قليلة الأعمال التي تجيء من منطقة الخليج، وأقل منها هي مراجعاتها، وهنا يراجع الكاتب الأردني مجموعة الكاتب القطري جمال فايز (الرحيل والميلاد) ويتعرف على خصائصها السردية.

إنعكاسات الماضي في قصص قطرية

قراءة في مجموعة جمال فايز (الرحيل والميلاد)

أيمن خالد دراوشة

عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان، صدر للقاص والأديب القطري المبدع جمال فايز الطبعة الثانية من مجموعته القصصية)الرحيل والميلاد(وهي الطبعة الثانية لهذه المجموعة لعام 2007م. وقبل أن نخوض في دهاليز هذه المجموعة المثيرة كان لزاماً علينا مصافحة العنوان قبل مصافحة المبوَّب، والقبض على دلالاته المعقَّدة لإعادة إنتاجه مجدداً، فهذا العنوان المثير للمجموعة مثير للذة الكشف ودافعاً قوياً لفتح شهية التأويل. في اختياره لهذا العنوان فقد أضاف القاص إلى مجموعته، ولم يكن العنوان عموداً يستند إليه. إنَّ علاقة الرحيل بالميلاد قائمة على نمطٍ من التماثل والتبعية ولهذا يبدو الرحيل مماثلاً للميلاد. فدلالة الرحيل الموت والفناء، فهو يوحي إلى الحزن والألم لحالة من العجز، بينما يحول الميلاد بينه ليكشف لنا عن بنى عميقة.

الرحيل والميلاد صورتان تطلان علينا من نافذة المجموعة بحيث لا يمكن لإحداهما أنْ تزيح الأخرى، ومن الصعوبة بمكان أو من الاستحالة الجمع بين نقيضين، إلا أنَّّ الكاتب هنا كان له رأي آخر. ومن خلال هذه المجموعة نقول: إنَّ المشهد الأدبي في قطر ينتمي في مجاله الأرحب إلى المشهد الأدبي في الوطن العربي، وهو بهذا يتصف بصفاته، فتبدو لنا في القصص مفارقة البحث عن الذات، والغوص في الماضي وسبر أسراره الدفينة. تناول الكاتب في مجموعته جوانب ثلاثة: التراثي ـ الاجتماعي ـ الرمزي، الجانب التراثي تمثل في قصة (وما تبقى من شظايا المحار) وهي القصة الأولى في المجموعة و (دويبات الباب الخشبي) و (يوم العيد) و(الرحيل والميلاد).

ففي القصة الأولى (وما تبقى من شظايا المحار) يبرز لنا بوضوح الجانب التراثي فنجد الشخصية الرئيسية متمسكة بالماضي تحاول عبثاً الحفاظ على الموروث لكن دون جدوى بعد أن طحنت الآلة الحديث كل موروث:

«التفت ناحية الغرب، حيث تسير الشاحنات بعضها وراء بعض، تصغر، تختفي في قرص الشمس الأحمر القاني، وطائرة مدنية، تمر من فوق رأسي، تنفث دخاناً أسود، يتلوى مثل الثعبان».

وفي قصة (دويبات الباب الخشبي) نجد الشخصية الرئيسية (الأب) وهي تحاول المحافظة على موروث عريق (البيت) فيما الأبناء يلحون عليه ببيع هذا البيت، وهكذا مضت السنون والأب يرفض فكرة البيع حتى تحقق للأبناء ما كان يتمنونه فيموت الأب ويتم البيع وهكذا يتخلصون من البيت. «بعد عشرين عاماً جاءه الأبناء والأحفاد، طرقوا الباب طرقاً عنيفاً أحدث فيه حفراً صغيرة كثيرة.. طرقوه كثيراً لكن الباب.. لم يفتح.» فالجانب الاجتماعي هنا والجانب الموروثي شيئان متلازمان يكادان لا ينفصلان. ومن الملاحظ على قصص المجموعة طغيان الماضي على نفسية القاص حيث مثَّل هاجساً مسيطراً، فهو ينهل منه مادةً دسمةً للقضية المطروحة، فنقل إلينا ببراعة آلام وهموم هذا الماضي بمعالجات وأشكال متنوعة فكان الماضي هو العنصر المشترك بين قصص المجموعة كلها.

وفي قصة (يوم العيد) يتحدث الكاتب عن قضية مركزية هامة هي جحود الأبناء للآباء، فنشاهد الأب يعتصر ألماً بعد انْ هجره أبناؤه، والجانب الاجتماعي هنا هو الأبرز، ونلحظ براعة ودقة التصوير والمشهد لدى الكاتب: «بدأ الناس في الخروج من المسجد، تشبث في مكانه، يحملق في الوجوه، تنتابه الرغبة في العويل، وهو يتفرس في المارين أمامه حتى رآهم ورأوه، ترقرقت الدموع في عينيه، همَّ إليهم، واصلوا المشي خارجين من المسجد.. يحدث بعضهم بعضاً».

وهكذا في بقية قصص المجموعة فالواقع الاجتماعي يفرض نفسه، ونستطيع تتبع ذلك من خلال قصة (ضجيج الصمت) و (قطعة سكر) و (جذور الكرسي المتحرك). ففي الأولى (ضجيج الصمت) يصور لنا القاص جمال فايز مشهداً مؤثراً حين يفقد الأب وحيده فتتداعى عليه صورة والده الراحل:«تراءى أمامه وجه والده، الذي فارق الحياة، وهو في أحشاء اليم». وفي الثانية (قطعة سكر) يصور الكاتب واقعاً مُرًّا هو البحث عن الزوجة الثانية بعد أنْ مَلَّ الزوج تصرفات زوجته الحمقاء. «وقف يحملق في قطعة سكر في طول قامة البشر.. ملساء.. بيضاء.. ألذ من طعم السكر». أما الثالثة (جذور الكرسي المتحرك) فتصور لنا صورة الإنسان المكافح الذي يرفض الإعاقة، وفي نفس الوقت يرفض المساعدة «ويستأذن بالاقتراب أكثر، يعرض عليك صحفه، يشير بكف يده الصغيرة إلى المكتوب على اللوحة، ويرفض في المقابل، أنء يُعان على دفع الكرسي».

وهكذا نجد أغلب القصص هي تمرد على الواقع المرير الواقع الذي فقد كل مقومات القيم الإنسانية وأصبح الماضي (الموروث) مثاراً لسخرية الجيل المعاصر. وفي قصة (قرابين مياه البحر) غابت الشخوص لتحل محلها الرمزية بكل تجلياتها فنجد الأمواج العاتية تتحول إلى نيران تكتسح كل شيء، فكانت القصة ذات لغة غرائبية وصفية فالطبيعة الهادئة ممكن أن تتحول إلى كابوس، والجمال من الممكن القضاء عليه بوحشية.

ولنعد مجدداً إلى قصة الرحيل والميلاد، فالجدلية معروفة: يموت البعض ليحيا آخرون، فعلى المستوى الجمالي نجد براعة القاص في توظيف عنصري المكان والزمان ليلتحمان معاً مشكلتين تحفةً فنيةً راقيةً، فالمكان القديم يرمز إلى الزمن القديم فالمسجد العتيق والشجرة المعمرة، أمكنة وفي ذات الوقت هي أزمنة وتمازجهما معاً يؤدي إلى التحول والصيرورة.

ملامح إبداعية في مجموعة (الرحيل والميلاد):

لقد تمثل إبداع كاتبنا بما يلي:

ـ وحدة الحادثة: فهذا العمل مجزأ إلى وحدات مستقلة، أو بعبارة اخرى إلى حوادث منفصلة، وشكلت الحوادث عند القاص جمال فايز عنصراً أساسياً لقصص المجموعة حيث بعثت فيها الحركة والنشاط، كما برع القاص في تحريك شخوصه بمرونة فائقة فكانت كالعجينة يشكلها كما يشاء، وقد بدا لنا تطور الأحداث طبيعياً معقولاً.

ـ الأسلوب بسيط مليء بالحيوية والألفاظ الموحية، وقد مزج الكاتب بين الواقع والخيال بإحكام، وارتقت بنا المجموعة إلى مستوى من الجودة الفنية قلما نجدها في مجموعات أخرى، وهو إلى جانب ذلك يحفل كثيراً باللغة والتعابير ويختار من بين الألفاظ أقواها، والتشابه أكثرها تصويراً للموقف، والحرص الشديد على اللغة وإلباسها ثياباً مميزة، انظر مثلاً قوله: «رجع إلى بيته يتملكه الحزن، لامست أذنه جذع النخلة»، أو قوله: «مياه البحر.. مغبرة أعماقه.. مشوهة معالمه.. لا تعرف إلى أين تتجه أمواجه، وما أن كانت في حالة مد أو جزر.»

والكاتب يحرص أيضاً أن تكون شخصياته نامية غير ثابتة، وشخوصه كذلك أكثر حياة من الذين نعايشهم. وقد ظهرت هذه الحيوية في معظم قصصه.

ـ وحدة العمل القصصي: ونعني به وحدة القصة العضوية فحوادث القصص متماسكة بخطة واحدة كقصة (الرحيل والميلاد).

ـ لقد شوقنا الكاتب في كل قصة من القصص الست عشرة حتى تابعنا القراءة إلى النهاية، فكان لانسجام مادة القصص ووحدتها أنْ وضعنا الكاتب في حالة قلق وترقب إلى ما ستؤول إليه الحوادث وتم ذلك بتنوع الصور وتفاوت درجاته والوضوح التام في العرض إضافةً إلى الدقة في توظيف عنصري اللون والحركة.

ـ التأثر بالسابق واللاحق فجاء العمل القصصي عبارة عن نسيج محكم تتداخل فيه خيوطه.

ـ ضمير الغائب هو الشائع في قصص المجموعة وحضور الكاتب لم نشهده إلا في قصتين هما: (وما تبقى من شظايا المحار) و (جذور الكرسي المتحرك) ودل عليهما ضمير المتكلم.

ـ البداية الجيدة لكل قصة، والنهاية التي لا تُنسى بسرعة، ورسم الشخصيات رسماً مقنعاً سر تفوق قصص المجموعة لتحلق بنا إلى عالم بديع ساحر، وقد كشفت لنا المجموعة عن حقيقة لا جدال فيها أن الكاتب "جمال فايز" قاص من الدرجة الأولى، لديه الموهبة الحقيقية والدربة.

وأخيراً هذه ملامح قصص المجموعة حاولت فيها الجمع بين الإطالة والإحاطة، الإطالة في بعض الخصائص البارزة، والإحاطة بغيرها. 

كاتب من الأردن مقيم في قطر