يقدم الكاتب والروائي المصري هنا رؤيته الخاصة لرواية الكاتبة العراقية عالية ممدوح الأخيرة ساعيا إلى الكشف عما تنطوي عليه من إشكاليات حول دلالات الذكورة الضائعة.

معالجة القدر الذكوري بامتيازات الأنثى

عالية ممدوح تتشفي بالتشهي

رؤوف مسعد

(التشهي) آخر اعمال عالية ممدوح (دار الآداب، 2007) خطوة مختلفة في حركة عالية الروائية، انها هنا تعالج قدراً ذكورياً بامتياز. وحينما اقول قدر فأنا أعني هذا المعني بالدقة. فعنة الذكر أو اختفاء ذكورة الذكر تكون مثل القدر الاغريقي لا راد له! أما التشفي فهو ما عبرت عنه بصراحة اللفظ أحيانا او بالتخفي. انها أيضا رواية عن التحولات الكافكاوية... إن اعضاءنا لا تموت او تختفي، إنها ربما تتحول. التحول هذا ليس دقيقا، لكنها الكلمة الأقرب. فالتحولات الكافكاوية (التي ترجمت خطأ بالمسخ) تحولات ناجمة عن عدم التأقلم مع الحياة الإعتيادية (السخيفة والمملة) للطبقة الوسطي في بحثها الدؤوب عن موضع لقدم في هذه الدنيا الصاخبة بالتنافس الشرس. بطل (التشهي) سرمد بن برهان الدين (والذي اصبح بعد ذلك مستر برهان. برهان علي أي شيء؟!) يعمل مترجما. أي انه طبقا للكاتبة يتجسس علي الآخرين، وإنها حرفة بها غواية قد تقود الي التهلكة. الترجمة كفعل يومي للتكسب اوردته بالفعل موارد التهلكة... فهو يترجم ويأكل. يترجم جملة أو جملتين ليأكل انواع من الأطعمة الشهية (أوردتها الكاتبة بالتفصيل) لأنه يفقد همته في الترجمة بعد ايام قليلة من بدئ العمل.

إنه يواجه دائما بالسؤال التراجيدي لا شيء يطابق الأص.ل وإن ادخلت بعض التجديد. والمقصود بالأصل هنا هو النص الأصلي. تنتابني عدة اسئلة: لماذا اختارت الكاتبة مترجما لكي يكون هو الشخص الذي اختفت ذكورته؟ لماذا تربط بين العمل اليومي لبرهان وبين ادائه الجنسي الذي كان في البداية قوياً و«ذكورياً» ليضمحل تدريجيا حتى «يختفي ذكره». ولماذا ارادت ان تسعي الي تعميق معني الجنس من حيث علاقته الاساسية بالسياسة والذكورة ومن حيث علاقتها (أي الذكورة) بالسلطة وأزلامها، وتحكي عن الفقدان الأليمة للذات والحبية والوطن. (كما جاء في الغلاف الأخير للرواية) شخصيات متعددة في الرواية بعضها مهم بلعبه دوراً في القاء الضوء علي برهان، وبعضها ساهم في اختفاء ذكورة برهان. وبالتالي فنحن هنا نحاول أن ندخل مباشرة إلى لب الموضوع؛ ننأي قدر الإمكان من البحث عن أو في خريطة شخصيات الرواية. لب الموضوع هنا الذكر وذكورته.

وعالية ممدوح تريد ان تخصص هذا اللب للذكر الشرقي. لا بأس فهذا من حقها ككاتبة. لكن من حقنا أيضا ان نطرح بعض الاسئلة الاستفزازية حول الذكورة. منذ ايام كنت اشاهد بالصدفة برنامج لأوبرا ويمفري الامريكية الأشهر، وقد استضافت في برنامجها وعلي مدي اكثر من حلقتين شخصيات اطلقت عليها اصطلاح «الجنس الوسطي middle sex » وهم ما يُطلق عليه في لغتنا العربية المخنثين (وكم هي ظالمة هذه الترجمة!) لأن الاصطلاح الإنكليزي من اصل يوناني هوermaphrodite  أي مزدوج الاعضاء الجنسية. رجل فيجسد امرأة او العكس. وثمة اسطورة أغريقية تقول أن زيوس كبير الآلهة تناقش مع زوجته هيدرا حول من يستمتع جنسيا أكثر من الآخر؛ الذكر أم الأنثي، اختلفا فاحتكما الي كائن اسطوري هو "ثيلاس" وهو يجمع النقيضين في جسد واحد أنثي وذكر. بهرتني فكرة احتكام اللاهة لهذا الكائن. وبالتالي نزولهما علي حكمه وحكمته. برنامج "اوبرا" كان يناقش علانية كيف أن اشخاصا بعينهم لا يستطيعون مواصلة الحياة في الاجساد التي ولدوا بها كذكور او إناث، وإنهم بالتالي يبحثون عن اجسادهم الأخري الحقيقية المختبئة داخلهم. كان البرنامج يتحدث عن معاناتهم في مجتمع غربي ما يرفض فكرة الثنائية الجنسية. أو يرفض بشكل ما فكرة الجنس المثلي، ويعتبرها مرضاً يجب معالجته، أو معاقبة افراده كما حدث في المانيا النازية والاتحاد السوفيتي. 

فكرة ومبدأ الذكورة
وقد لاحظت ان المؤلفة استخدمت اصطلاح "ذَكًره" بدلا من القضيب مثلا, وأعرف أنها متقصدة لهذا الربط بين الذكورة وال"ذكر" اوردت ما سمعته في برنامج اوبرا لكي ادلل علي حساسية هذا الموضوع. فالمثليين جنسيا من الذكور يمتلكون "ذكورا" مثلهم مثل غير المثليين، ولكن المجتمع يعتبرهم من فاقدي الذكورة و"المرجلة" لأنهم يمارسون الأنثوية الجنسية في علاقاتهم... ولم يسال أحد من الذين يهاجمونهم "مع من يمارسون هذه المثلية الجنسية؟ اليس مع ذكور مثلهم" وبالتالي نقع هنا في مصيدة إطلاق المسميات. فإذا اطلقنا علي المثليين الأنثويين الفاظ الاستهجان فأي اصطلاحات نطلقها علي المثليين الذكوريين الذين يمارسون الجنس بشكل ذكوري مع المثليين الأنثويين؟! فمبدأ الذكورة الذي تناقشه عالية ممدوح هنا هو مبدأ اصطلح عليه "الذكور" في عالم الذكور، ومن يخرج عنه يعتبرونه "شاذا"! ولكن... بعيدا عن هذا البحث سأخذ القارئ معي في رحلة جنسية ذكورية أيضا بامتياز.. بامتياز لأن ساردتها انثي امرأة كاتبة لها باع في الكتابة وتمتلك ادواتها.

يصف برهان لحظات مضاجعته لفيونا البريطانية وهو في بغداد شاب مراهق ما يزال "تحيا فيونا التي كانت تموت وتعود ما بين ساقي ومائي فتبتكر صرخات لم اسمع بها من قبل.... انها تعيش في بقعتي العزيزة وينبغي ان لا نترجم ذلك حتي لا نفسده. ترقص وتلتهمني وأنا مغطي بالمني واللعاب.." أو "ها أنا أبجل المهبل والبظر واستحضر اسم الفرج باللهجات المحلية والعربية... فاللغة اخطر وسيط في المضاجعة" أو "كانت تجبرني علي النظر كأحد القواعد لخديعة البصر ذاته، فأصرخ بصوت كالإعصار ادخليه سالمة ادخليه بأمان باللسان والشفتين والأنفاس والتقبيل والتقتيل، بالأصابع والشموع والرطوبة والسعال والأنين والندي، بالطي والمباشرة والعذاب والجماع الناقص..." في موضع آخر تورد لنا الكاتبة في "شماتة" خاصة بها ماذا حدث للشيوعيين العراقيين (لم تقل بعضهم) في هجرتهم فتقول علي لسان الحكاء برهان الدين الراوي للحكاية" انا اتصور ان الشيوعي العراقي كان يعتقد أن كل علاقة مع الآخر تنطوي علي عداوة، أي أن هناك أرضية فُلحت جيدا بسماد سوف ينبت العدو" ثم عن الشيوعي الذي يسهل الهجرات الفيزا عبر بعض المنظمات الفسلطينية (أيام زمان) باقتناص ربع الراتب المخصص لذاك الهارب من البلد. ثم عن فشلهم الجنسي "عشيقاتهم يقصصن علي تفاصيل مضحكة منذ لحظة الاهتياج التي تطول أحيانا الي نهاية الليل، بدون فائدة تذكر" والأدعية والأحجبة وما شابه من أسباب تقوية الباه. وهناك سرمد شقيق برهان الدين. سرمد كان من أزلام السلطة وأصبح رجل أعمال هو وأبي مكسيم الشيوعي. 

عن النوستالجيا
ثمة معلومة هامة... الحقيقة معلومتان: واحدة عامة والأخري عراقية ـ عامة. الاولي عن تأصيل اصطلاح نوستالجيا الذي ابتدعه طبيب سويسري الكلمة (حسب تعبر المؤلفة) وهو الاحساس بالحزن الذي كان يحس به الجنود وهم يفكرون بالوطن البعيد. هي كلمة لا مرادف لها واضح في العربية. فقد اقلقتني هذه الكلمة منذ ان صدرت رواية ماركيز الأخيرة وربط فيها بين النوستالجيا وعاهراته. فجاءت الترجمة العربية للعنوان ناقصة اذ اعتبرت ان الحزن / الحنين متعلق بالعاهرات، وليس بمن يتذكرهن. أي خطر! وأفضل أنا ترجمتها ب "الأسي".. ما علينا! لكنها أيضا "علة عراقية"، فما أن يغادر العراقي العراق حتي يخترقه الأسي من كل جوانبه. قد رأيتهم في منافيهم الأولي؛ بيروت وشرق أوربا. ثم منافيهم الثانية غرب أوربا؛ ثم منافيهم الثالثة في مصر. وبغض النظر عمن سرق فلوس الحزب الشيوعي او حزب البعث وعمل البيزنيس إياه من ميديا واستيراد وتصدير ومقاه ومطاعم، إلا انك تراهم وقد اخترقهم الأسي، وهم يتذكرون «عراقنا الحبيب» ويقسمون انهم اليه سيرجعون مع أغاني فيروز وأهازيج مظفر النواب، وعلي جسر المسيب سيبوني!! هذه أيضا رواية عن الاشواق والأسي (استعير هنا عنوان عمل قصير لعبد الحكيم قاسم كتبه وهو في منفاه الاختياري المؤقت في المانيا).

الأشواق هنا في التشهي هي احباطات تحولت الي أمنيات الراوي في اسرته وإخوته وبلده ويساره ونساءه وشبقه وترجماته. والأسي هو أساه الدائم الذي لا شفاء له منه. هذه أيضا رواية عراقية بامتياز. واثق انا ان العديد من القراء العراقيين سوف يقومون بإعادة تركيب الرواية لكي تتطابق مع اناس يعرفونهم بالاسم والفعل. انا اعتبرها أيضا رواية ذكورية عن التشفي في الخذلان المحتوم القدري الذي يصيب معظم الذكور، لأسباب مختلفة بعضها فسيولوجي وبعضها نفسي. أذكر زميلاً مصريا من ايام زمالة المعتقل؛ عمل بعد الافراج عنا في مؤسسة صحفية كبيرة في مصر، لكنه كان دائم الشكوي والتبرم. صارحني مرة ونحن نشرب بيرة، انه قد اصابته العنة (هذا اعتراف لا يتطوع به الذكور شرقا او غربا بسهولة) وفسر هو ذلك بأنه يجد كل يوم ان المسافة بين ما يقوم به من عمل، وما كان يؤمن به من افكار؛ تتسع كثيرا. وبالتالي فقد احترامه لنفسه، ولم يعد بقادر علي الانتصاب.... او هكذا فسر عنته.

يمكن بثقة تقسيم هذا العمل الي قسمين؛ فبعد القسم الأول ـ المطول نوعا ما ـ والذي يمهد لدخول الشخصيات من خلال الحكاء سرمد؛ ثم الي الشخصيات نفسها علي لسانها وبطريقتها الخاصة بها (وأظن ان التطويل نبع من هنا)، نأتي الي القسم الثاني الذي اعتبرته أكثر اهمية من الأول. إنه المتعلق بالرؤيا الداخلية للحقيقة الإنسانية: للماضي والحاضر والمستقبل. أي للذاكرة الحية المتعلقة بالجسد والمرتبطة بوظائفه من خلال اعضائه المختلفة، وكيفية ايجاد تناغم بين هذه الأعضاء من خلال التأمل الذاتي وتمارين التنفس وفلسفتها. اعتقد انه هذا الجزء هو مفتاح الرواية بل هو سبب وجودهاreason d'etre  فكما أن لكل عضو في الجسد وظيفة مهما صغرت؛ فإن بعض الروايات وبعض اجزاء من هذه الروايات لها وظيفة وجود. هذه أيضا مرحلة عمرية عند المؤلف (المؤلفة) حينما تتجمع الخبرات المتراكمة وحتي تلك التي تبدو مهملة وصغيرة ومنسية، وتبرز فتتخذ انجازا فنيا خلاقا مختلفا عن الاعمال السابقة التي كانت منحنيات صغيرة تمهد لتفجر شلال الخبرة/ الخبرات، هذه بوصف تفصيلي متأني ودقيق تدخلنا الكاتبة الي هذا العالم الروحي الغامض. فبالرغم من انه "عالمنا" الذي بقي منه لنا التصوف وبعض الأذكار والتهجد... لكننا هجرناه منذ ان تفرنجنا فأخذه الغرب واستولي عليه. الي هذا العالم يأتي سرمد بواسطة يوسف (الذي اغتصبه مهند شقيق سرمد. لكن الاغتصاب هنا لا يؤدي وظيفة روائية، اكثر من ان يوسف لا يستطيع تأسيس علاقة متواصلة مع النساء، حسبما فهمت)... الي شاندي الهندية و" عيادتها" الخاصة بالتأمل واليوجا. ولا اعتبر أن شفاء سرمد او عدمه مهم هنا في هذا النص. فبدانة سرمد الناتجة من اكتئابه، وسروره أيضا كما قال الدكتور يوسف؛ ليس اكثر من حجة للمؤلفة لكي "تلج" عالم الذكور كما يلج القضيب الفرج؛ ايلاج مؤقت قد ينتهي بنهايات متعددة بعضها متوقع، وبعضها مفاجئ!

تراجيدية القدر
هنا في هذه الرواية هي أيضا حتمية. فالعراق كبلد؛ يذوب ويتفتت وبالتالي يختفي من الذاكرة الحقيقة لأهله الذين هجروه وهاجروا. يختفي أيضا بالتدريج من المخيلة. اختفت المانيا الديمقراطية، وانهار السور الشهير السيء السمعة. اختفي الشيوعيون العراقيون والشيوعيون العرب واليسار العربي كله، وحل محله اليمين القومي والديني الأصولي. اختفت البيوت والشوارع والعائلات والعشائر، وشارع ابو نواس والسمك المسكوف والموصل والشمال والجنوب والأهوار، لتحل محلها اشياء تشبهها لكنها كقش. لعل الصدق الوحيد في مقولة الشيوعي العراقي هو ان أرض العراق قد سُمدت بسماد شيطاني لا ينبت إلا الحسك؟ وفي النهاية تظهر "الف" بقوة.. هي موجودة في كل الصفحات وكل النساء في الرواية لكنها تختم الرواية بنستولجيا عراقية"... لا أحد يعود الي المنازل. لا اطباق تنتظر من يلتهمها. لا عيون تنظر للبعيد بانتظار أحدهم يبتسم يعود أو يمر حتي... ولا قبلات نسمعها قادمة باتجاهنا.. "هذه هي العلة الخفية التي لا علاج لها، كما كتبت عالية ممدوح "عجز من شيل هدمي ما لمتني... وعلي ضاقت الوسعة ما لمتني لون تدري الودام ما لمتني، لها الظاهر وانه علتي خفية". 


كاتب مصري