قليلة هي الدراسات التي تقرأ ظواهر الغناء العربي بدقة وتأمل وعمق، هنا يقدم لنا الكاتب العراقي واحدة من هذه الدراسات النادرة التي تتعرف في إنجاز عبدالحليم حافظ على بنية مشاعر جيل ورؤى مرحلة.

عبدالحليم حافظ: بنية مشاعر جيل ومرحلة

السياسه في الطرب الافتراضي وصعود اللامطرب

عبدالامير الركابي

تعددت مؤخراالاعمال التلفزيزنيه التني تتحدث عن عبدالحليم حافظ، المطرب العذب والحاضر بقوة في مكان خاص من الذائقة السمعيه المعاصرة للعرب. وكما هي القصة الاجماليه للحياة العربيه، تروى هذه وتضيع، ويروى عن عندليبها فيضيع، الاهم عند كتاب الافلأم والمسلسلات هي الوقائع: كيف نشأ؟ من هم أهله؟ من الملحنين والشعراء الذين عاصروه وصنعوا معه قصته، وتصاريف نغمه، الظروف السياسية، الجو الفني عموما وما إلى ذلك، انعدأم الخيال يقتل الواقع. مرة تحول عبدالحليم إلى "قصة شعب". ومرة إلى "عندليب". ومايسمونه ـ الرؤى ـ اختلفت بين الاثنين. فاحدهما جاء على طريقة القصة السياسيه التي تذهب كما هو متوقع، إلى قراءة توافق صعود الغناء مع تحولات تاريخيه لها نكهه في مجالها، هي ذات نكهة صوت العندليب في مجاله. وتلك بالطبع ميزه يلاحظها الجميع. فما حصل لعبدالحليم ومعه، لم يحدث قبلا مع أم كلثوم وعبدالوهاب مثلا. ومن يمكن أن يتناولوا أم كلثوم، سياخذهم الحضور الطاغي لسيرة مكتفية بذاتها. وفي المسلسل الذي عرض مجسدا سيرتها، يمر جمال عبدالناصر عابرا، بينما تظل "السيدة" هي المحور ولاتقصر، بل تملا اللوحة، وتسير قدما باعتبارها مركزا للعالم المحيط بها. لاوجود لنصف أم كلثوم فهي قد سعت إلى "الاكتمال" الذي تستحيل تجزئته، مثل كل دكتاتور عظيم، تتابع فصول أيامها، يجعلها موضوعا باهرا، مثل أية قضية صعود كلاسيكي، نسمع في خلفيته أصداء سمفونيه مجلجله (لااعرف لماذا تذكر سيرة أم كلثوم بخطوطها العامه، بسيرة المطربة الفرنسيه إديث بياف، مع اختلافات في التفاصيل، تقتضيها البيئة والشروط) من الطفولة البعيدة للفتاة المضطرة لاسناد والدها المنشد في الأعراس الريفيه، إلى الصبيه التي سبق صوتها حدود محيطها، وأثار في المجال الفني، دوامة من الاصطفاف غير المخطط ولاالمنسق لكن المرتب بقوة سر التاريخ. حمية موسيقيين وملحنين وشعراء كبار، ودأبهم حد التفاني، إلى أن قفزت هي وعبدالوهاب من ذيول وبقايا عالمهما الشعبي، الموصول بالشفاهيه النغميه، والموالد الدينيه، وعالم الأعراس التعس، أو "التخت"، إلى الرصانة المحاطة بجلال وسحر القصور والسلطه. فأم كلثوم وعبدالوهاب، هما ممثلا طاقة تحول الفن والغناء بالذات إلى سلطة. ونموذجها هو نموذج حداثة، لم يكن لها من سبيل لاثبات حقها في الوجود، سوى التشبه بالسلطة، وانتزاع حيز منها لدرجة مزاحمتها بالاصرار على تحقق حيزها خارج ساحتها ومجال سطوتها، ففي تلك اللحظة بدأ بناء قلعة جديده تحرسها جيوش النغم، فالصوت الخارق، مع الصورة الساحرة للمطرب المطلق الحضور والسياده، كانا سلاحين اجباريين، صنعتما الطبيعة والتاريخ حتى تجعل المطرب/ المطربة خصوصا/ حاضرا ـ حاكما ـ مطلقا حين يقف ليغني، لايجد أمامه سوى الطاعة. فأم كلثوم مطربة "طاغيه" لاتقبل باقل من الانسحاق تحت وطاة حضورها.

وأم كلثوم هي التي أرست سلطة الغناء في التاريخ العربي الحديث. فقبلها كان المغني بلا قوة حضور مستقل، ولم يصبح أبدا نافذا، أن لم يكن تابعا ومن ملحقات القصور الحاكمه أو قصور الاغنياء، ومثل الفنانين والكتاب ظل هؤلاء يدورون حول فلك الحكام لزمن طويل، الا أن أم كلثوم وعبدالوهاب لم يحققا هذا المنجز بقدراتهما الذاتية الخارقة. وعالم الثقافة والفن والصحافة الحديث في العالم العربي، يدين بالدرجة الاولى بالعرفان لوسائل الاتصال وبمقدمها الراديو، ومن ثم التلفزيون والجريده. فمع هذا الجهاز فلت المغني من يد الحاكم، وأصبح للادب والمقال حيزه المستقل، ودخل جيش الصحفيين والاعلاميين والادباء والشعراء تباعا، عالم "السلطة" المستقلة بذاتها، والقادرة على أن تفعل في الواقع. ونحن نعرف بان جنازة أم كلثوم وجنازة عبدالناصر هما اكبر الجنازات التي عرفتها مصرالمعاصرة، وهذا حدث لم يكن ليعرف ابدا، لولا قوة الراديو والصحافة والاعلام، علما بان عبدالناصر نفسه ماكان ليصبح مااصبح عليه في مصر والعالم العربي، لولا الراديو والتلفزيون والصحافة. غير أن التلاؤمات والسمات الشخصيه والزمن، لعبت دورا في جعل الراديو يصبح فعالا بخدمه المشاريع السياسيه وغيرها، فقبل عبدالناصر تذكر في التاريخ والدراسات المصرية والعربيه الحديثة قمة مؤسسه، هو محمد علي الكبير، ولو كانت الصحافة والراديو والاذاعة موجوده انذاك، لتحول محمد علي إلى طرفة، ولبادر كما قتل المماليك في المجزرة الشهيرة التي دبرها لهم في القلعة، إلى قتل المذيعين وتدمير الاذاعة دون أن يرف له جفن. فهؤلاء كانوا سيفضحون الزعيم، ويضطرون صاحب مشروع القوميه العربيه والحداثة كما يوصف اليوم، لان يظهر على حقيقته كشخص لم يكن يعرف كلمة عربيه واحده.

بالمقابل كان عبدالناصر خطيبا "فنانا" يعرف كيف يستخدم صوته بنغمية عاليه ومؤثره، وكانت هيئته وقوامه صالحة للعرض في الصورة عبرالصحافة والتلفزيون، فهو فارع الطول أسمر، وشكله تمتزج فيه روح التحدي بالأمل، بوسامة سمراء، توحي بالثقة والسمو، وتمثل حلم عظمة، وترسم صورة عربيه لقائد آت من عز الأيام العربيه يرمح على حصان من عجلات الحاضر. وبهذا كله كان عبدالناصر قادرا على خوض المباراة بنجاح. فلم يزعجه كثيرا وجود اشخاص مثل أم كلثوم وعبدالوهاب، استعملوا السينما والموسيقى والشعر، واحسنوا بوتقتها بما يلائم اصواتهم. وهو على العموم كان من دون حول ولاقوة، فأم كلثوم وعبدالوهاب سبقاه وكرسا مكانتهما قبله. وحين كان هو مع رفاقة محاصرا في "الفالوجه" غنت أم كلثوم له ولمن معه اغنية طلبوها منها، ثم زاروها بعد عودتهم من الحصارفي بيتها، وكان عبدالناصر من بينهم. وعليه فان عبدالناصر كان مضطرا لان ينافس قبل أن يتهيا له احتواء من سبقوه. وبما أنه قائد سياسي، ويعيش وسط زمن القضايا الحارة والملتهبه، فلقد كان حظة كبيرا، وتمكن من أن يحتل مكانة لاتدانيها مكانه. الا أن ذلك لم يكن من دون "ثمن"، ولست أعرف إلى أي حد كان عبدالناصر مضطرا لان "يمثل" وهو في الطريق إلى تثبيت مكانته. كما من الملهم أن نبحث اليوم في القرارات أو المواقف التي اتخذها الرجل تحت هاجس منافسة لاعلاقة لها بالسياسة ولا بالزعامة المباشره. فمايسمى الفكر أو الثقافة في العالم العربي، لايسمح بالدخول في مثل هذه المناطق، ونحن نكتفي من عيشنا بالانشائية والايديلوجيه، ونعجز عن صياغة اساطيرنا المعاصرة بالطريقة التي نستحقها. أو لانستحقها. أما عبدالناصر فله معاناته التي لم يخبرنا عنها وهو يرتقي السلم بين عبدالحكيم عامر وأم كلثوم. ولايتناول الكتاب في مصرتجليات سطوة الدولة والزعيم. واضطرار مراكز السلطة خارج السياسة المباشرة، إلى خوض سياسات وتكتيكات الصعود أو الحفاظ على الموقع، كما فعلت أم كلثوم مثلا بعد عأم 1967 بعدما فقدت عبدالحكيم عامر، واندفعت لتقف بكل قوتها إلى جانب عبدالناصر في "محنته" فتعيد بذلك تعزيز مكانتها من موقع الوفاء والشهامه، من دون أن توحي بأي تنازل عن هيبتها.

لدينا هنا ايضا امثلة ينبهنا لها تاريخ عبدالحليم حافظ. فهو قد تصادم يوما مع أم كلثوم، وأعلن على الهواء عن انزعاجه من تصرف لها كان مدعوما من "عبدالحكيم" ضد ارادة عبدالناصر، الذي عاد وانتصر للعندليب، وصنع له منبرا في الاسكندريه (غير يوم شم النسيم) ليرد على أم كلثوم، التي هي من دون شك المنافسه، بمعنى المكرسة لمسار الخروج من ربقة السيطرة المطلقة للزعيم. لقد كان عبدالحليم وقتها سلاحا بيد عبدالناصر وهو من بين اسباب اخرى الذي جعل أم كلثوم وعبدالوهاب يرضخان لارادة "القائد"، ويتعاونان تلحينا وغناء بامر رئاسي أنتج أغنية إشكاليه لاقيمة طربيه لها هي "انت عمري"، لقد كذب عبدالوهاب متملصا من سطوة الزعيم بالدهاء الفني، لكنه فعل مالا يحب ولم يثأر ردا على تلك "النكسه"، إلا بعد أن مات عبدالناصر، فلقد صرح يقول "كان عبدالناصر يكذب فيصدقه الناس، بينما كان السادات يصدق ويكذبه الناس". وهو بهذا يحيل الاثنين إلى عالم الفن والابداع، متجاوزا صفتهما كسياسيين. مع أن السادات كما يعرف الذين يعرفونه كان "مطربا"، وهو يحسن الغناء، وله صوت هو الذي سحر جيهان، حين غنى لها في عيد ميلادها في أول لقاء جمعهما، وهي في الثامنة عشرة من العمر، وهو ضابط يضع الرتب والنياشين، ولا يتورع عن قول "ياليل" بسلطنه. إلا انه يوم أصبح رئيسا، وأراد أن يستخدم "صوته" فشل في أن يجاري عبدالناصر، لان التطابق بين الحلم والصورة اقرب إلى قلب العرب، وهيئة السادات كصورة، كانت اقرب إلى الرثاثة، وماضيه غامض يخلو من التالق. وكل هذا أسقط قدرته على الإقناع (من الطريف أن يكون الكاتب انيس منصور المقرب جدا من السادات، مطرب، وله صوت شجي، مثله مثل السادات، بينما لاهيكل ولاعبدالناصر جربا الغناء، وصوتيهما ماكانا يساعدانهما على قول ياليل لكنهما متحدثان بارعان).

في وقت لاحق، بادرعبدالحليم إلى زيارة أم كلثوم ليطيب خاطرها، وحين سئل عن سبب هذا "التنازل" اجاب: لقد ذهبت إلى "الهرم". كانت أم كلثوم "سيدة" المطربين، ورئيستهم الكبرى. وهي من أرست لهم كما فعل محمد حسنين هيكل مع "الصحفيين"، مكانتهم، بدكتاتوريتها، وعالمها العاجي والاسطوري القاسي والمضطرب والمفعم بحشد من روح الشعر والموسيقى. إلا أن عبدالحليم لم يكن مجرد مطرب، وهو يمثل في التدرجات النغميه والرمزية المعاصرة مكانة "الثائر". انه بالفعل شبيه عبدالناصر، إلا أن أم كلثوم لم تكن أبدا الملك فاروق. ربما فيها بعض من ملامح "سعد زغلول" وهي من دون أدنى شك، رائدة تملكت وسائل عصرها، وذهبت بها مذهبا ينحو إلى صياغة سلطة. وهو مالايجب اعتباره من قبيل القدر. فالخاصيات البنيوية المصريه قررت تلك الحاله، فلم تظهر هنا امرأة خارقة "ومدمنه" مثل اديث بياف. وفقط عبدالحليم حافظ كان مضطرا لان يبالغ في استعمال مرضه، وأثار حول هذه المسالة لغطا، ظل يعززها بقوة، ليجعل منه الحاضرالعليل، الابن المعذب، والحبيب الذي يعيش على الهاوية. وبدل النزعة الانتحارية غير المفهومه في المجتمعات الشرقية المسلمه، كان عبدالحليم يناظر مطربا غربيا، هو جاك بريل، الذي هو أيضا مطرب أسطوري، وسيبقى الصوت الأعظم في الوجدان الانساني الحديث، مكرسا مثل عبدالحليم حافظ، صلة الطرب اللامتناهي الصدق والحزن بالعيش على حافة الموت.

كان عبدالحليم حافظ تاليا بعد أم كلثوم وعبدالوهاب في مملكة الراديو. لقد تصادم شخصيا مع عبدالغني السيد أحد أهم الأصوات وأعذبها، وكان محمد قنديل صاحب "سماح" و "الحلو ابو شامه" و "ياللعجب" وهي روائع، ومحمد فوزي العبقري شبه الفطري صاحب "حبيبي وعنيه"، والكبير فريد الاطرش، ومطربات من بينهم قيثارة الاحزان/ الصيداويه/ فايزه احمد، ونجاة الصغيره، يدندنون وسط عالم، لم يعد المطرب فيه يطلق كلابه على الفقراء، كما قال احمد فؤاد نجم عن "السيدة" في احدى قصائده (بالمناسبه كان هو زميل عبدالحليم حافظ في دار الايتأم لسنوات). وصفات المطرب المنكرة أصبحت مكشوفة، ويمكن أن تبعثر في الطرقات (قال كامل الشناوي عن عبدالحليم علنا أنه لايصدق إلا عندما يغني) وهكذا نشا صراع قيم على الهامش، فمن كان ومازال يسمع عبدالحليم يغني "على قد الشوق" أو "أنا لك على طول"، ينسى كامل الشناوي. والأرجح أنه يكذبه، بدل أن يتجرأ على تصور كذب عبدالحليم حافظ، وفي أسوأ الأحوال يصبح عبدالحليم هنا دالة تستوجب كسر القاعده. فهل كل الكذب كذب؟ وهل الكذب مفهوم مطلق؟ لقد غنى جيل مابعد أم كلثوم وعبدالوهاب، وكل من هؤلاء قارب "بؤرة نبض حقبته" مرة أو اثنتين أو ثلاثه، وإذا تركنا الكبير فريد الاطرش، باعتباره حالة خاصة وتقع بين حقبتين وجيلين، ناهيك عن الاصول، وقصة محاولة نهوض "قمة فرعيه" تضمه واخته اسمهان (تسببت في نهايتها الغامضة). فان الآخرين غنوا في قلب اللحظة مرات، بينما غنى عبدالحليم كل مرة.

مثلما اكتملت ملامح بنية مشاعر "فئة الخمسينات الاجتماعية"، كان عبدالحليم هو الآخر مكتملا. صوته، وحركته وشكله وتاريخه الشخصي، وكل نأمة من حياته. كان هو ينتمي كليا إلى البؤرة التي تشكلت خلال نهاية النصف الاول من القرن العشرين. ففي تاريخ العالم العربي وحداثته المعاصرة لم يحدث إلا وقتها أن تشكلت "طبقة من موحدي السمات والمشاعر" من المتعلمين ابناء الفقراء والبرجوازية الصغيره، خلق مزاجهم المشترك، وقع السينما والراديو والكتاب مع "أنا حرة" و"في بيتنا رجل" لعبد القدوس و"شجرة اللبلاب" و" شمس الخريف" لعبدالحليم عبدالله، وثلاثية نجيب محفوظ، مع خلفية الحلم الطاغي للسينما الامريكيه والعالميه. فكانت تلك الوسائل قوى فعل فوق طبقيه، وحدت الشعور والنظرة إلى العالم والاشياء بعد الحرب العالميه الثانيه، وخلقت "جمهورا فاعلا" لايقبل باقل من الحضور، ويرفض الجلوس امأم "السيده" مسمرا، لقد اطلق عبدالحليم حافظ مثل ثورة يوليو، قوة المشاركه، وبعد المتلقي/ المستمع وقف خلف صوته وألامه، جمهور من عشرات الالوف من الشبيبه إناثا وذكورا، يصعدون معه إلى المسرح بخيالهم، ويغنون في سرهم مايردده، ويترجمونه ممارسات عشق حين يحبون ويحلمون ويحزنون.

وهو كان قائدا يتمتع بكل مقتضيات حس القيادة (لطالما جرى الحديث عن ذكاء عبدالحليم وحساسيته في اختيار كلمات أغانيه) فهو مثل الزعيم الملهم، يستشعر ماتتطلبه تلك اللحظة من نغمات، ومن بناء أسطوري موزع حسب إيقاع النغم والمعنى. وفي حبه المزعوم أو الحقيقي، الغامض أو المدعى، في صلته بالسندريلا تحديدا، وهي الموزعة بين عالم "جاهين" واليسار وبين قلقها ومأساتها. كان هو يتلاعب وراء ماساتين وظاهرتين متشابهتين، هو أحدهما. فلوح موحيا بانه قريب من اليسار، ووطني يحب بلاده كما يعرف عنه كيف يحب، فهو من قال "عدى النهار" اروع اغاني النكسه، وابلغ ماكتب عبدالرحمن الابنودي/ اليساري أيضا، والذي سجن قبيل النكسة وأفرج عنه قبل وقوعها بشهور. هذا بينما ترك نافذه أخرى تقول بان هيئة أركانه الموسيقية الشعريه، وتقلباته، وامساكه المرهف بخيوط السلطه والمعارضة وإيقاع اللحظة، تندحر امأم "القصور" ولاتمسحها من اللوحة. فهناك اودع قصة حبه ليوصلها (معروفة قصة حبه المستحيلة للفتاة الارستقراطيه، حيث تصل التراجيديا منتهاها بفقدان الرجاء للمعذب المريض الصاعد من العدم أمام الفوارق الازليه) بالمرض القاتل، حين يتقيأ فتانا المعذب دما في الكواليس، ويعود ليغني، فيصبح بلا أي مجال للشك "ابننا الذي يقارب ذاتنا عبر الحزن والعطاء واللاامل". فمن يتخيل كل هذا ولايتذكر "ظلموه" فيتحسسها في أعماقه. وهكذا أمكن لجيل أو "لطبقة فوق طبقيه" من الشبيبه، مصنوعه من وسائل ليست نابعه من شروط عملية الانتاج، بل من الاختراع، أن تجد طريقها خارج الاسر الكلثومي، وأن تتحول إلى فاعل يقف على المسرح في مكان النظارة في المسرح، ينفعل ويتفاعل مع مطرب يتماهى معه ويتجسد فيه، ليرسم وإياه قصة إقلاق باهرة لواقع قديم بدأ يتهاوى.

كان عبدالحليم قوة النغم الذي ينهي زمن المطرب الافتراضي القابع خلف القصر، أو المزاحم على القمه. فمطرب "على قد الشوق" و"صدفه" و"خساره" يبدو خفيفا مثل طيف، ومتسللا بين الشقوق ومن المستحيل صده، بينما هو يتجه مباشرة إلى القلب الذي ينتظره ليردد معه، لأنه يعرفه، ومثل عبدالناصر كان هويملك سلطة، بدت أقوى من سلطة عبدالوهاب وأم كلثوم وهددتهم، فظاهرته حررت الجمهورالذي لم ينحز إليه في الاقتراعات، بل في الكينونه. إنه متماثل مع من يغني لهم (انظروا إلى التسجيلات الباقيه لجمهور أم كلثوم، الناس كيف يجلسون مصبرين ومعذبين تحت سطوة حضورها، وراقبوا لباسهم الموحد، وقصات شعرهم وشواربهم، ودققوافي تسريحات السيدات المصفوفة بعناية وانتظام) قبل مدة قال مطرب من جيل وحقبة نهاية المطرب التي نعيشها الان ـ لولا ظاهرة "هيفاء وهبي" المميزة والفاصلة ـ (سنكتب عن دلالات هذه الظاهرة الاخيرة) قال "عمر دياب": أن عبدالحليم ليس فنانا، فهل يمكن لفنان أن يغني للسد؟ وهو يقصد السد العالي، وهذا هو الامتحان الكبير، ترى كيف تغني للسد وتكون صادقا، وهل يمكن للفن أن يتحدث عن السدود؟ لقد غنى عبدالحليم "صورة" وكلنا مانزال "عايزين صورة" ولكن من تلك الايام، عندما كان السد أقل جهامة وصلابه، وأكثر ليونه، وأقرب إلى الأحلام.

عبدالحليم غنى للسد، لانه أراد أن يصل إلى أقصى التصورات بخصوص نهاية الطرب الافتراضي، فنجح! وجعل من يعرفونه بقلوبهم وأحلامهم، يصفقون له بحب، لا، بل بوله.