تنطلق الناقدة المصرية في قراءتها لرواية الكاتب المصري أحمد أبو خنيجر الأخيرة (العمة أخت الرجال) من رفض للتصورات السائدة للكتابة الجديدة، وتقدم تحليلها الخاص لتلك الرواية المهمة.

لكل ابن آدم حكاية تميزه

شيرين أبوالنجا

في جلسة طويلة بمدينة الأقصر بالبر الغربي قرأت رواية (العمة أخت الرجال) لأحمد أبوخنيجر، كلما كنت انتهي من جزء كنت أتوقف لأتأمل معني ما أقرا، وهو ماندر فعله مؤخرا، عندما أقرا سيلا من كتب اسمها "روايات". في واحدة من وقفات التأمل رفعت رأسي عن الكتاب لأجد في مواجهتي مباشرة واجهة منزل صغير رسمت جدرانه برسوم الحج "الفلولكورية". قرأت «بسم الله الرحمن الرحيم يا داخل هذا الدار صلي علي النبي المختار. حجا بيت الله الحرام وزار بيت الرسول صلي الله عليه وسلم واعتمرا: الحاج عبدالراضي محمد حسن في 1402 هجري 1982م، والحاج محمود عبدالراضي محمد حسن في 1424 هجري و2004م. الف مبروك يا حاج محمود وعقبال العودة. «اخوك الطيب الفنان tayel» اختلط الواقع البصري بالخيال الروائي فقد كنت أقرا عن الفنان عيد الذي يتأمل الجدارية التي رسمها، والتي تشي تحولاتها في إعادة الرسم بالتحولات النفسية للشخصيات، وبالأخص العمة فاطمة أخت الستة رجال.

كنت قد قرأت من قبل بمعظم الصحف اشارات "اشادة" يالرواية، وكلها اشارات تتضمن مصطلحات من قبيل "التراث الشعبي"، "الفولكلور"، قوة المرأة في الجنوب"، وغير ذلك من الكلام الذي يقدم انطباعا عن العمل وكأنه سردية غرائبية عجائبية تحكي عن بشر ليسوا منا، بشر انقرضوا مما يوجب اعادة احياء ذكراهم. وبشكل مفارق، نفرت من كل ما كتب، إذ مللت من الأعمال التي تقدم التعددية الثقافية والتاريخية وكأنها فولكلور يستحق الحكي، مما يحول الأمر بأكمله إلي مشهد للفرجة. ثم عادت الرواية إلي الظهور اعلاميا مرة اخري بمناسبة حصولها علي جائزة مؤسسة ساويرس، فكان الحنق هذه المرة هو ما دفعني الي القراءة. كان إعجابي برصانة وعمق العمل مؤكدا لكل احكامي المضمرة علي ما يسمي "الصفحات الثقافية"، تلك الصفحات التي توظف جملا وأسئلة (في الأغلب بدون قراءة العمل) تعبر عن رؤية مركزية، لا تري فيما هو خارج حدود المدينة سوي هامش يستدعي المعرفة والمشاهدة السياحية.

تحكي الرواية عن عائلة "الرحال"، وهو الاسم الذي يعبر عن واقعها، فقد دأب كل أفرادها علي الترحال من أجل التجارة (العبيد ثم التوابل والبهارات ثم الحبوب الزراعية)، أو الرحيل مثل عثمان العجايبي أو سعيد أو علي. لايبقي سوي القليلين الذين يحملون الذاكرة ومنهم العمة التي تفتح الرواية علي آخر يوم في حياتها. والعمة التي ينوء حملها من الذاكرة، اصبحت تعيش مع اصوات كل من رحلوا. وهي بذلك تعد محور العمل علي عدة مستويات، حتي لو كانت الفصول الثلاثة كتاب العمة، كتاب الرجال، كتاب العصا، توحي بغير ذلك. فعلي مستوي المكان، ينفتح السرد علي البيت الكبير الذي تعيش العمة العجوز الآن في جزء صغير منه بمفردها، لتجتر تاريخ الترحال. الترحال كأي رحلة لابد له من نقطة انطلاق ونقطة وصول. من نقطة الانطلاق تغرق العمة ومعها السرد في تاريخ من رحل، وهو ما يكثف شعورها بالشجن (وبالزمن أيضا)، فتبدأ علي مستوي اللاوعي محاولة اللحاق بمن سبقوها، الا أن الترقب يمتلكها علي مستوي الوعي، وتكرر بشكل رمزي ان النعجة "فرغ رحمها" في اشارة الي عدم وجود ضحية لصباح العيد الكبير. يتولي المكان بأكمله توديع العمة عبر اكتساب المفردات الجامدة والحيوانات مستوي عاليا من التضامن الانساني: الدجاج والحمام والبهائم والقطة، والجدارية المرسومة علي حائط البيت التي يدرك عيد انه في أثناء إعادة تلوينها (احتفالا بالعيد) تغير شكل العمة فيها.

تعد العمة أيضا هي الفاعل الرئيسي علي مستوي الزمن. فإذا كانت الرواية تفتح باليوم الأخير في حياتها "كتاب العمة" فهي تكتمل في يوم احياء ذكراها السنوية في نفس المكان البيت الكبير. يكمل التاريخ في "كتاب العصا" من وجهة نظر اخيها عثمان، وهو احد الذين رحلوا منذ زمن قهرا، وكأنه يعود ليكمل الحكاية. حتي في المنتصف "كتاب الرجال" تدفع العمة بالأحداث قدما، وتسمع زينب ابنة أخيها عثمان صوت عمتها يحثها علي الفعل «علي الفارسة أن تعرف متي ترخي لجامها». يبدو السرد في النهاية وكأنه وجد لوجود العمة ومن ثم اكتمل لرحيل العمة. بل إن رحيل العمة هو السبب في محاولة تحقيق حلم سعيد ابنها بالتئام شمل العائلة الكبيرة التي كتب عليها الترحال. يعلن محمد الاسكندراني عن رغبته في خطبة زينب ابنة عثمان، ليحقق حلم سعيد. يحمل محمد شجاعة تحقيق هذا الحلم الذي اخفق فيه العديد، لكنه يبدو من الجيل الجديد المؤهل للخوض في تلك المغامرة، فموقفه من الحياة هو الاشتباك معها، وليس تأملها من الخارج.

يقول لابن عمه (صوت الراوي المثقف): «الكتابة تحتاج الي شجاعة كما الحياة تماما... ويبدو أنك اوقفت حياتك للفرجة»(112ـ113). واذا كانت زينب هي التي كات تتمني العمة ان تراها زوجة سعيد، وهي التي تشبه العمة في كل شيء، وهي التي قررت المضي إلي الأمام بعد سماعها صوت العمة، فإن العمة لم تمت. سيكتمل تاريخ العائلة أو يتكرر أو يتغير أو يقاوم عبر زينب ومحمد. وإذا كان ذلك يحدث في الذكري السنوية للعمة فهذا يعني ان هناك إحياء لروحها وليس فقط لذكراها بالمعني الطقسي. ارخت زينب لجامها وعاد محمد من الشتات ليبقي البيت الكبير مفتوحا. ما كان المكان ليسع احدا مع العمة فاطمة القوية، فكان لابد أن ترحل لتفسح مكانا لحكايات اخري. تبدأ زينب من حيث انتهت العمة، في محاولة لوصل ما انقطع. تتجلي تيمة تتابع وتشابه المصائر في الرواية وهي تنهل بشكل غير مباشر من "حرافيش" نجيب محفوظ، تتعدد الشخصيات والأصوات، وتتشعب أماكنها، وتثقل موازينها لترحل مخلفة أزمنة معجونة بالشجن الخالص الهاديء. هدوء لايقطعه سوي صوت التحطيب وألحان ربابة عوض الله.

تكتسب كل مفردة في البيئة المكانية أهمية من حيث دورها في عملية السرد الروائي والترميز النفسي والاجتماعي. فهي ليست مفردات من أجل الديكور الذي يكمل الصورة في ذهن القاريء، بل هي مفردات مكلفة بوظيفة رئيسية في البنية الروائية، ومحملة بتاريخ الأحداث والشخصيات، وهي أحيانا الحدث ذاته. فهناك مثلا الجداريات التي تعبر عن الجو النفسي، وعن رؤية الشخصيات للأحداث. ورث عيد المهنة من جده الأكبر (الذي وهبها له سيدنا الخضر)، تبدو تحولات الجدارية امامه منذرة برحيل العمة، إذ تحولت نظرتها من البشر والسرور الي الشوق والحنين. تتحول الجداريات التي رسمها عيد، وتلك التي رسمها جده الي ايقونات حافظة للتاريخ وشاهدة عليه.

بدت العمة فاطمة في بداية الرواية مثل بنيلوب التي كانت تفك كل ما كانت تغزله، املا في عودة يوليسيس (عوليس) تغزل العمة الذكريات وتطعمها بالأصوات، وتتساءل عن أسباب الرحيل، حتي يعود عثمان اخوها في ذكراها السنوية الي البيت الكبير الذي طرد منه. يجلس عثمان في الديوان ويجتر التاريخ الذي دفعه الي الترحال، حتي كاد ان يستسلم لغواية السيرينات في وادي خور السلم، كما وقع عوليس في غواية سيرينات البحر،. عاد عثمان بفضل عمه البشاري اسطورة الصحراء،وهو يحمل نبوتا من الوادي فيؤكد علي انتمائه للتاريخ العائلي الطويل، وللتاريخ الجمعي الذي لازال يثأر ويحتفل عبر النبوت «التحطيب» يجلس العم علي الدكة ويترحم علي اخته العمة فاطمة وينظر الراوي «المثقف» الذي تهرب الكتابة منه، الي رسوم الجدارية: «فبانت حلقة تحطيب حولها جمع غفير، والمتباريان بقلب الحلقة، ارتفعت العصي ونزلت متضاربة، واتانا صوت الدوي، وكانت الدنيا قد تغيرت»(ص177).

نهاية لاينقصها الابهام، نهاية مواربة تفسح المجال لرؤية "الدنيا قد تغيرت"، نهاية تسمح بالتأويل والتأويل المضاد، نهاية لاتدعي المعرفة، ولاتمارس وصاية علي الآتي، نهاية تحمل في باطنها البداية.. نهاية الترحال أو بداية الاستقرار.