هذا لقاء مع الكاتبة التركية أليف شفق، التي استطاعت أن تشق طريقها بثبات وان تنزع لنفسها مكانا بارزا في المشهدِ الأدبيِ التركيِ المُعاصرِ. بعد أن ترجمت أعمالها على نحو واسع، ونالت مديح النقاد وإعجاب القراء في أماكن كثيرة من العالم. بعدما وقفت بثبات في وجه الأعاصير التي هبت في وجهها بعد نشر روايتها الأخيرة (وغد اسطنبول) حيث اتهمت بإهانة القومية التركية لأن شخوص روايتها تحدثوا عن معاناة الأقلية الأرمنية بتركيا ولأنها كتبت هذه الرواية باللغة الانجليزية! ومما زاد من سخط القوميين عليها هو أنها لا تتوانى في أدبها عن استخدام مصطلحات عربيّة وفارسيّة تم نبذها في تركيا منذ زمن ليس بالقصير.

شفق تركي في سماء الأدب

عطية صالح الأوجلي

 

الكاتبة التركية أليف شفق: 

ما نتعلمه في هذه الحياة سيكون من أناس يختلفون عنا.
لا نريد أبطالَ لكننا نريد مجتمع لا يحتاج إلى أبطال.
الكاتب مثل المتصوف عليه أن يُجاهدُ ليتَجَاوُز حدودِ النفسِ.
المؤسسة الأدبية الغربية تُريدُ منا أَنْ نروى لهم قصص شرقية. 

قوة الهشاشة
لا تدع المظاهر تخدعك. فهذه المرآة التي تبدو هشة هي القوة بعينها. هذا ما قاله الكاتب الهندي "رانجا راجان" وهو يصف لقائه بالكاتبة التركية أليف شفق، وهو بالتأكيد ما أحسست به وأنا أطالع سيرة هذه الكاتبة. رأيت كيف استطاعت رغم حداثة عمرها الأدبي أن تشق طريقها بثبات وان تنزع لنفسها مكانا بارزا في المشهدِ الأدبيِ التركيِ المُعاصرِ. وعلمت كيف أن أعمالها تُرجمَت على نحو واسع، ونالت مديح النقاد وإعجاب القراء في أماكن كثيرة من العالم. وقرأت كيف وقفت هذه الشابة بثبات في وجه الأعاصير التي هبت في وجهها بعد نشر روايتها الأخيرة (وغد اسطنبول) حيث اتهمت بإهانة القومية التركية لأن شخوص روايتها تحدثوا عن معاناة الأقلية الأرمنية بتركيا ولأنها كتبت هذه الرواية باللغة الانجليزية.....!! ومما زاد من سخط القوميين عليها هو أنها لا تتوانى في أدبها عن استخدام مصطلحات عربيّة وفارسيّة تم نبذها في تركيا منذ زمن ليس بالقصير.

ولدت أليف خارج تركيا في مدينة "ستراسبورغ" بفرنسا عام 1971 وقضت طفولتها وصباها متنقلة بين مدريد وعمان وكولونيا حيث كانت تعيش مع أمها الدبلوماسية الشابة. عادت إلى تركيا لتكتب أول رواياتها (الصوفي) لتنال جائزة الجمعية المولوية الأدبية في عام 1998، والتي تمنح لأفضل نص يتناول الأدب الصوفي في تركيا، وكان عمرها آنذاك لم يتجاوز السبعة والعشرين عاما. هاجرت إلى الولايات المتحدة لتواصل دراستها ثم لتعمل كأستاذة محاضرة في مادة الدراسات والأجناس بجامعة أريزونا. كتبت ثماني روايات، ستة منها باللغة التركية واثنتان باللغة الانجليزية. وتحمل شفق شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية وقامت بالتدريس في الجامعات التركية والأمريكية. ألقت العديد من المحاضرات في التاريخ والسياسة والفلسفة وكانت غالبا ما تطرح على طلابها القضايا المتعلق بالهوية والذاكرة، الأدب والمنفى، والتنوع الثقافي. ساهمت في الكتابة الصحفية والوثائقية المرئية. أجرى الكاتب والصحفي الهندي رانجا راجان المقابلة التالية معها:

الكاتب كبدوي
رانجا:
تحدثت كثيراً على 'الازدواجية والتأرجح' خلال أعمالِكَ وحذّرَت أكثر مِنْ مرّة بأنّ على الرواية أن تتجنب الانزلاق نحو الوظيفية. فهل ترين أن أدبَكَ، بشكل ما، يصنف في خانة 'ما بعد الحداثة'، ويجافى التركيبات؟

شفق: لا أَرى أدبَي في "ما بعد الحداثة". وبصراحة، أنا لا أفضل هذه التصنيفات. حتى يومنا هذا قمت بنشر ثمانية كُتُبِ وعندما أَتأمل كتبي الآن أُدركُ كم هي مختلفة. كُلّ منها يختلف في محتواه وفي أسلوبه، لأنني كُنْتُ شخصا مختلفا عند كُلّ مرحلة. أَرى كتابتي كرحلة مفتوحة وبلا حدود. بشكل أساسي أَرى الكاتبَ كبدوي. يَعِيشُ البدوي دائما في اللحظة الراهنة ومَع القليل من الزاد والمتاع. إنّ البدوي قادر على خلق علاقات جديدة في مواطن جديدة وفوق كل شيء هو قادر على التخلي عن العديد من الأشياء القديمة. ثمة غنى روحي حزين في هذا المسعى. أعتقد أن صفات البدوي هذه يمكن لها أن تساهم في تطوير الكتابة. 

رانجا: تبدو بعض الشخصيات في روايتك (قديس الجنون الوشيك) كشخصيات وجودية ومن ناحية أخرى فأن حبك للفكر الصوفي ووولعك بالفلكلور يبدو جليا في روايتِكَ الأولى (الصوفي). ما هي وجهة النظر التي تودين تقديمها من خلال شخوصك؟

شفق: هناك نماذج متعدّدة في رواياتِي، نماذج مِنْ كُلّ الخلفياتِ. لكنهم لا يمثلون الأبطال. أنا لا أؤمن بخلق "الأبطالِ" على الورق أَو في الواقع. بريخت كان يقول "لا نريد أبطالَ لكننا نريد مجتمع لا يحتاج إلى أبطال". النماذج في رواياتي مليئة بالتناقضات. هي مثلنا تماماً. هذا مهمُ لي. أنا لا أَخلق تلك الشخصيات. بل هي تخلق ذاتها عند الكتابة. شخصيات تعاني العيوب وتعيش الأزمات. كثيرا ما تثير الشخصيات الهامشية اهتمامي أكثر من تلك التي تعيش بالمركز. كما أن الأشخاص يَشْبهونَنا، فالقرّاء، إلى حد ما، يُشاركون المؤلف في صنع الشخصيات. فهم يصنعون وجهات النظر بجعلهم لفعل القراءة تجربةِ فرديةِ وذاتيةِ. بل إنني أتجاسر وأقول إن الحدود بين القارئ والمؤلف هي حدود اصطناعية متخلية وإنه لا وجود حقيقي لها. 

رانجا: ككاتبة هل تسعين إلى شد طيفِ التجربةِ الإنسانيةِ إلى حدوده القصوى، فترحلين بالقارئ عبر كم هائل من الظروف والوقائعِ، ليعيش الشرطِ الإنسانيِ ثم تتركينه ليختار الأسلوب الذي يراه ليتفاعل مع العملِ الإبداعي. أو أن هناك قدر من الرؤى والخلفيات السياسية تتداخل وتمتزج مع العمل؟

شفق: لقد تركت لي سنوات نضالي من أجل المساواة بين الجنسين تراثا مهما وهو "أن كل ما هو شخصي هو سياسي بالضرورة" فالسياسة في كل مكان، في بيوتَنا وحتى في مطابخَنا. أنا مهتمٌّة بالسياسة والنشاط بهذا المعنى للكلمة. لكن ككاتبة لا أُريدُ للسياسةَ أَنْ تتحكم بالفَن أو بالأدب. فالفن يَحتاجُ إلى قدر كبير من الاستقلالية أو الحكم الذاتي وكذلك الأدب. فالكاتب مثل الصوفي عليه أن يُجاهد ليتَجَاوز حدود النفسِ. أنا لا أُريد لكتاباتي أن ترَسُو على هوية محددة ولنفسي أن تقبع هناك. بالأحرى أُريدُ الاستمرار بالاستكشاف. أعتقد أنه مِنْ الضروري للكُتّاب أَنْ يَكُونوا فضوليينَ وعلى استعداد دائم للاستكشاف. المشكلةَ هي أن صراع الهويات والسياسات القائمة عليها تصنع توقعات لما يمكن للكاتب أن ينتجه حسب الظروف التي يمر بها. تبدو هذه التوقعات ساذجة للوهلة الأولى ولكن عند تأملها يتضح أنها ليست بهذه الدرجة من البراءة. ككاتبة مسلمة لماذا يتوجِب علي أن أَكْتبَ فقط عن النِساءِ المسلمات؟ أَو لِماذا يجب أن تنحصر كُتّابات الكتاب الأفريقيينِ عن السودِ؟ هناك إهْمال منّا ككُتّاب، علينا نحن كتاب العالم الثالث أن نقاوم هذه القولبة... المؤسسة الأدبية الغربية تُريدُنا أَنْ نروى لهم قصصا شرقية، وأن نترك مجالات الخيال الخصب والأشكال الطليعية للفن للكتاب الغربيين البيضِ. علينا أن نتحدى تقسيم العمل هذا.  

روايات وبنايات
رانجا: لقد انتقدت علمانية الدولة التركية التي تَحجم و تقزم التعدّدية. في أماكن أخرى من العالمِ الإسلاميِ، نرى وجهات نظر يتم إقصائها بسياسة أساسها الدينَ. أنت كأستاذة أكاديميةُ، كيف تقرين الأصوليَّة وكيف ترين التعاطي مع هذه الإشكاليات ضمن سياق الارتباط بالحداثة؟

شفق: أعتقد أن الخوف من الإسلام ومعاداة الغرب هما نقيضان يغذى أحدهما الآخر. فالمتشددين في مكان ما يخلقون متشددين في مكان آخر. ما يزعجني ويقلقُني بعمق هو "الغيتو" العقلي أو العزلة الفكرية. لا يهم أن كنت تحرري تقدمّي أَو بالغ التدين طالما تحصر نفسك داخل فضاءِ منْ صنعك. الاثنان واحد. يَحصر العديد مِنْ الناسِ أنفسهم في "غيتو عقلي" ولا يُدركُون ذلك. إذا كان كُلّ من حولنا يُفكّرُ بنفس الطريقة، يَتصرّفُ مثلنا، يشبهنا. فثمة مشكلة. أعتقد أن ما نتعلمه في هذه الحياة سيكون من أناس يختلفون عنا. لذا أَجِدُ من المهم جداً زيَاْدَة قنواتِ الحوارِ والتفاعلِ بين الناسِ "المتباينينِ". 

رانجا: طاردتك النزاعات في تركيا وأثارت الكثير مِنْ الاهتمام والجدل. هَلْ تَشْعرُين بِأَنَّ نقل بؤرةِ التركيز بعيداً عن عملِكَ وتركيزها على شخصك وعلى تفاصيل النزاعات هو أمر مؤسف؟

شفق: يَحزنني أن يتركز النقاش حول "الكاتب" بدلاً مِنْ "الكتابة". أَرى رواياتَي كبنايات لها أبوابِ ومداخلِ ومخارجِ متعدّدةِ. يَدْخلُ كُلّ قارئ مِنْ باب مختلف. أحياناً قارئان يقْرآن نفس الكتابِ، يكونا داخل نفس البناية دون أن يلتقيا. القراءة عملية نشيطة بنّاءة. يُساهمُ القارئُ في خَلْق المعنى. وذلك يختلفُ من قارئ لأخر. في تركيا كُتُبي تَقْرأُ مِن قِبل مجموعة قرّاء متباينة جداً في حدودها الثقافيةَ أَو السياسيةَ. قرائي هم من كل الأنماط. هناك يساريون ِ وتحرريون. وهناك المؤمنون بمساواة الجنسينِ والمنكرون. كما يقرأها طلاب الجامعة وأصحاب المهن والصوفيون. لدي الكثير مِنْ القرّاءِ مِنْ الدوائرِ المحافظةِ، خصوصاً العديد مِنْ القارئات المتحجبات. كم أَحْب وأَعْتز بهذا التنوع.

روايات شفق
الصوفي (صدرت عام 1998 باللغة التركية، 8 طبعات).
قصر البراغيث. (صدرت عام 2002 بتركيا، وعام 2005 باللغة الانجليزية صدر منها 9 طبعات).
قديس الجنون الوشيك. (صدرت عام 2004 باللغة الانجليزية).
وغد اسطنبول. (صدرت عام 2006 باللغة الانجليزية).
النظرة (صدرت عام 2000 بتركيا، وعام 2006 باللغة الانجليزية). نالت جائزة اتحاد الكتاب الأتراك لعام 2000.
مرايا المدينة (صدرت عام 1997 باللغة التركية، 7 طبعات).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وقاص من ليبيا
Lawgali1@hotmail.com
نشرت بأويا بتاريخ 30 - 8-2008