشارة هنا الي الجهات التي اخترقت جيش المهدي وتنظيمات القاعدة في بلاد الرافدين، وهي الحالة التي تستدعي مزيجا من الحكمة والحزم الشعبيين.

ان الدلائل تشير الي تجاوز المجتمع العراقي فترة مؤلمة من التصدع وسيادة الجريمة، والي وضوح الجانب السياسي من الصراعات، وتمحورها حول الموقف من الاحتلال ومشاريع الاحتلال كالتقسيم والاتفاقات العسكرية والنفطية عبر الطوائف والأعراق، وخوض هذا الصراع في كل منطقة وموقع. قد لا يعوض ذلك عن استمرار بؤس الملايين من المهجرين وتزايد المرض وانهيارالخدمات، الا انه، علي الأقل، سيفسح المجال أمام نضوج تدريجي للمشروع العراقي الوطني ضمن منظور حرب استنزاف معقدة، قد تتحمل التغييرات السريعة في ظروف عالمية واقليمية مؤاتية، أو قد تطول وتستدعي منا مرونة وقدرة أكبر علي الصبر والصمود.

أكاديمي من العراق مقيم في بريطانيا