تقدم دراسة الباحث المغربي مقاربة نقدية لرواية البشير الدامون الجديدة يتحقق فيها التوازن بين التنظير والتأويل، ويكشف فيها التحليل النقدي أسرار البلاغة السردية وسريرها السري معا.

البلاغة السردية والتأويل

في رواية (سرير الأسرار)

عبد الرحيم جيران

ـ توطئة:
نقتضي الضرورة، قبل الشروع في مقاربة نص (سرير الأسرار)، إلى توضيح المبادئ النظرية التي ستمكننا من استخدام الآليات الإجرائية المسعفة في ذلك. ولن نخرج في هذه المقاربة عن التصور النظري التجديلي التضافري التي ارتضيناه مسلكا في معالجة النصوص السردية(1). بيد أننا سنعمل، في هذه المقاربة، على تطوير سؤال البلاغة داخل متاح هذا التصور نفسه، بغية حل معضلات تتعلق بالجانب الجمالي منظورا إليه من زاوية العلاقة بين المماثلة والإحالة بوصفها منتجةً المعنى. ولا نسعى، في هذه المسألة، إلا إلى التأكيد على أهمية النصية في استعادة سؤال البلاغة؛ لكونها تستدعي منظورا بلاغيا مغايرا لمنظور الجملة، بل مغايرا لمنظور النص ـ الخطابة، بما يقوم عليه من إقناع، ومن توظيف مخصوص لما هو باتوس، أو إيتوس. فمدار البلاغة السردية تأويل العالم، لا الإقناع، أو مجرد المساعدة على العيش، أو محاكاة الحياة(2). وهذا التأويل قائم على الخبرة بالنصوص، وتجربة فهم العالم عبر هذه الخبرة. وتمثل غايتنا من ذلك أيضا في مجاوزة كل تصور جزئي للنص قائمٍ على انتقاء بعض فقراته، أو بعض عناصره، لتفسير فنيته، كما يشاع في بعض الدراسات التي ترى ألا فائدة من النظرية في فهم الأدب، والتي يقلقها التجريد، متناسية أن الدراسة الأدبية لا تقل شأنا في خطابها المفهومي عن غيرها من الدراسات الأخرى في العلوم الإنسانية. كما أن غايتنا من ذلك تمثُل في حل معضلات تتعلق بما قبل النص، لا بوصفه تكوينا يبحث في كيفية تشكل النص، وإنما بوصفه امتدادا، بما يعنيه هذا الأخير من علاقة بالفهم؛ حيث يعد النص السردي تجسيما حكائيا، أو معادلا حكائيا لهذا الما ـ قبل. وحل معضلات أخرى ترتبط بما ـ بعد النص، لا بوصفه انعطافا بالنص نحو جهة فائدة تستعمله لغايات استعماليه، وإنما بوصفه امتدادا أيضا، لا يخرج عن إمكان تعضيد الفهم؛ حيث الذاكرة النصية توسع من أفق النص بربطه بتجسيمات أخرى سابقة عليه، قد يعمل على تأكيدها أو نفيها. وسمَّينا هذا الامتداد الثاني بما ـ بعد النص، لأنه لا يسبقه، بل لا يمكن الحسم فيه إلا من خلال القراءة. ويعمل الامتدادان معا على مساندة تنامي النص، لا القطيعة معه، أي أن المشكلة ستحل في إطار صيرورة تنامي النص، ومن داخل هذا التنامي، لا من خارجه.

إن كل نص سردي لا بد له من أن يتنامى، وفق مبادئ خاصة محددة، ووفق مراحل محددة(3)، لكنه يعرف، خلال صيرورة تناميه هذه، نوعا من الامتداد الموازي بموجبه يتحقق التجديل بينه وما قبله، وما بعده. وهذا التجديل لا يعني تفسيرا برانيا، ولكن يعني أن النص يتضمن داخله نوعا من المماثلة المولِّدة، بين ما قبل يستوعبه داخليا ويوسِّعه. ويظهر هذا الما ـ قبل مثل بدرة قابلة للنمو نصيا، وقد تكون مَثَلًا، أو نصاً عريقا نموذجيا داخل ثقافة ما، أو متعاليا ميتافيزيقيا، أو لاهوتيا، أو تفسيرا ثقافيا جاهزا للعالم. ويظهر الما ـ بعد في هيئة خلاصةٍ مدخلنةٍ نصيا، وقائمةٍ بدورها على المماثلة ذاتها. وتبدو هذه المماثلة الأخيرة على أنها علبة مفتوحة على تأويلات عدة، لكنها، محكومة بصيرورة النص، وبإحالة هذه الصيرورة على موضوعة ما مستحوذةٍ تعاود ظهورها عبر النصوص، وقد تتجلى هذه الموضوعة كلاًّ، أو جزئيا، عبر بعض عناصرها الممثلة. ويتوسط هذه الإحالةَ العالمُ، من حيث هو بناء نصي ثقافي يمثله الآخرُ بوصفه بناء متراكبا من النصوص.

إن الامتدادين معا، لا يصيران فعّالين، إلا بفعل إسهامهما في خدمة تنامي النص، وارتباطهما بحل معضلات عملية تتعلق بضمان انسجامه، من حيث هو كل يسعى إلى لمِّ شتات العالم الذي يقدمه. فلا يكفي الحديث عن الحبكة باعتبارها ضامنةً تماسكَ المتنافر، وخالقةً بذلك ما يوازي الاستعارة عن طريق جمعها بين طرفين متنافرين من العالم، أو أكثر(4)، إذ لا بد من تبين التوسط الدلالي الرمزي الذي يمارسه الامتدادان معا (الما قبلي، والما بعدي)، في ضمان هذا الانسجام، وفي تكوين فضاء الإحالة دلاليا داخل النص. وسنعمل انطلاقا من هذا التصور الأولي (والذي يعد اقتراحا قابلا للتعديل تحت هاجس النزعة الاختبارية التي نؤمن بها، ونعتبر بموجبها النصوصَ المتحققةَ معيار الحكم على نجاعتها) على معالجة رواية (سرير الأسرار) عن طريق البحث أولا في الدلالة المكونة لها، حتى نتمكن من البحث، في خطوة ثانية، عن كيفية اشتغال الامتدادن معا في تكوين الإحالة وتفسير انسجام التنافر الذي يسم السردَ فيه، واستغلال ذلك في تفسير ما هو طبولوجي (التعبير ـ العنوان ـ تقسيم النص إلى وحدات مستقلة ـ بناء الحوامل). ولن يقف الأمر عند هذه الحدود، بل سنرى ما إذا كان ممكنا الربط بين الصيرورة السردية التي تقام في رواية (سرير الأسرار) على تملك موضوع (المعرفة)، والتكثيف الدلالي لكلمة (الليل) بوصفها مركزية في تحديد الدلالة وفعل السرد نفسه. لأنها تَؤُولُ إلى النص انطلاقا من موروث متعدد. فهناك ارتباط الليل بالثقل ـ العناء من جهة، وارتباطه بحاسة السمع (الحكي)، من جهة أخرى، نظرا لتراجع حاسة البصر أمامها. 

1 الموضوع والتسرد:
ما الذي يجعل من نص (سرير الأسرار) سرديا؟ سؤال لا يُجاب عنه إلا انطلاقا من تحديد النواة الصلبة التي تعد مركزية في تبصر نشوء السردية. لا يعبِّر النص المذكور عن هذه النواة صراحة، مما يترك أمرَ استنباطها موكولا إلى القارئ. ويمكن التعبير عنها بِـ "علاقة الإرادة باستعمال المعرفة". فالذات ـ الأنثى (الطفلة) لا تسعى إلى تملك موضوع من طبيعة مادية، وإنما موضوعٌ له صبغةُ تعرفِ العالم، بما هو وجود. ويكتسي هذا التعرف منحى معرفيا يمكن التعبير عنه بتملك الفهم، حول الذات، ومنشئها، وحضورها في العالم. بيد أن محتوياتٍ محددةً تلحق، من جهة تحيينها سرديا، بهذه النواة الصلبة التجريدية، وتُسهم في تكوُّن نَوَيَات متعددة متفرعة عنها. وتتضافر هذه النويات الفرعية جميعها في إكساب النواة الصلبة المذكورة آنفا ما تتنامى به سرديا. ويمكن تحديد هذه النويات كالآتي: "من أنا؟"، "ما الدار الكبيرة؟"، "لِمَ المحاشاة من قبل أهل الزقاق؟". وترد النويات الفرعية على لسان الذات ـ الأنثى (الأنا)، بهذه الصيغة التعبيرية أو تلك، لكنها تتخذ في الأغلب هيئة أسئلة مقلقة، لا تلبث أن تخبو ما أن تظهر، وكأن مبررها كامن في ما يتجاوزها، ويشكِّل امتدادا لها في محكيات حول الغير. ويتمثل هذا المبرر المُجَاوِز في سؤال مركزي مدفوع بدهاء نحو الخلف: "ما عالم الكبار؟". وبالتالي يصير هذا السؤال المركزي الأخير بمثابة محتوى رئيس يحدِّد علاقة الإرادة بتعرف العالم. ويتحول هذا المحتوى بدوره إلى نواة مجمِّعة لبقية النويات ـ الأسئلة، وتعلة لها ومبررا. ولعل ما تضيفه رواية (سرير الأسرار) إلى مسألة التعبير عن علاقة الإرادة باستعمال الموضوع (المعرفة) يتمثل في كون الإرادة الخاصة بالأنا ـ الأنثى ممررة من خلال إرادة الغير؛ أي أن الذات لا تذهب إلى العالم قصد تعرفه، بل يأتيها كاشفا عن خفاياه انطلاقا من إرادة الغير، فتكون بذلك عبر ـ ذات ينقل من خلالها العالم كما أُريدَت معرفته من قبل ذوات أخرى (الأطفال ممه رحمة الأمين يطو العمة... الخ). فإرادة البوح بالإسرار ـ بوصفها مختزنة، ومصدر فعل السرد باعتباره نقل غياب ـ لا ترد انطلاقا من الإرادة الخاصة، بقدر ما ترد في هيئة تعلم مصدره الآخر وإرادته: "إذا ما راودك كابوس يا ابنتي وأرقك وقضّ مضجعك، انهضي في الفجر من رقدتك، ابسطي يديك إلى السماء وادهنيها بريق من فمك وانطلقي في البوح"(5). ولفهم علاقة البوح ـ بوصفه خاصية فعل السرد ـ بنقل عالم الحدوث، لا مناص من طرح مسألة التصور في علاقته بالتحقق: أتسعى الأنا الأنثى إلى البحث عن معرفة العالم قصدا عن طريق التنقيب والكشف، أم تحدث هذه المعرفة بفعل الصدفة والغير؟

لا تمتلك "الذات الأنا" تصورا واضحا يرشدها في تحقيق المعرفة حول موضوعها (العالم من حولها)، بيد أن ذلك لا يعني غيابه التام، فهو حاضر على نحو شكلي، في صبغة أسئلة، من دون وجود ما من شأنه أن يمكِّن "الأنا" من تحديد طبيعة الجهد الذي يسمح لها بتبيُّن الطرق التي يتحقق بواسطتها الموضوعُ (المعرفة). فالذات ـ "الأنا" لا تسعى إلى تملك شيء ما، ولا إلى تغيير العالم، أو نشدان وضع مغاير، بل تكتفي بطرح السؤال عن وجودها، وتظل عند حدود السؤال فقط، من دون تحويله إلى جهد متطلع نحو الإجابة. فإرادة الذات "لأنا" شبهُ إرادة، بل هي مجرد معبر لأنواع مختلفة من الإرادة. ويفضي كون الإرادةِ واردةً على هذا النحو إلى تحول الذات إلى مجرد ملتقط لما يحدث في المكان (الحي). ويكتمل وضوح هذا الأمر حين نعلم أن العالم من حول "الذات ـ الأنا" هو الذي يدفعها إلى محاذاة شبه الإرادة هذه. فردود الآخرين (الجيران الأطفال ممه رحمة) هي التي تحفزها على أن تتجه نحو استكشاف ما يتخفى وراء ظاهر العالم. إن ما سيجعل السرد يتنامى متخذا هيئة صيرورة ماثلٌ في كون التصور لا يعد سابقا على التحقق، بل يتشكل شكليا بموازاة معه، ومعنى ذلك أن ما هو موضوعُ معرفة ليس سوى بحث عن تصور ما من أجل تعرف العالم. فالأسئلة تقود إلى ذاتها، لا إلى إجابات، ولا إلى إمكانات الفعل السردي، بما هو مُسهم في الحدوث. وبالتالي تصير مجموع التحقُّقات غير قصدية، أو مقترحات آيلة إلى بصر "الأنا" وسمعها من الغير سواء أكان هذا الغير فاعلا سرديا، أم ناقلا العالمَ سردياً. ومن ثمة تكون الذات طيِّعةً مساوقةً لأنواع مختلفة من الإرادة في علاقتها بالمعرفة. فهي فاعلة في حدود فعل الآخرين، وحيز حركتهم في الفضاء. فكل ما يحدث لا ينقل انطلاقا من قصدٍ قبلي من قبل "الذات" سابقٍ على الحدوث (ما يجري في الحي)، وإنما ينقل انطلاقا من فجوة الصدفة بوصفها مَنْشَأَ الحدوث. ومن ثمة تكون "الأنا" مجرد مشارِكة في مُشَاهدةٍ (فردية و/ أو جماعية) تصنعها الصدفة، لا القصد، بيد أنها تعتبر ناقلةَ الغياب (ما جرى) سرديا، وشاهدةً عليه. ويمكن أن نتساءل، في ضوء هذه المقتضيات، ما إذا كانت الأنا الأنثى مماثلة لما يحدث مفاجئا متلفعا بالصدفة؟ ألا تعد بدورها نتاجَ صدفة غير مخطط لها. من هنا يتأتى الاستثناء المنتج للسردية. وهو استثناء لا يتأتى من جهة علاقة الإرادة باستعمال الموضوع ـ حيث يتجه التعرف (وبخاصة على مستوى النواة الفرعية: سؤال "من أنا") نحو نسيانه ـ فحسب، وإنما يتأتى أيضا من جهة الذات، فهي نتاج غير شرعي. ولهذا الأمر أهمية قصوى في تبصر العنوان الذي اُخْتِير للدلالة على النص.

إن التحقُّقاتِ المتعلقةَ بالغير ـ وغير القصدية من جهة علاقة الإرادة بها ـ موظَّفةٌ من أجل إبراز ما له صبغة خلاصة. ومن ثمة لا يكتمل التصور إلا على هيئة رؤية ممكنة تتضمن ممكن الفعل، لا تحققه. وهذا ما ينتهي به النص على هيئة كلمة اختتام صادرة على لسان "الأنا ـ الذات"، وهي تقوِّم المآل الذي انتهى إليه "علي" منعزلا يحرس الفنار: "أنت تعمل الآن حارسا للمنار. تفرش سريرك قربه. وهو ينبه السفن والمراكب الصغيرة كي لا تتيه ولا تصطدم بحواف الجبال. وفي الليل تنطلق أنواره، وفي الظلام الحالك يصبح شعاعه ضياء يهتدى به. هو الفنار عينك التي فقدت. فدع وهجك يساير ويتخطى نور الفنار، يتدفق مرفوفا على روحك، وعلى كل من تَتَبَّع حكايتك. ارفع رأسك عاليا إلى السماء، وجل بتلك العين الوحيدة الباقية حول ما هو مترام أمامك، لتتفتح لك البصيرة فتعانق وجدانك في روق، ولينقشع لي ولك الطريق في ليالي حيّنا البهيمة"(6). فحكاية "علي" تعتبر تحققا غيريا يكاد يختزل كل التحققات الغيرية الأخرى، والتي يكرر بعضُها البعضَ وفق مبدأ التأكيد الذي غايته نفي الجحود، وإثبات يقين راسخ لا يقبل الطعنَ، أو المخاتلةَ في حقيقته. ووظيفة الاختزال هذه قائمةٌ، في علاقتها بالحكايات الغيرية الأخرى، على خاصية الاختلاف، لا التشابه. وتكرارُ حكايةُ "علي" مجملَ الحكايات الفرعية آيلٌ إلى التنامي السردي من جهة التضاد. فهي مُظْهَرةٌ من حيث أنها دالة على الصراع، لا الاستسلام الذي ظل ميسمَ كل الضحايا في جميع الحكايات الغيرية الفرعية. لكن التكرار يفيد أيضا ـ بوصفه مظهرا بلاغيا تترتب عليه دلالة التأكيد المفضية إلى نفي الجحود (الإنكار الممعن في الإنكار) ـ يقينًا لا يُستشف إلا بوصفه خلاصة بلاغية ناجمة عن تكرار تجربة تاريخية ضمنية غير معلن عنها على نحو صريح. والمقصود بذلك تجربة مصير المغايرة والنقاء في عالم يتنكر لطهره، والتي تتمثل في العزلة والالتجاء إلى الخلوة هربا من الصراع نفسه تحت ثقل اليأس. وهذه التجربة ماثلة في حركة الصوفية، وفي نصوص سردية قديمة من قبيل "حي بن يقظان"، ونصوص سردية معاصرة كما الحال بالنسبة إلى ذلك الشيخ الذي يحرس بدوره الفنار في رواية "غاندي الصغير" لإلياس خوري. 

2 الطبولوجي والدلالة:
سنعمل، في هذا المستوى، على ضبط التجديل المتضافر بين الدلالة التي عُولج بعضٌ من جوانبها، في المستوى السابق، والتهيئة التعبيرية، من حيث هي منتمية إلى ما يشكل الخطاطة لا الترسيمة؛ أي التجديل بين المتفرع المنتظم، والنقطي المتنافرِ ومتعددِ الأمكنة النصية. فما ينتهي إليه التنامي السردي دلاليا يمكن التعبير عنه بعوْد العالم المتردي نفسه، وتكرار ظهوره، والنهايات المستديمة لفعلٍ موسوم بالإخفاق. فمن جهة نلاحظ أن السرد يقدم صيرورة العالم دلاليا من خلال حكايات متفرعة غيرية تنتقل إلى التنامي السردي عبر المشاهدة أو السماع، ومن جهة أخرى هناك دلالة الجهد الذي يسعى إلى ردِّ فعلٍ اتجاه العالم، والذي تمثله حكاية "علي". وهذا الجهد غيري بدوره، ولا صلة له بالذات "الأنا"، بيد أنه يمثل منحى نموذجيا بالنسبة إليها، ويمنح لها أفقا للرؤية. وكأن النص السردي يتنامي وفق مبدأين: مبدأ التكرار الذي يتخذ له صيرورةَ العالم محتوى، ومبدأ المغايرة المجهضة الماثل في ظهور الجهد، في النهاية، بوصفه غيرَ بطولي ويائساً. فالمبدأ الأول لا يعني سوى استعادة بداية واحدة، هي مظهر العالم الذي يمثله الحي في عدم نموذجيته، وهذه البداية تكرر نفسَها في شكل بدايات مختلفة تكرر حكاية الحي ذاته، ومن ثمة يعد تنامي النص السردي نتاج إحلال سردي(7) يتكون من طرفين: طرف الانطلاق وطرف الوصول. فالطرف الأول (الانطلاق) يغيب ولا يحضر في الرواية، بينما يحضر الطرف الثاني (الوصول) ماثلا في المحكي الذي يتحيَّن نصيا انطلاقا من معاودة مشاهد تستند إلى دلالة الفجور والفسق. وهذه المشاهد تتوالى في هيئة حكايات أحداث (8) منفصلة تعاني من الافتقار إلى ما يجعلها ملتحمة داخل كل موحِّد. ولا تستقي هذه الحكايات الأحداث، بوصفها دالة على المتنافر نصيا، وحدتَها إلا من خلال الطرف الأول الخفي، أو غير المذكور، والذي يختزل دلالته المثل العربي المعروف "الليل أخفى للويل". فجل الحكايات ـ الأحداث الفرعية حادثٌ، من حيث الزمن، ليلاً. ومن ثمة تختزن هذه الحكايات الفرعية، في بنيتها، ثنائية (الظاهر والخفي) ذاتِ الصلة بالنواة الصُّلبة التي تؤسس التنامي السردي دلاليا. كما أن الليل يعد ـ بوصفه المروي فيه لأغلب لحظات التدفق السردي ـ حاسماً في منح الشتات المتنافر (الحكايات ـ الأحداث) ما ينقصه من وحدة ضامة، بما يعنيه ذلك أيضا من إحالة النص السردي على ذاته(9)، في فهم العالم، وتركيز هذه الإحالة في بنائه الجمالي. وهنا لا مناص من التجديل بين الإحالة الذاتية، و/ أو المنعكسة (= زمن الليل في النص، بما يفيده من خفاء)، والإحالة الخارجية، وإن كانت تتوسل ـ قصد إظهار نفسها ـ بالتعبير بوصفه "استحواذا واقعيا بوساطة التعابير الدالة"(10) (= المثل العربي: الليل أخفى للويل). والتجديل بين نمطي الإحالة المذكورين قائمٌ على مستوى تعقيل التخييل عن طريق تجسيم امتداد المقتضب (المثل) انطلاقا من المعادل الحكائي بغاية التحكم في تأويل ر واية (سرير الأسرار).

يعني المبدأ الثاني المتعلق بالمغايرة المجهضة قلبا في البناء السردي، لا بمعنى التحول، لكن بمعنى وضع شيء في غير محله أو في محل شيء آخر. فما كان وجوبُ وضعه في البداية، مع تنميته سرديا، ضرورةً لإكساب التنامي خاصيةَ التحول يًختزل، ويوضع في النهاية في هيئة اختتام. والمقصود بذلك حكاية "علي" التي تختتم توالد الحكايات الفرعية. فهده الحكاية تتضمن في بنيتها الصراع، والمآل (التحول)، والمغايرة معا، وهو ما لا يتوفر لباقي الحكايات. وإذا كانت حكاية "علي" لا تنفصل عن دلالة الإحلال السردي، بحيث لا يمكن عزلها عن نتاج الليل بما يركزه داخله من ثنائيات (الظاهر/ الخفي الغموض/ الوضوح الظلام/ النور)، فإنها تحيل أيضا على الانتظار الذي يعاني منه من يشعر بانسداد الأفق. وبالتالي يحيل النص على كل النصوص السردية التي جعلت من الترقب موضوعةً لها، كما هو الحال بالنسبة إلى روبنسون كروزيه في عزلته المميتة في جزيرة غير مأهولة. هذا فضلا عن الإحالة على كل الاستخدامات البلاغية القائمة على الانتظار في ارتباطه بانجلاء الليل، وظهور النور (الفجر)، والتي تزخر بها النصوص الشعرية. ويرتبط الانتظار بثنائية (الظلام والنور) في علاقتها بما هو معرفي. أيهدي علي ـ بحراسته الفنار ـ السفن إلى نقط الرسو الممكنة، أم تشكل السفن في عبورها ليلاً حلما ما في انتظار شيء له نبوءة الأمل؟ لا هذا ولا ذاك. إن نوعا من المماثلة الناقصة هي ما يؤسس الاختتام. فعلي لا يماثل الفنار الذي يحرسه، وإنما يماثل السفن، والبحر يماثل الواقع، ويماثل ضوءُ الفنار الرؤيةَ صانعة الأمل (أو ما تعبر عنه "الأنا" بالطريق)، بيد أن هذا العنصر الأخير من المماثلة مفتقدٌ وناقصٌ، أو غير محيَّن، أو هو مجرد أمل. ولذلك اعتبرنا المماثلة المستخدمة سرديا ناقصة. وما لا يجب إغفاله هو أن الانتظار قد لا يستقيم داخل ما تريد "الأنا" ـ الأنثى موضعتَه فيه، أي داخل بنية الأمل، بل قد يفيد اشتغال ما هو آيل إلى النص، على نحو لا واع، من بنية الارتباط بالطبيعي؛ حيث يكون النبذ مفسِّرا، سواء أكان نبذا ذاتيا، أم نبذا من قبل الجماعة. وخاصية النبذ هي مميزة لما هو حيواني، ذلك أن الأضعف تلفظه الجماعة وتبعده. وهكذا يصير مبدأ المغايرة المجهض دالا على المنتهى، ودالا على امتداد النص ثقافيا خارجه، لكن مع سحب هذا الخارج الثقافي، في عراقته، نحو البنية الداخلية للنص، لأنه لا يقل أهمية في إكساب هذا الأخير حجم العون الذي يحتاج إليه في تنظيم تناميه. وسيتضح لنا في نهاية تحليل الخاص والعام النحو الذي يصير به هذا المبدأ مسهما في الدلالة وتنظيمها.

إن الليل يعمل ـ وهو يجمع داخله الإحالتين معا (المنعكسة والخارجية)، ويكثفهما ـ على تنظيم محتوياته من خلال إبراز أحد متعلقاته(11) الإحالية المكونة لسلسلته الدلالية (الظلام ـ النوم ـ الأسرة ـ القمر) وتحويله إلى ناظم طبولوجي على مستوى التعبير، وجعله في الوقت ذاته يعيد تنظيم الدلالة تقهقرا. وما هذا المتعلق الإحالي سوى السرير. فهو يشير، من جهة، إلى كلِّ النص مضطلعا بوظيفة العنوان، وينظِّم أجزاء النص ويقسمها، ويحمل، من جهة أخرى، في طياته محتوى الأسئلة التي تؤسس علاقة الذات "الأنا" بالمعرفة، وبخاصة منها السؤال الفرعي (من أنا؟).

يتضمن السرير ـ بوصفه متعلقا إحاليا ـ في بنيته الحرفية و الصوتية مجموع مكونات السر الحرفية والصوتية. إنه جناس غير تام، لكنه فادح، وإن كان لم يُسْتغل بطريقة تجعل العالم السردي ينبع منه ويعود إليه، فيضطلع بدور الناظم الطبولوجي الذي يبرر الانبثاقات النصية. هناك أسئلة عديدة تحف بكلمة السرير، وهو يقوم بوظيفة العنونة: أيعد المقصود بالسرير هيئتَه نفسها أم من ينام فوقه (و/ أو من يرتاح فوقه)؟ هل يتعلق الأمر بمجاز مرسل؟ وما نوعه؟ أمجاز يقوم على علاقة (المحل/ الحال) أم يقوم على علاقة (ما كانه/ ما يكونه)؟ كما أن السرير يتضمن ـ من باب التحريف الصوتي (و/ أو الاستبدال) ـ الصريرَ، وذلك بقلب السين صادا. وهو ما يصدر عن الأسرة المتهالكة من صوت.

ويتولد عن قلب صوتي من هذا القبيل سؤال آخر: هل يتعلق الأمر بأسرار لم تعد قابلة للخفاء، لكونها صارت ـ بفعل استفحالها، وقدَمِها ـ معروفةً، كما هو الحال بالنسبة إلى سرير متهالك لا يمكن حجب صريره. فالعنوان يضع القارئ مباشرة أمام معنى ممكن قوي، قبل أن تحسم قراءة النص المتمعنة في صحته. ويمكن إجمال هذا المعنى الأولي في "السرير الذي له أسراره الخفية، أو السرير الذي لا تتسرب أخباره". لكن قراءة النص توحي بغير ذلك، أو تثبت العكس، أي معنى "السرير الذي تنكشف أسراره". ويتضمن السرير في بنيته بنية فعل التستر، بما يشتمل عليه هذا الفعل من قرابة صوتية معه، وبما يعنيه من اختلاء، ومن تضمنه زمن الليل بما هو مصدرُ ظلام وحاجبُ الرؤية (الإخفاء). إن السرير بهذا المعنى هو موضوع السرد الوسيط، أو موضوع يتوسط شبهَ الإرادة المتوخاة، وموضوعَها الأساسَ الماثل في المعرفة، ومن ثمة يعد هتك السر بكشفه المعنى الحاسم الذي يتضمنه العنوان، وقد اُسْتعيد عبر السيولة السردية من خلال الحكايات الفرعية، موضوعا مستخدما من أجل استهداف الموضوع الرئيس الماثل في المعرفة. وما العناوين الفرعية (سرير الأسرار ـ سرير الاستراحة ـ سرير ليلة الخميس ـ سرير الخنازير) إلا توزيعٌ للحظات عملية انكشاف السر.

ما لا يجب نسيانه، في بناء دلالة السرير، وأهميتِها في السيولة السردية، السؤالُ الفرعي: (من أنا؟). فللسرير نتاج. وهذا النتاج له صبغة كينونة. فمن حيث النتاج يتحدد السرير وفق المجاز المرسل: إطلاق المسبِّب وإرادة المسبَّب. فالمسبِّب يتمثل في فعل الخطيئة الذي تجهل فواعله، والمسبَّب يتحدد في الأنا التي هي نتاج فعل الخطيئة. فالسرير يختزل الأنا نفسها بوصفها نتاجه. ويتحدد السرير من حيث الكينونة وفق المجاز المرسل: إطلاق ما يكون، وإرادة ما كان. ف (ما يكون الآن) ماثل في الأنا، بينما (ما كان) ماثل في السرير بوصفه أصلا مفتقدا. ويتخذ النتاج والكينونة معا هيئة سر غير قابل للهتك، بالرغم من وجود شبه رغبة في ذلك. ومن ثمة تعتبر الحكايات الفرعية ـ التي ترد تحت عناوين مختلفة بوصفها محمولات تحمل على السرير باعتباره بؤرة استبدالا لفعل الهتك الخاص بسر "الأنا"؛ حيث يوضع الكشف عن أسرار الحكايات (المحمولات) محل الكشف عن السر الخاص بالأنا والذي يلحق به الحجبُ. ومن ثمة تظل "الأنا" أسيرة سرها، وأسيرة استعارة السرير. وكم سيكون الأمر أكثر إمتاعا إذا تنبهنا إلى أن السرير يتضمن في بنية الصوتية ممكن قرابة مع فعل (الأَسْر)؛ أي ما يوحي بكون الأنا، كما قلنا، أسيرة ماض متصف بالغموض، ومن ثمة يصير التكثيف الدلالي واردا على نحو آخر، فالسرير هو الماضي، والماضي هو "الأنا"، و "الأنا هي السرير. وهذا التكثيف تام بموجب علاقة التعدي الواردة في الرياضيات.

فالتحرر من استحواذ السرير، بما يكثفه من دلالات، لا يجسم سرديا إلا من خلال نسيانه. وهذا النسيان مؤقت، أو هو تذكر محرف عن غايته. وهذا التحريف ماثل في تعويض كل جهد مبذول من أجل نسيان الأصل بتذكر حكايات أحداث فرعية. وعملية الاستبدال هذه تعد فعلا سرديا، على مستوى التسريد، يقوم بوظيفة تنظيم المضطرب (المتنافر = الحكايات الفرعية) انطلاقا من تنظيم فعل دلالته (تعويض النسيان بتذكر المماثل الراهن). وبهذا التعويض تكتمل بلاغة الإحلال التي تجعل من أصل ثقافي قائم قبل النص (الليل أخفى للويل) مادًّا المتنافرَ (= الحكايات الفرعية) بما يحتاج إليه كي ينتظم. وبالمقابل يسمح المتنافر (المضطرب) بإعادة تنظيم الأصل، لا بتكراره فحسب، فهذا أمر محسوم فيه، وإنما أيضا بإكسابه طابع صيرورة، وتجسيمه بمحتوى الخطيئة. فالأصل الخاص بالأنا يستبدل، وهو يبدي تعذر تجليه، بأصل آخر (الخطيئة) ذي مظهر ثقافي يعوِّم الزمن والمكان، بحيث يفرغهما من محتواهما النسبي، ليحل محله محتوى دائم من طبيعة فطرية. 

3 الخاص/ العام:
لا نريد بهذه الثنائية استعادة النقاش حول مفهوم (النمطي)، كما بلوره ج. لوكاتش، في دراسته "الشخصية" الروائية، وإنما نريد معالجتها انطلاقا من ميزة ربط الرواية ـ في نشأتها ـ بالفردانية والعقلانية بوصفهما مظهرين يميِّزان الأرضية الابستمولوجية التي استوعبت الجنس الروائي، ومدَّته بخصائصه التعبيرية المميزة؛ حيث اتجه الإنتاج السردي صوب تخصيص مفرادته الكبرى، بجعلها مغرقة في البحث عما يجعلها دالة على نفسها، من خلال متاح الخصوصية التي تتمثل في مدِّ ما هو "استثنائي" من مجال علاقة الإرادة باستعمال الموضوع إلى باقي الأطرف المكونة للصيرورة السردية من ذات وموضوع، بل إلى التعبير نفسه. ومن ثمة صار من الشروط التي تتطلبها الرواية تفريدُ ما تضعه لها على أنه مفردات مميزة لقراءتها (جهد ـ صيرورة ـ حوامل ـ مقولات صنافية ـ مقولات بانية ـ تعبير ـ موقع)(12). وهذا التفريد هو ما نشير إليه بالخاص. لكنه تفريد تام فوق أرضية مشكلة من العام، لا بوصفه مشتركا، أو رأيا عاما ـ وإن كان هذا واردا على مستوى اللغة ـ ولكن باعتباره حياة نمطية ذات ارتباط بما هو مؤسساتي. وتتميز العلاقة بين الخاص والعام بالتصادم والتخالف اللذين يؤسسان التوتر الذي تتنامى بموجبه الصيرورة السردية.

تمرر رواية (سرير الأسرار) العالم انطلاقا من الخاص، من دون إقامته فوق أرضية العام، بل لا نجد ما يشير إلى تصادمهما، وكأن العالم قد اُخْتزلت حدوده في حدود الجزئي، من دون وجود ما يدل على التوتر. فتبدو الحوامل، وكأنها تتبع سياق فعلها الخاص المحدود بالمكان المقلص (الحي) وحدوده الأخلاقية (الفجور)، بل نجد الحياة، وقد استقلت بذاتها منكفئة على ردود أفعال فورية، لا تتعدى ظرفها الخاص والمعزول إلى ما يلحمها بالسياق العام الذي يؤطر الحي والعالم، بما يمكن أن يشير إليه هذا السياق من حضور علني، أو خفي، لما هو مؤسساتي في فرض ثقله. فتبدو الحياة، كما هي ممثلة في النص، قدراً خاصا يفتقر إلى ممانعة الاختيارات الشخصية، ومعنى ذلك أن القدر الخاص يصير دالا على كون الأفراد يشكلون في حد ذاتهم قدرا مسلطا على الحي. وكأنهم لم يكونوا عجينة ظروف تمس وجودهم الخاص. إن ما تقدمه رواية (سرير الأسرار) من حوامل لا يتعدى شبه ذوات (في علاقتها بالموضوع)، وشبه أفراد (في علاقتهم بالجماعة)، وشبه شخصيات (في علاقتهم بالمجتمع)، وشبه أنوات (في علاقتهم بالآخر).

فإذا كانت الأنا حاضرة، فلا يتعدى وجودها دور الضمير، في شقيه: شق تعيين مصدر الكلمة السردية ناقلة الغياب، وشق الإشارة إلى الكيان، من حيث هو معبر للعالم (مشاهدةً وسماعا) في علاقته بالغير، الفاعل. وأما الفرد المتميز عن الجماعة (الحي)، فلا وجود له، لأن جل الحوامل هم آتون من سمت الفجور الذي يتبدى، وكأنه سمة محددة للجماعة داخل الحي. وقد يكون "علي" ممثلا على نحو مجهض للفردانية، بما يتصف به من تميز، لكن تمثيله هذا يعاني من الافتقار إلى التصور المغذي للفعل (الفكرة). فما يأتيه من فعل، هو مجرد ردِّ فعلٍ، يكاد لا يخرج عن مُثُل الجماعة (الشرف). فشبه أناه صيغت فوق أرضية الجماعة منظوراً إليها انطلاقا من نمطية الطبيعي في مقابل الثقافي؛ أي القيم البدوية في مقابل القيم المدنية، بما يحيل عليه ذلك من استعادة ما هو موغل في المجتمع الزراعي من قيم عريقة ورمزية تتمثل في صراع الفرد المرير مع الطبيعة، ومحاولة حماية وجوده مما تهدده به، وإظهار السمة البطولية من خلال هذا الصراع، ويتجلى ذلك بيِّنا في الفصل المعنون بِـ "سرير الخنازير"، حيث الصراع مع هجوم الخنازير ليلا على الحقول دالٌّ، بما فيه الكفاية، على إحياء رمزية زمن يتجاوز الراهن نفسه نحو أزمنة غامضة ظلت محفورة في المتخيل، وتستحثه من دون وعي لاستعادته.

إن رواية (سرير الأسرار) لا تُظهر الخاصَّ أيضا إلا لكي تدمره، وتنزع منه خصوصيته؛ وذلك بإفقاره عن طريق مبدأ التكرار الذي يميِّز توالد الحكايات، وكأن الأمر يتعلق بصيرورة تخترق الحوامل وتسلبهم إرادتهم الخاصة. وما هذه الصيرورة سوى اشتغال الغريزي (الفجور)، غير القابل للترويض، خلف شبه الإرادة، من دون ارتهان إلى أوقات محددة، بل هو يعلو فوق الزمن، فيغدو وكأنه قدر يعاود الظهور من دون أن يكون مشروطا بالزمن. فالغريزة ذات مظهر بيولوجي متعال على الشرطين: الاجتماعي والثقافي. فتجد الحوامل نفسها عرضة له.

وكأن رواية (سرير الأسرار) تعيد إنتاج مبادئ المدرسة الطبيعية مع "إ. زولا"، لا في شمولية اختياراتها الجمالية، وإنما في شرط ببنائها الحاملَ انطلاقا من تطلبات الطبيعي ـ البيولوجي. فكل أشكال القوة الرمزية تندحر أمام قوة الجسد. وكل ممكنات العالم، من حيث هو عيش متنوع، تتراجع أمام هذه القوة، بوصفها أسلوب تدمير ذاتي، بل جماعي. ومن ثمة يصير الجسد نافذةً تطل من خلالها الحوامل على العالم، وتسعى إلى فهمه انطلاقا من المتاح الذي تسمح به. إن السرير في ناهية المطاف تعبيرٌ يختزل الغريزة التي لا تعقل حدود ممكنها الثقافي، بل الغريزة بوصفها أصلا للوجود غير النموذجي. ومن ثمة ينكشف ما هو مغرق في تأويل العالم بوصفه حكايةً، كما توجد مهيأة في النصوص القديمة، حيث ثنائية (الخطيئة/ الطهرانية) تعتبر تفسيرا للوجود والمعاناة منه. وبالتالي تصير الخلاصة التي يقود إليها مبدأ المغايرة المجهضة، بما تفضي إليه من عزلة، منتجا للخلاصة (المنتهى)، والماثلة في كون الخطيئة أصل الوجود.

إن ما أتينا على تحليله له تبعات بيِّنة تؤثر في طبيعة الرواية إجناسيا، من حيث أنها تقع ـ في تشكيل حواملها ـ في المسافة الفاصلة بين الخاص والعام. فإن كان تمثيل هذا الأخير يتسم بالضمور سرديا، فإن الأول يعرف ـ بالرغم من استهدافه قَدْراً لا بأس به من التعويم يفضي به إلى الضمور أيضا، الشيء الذي يبرهن على وجود نوع من إنتاج ممكن الحكاية الشعبية، بما هي تعبير عن اشتغال أصل ثقافي جاهز يفسر العالم. ويتمثل ذلك في آلية التكرار التي تسم توالد الحكايات الفرعية، وتضمنِ بعضِها البعضَ للدلالة على يقين يكرر حكمته المتعالية على الأفراد والزمن. ومن ثمة يمكن إقرار نتيجة حاسمة بصدد إجناسية رواية (سرير الأسرار)، ومفادها أن نصها يشكِّل المبدأ الروائي انطلاقا من ممكن الحكاية الشعبية، من خلال تدميرها. 

4 الليل: فعل السرد والمعرفة والظاهر والخفي:
لقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن علاقة تنامي السرد بسؤال المعرفة الذي ينصَبُّ على حقيقة "الأنا ـ الأنثى"، بالكشف عنها انطلاقا من العالم بوصفه نتاج حكايات ـ أحداث. وما نسعى إلى فحصه، هنا، هو زمن هذه المعرفة، بوصفها كشفا عن أسرار، والذي يتعين في الليل. ولطريقة الكشف عن الأسرار ـ في ارتباطها بالليل ـ أهميةٌ في بناء، لا الصيرورة السردية فحسب، بل أيضا في بناء مظهري نقل هذه الصيرورة، وهما: ا ـ فعل السرد الذي يتخذ شكل بوح، لكنه بوح يستخدم ذريعةً، لا لقول حقيقة "الأنا"، بل لقول حقيقة العالم. فيتحول البوح إلى فضح، وتتحول صيغة السرد من الرشح الذاتي المميز لكل بوح، إلى تعقب ما يحدث للآخرين. بـ ـ شخصورة السارد، لا بوصفه كيانا، وإنما بوصفه بنيةً مفترضةً لنقل الغياب، ومكونةً من المسافة القائمة بين الكتمان والبوح: أنا أسيرة سري، إن لم أبح به خسئت/ لكن من أين أبدأ؟ وأسرار فواجعنا تتهاطل عليّ وعلى حينا وابلا من المطر. أخاف أن أثقل مسامعك أيها الفجر"(13).

فالسرد لا يقول إلا ما يقع في المسافة بين نفي الكتمان، وما لم يتحول بعدُ إلى بوح. وما يقع بينهما ماثلٌ في الضمير العائد إلى الجماعة "نحن"؛ حيث ينتقل السرد من المفرد ـ والذي تدل عليه ياء النسبة في لفظة "سرّيَّ" ـ إلى الجمع الذي تؤشر عليه النون الدالة على الجماعة "في لفظة" "أسرارنا"، فيتحول البوح إلى فضح؛ أي الكشف عن أسرار الآخرين. بيد أن فعل السرد يعاني من موضعة فعله (الفضح) قياسا إلى موضوعه (الأسرار). والمقصود بذلك تحديد تكوُّنه في الزمن الذي هو تكوُّن أسرار الجماعة (نحن) نفسه. فسؤال تعذر البداية "من أين أبدأ؟" يتضمن أيضا تعذر النهاية على نحو ضمني "كيف أنتهي؟". ونستشف من ذلك حضور التوتر بين المتواصل والمتقطع في قول العالم ـ الأسرار. فالأسرار مماثلة للمطر المدرار غير المنقطع في مواصلة فعله. ومن ثمة لن تكون الحكايات إلا جزءا من كل غير منقطع، قد وُجد قبل فعل السرد، وسيستمر بعد توقفه. ولذلك سيعمد فعل السرد إمام تعذر الكل إلى بناء أجزاء حكايات فرعية مماثلة، لقول ما كان من قبل وما سيظل فيما بعد. ومن ثمة سيكون هذا البناء نوعا من قول المتواصل (الأسرار = العالم بوصفه حقيقة) بواسطة المتقطع (الحكايات الأحداث).

يكاد زمن الحكايات ـ الأحداث يتعين، في الأغلب، في الليل. لكن هذا الزمن لا يعد مناسبا لقولها، أو لسردها، بل لا بد من مجيء الفجر لفعل ذلك. والأمر نقيض، هنا، لفعل السرد في (ألف ليلة وليلة)؛ حيث شهرزاد تحكي حكاياتها في الليل، بينما "الأنا الأنثى" في رواية (سرير الأسرار) تنتظر الفجر لكي تكشف له سرها، بل أسرار الحي. ولا شك أن الأمر له صلة بالمعرفة، وبثنائيات: "الغموض (السر)/ والوضوح (الكشف)"، و "الغريب/ المألوف"، و "الظاهر والخفي". إن ما تحكيه شهرزاد موروث تُنوقِل حكيُه عبر الأجيال، وانتهى إليها، فهي لم تره، ولم تعشه، ولا تنقل سوى ما كان نتاج سمع متعدد متواتر. إنها لا تجهر بشيء كان من اللازم أن يظل طي الكتمان، بينما تعمل "الأنا الأنثى" في رواية (سرير الأسرار) على نقل ما اختزنته العين والسمع، ولا يعد منقولا بالتواتر. وبالتالي فمقصدية السرد ماثلة في إخراج المرئي والمسموع من حالة الصمت إلى حالة الكلام، وفي نقل ما يُخفي عادة خوفا من الفضيحة، أو من الانتقاص، إلى العلن، وذلك بإظهاره، من دون مبالاة بالعواقب.

ومعنى ذلك نقل المعرفة من حالة الاختزان إلى الجهر بها؛ وجعل ما أريد له أن يكون تسترا خبرا مشاعا، بما يفيده ذلك من نزع الكمال عن نقص يتصنع الكمال، وإعادة الغرابة لما هو غريب، بعد أن أدمج في خانة الأليف والعادي. "وأسرارنا تبدأ أسرارا، حقائق يكتنفها الغموض. وما أن ندرك ونعرف بواطنها حتى يجلو عنها جلالها وهيبتها، وينجلي غموضها، نتعود عليها فتصبح مألوفة لدينا رغم بشاعتها، نجترها في صمت رغم مرارتها."(14) ."إن الرغبة في المعرفة ونقلَها تامان انطلاقا من نفي زمن الليل، وإثبات زمن النهار، لأن الأول دال على الستار (الظلام)، بما هو إخفاء، وتستر، والثاني دال على الظهور (النور)، بما يفيده من تعرية وانكشاف." ها أنا أحاول أن أعريها وأن أشهر بها لعلي أرتاح، ولعل أهل حارتنا يدركون مدى بشاعتها. أسرارنا كوابيس لا تنفك تغزوني في سرير حلمي ويقظتي فتؤرقني وتقض مضجعي. ولا سبيل لدي غير أن أفشيها وأحكيها لك أيها الفجر، وعلني أجد لديك بلسما لجراحي ودائي.

فالفجر الذي كان يخرس شهرزاد عن متابعة حكايات ألف ليلة وليلة، سيكون لحظة انطلاقي(15). فالفجر رمز للوضوح، ولانجلاء الغموض، والليل عكس ذلك. ألم تتضح أشياء الطبيعة في القرية عند الفجر بعدما كانت أشباحا لا تبين خلال ظلمة الليل الحالكة. "ها هو النور يجلي عنك رهبتك، يفضح حلتك الواهية، وجبروتك الزائف"(16). فيبدو أن ما هو أكثر إيلاما على مستوى الحقيقة ليس هو يقدِّم نفسه في النهار بوصفه تفاصيل مثيرة للسخرية (كما هو الحال بالنسبة إلى المشهد الذي يُظهر الصراع بين سارطا وأحنانة)، وإنما ما ينكشف في الظلام على أنه موغل في الانحطاط الإنساني، ويظل مندرجا في سياق الفضيحة التي يضرب عليها ستار من الإخفاء. وبالتالي يتجه كلام الساردة "الأنا الأنثى" إلى هتك هذا الستار، وذلك بتسليط النور عليه. والنور مواز، هنا، للكلام (فعل السرد). ويجب فهم الترابط بين الفجر والحقيقة بربطه بفعل السرد الموصوف على هذا النحو. كما يجب أن ينظر إلى الفجر على أنه نهاية صيرورة الليل، من حيث هو زمن انتهاك القيم. وبالتالي لا تنكشف حقيقة كل صيرورة إلا في نهايتها. ومن ثمة يوازي ظهور نور الفجر النهاية التي يصير معها فعل الانكشاف ممكنا، وقابلا للنقل.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد أعلنَّا عن بعض أسس المقاربة التجديلية التضافرية في كتابنا (في النظرية السردية)، وأما مجملها، فنأمل أن يظهر متكاملا في كتاب نظري مستقل، في القريب العاجل. انظر: عبد الرحيم جيران، في النظرية السردية مقاربة جديدة الحي اللاتيني، دار إفريقيا الشرق، البيضاء، 2006.
(2) نختلف، هنا، مع الطرح الذي يتزعمه تودوروف، في كتابه "الأدب" في خطر؛ حيث يعتبر الأدب عونا على العيش، وجعله مرتبطا بالحياة، فلا أحد يجهل التيار الذي أتخذ من الحياة معيارا لبناء فهم العالم، هذا التيار الذي يمتد إلى نيتشه، الذي يرفض أن تكون الحقيقة مدار اشتغال العقل، بل الحياة من حيث هي ذات صلة بالصميم الطبيعي، ويستمر مع سارتر بطريقة مغايرة؛ حيث يعتبر الوعي نتاج تجربة الأشياء، وليس سابقا عليها، بما يؤدي إليه ذلك من نفي لأولوية المفهوم. كما لا ننسى ما بعد الحداثة التي ترفض الفكر النسقي، والكلية والمفهوم، وتضع بدلا من ذلك طرحا يقوم على الإعلاء من الهامش. ولا يهمنا ما إذا كان تودوروف معجبا بفلسفة الأنوار أم لا. فما يهم هو إقامته الأدب على محاكاة الحياة، وما يترتب عليه من نتائج مضادة لهذه الفلسفة. وبالتالي نلح على أهمية التأويل ضدا على مفهومي العيش والعون، وعلى وربط سؤال البلاغة النصية به. نظرا لإيماننا بأهمية العقل، وضرورته في كل زمان ومكان، ولإيماننا بأن الرواية نشأت في حضن تأسيس العقلانية من جهة، ونشوء الفردانية من جهة أخرى. انظر: تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة، عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، البيضاء، 2007.
(3) ـ يمكن الرجوع، في ما يخص مبادئ المقاربة التجديلية التضافرية، ومراحلها، إلى المرجع السابق، الهامش (1).
(4) نشير هنا إلى بول ريكور الذي يعطي أهمية قصوى للحبكة في توفير معقولية السرد، بما تقوم به من وظيفة على صعيد توفير الفهم اللازم للعالم، وتحقيق الهوية السردية. كما بلور ذلك في كتابه "الزمن والحكي". كما نشير إلى تلك المقارنة التي أقامها بلاغيا بين الحبكة والاستعارة، عن طريق إسناد وظيفة الجمع بين المتنافرات إليهما معا، وخلق التآلف بينها. فالاستعارة تجمع بين طرفين متنافرين خالقة لهما فضاء من التآلف بينهما، وتعمل الحبكة كذلك على خلق التآلف بطريقتها الخاصة بين عناصر متعددة متنافرة. يراجع في ما يخص الجانب الأول:
Paul Ric ur, Temps et récit, ed Seuil, Paris, 1983. ويراجع في ما يخص الجانب الثاني:
Paul Ric ur, La métaphore vive, ed Seuil, Paris,
(5) البشير الدامون: سرير الأسرار، دار الآداب، بيروت، 2008، ص 123. وهناك العديد من العقد النصية الدالة على كون المعرفة آتية من الغير، خالقة بعد التعلم المذكور آنفا، ونذكر منها، على سبيل التمثيل لا الحصر، ما تنقله سعيدة على أنه حقيقة "جميل"، وكشف "يطو" عن هذه الحقيقة، وتمهيد الفرصة والشروط لِـ "لأنا" من أجل التيقن من هذه الحقيقة عن طريق المشاهدة. فالذات لا تمتلك ـ إذن ـ التجربة التي تخول لها معرفة العالم، ولذلك ينوب عنها الغير في ذلك "أنت ما زلت صغيرة. يوم يكبر الإنسان يعرف أشياء يتمنى أن لا بعرفها" الرواية 154.
(6) نفسه، 222.
(7) نقترح اصطلاح الإحلال السردي لتأدية مظهر نصي بلاغي، ونقصد به حلولَ نصٍ سردي محيَّنٍ كتابةً بوصفه طرفا ظاهرا محلَّ طرف آخر خفي ينزل منزلة حكمةٍ، أو مثلٍ، أو نصٍ ثقافي مؤسِّس موغل في القدم. ويمكن نعت هذا الطرف الخفي بطرف الانطلاق والطرف الظاهر بطرف الوصول. ويعمل الطرف الثاني (النص المحيَّن) على إعادة صياغة الطرف الأول في هيئة معادل حكائي. فالطرف النص (الوصول) يماثل الطرف الانطلاق، من حيث المحتوى في رمزيته، ويختلف عنه في كونه، لا يقول محتواه على نحو تجريدي، وإنما يجسمه بواسطة حبكة (معادل حكائي).
(8) ـ نريد بالحكاية الحدث ما يُحكى، من دون وجود ما يجعله منتميا إلى صنف الحكاية الخالصة. بمعنى آخر: إن الحكاية تفترض انبناءَها على الحبكة، أو على انعطاف ما في حالاتها الرخوة، أو تحول ما، بينما لا تنبي الحكاية الحدث على هذه الخاصية، وإنما على توالي لحظات فعل ما في الزمن، أو عدة أفعال، من دون انشغال بتلاحمها، أو بما يجعلها مفضية إلى التحول.
(9) يتساءل ميشال هار قائلا: "من أين تأتي غرابة العمل الفني وتماسك قوامه؟"، فيجيب معتبرا أن وحدة العمل الفني متأتية من كل عمل "يقدم تماسكا وحدة عضوية قوية تحيل على ذاته أكثر مما تحيل على أي شيء في العالم". بيد أننا نتساءل بدورنا عن الموضع الذي يحيل فيه النص على نفسه؟ ونرى أنه يفعل ذلك انطلاقا من موضعة الإحالة داخل صيرورة التجانس بين المتنافر. وهذه الصيرورة متأتية، في العمل السردي، من الحبكة، كما يذهب إلى ذلك بول ريكور في كتابه "الزمن والحكي"، ومن علاقة الحبكة (والحكاية الحدث)، بما هو طرف انطلاق خفي مؤسس للتورية السردية. انظر: ميشال هار، فلسفة الجمال قضايا وإشكالات، ترجمة إدريس كثير عز الدين الخطابي، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، 2005، ص 7. Paul Ric ur, Temps et récit, tome I, ed Seuil, Paris, 1983
(10) يقول بول ريكور: إن الخطاب الدال تأويل، وهو الذي "يؤول" الواقع، وذلك بما أنه يقول "شيئا عن شيء". وإذا كان ثمة تأويل، فذلك لأن التعبير يعد استحواذا واقعيا بواسطة التعابير الدالة، "وليس خلاصة مزعومة من الانطباعات الآتية من الأشياء نفسها". بول ريكور، صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، طبع دار الكتاب الجديد المتحدة، 2005، طرابلس، ص 34.
(11) كل كلمة تحمل معها إلى الكلام، سواء أكان من طبيعة متخيلة أم لا، سلسلة دلالية معينة مكونة من عناصر، تحضر بحضورها وتغيب بغيابها. وهذه العناصر تشكل متعلقات إحالية، وسميناها كذلك لأن بعضها يحيل على البعض، ويتعلق به.
(12) هذه المفاهيم خاصة. ولفهم المقصود منها، يستحسن الرجوع إلى كتابنا "في النظرية السردية". مرجع مذكور سابقا.
(13) الرواية، ص 124.
(14) نفسه، ص 122.
(15) نفسه، ص 122ـ123.
(16) نفسه، ص 68.