في رواية الكاتب والباحث المغربي حوار بين صوتين سرديين: الأب والأم وهما يتعاملان مع جدلية الغياب والحضور، غياب الإبنة وحضور سيرتها التي تلوكها الألسنة، في واقع مبهظ ثقيل الوطء.

غابت سعاد (رواية)

بوشعيب الساوري

إهداء: إلى ابني طه، ذكرى مشاكسات طفولية جميلة 

استهلال
هكذا صارت حكاية سعاد موضوع تندر القريب والبعيد. تسللت عبر النوافذ والأبواب والأزقة والدروب وانتقلت من بيت إلى آخر. حتى أصبح يتداولها صغار العائلة وكبارها في جميع المناسبات السارة والحزينة. كما لم يخل أي مجلس من مجالس نساء الحي من الحديث عنها. تصدرت مواضيع نقاش مرتادي المقاهي ممن أدمنوا النميمة ونسج الإشاعات حول الغير. حتى أضحت تضاهي شهرة بطلتها سعاد كل نجوم الشاشة الجدد من وعاظ ومغنين ورياضيين وسياسيين وإرهابيين في زمن الفضائيات.

وقد تفنن الرواة في طرق سردها وأبدعوا، لكنها ظلت حبيسة الشفهي. إلى أن سُمع أن أحد الكتاب قد جعلها روايته الأولى وسماها «غابت سعاد»... 

ما سيأتي من سرد يهم كل مدمن على معرفة أخبار المشاهير والنجوم والأحداث والوقائع المثيرة، وكل مولع بالسرد والنبش في التجارب الحياتية للغير.  

سِفر المتاهات

بطاقة شخصية
منذ سنتين تقريبا من تقاعده عن العمل، أو بالأحرى طرده، الذي تزامن مع حلول الألفية الثالثة، وعزوز يعيش داخل مخطط يومي لا يبرحه، الاستيقاظ المبكر، مثل ديك مسن فقد صوته ومع ذلك بقي وفيا لغريزته، إحضار الإفطار لنفسه ولزوجته وأبنائه الصغار، ثم الخروج إلى المقهى، ليقضي بها أكثر من أربع ساعات مثرثرا في مواضيع شتى حينا ومتأملا في ورقة الرهان حينا آخر، حتى أذان الظهر، ليمر على مسجد عين الشق الكبير لأداء الصلاة ويجر الخطى في اتجاه بيته، حاملا بيده كيسا بلاستيكيا أسود به بعض الكيلوغرامات من الفواكه الرخيصة التي يقتنيها تحت إلحاح الباعة المتجولين المصطفين أمام مداخل المسجد.

أما ما يتبقى من نهاره فيقتله في لعب الكرات الحديدية بنادي عين الشق، الرياضة التي لم يمارسها قبل تقاعده قط. ولا يعود إلى بيته إلا بعد صلاة العشاء. هذا إن لم تكن له مشاغل إدارية أو التزامات عائلية.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المتاهات لا بد من تقديم ورقة تعريفية ببطلها عزوز:

اسمه الحقيقي: عبد العزيز الرحماني، إلا أنه اشتهر بعزوز، لا نعرف متى تم ذلك التحوير ولا ملابساته.

سنه: على التقدير ثلاث وستون سنة.

مستواه الدراسي: حاصل على شهادة الباكالوريا.

مهنته: متقاعد، بعد أن عمل في عدة شركات، مرة تقنيا في الكهرباء وأخرى في الميكانيك، كما يتقن مهنا أخرى.

وضعه العائلي: متزوج وله أربعة أبناء؛ ثلاثة أولاد وبنت مهاجرة يقض غيابها مضجعه.

عنوانه: الشقة رقم 12 بالدرب الأول عن يمين الداخل من شارع تمارة إلى الزنقة أربعة بالحي العتيق بعين الشق، بشقة معتمة لا ترى النور إلا من كوة صغيرة بعد أن بنى الجيران طوابقهم العلوية في السنتين الأخيرتين فألغت نوافذها، عفنتها الرطوبة، جدرانها باهتة اللون، غزا البلى كل أثاثها؛ مائدة طعام تآكل أعلاها وشاخت أرجلها، وتلفاز فقد ألوانه، وثلاجة غزا الصدأ جوانبها، وسرير نوم ممعن في الرثاثة.

وصفه: نحيل الجسم، أسمر البشرة، ما زال رأسه متمسكا بشعره المجعد وإن بدأ يغزوه البياض.

من صفاته: السذاجة، سرعة التصديق، عدم الكتمان وسرعة الغضب.

ما سيأتي من سرد مقتطف من يوميات تيه عزوز الرحماني، بعد تقاعده وقبل عودته مجددا للعمل. يومياته التي لم يدوّنها، وإنما كما نسجتها وتمثلتها مخيلة الكاتب، انطلاقا مما جمعه من أخبار عن سيرة الرجل من زملائه في نادي الكرات الحديدية ورفاقه مدمني لعب رهان الخيول بالمقهى التي كان يتردد عليها، وكذا من بعض جيرانه، ومن خلال زيارته للأمكان التي كان يرتادها. بعد أن ملأت حكاية ابنته دنيا عين الشق وشغلت ناسها.  

المتاهة الأولى
خرج من بيته الذي يقع بأول درب من روافد الزنقة رقم أربعة، عن يمين الداخل إليها من شارع تمارة بالحي القديم الذي يعود بناؤه إلى زمن الحماية الفرنسية، وقد كان مخصصا لإيواء الجنود قاصدا مقهاه. اتجه يسارا ليجد أمامه الحمام العتيق وعن يمينه يمتد المسجد الكبير بصومعته الشامخة وأقواس محلات العدولات التي تصطف أمامه في خط مستقيم كأنها تهم بالصلاة والمدرسة الخصوصية التي نتأت منه وأفسدت جمالية عمارته. اتجه يسارا ثم عرج على صيدلية عين الشق التي تعاهدت مع الفرن المجانب لها ومع الحمام المقابل لها على الاستمرار في خدمة الزبائن الأوفياء من قاطني الحي القديم، على الرغم من ظهور صيدليات وحمامات وأفران جديدة في الأحياء المتاخمة للحي القديم. في سيره إلى المقهى كان بين الفينة والأخرى يقدم التحية الصباحية إلى بعض جيرانه الذاهبين إلى أعمالهم أمام استغرابهم من خروجه المبكر نظرا لكونهم على معرفة بوضعه الجديد، كما كان يلوح بيده محييا أصحاب الحوانيت ذات الأبواب المقوسة الممتدة على طول المسافة الفاصلة بين الصيدلية والمقهى، حتى كاد أن يسقط أكثر من مرة بفعل أكياس الأزبال البلاستيكية السوداء المرمية عشوائيا فوق الرصيف تنتظر قدوم شاحنة جمع الأزبال، الذين كانوا يهمون بفتحها في تلك الساعة المبكرة لخدمة زبنائهم من الحي العتيق.

عَبَر شارع تمارة إلى الجهة المقابلة دون أن يكلّف نفسه عناء الالتفات يمينا أو يسارا نظرا لندرة السيارات المارة في ذلك الوقت المبكر، ليجد المقهى في تساكن أبدي مع سينما الصحراء المتكئة عليها التي حولها الورثة في زمن الفضائيات إلى قاعة أفراح. دخل المقهى قاصدا مكانه المعتاد محييا بحركة من رأسه رجلا قابعا وراء الكونتوار يغالب النوم، بين المستيقظ والنائم، على إيقاع الحركات التسخينية لآلة تحضير القهوة. جر مقعدا وتهاوى عليه، أتاه نادل عجوز نحيل التصق جلده بعظامه يظنه الرائي هيكلا عظميا متحركا بقهوة سوداء بلا سكر، مع رزمة من الجرائد اليومية التي تقرأ مجانا ودون أن ينسى ورقة الرهان، في انتظار مجموعة من القانطين أمثاله. أشعل سجارة وسمّر عينيه في إحدى الجرائد وكان يتجرع بين الفينة والأخرى قهوته المرة. وفي كل مرة كان يقطع عليه أحدهم طقسه ذاك، محييا ومنتبذا كرسيا إلى جانبه، حتى اكتمل الجمع.

تبادل معهم الحديث حول أوضاعهم المزرية وبعض الشؤون السياسية التي يثيرها جهاز التلفاز المعلق الذي يصطفون أمامه. كما استغلوا الوقت لتداول أوراق رهان الخيول (التيرسي) التي يرددون أسماءها كما يتداولون أسماء أبنائهم، لم لا؟ وقد أصبح تعلقهم العاطفي بها يفوق علاقاتهم بأبنائهم، ممنين أنفسهم بكسب أحد الرهانات التي قد تُحسّن من أوضاعم الاجتماعية المزرية. استمروا على تلك الحال إلى آذان الظهر. طوى كل واحد ورقته وأدخلها إلى جيبه، واتجهوا نحو النادل، نقدوه، ثم توجهوا إلى المسجد الكبير القريب، يجرون أرجلهم التي تبدو وكأنها ملتصقة بالأرض كما لو أنهم قضوا أربع ساعات من العمل الشاق، لأداء الصلاة ثم انتشروا كل واحد في اتجاه بيته.

حين عاد إلى بيته، الذي هو عبارة عن شقة صغيرة، تقع في الطابق الأول، ورثها عن أبيه، كثيرة الرطوبة لا ترى الشمس طوال النهار، يدخلها الهواء من كوة صغيرة، شبيهة بزنزانة اختارها بمحض إرادته. وجد زوجته موجهة عينيها إلى جهاز التلفزيون، فانتبذ مكانا إلى جانبها منتظرا أن تقوم بتحضير مائدة الغداء، الذي لا يتجاوز عادة مرقا بلحم الدجاج الرومي والبطاطس، أو شربة عدس، ويتم ختمه أحيانا بقطع من الفواكه الرخيصة.

بعد أن أجهز رفقة الأبناء والزوجة على وجبة الغذاء، مسح يديه بمنديل دون أن يكلف نفسه القيام بغسلهما وتمدد لعله يغفو بعض الدقائق، في غفلة من الوساوس التي تقض مضجعه منذ خروجه من العمل، وفي غفلة كذلك من زوجته التي انشغلت بجمع آواني وجبة الغذاء وتنظيف المائدة، التي توتر أعصابه بأسئلتها وثرثرتها الزائدة أحيانا التي ترجئها إلى ما بعد الغذاء خوفا من ردود أفعال عزوز الجنونية، فكم من مرة رمى بصحن الغذاء ببهو الشقة ملغيا وجبة الغذاء.

لكنه لم يحظ ولو بدقيقة قيلولة، فمباشرة بعد اتكائه تركت زوجته غسل الأواني وانتصبت أمامه سائلة بعنف:

ـ عَاجْبَك الْْحَال تبْقَى هَكْذَا؟
ـ ..........
ـ مَا سَولتِيش عْلَى التَّقََاعُد؟
ـ ..........

لقد تعود على سماع تلك الأسئلة كلما انفردت به. ومن فرط تكرارها، وبقاء مشكل تقاعده على حاله كان يعجز عن جوابها ويلوذ بالصمت الذي ساد لدقائق. ثم كسره متوجها إليها بالسؤال:

ـ مَا جَاب الفَاكتُور وَالُو؟

وبدون أن ترد على سؤاله قامت ومضت إلى غرفة النوم وعادت وفي يدها ظرف أبيض. لما رآه في يدها اعتدل في جلسته وانشرحت أساريره معلنة عن طرد العبوس الذي استوطن جبهته شهورا، معتقدا أن للظرف علاقة بملف تقاعده. وما أن أمسكه حتى ظهر له الطابع البريدي الأجنبي، فتأكد أن الظرف من خارج المغرب. أيقن أنه من ابنته المهاجرة إلى قطر منذ ثلاث سنوات. منذ أن هاجرت وهي تبعث الرسالة تلو الأخرى. وما كان يجمع بين تلك الرسائل ويميزها هو إثارتها ومفاجآتها التي لا تنتهي. فتح الظرف وشرع في القراءة:

«والدي العزيزين تحية طيبة
كما حدثتكما في الرسالة السابقة، فأنا أشتغل كاتبة خاصة لرجل أعمال قطري. ونظرا لظروف أعماله التي تستدعي أسفارا وتنقلات كثيرة داخل البلد وخارجه، اضطر بدوري للتنقل معه، ويصعب عليكما مكالمتي عبر الهاتف.

في الصيف المقبل سأعود إلى المغرب، وسأحمل لكما الكثير من المفاجآت؛ أهمها هو أنني سأشتري لكما شقة كبيرة مطلة على الشمس، وسآخذ معي أخي الذي يصغرني العاطل عن العمل إلى قطر، ليشتغل هنا. لقد كلمت مشغلي بشأنه، وقد وجد له عملا هنا ينقذه من البطالة والتسكع. كما سأسدد لكما مصاريف أداء فريضة الحج.

سلّما لي على إخوتي وعلى كل الأحباب.

مع تحياتي
ابنتكما سعاد"

أعاد الرسالة إلى الظرف وهو يمني النفس بتتويج سنوات العمل الطويلة بغسل ذنوبه برحلة إلى الديار المقدسة. وإن كان ينتظر منها بعض النقود كي تخفف عنه ضائقته المالية التي طالت. قطعت عليه زوجته حبل متمنياته سائلة:

ـ مَا غَادَاش تَرْسل شِي فْلُوس؟
ـ وَالُو..

وخوفا من أن تغرقه في بحر أسئلتها قام من مكانه، وضع معطفه على كتفه، وانتعل فردتي حذائه، وخرج تاركا لها المكان متوجها إلى نادي الكرات الحديدية، تلك اللعبة التي أصبح يجيدها، خصوصا إبعاد كرات الخصم التي كان يفرغ فيها كل توتراته النفسية، بعد أن كان فيما مضى يكتفي بمتابعة مبارياتها بنادي عين الشق المتكئ على سينما الصحراء عن يمين الداخل إليها، ليجهز على ما تبقى من يومه.

وجد رفاقه وأغلبهم من المسنين والعاطلين في انتظاره مع قليل من المتفرجين، حياهم، ثم انطلق اللعب واستسلم لنشوته التي كانت تُكسر باحتساء كؤوس الشاي المتنافس عليها أو بتلبية آذان صلاتي العصر والمغرب. استمر في اللعب، كالعادة، حتى آذان صلاة العشاء الذي يعد صافرة حكم تعلن عن نهاية اللعب وتفرق اللاعبين والمتفرجين. أما هو فقد توجه إلى المسجد للصلاة، ثم عاد إلى بيته فوجد زوجته وأولاده في انتظاره بوجبة العشاء اليتيمة وهي مقرونة عائمة في الحليب. حمد الله أن زوجته لم تكتف بما تبقى من وجبة الغذاء وبطاطسها المتصلبة التي يجد صعوبة في مضغها. احتسى بعض الملاعق دون تذوق، فالمهم بالنسبة له هو إرضاء معدته الفارغة. ثم غيّر ملابسه ودخل غرفة النوم استعدادا لمواجهة جيوش الأرق التي تنتظره، تمدد بحثا عن إغماضة جفن التي راودها عن نفسها لساعات باستعمال أنواع مختلفة من الأسلحة منها التقلب في الفراش والكلام مع الزوجة والانشغال بالأدعية.

* * * *

المتاهة الثانية
خرج عزوز إلى المقهى يرتدي ملابس خفيفة مكتفيا بقميص قصير وسروال ثوب خفيف ملائمين لارتفاع درجات حرارة الجو مع استهلال شهر يوليوز. الحرارة التي حفزت ذاكرته على استرجاع مجموعة من الرحلات الصيفية الجميلة التي قام بها رفقة زوجته وأبنائه، عندما كان الحظ مبتسما له وكانت ظروفه المادية مساعدة. يتذكر ذلك وهو يتحسر على حاضره السيزيفي القاحل.

تهاوى على كرسيه المعتاد الذي أطلق أنينا حادا تجاوبا مع ما يحمله من هموم، دون أن ينبس بكلمة،شارد الذهن. توجه إليه النادل العجوز بقهوة سوداء بدون سكر وناوله جرائد الصباح. فتح إحداها على خبر أيقظه من شروده «محنة المغربيات بالخليج» يتناول الوضع المزري للمغربيات ببلدان الخليح، وكيف يتم تهجيرهن في ظروف غامضة، إما عبر السياحة الدينية، أو شراء عقود عمل تنص على أجور مغرية ومهن فضفاضة؛ كنادلات أو شغالات بالفنادق أو مزينات في محلات الحلاقة أو عبر"الزواج الأبيض" بخليجي أو مقيم هناك. لكن الوضع يتغير بمجرد وصولهن إلى بلد الاستقبال. تقاد "الوافدة" من طرف كفيلها إلى سكنها الذي تقطنه غالبا مع عدد من الوافدات مغربيات أو أجنبيات في شكل إقامة جبرية؛ حيث تمنع الوافدة من مغادرتها إلا تحت رقابة الكفيل وبرغبته أو بأمر منه. وبعد ذلك يتم استدراج الوافدة وترويضها وجعلها تمارس أقدم مهنة في التاريخ، بإرادتها أو مرغمة. لتسقط في جحيم لم يكن لها ببال. كما تضمّن المقال حكايات وشهادات حية لبعضهن.

عجز عن متابعة القراءة خوفا من أن تكون ابنته من بين المستجوبات. فهجس ذلك في نفسه. طوى الجريدة ونحاها جانبا بتوتر حاد. لقد حفز ذلك الخبر ذاكرته على استرجاع الطريقة الغامضة التي هاجرت بها ابنته.

أدخل يده في جيب معطفه بحثا عن علبة السجائر وجدها. أخرج سجارة. لكنها تملصت من بين أصابعه المرتعشة وهوت أرضا فانحنى لالتقاطها فانتبه إلى الفتحة التي اتسعت في مقدمة فردة حذائه اليسرى راسمة ابتسامة ساخرة معلنة عن تآمر مع وضعه المزري. فازدادت حدة توتره. أمسك السجارة وأشعلها لتهدئة أعصابه. أخذ نفسا طويلا، ثم نفخ الدخان إلى أعلى. وأخذ يتأمل في تموجاته المتصاعدة وكيف تتبدد في الهواء في تجاوب تام مع وضعه الممعن في الانحدار، مستسلما في داخل نفسه لسيل من الأسئلة: لماذا تركت البنت تذهب إلى الخليج؟ أيعقل أن تكون ابنتي مثل هؤلاء الفتيات اللائي تحدث عنهن صاحب المقال؟ ولكن ما الذي يمكن أن تفعله هناك وهي لا تملك أي دبلوم؟...؟...؟ تناسلت تساؤلاته مع توالي امتصاصه للسجائر واحدة وراء أخرى إلى أن دخل في سعال حاد، لم يوقفه إلا قدوم النادل بكوب ماء. عبه دفعة واحدة. فذهب السعال وتبددت معه الوساوس.

بدأ الرفاق في التوافد على المقهى، وبتزايدهم كانت تتقوى شهية الكلام فتبادلوا معه الحديث عن الأمور السياسية، وخصوصا ما يجري في الأراضي المحتلة من تقتيل وتنكيل بالفلسطينيين، وهي صور صارت مألوفة من فرط تكرارها، والتطاحن في العراق الذي أشعل فتيله التحرير الأمريكي المخادع. لكن الحيز الأكبر من النقاش دار حول غلاء الأسعار وتفشي البطالة والفقر وتزايد الأزبال في المدينة، أمام صمت المواطنين. وأنهوا نقاشهم حول ورقة الرهان ذلك المخدر الذي كان ينسيهم مشاكلهم ومشاكل العالم وينعش أحلامهم المؤجلة.

وبالصدفة تناول أحد رفاقه الجريدة فوقعت عيناه على الخبر. شرع في قراءته بصوت مرتفع بنية إثارة انتباه عزوز الذي اعترت وجهه حمرة الخجل، حاول مقاومة استفزاز رفيقه بإشعال سجارة لكنه لم يستطع، رمى السجارة المشتعلة وداسها بحذائه بكل ما أوتي من قوة، متمتما بسباب ولعنة للزمن الذي جعله يصاحب أمثال هؤلاء، مفجرا غضبه، تاركا المكان دون وداع، ودون انتظار موعد الصلاة بالمسجد جريا على العادة. في طريقه تذكر كيف كان يتردد لماما على المقهى للقاء أحد الأصدقاء في نهاية الأسبوع، لكن الفراغ الذي تركه التقاعد جعل تردده عليها سلوكا يوميا، وشيئا فشيئا بدأت تتمكن منه عدوى لعب الرهان، بأحلامها الوهمية التي تشيدها والتي لا تستثني أي متردد على المقهى.

عاد إلى المنزل فوجد زوجته منشغلة بتحضير وجبة الغذاء على إيقاع صفير الكوكوت وأصوات اصطدام الأواني، استغربت عودته المبكرة. فسألته:

ـ عْلاشْ جِيتي بكْري مَا كَايْن بَاسْ؟
ـ وَالُو...

أمام صمته، استمرت الزوجة في عملها، بينما هو دخل غرفة النوم الغارقة في الرطوبة التي شرعت في تقشير طلائها الباهت، ليتمدد في انتظار آذان الظهر. وقبل أن يتكئ سمع جرس الباب يرن فنزل مسرعا. ليجد ساعي البريد الذي مده بظرف أبيض. تناوله بسرعة وصعد إلى شقته وقد عادت مشاعره إلى درجة الصفر. سألته الزوجة:

ـ شْكُونْ؟
ـ غِيرْ وَاحَدْ الرِّسَالة مَنْ عنْد سُعاد.

دخل غرفة النوم. جلس على حافة السرير البالي. فتح الرسالة ليطلع على فحواها، تركت الزوجة المطبخ وجلست إلى جانبه لتستمع إلى مضمون الرسالة:

«الدوحة في...
والدي العزيزين

أتمنى أن تكونا على أحسن الأحوال، أنتما وإخوتي. أريد إخباركما بأنني سأعود إلى المغرب في الأسبوع القادم وأنا أعمل الآن جاهدة على تحضير مستلزمات السفر. وسأحضر لكما معي سيارة. ولا تنسيا إخبار السماسرة بالبحث عن شقة واسعة ومريحة، سأشتريها لكما مباشرة بعد وصولي إلى المغرب.

بلغا سلامي لكل أفراد العائلة

ابنتكما الغالي»

طوى الرسالة وأعادها إلى الظرف ثم وضعها على منضدة صغيرة محاذية للسرير. شعر بارتياح كبير طرد الوساوس التي أثارها المقال الذي قرأه قبل ساعة. تركته زوجته ومضت إلى أشغالها، بينما هو تمدد فوق السرير، فأخذته غفوة لذيذة لم يوقظه منها إلا صوت مؤذن صلاة الظهر. نهض بخفة ودخل المرحاض مسرعا قصد الوضوء، ثم توجه إلى المسجد.

اغتنمت فاطمة فرصة غيابه لإخبار جاراتها القريبات بفحوى الرسالة وعلامات الافتخار والتبجح عبرت عنها نبرات صوتها وطريقة كلامها. تركت الجارات منبهرات وعادت إلى شقتها. فقالت إحداهن:

ـ رَاهْ غِيرْ الكذُوب والفوحَان الخَاوي.
وردت عليها أخرى:
ـ وَاشْ هاذْ المُسَلْسَل ما بْغاشْ يسالِي...

وبالفعل مر الأسبوع بل مر شهر يوليوز ومعه الصيف بأكمله دون أن يظهر لسعاد أي أثر، تاركة والديها يعانيان من ثقل الانتظار، لكن دون أن يفقدا الأمل في قدومها.

* * * *

المتاهة الثالثة
مرت الأسابيع والشهور والفصول وسعاد ظلت ممعنة في الغياب، وعزوز ملازم لإيقاعه اليومي بالانتقال عبر أربعة أماكن لا خامس لها، بين البيت والمقهى ونادي الكرات الحديدية والمسجد في مساحة لا تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا. وهو ما يشهد على ثبات حاله وتحول وضعه الاستثنائي الذي استأنس به إلى وضع طبيعي، خصوصا بعد أن انضافت سنة أخرى إلى سجل تيهه. فكان لا يكسر ذلك الإيقاع إلا لماما بالذهاب إلى إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للاستفسار عن ملف تقاعده أو بزيارة أخيه الأكبر في المناسبات الدينية، أو الإذعان لبعض الطوارئ.

صباح يوم عيد الفطر، وبعد شهر رمضان الذي قضاه بين لعب الكرات الحديدية نهارا والاجتماع بأصدقائه بالمقهى لتداول أوراق الرهان بعد أداء صلاة التراويح، استيقظ مبكرا كعادته وهو يشتم رائحة الزيت المقلي فعرف أن زوجته تحضر بعض الفطائر. توضأ وغيّر ملابسه وارتدى جلبابه الأبيض وتعطر وتأبط سجادته وتوجه إلى المصلى. في طريقه لاحظ أعدادا غفيرة من الناس مهرولين في نفس اتجاهه على إيقاع التسبيح والتهليل، الذي كان يصل عبر مكبر الصوت فظن أن كل البيضاويين ينتقلون إلى المصلى.

مباشرة بعد أن سلم الإمام سلم عزوز بدوره وطوى سجادته وانتعل بلغته وسار نحو محطة الحافلة رقم أربعة التي ليست ببعيدة عن المصلى دون أن ينتظر الاستماع للخطبة، اعترض طريقه عدد كبير من المتسولين الذين اصطفوا في كل الممرات المؤدية للمصلى وتلك طريقتهم في الاحتفاء بالعيد. لكنه لم ينتبه إلى أن الطريق مقطوعة بسبب المصلين وسياراتهم التي ملأت كل الطرق والدروب المؤدية إلى المصلى. فاضطر للانتظار أكثر من نصف ساعة على إيقاع أدعية المتسولين الذين تناوبوا على إزعاجه حتى انفض الجمع. وجاءت الحافلة فخلصته من لغط وإزعاجات المتسولين. استقلها قاصدا بيت أخيه الأكبر الكائن بالمدينة القديمة.

استقبله أخوه كعادته بعناق حار دام أكثر من دقيقة. وسأله عن الزوجة وعن الأولاد، دون تخصيص، خوفا من أن يحرجه بتساؤلاته عن ابنته سعاد، تلك التساؤلات التي كانت تربكه حتى وإن أجابه فسيحول أجوبته إلى أسئلة. كما استفسره عن ملف التقاعد. وكان يجيبه بعبارة واحدة وهي "الحمد لله على كل حال." العبارة التي لا تعبر عن واقعه الحقيقي. وبينما هما هكذا، دخلت أخته الصغرى التي تقطن بعين السبع محاطة بأطفالها الأربعة وزوجها، بعد أداء مراسيم التحية جالت بعينيها في الشقة وأخذت مكانا إلى جانب أخيها عزوز وتوجهت إليه بالسؤال عن الأولاد، لتتحين الفرصة للاستفسار عن سعاد وأخبارها ومصيرها. فكان يرد عليها، وعلامات التوتر بادية على وجهه، بجوابه المعتاد الذي كان ينفعه في مثل ذلك الوضع:

ـ قالت بأنها ستعود في الصيف المقبل.

ابتسمت أخته وقررت الصمت.. استغل الفرصة ليسألها عن تمدرس أبنائها من أجل الانتقال إلى موضوع آخر. وكان يشجعه أخوه الأكبر في ذلك. فأمعن في الثرثرة والقفز من موضوع إلى آخر حتى يبعد الحاضرين عن النبش في موضوع ابنته، وكان بين الفينة والأخرى يسترق النظر إلى الساعة الحائطية المعلقة في الجدار المقابل لجلسته، ويزدرد بعض قطع الحلويات من المائدة المزينة بما لذ وطاب من الفطائر والحلويات التي تحضر في مثل تلك المناسبة. إلى أن ساعدته ثرثرته على قتل ساعة من الزمن. لتصل به إلى موعد الأخبار، فأشعل أخوه التلفاز على لقطات إشهارية مملة وتافهة قبيل نشرة الأخبار. بدأت الأخبار فانتبه الحاضرون فأهملوا كل انشغالاتم اللحظية وتصنموا قصد التعرف على مستجدات العنف في العراق وفلسطين والإرهاب والهجرة السرية. وبعد أن عرج مقدم النشرة على الأخبار المعهودة من عنف وإرهاب. جاء الخبر التالي:

«لقد تم القبض على شبكة منظمة للدعارة تنشط في المغرب وقطر... وعلى رأسها فتيات تتراوح أعمارهن بين السادسة عشرة والثلاثين. أغلبهن من جنسية مغربية..» لقد كان وقع الخبر كالصاعقة على عزوز. احمر وجهه خجلا. كما بدأت تعبره قطرات العرق. واعتراه توتر حاد يلزم إشعال سجارة لكن المكان لم يكن يسمح بذلك. أحس بأن أعين الحاضرين تكاد تلتهمه بنظراتها المفعمة بالاستفهام. فاعتذر للذهاب إلى المرحاض الذي يقع قرب مدخل شقة أخيه. فوجدها فرصة سانحة للانفلات من ذلك الوضع الحرج.

بالخارج تنفس الصعداء وأخذ يمسح عرقه وأشعل سجارة ليخفف من توتره وأخذ يدب في اتجاه محطة الحافلات دون أن يسْلَم من إزعاج المتسولين. عاد إلى شقته والوجوم باد على أساريره. طلب من زوجته ماء ساخنا فتوضأ وصلى ركعات الظهر وازدرد بعض اللقم من الكسكس الذي حضرته زوجته، بعد انقطاع دام شهرا كاملا.

غير ملابسه وتمدد عَلّه ينعم ببعض الدقائق من القيلولة. وبعد إغماضة قصيرة استيقظ على وقع رنين الهاتف. فكانت المتكلمة ابنته سعاد:

ـ ألُو بَابَا أنَا سُعاد، لا بَاسْ علِيكمْ
لم يتمالك نفسه، فأجاب فرحا:
ـ الحمدُ لله آبنتِي، كِيفْ دايْرة، عْلاش قطعْت الاتصَال بِنا؟
ـ رانِي كنْت خَارِج قطر فِي شِي خَدمَة طوِيلة.
ـ مَا كنْتِيش مشْدودة في الحبْس؟
ـ لا، آبابا. آشْ هاذْ السؤال!؟
ـ غا سْمعْت شِي اخْبَار وخَفْت عْلِيك.
ـ إيمتَا غَادَا تْجِي؟

لم تستطع زوجته صبرا، لما عرفت أنه يتكلم مع سعاد فاختطفت منه السماعة من أجل التقاط صوت ابنتها. بعد أكثر من دقيقة انقطعت المكالمة. ظلا ينتظران الفرصة لتتميم المحادثة لكن دون جدوى فاعزيا ذلك إلى ضعف التغطية الناتجة عن كثرة الاتصالات يوم العيد.

أكدت له زوجته، بعد انقطاع المكالمة، أن سعاد في صحة جيدة وأنها لا يمكنها المجيء حاليا إلى المغرب لأن مشغلها فقد زوجته في حادثة سير، وقد تركت له طفلين صغيرين، ولم يجد أفضل من سعاد لرعايتهما. كما أكدت له أنها ستبعث بقدر مهم من المال يوم الإثنين الموالي عبر البريد السريع.

بعد سماعه لهذه الأخبار زال توتره وعاد إليه هدوؤه المعتاد واطمأن قليلا. ورفع يديه بالدعاء لابنته ولأولاده.

* * * *

المتاهة الرابعة
لقد أعاد إليه سماع صوت ابنته بعض التوازن النفسي، وخفف من حدة توتره، وهو يستعيد إيقاعه اليومي المألوف الذي تغير خلال شهر رمضان. استيقظ يوم الاثنين مبكرا كعادته وتوجه إلى مركز البريد، الذي يقع على بعد مائتي متر من مسكنه، تلتف خلفه حديقة العواصم والمدن الإسلامية بأغراسها وأشجارها الشاحبة نتيجة الإهمال، التي تفصله عن المركب الإداري لعين الشق، ليستفسر عن الحوالة التي وعدت ابنته بإرسالها.

فوجئ بأعداد غفيرة من المنتظرين وأغلبهم من المسنين بين جالس وواقف، فظن أنهم قضوا الليلة السابقة منتظرين أمام مركز البريد. أخذ مكانا بصعوبة إلى جانبهم في انتظار أن يفتح مركز البريد بابه على إيقاع لغطهم. وبعد نصف ساعة ظهر رجل يرتدي وزرة زرقاء يحمل في يده رزمة من المفاتيح متخطيا رقاب المنتظرين الجالسين أمام مدخل المركز يطلب منهم السماح له بالمرور حتى يتمكن من فتح الباب. تمكن من المرور بصعوبة بدأ في فتح الباب على إيقاع تدافع المنتظرين ذوي المعاشات الذي استمر حتى داخل المركز، تدافع مصحوب بلغط كبير وضجيج حاد وكأنهم يتعاركون.

دخل عزوز بشق النفس، تأكد من أنه لا زال قادرا على التدافع، فاستطاع أن يجد مكانا في صف تشكل بعد تدافع وتراكل أمام الموظف المكلف بصرف الحوالات. استمر اللغط والضجيج، وكان عزوز بين الفينة والأخرى يلتقط بعض العبارات المعبرة عن الغضب والسخط. فسمع أحدهم يقول:

ـ غِير شوِي ديال النظام وكُل شِي غادِي يقضِي مصلحته.
وسمع آخر يقول:
ـ احنا بزاف علِينا النظام حنا أنانيِّين كل واحد كيفكر غِير فِي مصلحتُو.
وقال آخر:
ـ بنادم الله يستر مزرُوب تقول مخلِّي دراري بلا عشا.

وقال آخر:
ـ بنادم عزيز عليه الزحام حتى لما كانش يدِيرُو.

ظل يسمع مثل هذه الجمل من حوارات متقطعة، وتفكيره منشغل حول صحة خبر الحوالة، وهو يقول في دواخله «جمِيلنا في الهدرة شكون اللِّي منظم وما زربانش؟» إلى أن جاء دوره، فاستفسر عن الحوالة، أكد له الموظف المكلف بأن هناك حوالة باسمه قدرها عشرة ألاف درهم، أنساه تعب الوصول وفوضى المنتظرين. وبعد إجراءات معتادة في مثل ذلك الموقف، تطلبت التحقق من الهوية والتوقيع، تسلم عزوز الحوالة ووضعها في جيب آمن في معطفه قبل أن يبرح مركز البريد، وانطلق، مسرع الخطى مخترقا دروب الحي العتيق في اتجاه المقهى، وكله فرح وسرور.

لقد عزم في ذلك اليوم على تأدية مشروبات رفاقه. أخذ مكانه المعتاد، انتصب أمامه النادل العجوز طلب منه عصير برتقال، تاركا علامات الاستغراب على محياه، وانشغل بقراءة الجرائد منتظرا قدوم رفاق تيهه. عاد النادل واستفسره مرة أخرى عما يشرب فأكد له ناهرا أنه يطلب عصير برتقال. ولم تمر سوى عشرين دقيقة حتى بدأوا في التقاطر على المقهى، والتفوا بكراسيهم البلاستيكية المتآكلة حوله. وانتبهوا إلى كأس العصير الموضوعة أمامه، وتبدل مزاجه وانشراح أساريره. فبادره أحدهم بالسؤال:

ـ يَا كََمَا ربَحْتِي في التِّيرسِي منْ ورَانا؟
لم يجد عزوز الكلمات التي يرد بها، فلاذ بالصمت واكتفى بتحريك رأسه نافيا ذلك.
ثم سأله الثاني:
ـ وَاقيلاَ خَرجُو لِيك فلُوس التقََاعد؟

حرك رأسه نافيا مرة أخرى. وهو الأمر الذي أربك رفاقه، وأدخلهم في حيرة من أمرهم. وشرعوا في تبادل النظرات. وعلامات الاستغراب بادية على وجوههم. وازدادت دهشتهم لما نادى عزوز على النادل وطلب منه أن يقدم لهم ما يريدون من مشروبات مؤكدا له أنه سيتكفل بالأداء. فازدادت حيرتهم. وتضاعفت شكوكهم. ظانين أنه يمزح لأنهم يعرفون أنه بالكاد ما يوفر ثمن قهوته اليومية وعلبة سجائره الرخيصة. وأمام ذلك الوضع الذي أثاره كرم عزوز المفاجئ. كسر صمته وفك لغزه مؤكدا أن مصدره هو ابنته سعاد، وأخبرهم بأمر الحوالة، فازداد استغرابهم واشتعل فتيل توترهم. وهو ما استبعدوه، إذ كانوا دائما يشككون في كل ما ينقله لهم من أخبار عنها. فقال أحدهم:

ـ هي اليوم غَادِين نشَربوا القَهوة من فلُوس البِّترُول.

وقال آخر:
ـ من فلُوس الخَدمة ديَال بنتُو سُعاد!

وقال آخر:
ـ وبَنتُو فَاش خدّامَة؟

طردت تلك التساؤلات المستفزة كل مشاعر الفرح التي ظهرت على عزوز ذلك الصباح وأعادت له توتره الذي تآلف معه وهجست في نفسه، واعترت وجهه حمرة الخجل، ولم يجد جوابا، فقام من مكانه مغادرا، مخترقا سحب الدخان التي عمت المكان، متمتما بوابل من الشتائم، دون وداع رفاقه ودون أن يؤدي ثمن المشروبات كما وعد.

* * * *

المتاهة الخامسة
استيقظ كالعادة مبكرا قبل أن يطلع الصبح، أدى واجبه الديني، ثم حضر فطوره الذي لم يتجاوز كأس شاي صغيرة بدون نعناع وقطعة خبز باردة مدهونة بالزبدة الاصطناعية، ازردها بصعوبة. أيقظ زوجته حتى تتمكن من تهيئة صغيريها للذهاب إلى المدرسة. غيّر ملابسه وارتدى معطفا أسود لم يلبسه من مدة طويلة تعود إلى سنوات كده، دون أن ينسى ربطة العنق. تأبط ملفه الأزرق الذي يتضمن ما توفر لديه من وثائق عن مساره المهني المتقطع. ثم نزل مسرعا عبر دربا صغيرا قاده إلى الزنقة أربعة التي سار بها بضعة أمتار قبل أن ينحرف يسارا ويقطع أمتارا قليلة على رصيف شارع تمارة، ملاحظا تآكل زليجه واكياس الأزبال المرمية بإهمال كبير، في اتجاه محطة الحافلة رقم 36 المتقابلة مع مقهى الرهان المتكئة على سينما الصحراء التي يرتادها صباح كل يوم منذ تقاعده، التي ستقله إلى الإدارة الجهوية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كي يستفسر عن ملف تقاعده الذي تأخرت تسويته.

انتظر الحافلة أكثر من نصف ساعة، وهذه عادة الحافلات في مدينته الكبيرة. وكلما مرت الدقائق ازدادت أعداد المنتظرين، ارتفعت درجة توتره التي دفعته إلى إشعال ثلاث سجارات متتالية. ولما قدمت الحافلة تبين له أنها مملوءة عن آخرها. حافلة قديمة شبيهة بحافلات النقل التي تربط بين الأسواق الأسبوعية القروية. لم تعد صالحة لنقل البضائع ناهيك عن نقل البشر، بعد أكثر من عشرين سنة من العمل، لا تصلح سوى لثلويث الهواء بدخانها الأسود الذي كانت تطلقه كلما ضغط سائقها على المحرك. شرع الناس يتدافعون من أجل الصعود. لم يكن أمام عزوز من خيار سوى التدافع مع غيره، وإلا انتظر نصف ساعة أخرى أو أكثر.

ظل على طول المسافة التي قطعتها الحافلة بين المحطة التي ركب منها ومحطة وصوله ملتصقا بغيره، حتى انكمشت ثيابه، كاد يختنق من الروائح المتنافرة المنبعثة من الركاب، على إيقاع شريط ديني حول عذاب النار أطلقه أحد الباعة المتجولين، لكنه لم يبال بذلك بقدر ما ظل ممسكا بملفه الأزرق خوفا من أن يضيع في ذلك الازدحام الذي تنتعش فيه حركة أيدي اللصوص المختصين في الجيوب وحقائب اليد النسائية.

عندما انحرفت الحافلة من شارع أبي شعيب الدكالي إلى طريق ولاد زيان شرع عزوز في التحرك في اتجاه الباب الأمامي ليستعد للنزول رافعا ملفه بيده اليمنى إلى أعلى مخترقا الأجساد الملتصقة من شدة الازدحام. توقفت الحافلة بمحطة ملتقى طرق شيميكولور. لفظته متهالكا. وجد الإدارة قبالته ببنايتها الشاهقة ذات الواجهة الزجاجية. تأكد من أن الملف ما زال بيده، ثم انشغل بتسوية انكماش معطفه.

هم بدخول مبنى الإدارة، اعترض طريقه أحد رجال الأمن الخاص ببدلته الزرقاء وببنيته الجسدية القوية. شرح له سبب الزيارة فأحاله على مصلحة الإرشادات. أشار له المكلف إلى مكتب المدير، الذي يقع، من حسن حظه، في الطابق الأول. صعد السلالم ففوجئ بصف طويل من المنتظرين متهالكين على كراسي خشبية وجلهم من سنه. تأكد أنهم جاءوا من أجل نفس الهدف الذي جاء به. انتبذ مكانا إلى جانبهم واستسلم بدوره للانتظار. كانت الدقائق تمر بتثاقل. فلم ينفعه معها سوى الخوض في الكلام مع غيره في مواضيع شتى؛ مثل ارتفاع الأسعار والبطالة والفقر ومرض السكري الذي استفحل بشكل كبير، مع التعريج على قضايا الساعة مثل الإرهاب وأحداث التقتيل التي صارت مألوفة في العراق وفلسطين والهجرة السرية ودوافعها. وغيرها من المواضيع التي قتلها كلاما كل يوم بمقهى الرهان.

لم يحن دوره إلا بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات من الانتظار، يعني النصف الأول من النهار بأكمله. دخل على المدير واستفسره عن ملفه. فأكد له ببرودة دم، من وراء مكتبه الفخم على كرسيه المريح وبلباسه الأنيق الذي لم يخف نتوء كرشه، بأن ملفه لم يدرس بعد. شعر وكأن الأرض تدور تحته كاد أن يسقط على إثرها لولا أنه تمالك نفسه. استأذن وخرج في اتجاه محطة الحافلة مكسور الجناح يجر ذيول الخيبة والإحباط، وقد اشتعلت في ذهنه كثير من علامات الاستفهام. على متن الحافلة وعلى إيقاع حركات المتسولين الذين تناوبوا على خداع الركاب القلائل بما استجد من فنون الاستجداء المباشرة أو غير المباشرة؛ بين مدّع لمرض عضال، وبين من مدعية فقد زوجها وتحتاج إلى من يعيل يتاماها، وبين من جاء إلى المدينة لقضاء غرض فضاعت منه محفظة نقوده فيطلب المساعدة من أجل العودة إلى مدينته، وبين من يحمل حلويات لبيعها فيطلب من الركاب اقتناءها لتشجيع تجارته، وبين من يحمل أشرطة دينية وكتب صغيرة يحرص على توزيعها على الركاب مرددا عبارات يستظهرها مع تحريف في نطقها يؤكد جهله بمحتواها قصد إقناع الركاب بأهمية بضاعته دون أن يعي إزعاجه لهم، قفزت إلى ذهنه فكرة البحث عن عمل جديد كيفما كان، خصوصا أنه ما زال قادرا على العمل رغم نحافة جسمه وضمور وجهه مقتنعا بصلابة عوده، وتعدد المهن التي يتقنها، وأقنع نفسه بأنه لا يمكنه أن يعيش على انتظار تلك المواعيد العرقوبية التي لن تنتهي بخصوص ملف تقاعده، أو عالة على ابنته التي لا يعرف ظروف وطبيعة عملها.

لفظته الحافلة أمام المقهى فارتأى أن يعرج عليها، بعد أن قاطعها أكثر من شهرين. دخلها فوجد رفاقه منزوين في مكانهم المعهود متصنمين كل واحد يغرس عينيه في ورقة الرهان. حياهم فرفعوا أعينهم مستغربين قدومه، لكن دون أن يكلموه، عائدين إلى خشوعهم وتركيزهم في أوراق الرهان. تهالك على كرسي إلى جانبهم رافعا رأسه في اتجاه الشاشة المعلقة. فإذا به يصادف خبرا عاجلا مفاده اشتعال النيران في السجن المدني بالجديدة، ثم تراءت أمامه صور الجثث المحروقة ثم شهادات الضحايا الناجين وصور الأهالي الذين ملأوا كل الدروب المؤدية إلى السجن. فتذكر أن له صهرا مسجونا هناك. ارتفعت دقات قلبه. فقام بسرعة أسقط معها الكرسي الذي كان يجلس عليه حتى انتبه كل من كان بالمقهى وخرج سريع الخطى، تاركا أصدقاءه في حيرة من أمرهم، إلى منزله ليخبر زوجته. التي وجدها على علم بالخبر فأكدت له أنها اتصلت بأختها وأعلمتها بأن زوجها نجا من الحادث، ومن حسن حظه أن النيران كانت بعيدة عن الجناح الذي يقيم فيه، وأن النيران اندلعت بسبب خصام بين سجينين، فحاول أحدهما الانتقام من غريمه بإضرام النار فأحرقه وأحرق معه الكثير من الأبرياء، وكاد تهوره أن يحدث كارثة إنسانية، لولا أن المساجين أمسكوا بتلابيب أحد الحراس من وراء القضبان الحديدية الفاصلة وخيروه بين أن يموت معهم أو يفتح الباب لينجو هو ومن يوجد وراء القضبان الذين تطاردهم النيران، فأذعن لطلبهم وفتح الأبواب للمساجين وجعلهم يخرجون إلى بهو السجن في انتظار قدوم رجال الإسعاف والإطفاء في ذلك الوقت المتأخر من الليل.

عادت دقات قلبه إلى إيقاعها الطبيعي، حمد الله وجلس ينتظر آذان الظهر.

في المساء بينما كان عزوز وزوجته منكبين على التهام صحن من المقرونية بالحليب على إيقاع اصطدام الملاعق بالصحن الزجاجي. رن الهاتف. رفع ابنه الأكبر السماعة تفاجأ بصوت أخته سعاد، فمرر السماعة إلى والده دون أن يسأل أخته عن أحوالها أمام استغراب والديه.

بعد استفسارها عن أحوال الوالد والوالدة والإخوة، سألت عن زوج خالتها المسجون بالجديدة هل نجا من حادث الحريق؟ أم لا؟ فأكد لها أنه نجا. اغتنم عزوز الفرصة ليسألها عن أحوالها. فأخبرته بأنها مقبلة على الزواج من مشغلها، الذي لم يجد أفضل منها لرعاية طفليه اليتيمين. كما طلبت منه أن يبعث لها برخصة الزواج في أقرب وقت ممكن. بدأت أساريره في الانشراح. ثم دعا لابنته بالرضا وحمد الله ومرر السماعة إلى زوجته، بينما استرسل هو في الدعاء بصوت منخفض كانت تعبر عنه حركات شفتيه.

مباشرة بعد انتهاء فاطمة من العشاء، تسللت في غفلة من زوجها وتوجهت إلى جارتها القريبة وأخبرتها بجديد ابنتها، بافتخار واستعلاء أبانت عنهما طريقتها في الكلام. فيما بدت علامات الاستغراب والاندهاش على محيا الجارة، وبدأ ذهنها في تحليل كلام جارتها، كما شرعت مخيلتها في رسم سيناريوهات لأوضاع ابنة جارتها.

* * * *

المتاهة السادسة
استيقظ من نومه مرتاحا بعد ليلة نوم هنيئة قلما حظي بها منذ زمن ليس بالقريب. بعد تناوله لوجبة فطوره الفقيرة، هيأ نفسه للشروع في تنفيذ مخططه اليومي، والذي تميز بذهابه إلى المقاطعة للحصول على رخصة الزواج التي طلبتها ابنته في آخر مكالمة هاتفية، تيقن من وجود بطاقته الوطنية في محفظة جيبه، اصطحب معه كناش الحالة المدنية، وخرج في اتجاه المقاطعة التي تقع غير بعيد من مسكنه. وتحديدا بالمركب الإداري لعين الشق. توجه إلى مكتب المقدمين والشيوخ فوجد أعدادا غفيرة من الناس من طالبي الشهادات المختلفة؛ من حياة وموت وسكنى وعزوبة واحتياج... وذلك بحسب إيقاع حياة كل واحد. أطل برأسه إلى داخل المكتب لكن لم يقع بصره على مقدم حيه. أخذ مكانا وألصق ظهره بالحائط إلى جانب الأعداد الغفيرة من المنتظرين وعيناه مصوبتان نحو مدخل المقاطعة حتى اقتنصتا المقدم داخلا. تقدم عزوز نحوه وأخبره بطلبه فأجابه بأن القائد مشغول جدا ذلك الصباح، لكن عزوز فطن إلى خلفيات ذلك الجواب، فأظهر له ورقة الخمسين درهما ودسها في جيبه. أخذ المقدم منه الوثائق طالبا منه الانتظار الذي لم يدم سوى خمس عشرة دقيقة، عاد ومعه الرخصة. استلمها منه بارتياح كبير، شاكرا له التفاني في خدمة المواطنين. ثم حثّ الخطى قاصدا مكتب البريد ليرسلها على وجه السرعة بالبريد المضمون.

بعد ذلك قادته رجلاه إلى مكانه المعتاد بالمقهى. حضر له النادل قهوته السوداء. سولت له نفسه رفضها لكنه تراجع. وظل يتأمل فيها دون أن يقربها من فمه، وذهنه يفتحه على عدة سيناريوهات إيجابية لوضع ابنته الغائبة سعاد. ظل على تلك الحال أكثر من عشر دقائق. بعدها أفاقه أحد رفاقه بالتحية وقطع عليه حبل أحلام يقظته. وقد لاحظ علامات الانشراح والهدوء على محيا عزوز. فارتأى أن يستفسره عن سر ذلك الفرح المفاجئ الذي يسيطر على مشاعره. لكنه تراجع خوفا من سوء فهمه الذي قد يعيده إلى توتره المعهود. فنادى النادل الذي أحضر له قهوته المعهودة وورقة الرهان. وغرس فيها عينيه. في حين عاد عزوز إلى شروده الذي كان يقطع بين الفينة والأخرى بسبب قدوم أحد رفاق تيهه. وبعد أن اكتمل الجمع، ارتأى عزوز أن يفاتحهم في المستجدات التي طرأت على وضع ابنته سعاد. مع أنه لا يعرف السبب الذي يدفعه إلى ذلك على الرغم من تشككاتهم واستفزازاتهم له؛ هل هو إصرار منه على تحسين صورة ابنته؟ أم أنه غير قادر على كتم مستجداته؟ لكنه كان يتردد خوفا من أن يشككوا مرة أخرى في كلامه أو ينعتوه بتلفيق هذه السيناريوهات قصد تحسين صورة ابنته الغائبة. وبالفعل لم يقو على مفاتحة رفاقه في الموضوع.

خيّم الصمت مرة أخرى على طاولة جلوسهم. انتبه أحد الرفاق الذي كان يتأمل في ورقة الرهان وكان يختلس نظرات إلى عزوز في غفلة منه إلى تردده كانت تعبر عنه حركات يديه ورجليه ورأسه مغيرا كل حين من وضع جلسته مثل دجاجة تريد أن تبيض لكنها لا تجد مكانا آمنا لوضع بيضتها. وبادره بالسؤال:

ـ بَاغِي تْقُول شِي حَاجَة؟
وهو ما زاد من ارتكابه وكأنه أصيب بالصمم وعجز عن الكلام.

مما جعل صاحبه يطرح السؤال بطريقة جديدة:
ـ كَايْن شِي اخْبار علَى بنْتك؟

أجابه مبتسما:
ـ إيه كَايْن الجدِيد.

اشتعلت فتيلة الفضول لدى صاحبه ولدى الآخرين الذين كانوا يسترقون السمع إلى الحوار. تاركين التأمل في أوراق الرهان. متسائلين بشكل جماعي:

ـ واشْ جَات بَنْتك؟

فأجاب:
ـ لا، غتْزوج بالرجل اللِّي مْخدّمها...

فواجهه أحدهم بالسؤال:
ـ كِيفَاشْ، واقِيلا هذِي شِي كَذْبة جدِيدة..

كان وقع هذا الرد عنيفا على عزوز، وأخرسه عن الكلام وأصابه دوار عنيف كاد أن يسقط مغشيا عليه. استعاد توازنه وانتصب واقفا ثم غادر المقهى، وهو يسب ويلعن التقاعد والفقر اللذين قاداه إلى مجالسة أمثال أولئك النمامين والمتشفين.

وصل إلى بيته وقد تمكنت منه وساوسه القديمة. واشتد الغليان في دمه. انتبهت زوجته لذلك، وهي التي كانت ستبادره بالكلام لتحمل إليه خبرا جديدا مختلفا عما كانت تزفه إليه من أخبار. دخل غرفة النوم وتمدد ينتظر آذان الظهر على إيقاع أصوات اصطدام الأواني أثناء غسلها وصفير الكوكوت التي كانت تصله من المطبخ ورائحة العدس التي ألغت رائحة تعفن البيت المغرق في الرطوبة.

لكن الزوجة لم تستطع صبرا ولحقته بغرفة النوم، وأخبرته بأن صديقه القديم إبراهيم اتصل هاتفيا، يعرض عليه عملا كبيرا في السجون التي قررت الدولة إعادة تهيئتها على مستوى الكهرباء وتجهيزها بقارورات مكافحة الحريق، بعد الحريق الذي شب في السجن المدني بالجديدة. ويطلب منه أن يزوره في أقرب وقت بورشته بحي الإنارة.

بعد سماعه لهذا الخبر استعاد ارتياحه وطرد وساوسه وتوتراته القديمة. ممنيا النفس بتكسير إيقاع حياته المتقلب والممل الذي دخل إليه منذ تقاعده. والابتعاد عن أنظار العاطلين ومرتادي مقاهي الرهان ومدمني الكرات الحديدية. وبدأت تنط في ذهنه ذكريات جده ونشاطه وخروجه المبكر إلى العمل، وأسفاره الكثيرة في مهمات متعلقة بعمله، أو أسفاره السياحية رفقة زوجته وأبنائه.

* * * *  

المتاهة السابعة
خرج مبكرا في اتجاه ورشة صديقه إبراهيم، راجلا، لأن المسافة التي تفصلها عن بيته ليست بالطويلة. كما أن المشي يساعده على التفكير ويطلق العنان لذاكرته. فيتذكر نبل وكرم صديقه الذي لم يبخل عليه في شدائده. إذ كان دائما عونا له على تجاوز محن البطالة الطارئة التي كان يجد نفسه عرضة لها. إما بتشغيله معه بورشته أو مساعدته في البحث عن عمل جديد، نظرا لعلاقاته الكثيرة التي وفرتها له الورشة وزبناؤها.

تقع ورشة إبراهيم بحي الإنارة الذي هو امتداد جنوبي لعين الشق، وتجمع بين مهنتي الكهرباء والحدادة، وهما المهنتان اللتان يتقنهما عزوز، لأنه حاصل على دبلومين فيهما أيام شبابه بالتكوين المهني، وينطبق عليه المثل المغربي القائل «سبع صنايع والرزق ضايع». فكان يجد في ورشة صاحبه حلولا لبطالته المتكررة والطارئة. وصل إلى الورشة فوجد بها شابا في الثامنة عشر من عمره، لا شك أن والديه عهدا به إلى إبراهيم، قبل ثلاث سنوات أو أربع، ليعلمه الصنعة، وفرصة لكسب بعض العشرات من الدراهم في نهاية كل أسبوع. وهو واحد من مئات الشبان الذين لفظتهم المدارس، الذين كانوا وما زالوا يجدون في ورشة إبراهيم فرصة لتعلم الصنعة وتعلم الحياة. فكان إبراهيم يصلح ما تفسده المناهج الدراسية. بعد التحية ومعرفة الشاب سبب زيارة عزوز، أحضر له كرسيا، غاب لدقائق، ثم جاءه ببراد شاي. شكره وصب الشاي لنفسه وللشاب، وشرع في احتسائه في انتظار قدوم صاحبه.

لم يكد يكمل كأسه الأولى حتى بدا له صديقه إبراهيم قادما، وهو رجل تجاوز الستين لكن جسده ما زال صلبا، لم تنل منه السنون، وإن غزا الشيب شعره. ترك الصينية وقام لتحية صاحبه الذي توجه إليه هاشا باشا، وتعانقا عناقا حارا، وبعد السؤال عن الصحة والأولاد، واللوم على قلة زياراته له على الرغم من محنته. أكد له إبراهيم أنه علم بظروفه المزرية من بعض الأصدقاء. اقترح عليه صديقه الذهاب إلى مقهى قريب لمواصلة الحديث بارتياح بعيدا عن الضجيج الذي ستحدثه آلات الحدادة.

عند دخولهما إلى المقهى انتبه عزوز إلى اختلافها عن مقهاه البئيسة، انطلاقا من نظافتها التي تشهد عليها واجهتها الزجاجية والأغراس المزينة لمدخلها وكذا فخامة كراسيها وطاولاتها وتنظيمها الدقيق، واللوحات المزينة لجدرانها، مثل اختلاف صديقه إبراهيم الدائم التفاؤل عن رفاق مقهاه القانطين المتمسكين بخيوط رهان الخيول الوهمية. عندما جلسا جاءهما النادل على وجه السرعة، ببدلته الانيقة وابتسامته اللبقة، يستفسرهما عما يشربا. طلب عزوز من النادل أن يأتيه بأي مشروب آخر غير القهوة السوداء، وكأنه يعلن بداية مرحلة جديدة من حياته. ثم أطلعه صديقه على طبيعة العمل الذي ينتظره وكذا شروطه المادية واللوجيسيكية التي تتطلب منه تنقلا عبر مجموعة من السجون بالتراب المغربي مع مراعاة تغيّر المناخ، كما أشار له أن ذلك العمل سيستغرق أكثر من ست سنوات. لم يبد عزوز أي اعتراض على شروط وظروف العمل. وضربا موعدا في بداية الأسبوع الموالي. ودع صديقه بحرارة الذي استغل الفرصة ليمد له ظرفا يتضمن مبلغا لا بأس به من المال اعتبره بمثابة مُقدم، وضعه عزوز في جيبه في صمت وودع صديقه شاكرا.

أخذ الطريق إلى بيته مرتاحا فرحا بعمله الجديد، كما اغتنم فرصة المشي للحسم في المشكل الذي كان يؤرقه، وهو مشكل ابنته الغائبة سعاد، وقاده تفكيره إلى تركه لزوجته، وغسل يديه منه. دخل إلى شقته منشرح الأسارير انتبهت زوجته لدخوله، ولمست سروره من خلال عبارة الرضا التي ظل يرددها بعد دخوله إلى البيت: الحمد لله.. الحمد لله... أيقنت أنه حصل على عمل مع صديقه. فاستغلت الفرصة لتكلمه عن جديد ابنتها قائلة:

ـ راهْ سعاد اتصلََت اليوم بالتِّلفون...
لم يترك لها الفرصة لإكمال كلامها وقاطعها قائلا وبانفعال كبير:
ـ آخر مَرة تكلمِيني في هَاذْ الموضوع.. أنَا خَلِّيتو ليك... 

تنبيه: لن يثني قرار عزوز من عزم السارد في متابعة مهمته السردية. وذلك بتوجيه مسار السرد إلى زوجته فاطمة. التي ستستمر في تلقي أخبار سعاد.

* * * *

سِفْر الأخبار

بانوراما عن يوميات فاطمة
مرت أربع سنوات على دخولها العقد الخامس. كلما وقفت أمام المرآة تلاحظ بداية تراجع نضارتها وجمالها، بفعل غزو الشيب لشعرها الأسود الطويل وضمور جسدها، وبداية شحوب وجهها، الذي استسلم أمام الهجوم الكاسح للتجاعيد، كما ظهرت عليه بقع سوداء صغيرة، خصوصا بعد تخليها عن مساحيق التجميل، بتأثير من شيوخ الفضائيات. عقب تقاعد زوجها عزوز الرحماني، اشتد على فاطمة الأمر، وانقلبت عوائدها رأسا على عقب: فبعد أن كانت ترتدي أحدث الملابس التقليدية والعصرية في مسايرة دائمة لصيحات الموضة، حتى لقبت بفاطمة الموضة، أصبحت تكتفي بما حضر من ثياب رثة تستتر بها دون اهتمام بالشكل الذي تظهر عليه.

وبعد أن كانت كثيرة الخروج، أصبحت حبيسة بيتها، لا تبرحه إلا للضرورات، مثل الذهاب للحمام أو السوق، أو زيارة والدتها القاطنة بشارع النيل نهاية كل أسبوع، أو الاجتماع مع جاراتها في جلسات مسائية أمام مدخل البيت بالدرب الصغير، فرضها وضعها الجديد وهي التي لم يكن لديها الوقت لمثل تلك الاجتماعات. وبعد أن كانت حاصلة على الإعفاء التام من أشغال المنزل، وجدت نفسها غارقة فيها حتى النخاع، بعد ذهاب الخادمة التي كانت تتكفل بكل شؤون البيت من طبخ وغسيل وتنظيف، بما في ذلك تربية الأولاد، بسبب توقفها عن تسديد أجرها الشهري، لمدة تزيد على ستة أشهر فرضها الوضع المادي المزري الذي آلت إليه نتيجة عدم تسوية ملف تقاعد زوجها، وهو الأمر الذي لم يقبله والدها الذي وجدها فرصة سانحة لأخذها إلى بيت آخر حتى يضمن لنفسه أجرا شهريا مستقرا، مهما كانت ظروف عملها.

عندما تتعبها الأشغال تتحسر على بطنها الذي لم يسعفها في إنجاب البنات. فبنتها الوحيدة مهاجرة إلى الخليج. وتلوم نفسها لماذا ساعدتها على الهجرة؟ لكنها عندما تحس بالتعب تعهد إلى أحد أبنائها الذكور مساعدتها في غسل الأواني وتنظيف الملابس. أما الزوج فكانت تعهد إليه تحضير وجبات الإفطار والعشاء كان يحضره ابنها الأوسط. الأولى بسبب تعبها الذي يصعب عليها إمكانية الاستيقاظ المبكر. أما الثانية فتعجز عن تحضيرها وذلك لسببين؛ الأول وهو أنها كانت متعودة في زمن سابق على الامتناع عن العشاء حتى تحافظ على رشاقة جسمها، والثاني أن وجبات العشاء لم تكن مغرية ولا تستدعي أي مجهود، فالمقرونة بالحليب أو عصيدة الشعير يمكن أن يحضرها كل من بدأ يتهجى أبجدية الطبخ.

دأبت نهاية كل أسبوع على زيارة والدتها التي تقطن بشارع النيل قرب حمام الفن بمقاطعة بنمسيك، التي تقع جنوب شرق عين الشق ويفصل بينهما شارع مديونة سابقا، وتحديدا مباشرة بعد آذان صلاة العصر. في السابق كانت تزورها رفقة زوجها على متن سيارتهما العائلية. لكنها بعد فترة التقاعد التي أجهزت على السيارة وكل ما كانت تدخره من حلي ذهبية، أصبحت تذهب إليها راجلة، أو تستقل طاكسي صغير، إذا ما كانت على عهد قريب بإحدى حوالات ابنتها سعاد. وفي الغالب الأعم ما كانت تعتمد على الحافلة رقم 11 أي قدميها. أما الحافلة فأضربت عنها بعد أن تعرضت لأكثر من مرة لسرقة محفظة نقودها.

كانت تغتنم فرصة المشي للتذكر، انطلاقا من بعض المشاهد التي تبصرها، خصوصا عندما تشاهد امرأة في سنها ممتطية سيارة فخمة أو عندما ترى أخرى تسير في تبختر بلباسها العصري وحذائها ذي الكعب العالي، وهي التي لازمت الفولار والجلباب في ارتباط بتجربة الفقد التي آلت إليها، وتوالي انحدار مستواها المعيشي. كما كان المشي بالنسبة لها فرصة لتوارد بعض الأحلام المؤجلة، والتي تتأطر داخل موضوع واحد وهو عودة ابنتها ظافرة من الخليج، ومعها ثروة مهمة، تغيّر مجرى حياتها، وتخرجها من الجحر الذي لازمته طيلة ثلاثة عقود من الزمن، وبالضبط بعد أربع سنوات من زواجها، وأن تتصالح مع السفر، وتزور ما تبقى لها من المناطق التي لم تزرها من المغرب. وأن ترتدي أغلى الملابس وأحدثها، وتمتطي أفخم سيارة، وتختم أحلامها بالذهاب إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج.

لكن حبل أحلامها ذاك كان ينقطع بين الفينة والأخرى بسبب تبادلها التحايا مع بعض المارة من معارفها بالحي الذي رأت فيه النور، خصوصا عندما تقترب من بيت والدتها. كانت تسبب لها تلك التحايا توترا حادا خصوصا عندما يشير أحدهم إلى ظهور علامات تقدمها في السن على وجهها، أو انفلات بعض خصلات شعرها التي غزاها الشيب من قبضة فولارها الذي لا تشده بإحكام.

تجد باب بيت والدتها المكون من ثلاثة طوابق كعادته مفتوحا، تصعد السلالم، إلى حيث تقطن والدتها بالطابق الأوسط، الذي اتخذت منه شقة لسكنها ولإدارة منزلها، عفوا مملكتها الصغيرة، الذي كان في السابق يشتمل على طابق سفلي، ورثته عن زوجها الذي كان سائقا لكارو، وتوفي على إثر حادثة سير بعد اصطدامه بشاحنة كبيرة لنقل البضائع ذات فجر مضبب كان متوجها إلى سوق الجملة ليبدأ عمله اليومي المتمثل في نقل صناديق الخضر والفواكه للباعة بالتقسيط المنتشرين في أحياء مختلفة بالدار البيضاء الممتدة. وعوضتها شركة التأمين بمبلغ لا بأس به، تمكنت بواسطته من بناء الطابقين العلويين. ونتيجة لذلك صار بيتها يتكون من ثلاثة طوابق؛ اثنان علويان والثالث أرضي، اختارت السكن بالطابق الأوسط، بينما خصصت الطابقين الآخرين للكراء. بعد أن قسمتهما إلى عدة غرف صغيرة لا تتجاوز مساحة كل واحدة ستة أمتار مربعة. تكتريها للمتزوجين، أو بالأحرى من تورطوا في الزواج، وغير المتزوجين وأغلبهم من المهاجرين المنحدرين من البوادي الباحثين عن حياة أفضل إضافة إلى سعيهم التخفيف من محنة الجفاف عن آبائهم، والذين يشتغل أغلب ذكورهم في ورشات البناء التي تلتهم يوما عن يوم الأراضي الفلاحية المجاورة للمدينة في توسع أفقي عشوائي. أما الإناث فيشتغلن في معامل النسيج المنتشرة في حي إفريقيا بأجور زهيدة.

يضمن لها الكراء دخلا مريحا نهاية كل شهر تواجه به متطلبات الحياة اليومية، وإن كان الأطباء وبائعو الأدوية، من الصيادلة أو بائعي الأعشاب الذين ازدهرت تجارتهم في زمن الفضائيات، يقضمون أكثر من نصفه، خصوصا بعد استئصالها، في عدة عمليات جراحية متفاوتة الخطورة، للرحم والمرارة والزائدة الدودية وثديها الأيمن الذي طاله السرطان الخبيث. كما تخصص بعض النقود لابنتها فاطمة المحتاجة، خصوصا عندما تشتد أزمتها وتنقطع حوالات ابنتها. كما أن مداخيل الكراء مكنتها من ربح حجة إلى بيت الله الحرام، قبل أن تهاجم الأمراض الخبيثة جسمها.

تجد والدتها جالسة قبالة باب الشقة الذي تتركه عادة مفتوحا حتى تعرف الطالع والنازل من المكترين. إذ تعد جلستها تلك واحدة من الاستراتيجيات التي تمكنها من حسن تدبير مملكتها الصغيرة، وتحفظ لها هيبتها وسلطتها. تجدها قد انتهت للتو من صلاة العصر تدير حبات سبحتها محركة شفتيها علامة على التسبيح والتهليل عاقدة ما بين حاجبيها دلالة على الحزم. تسلم عليها، تتبادلان التحية والاستفسار عن الصحة والأولاد، ثم تجلس بجانبها. وبحركة من والدتها تحضر الخادمة التي تؤنس وحدتها، بعد زواج ابنتيها وهجرة ولدها الوحيد إلى إسبانيا الذي فشل في الدراسة فاشترت له عقد عمل وتزوج واستقر هناك، صينية شاي، تكون مساعدة على تكسير الصمت الذي يخيم أحيانا على جلسة المرأتين. إذ تحرص فاطمة ما أمكن على تجنب كل ما يوتر أعصاب والدتها. فتفضل الصمت على الخوض في الكلام الذي قد يقودها إلى ما لا تحمد عقباه وهو غضب الوالدة وتوترها الذي قد ينتهي بطردها.

والموضوع الذي كان يوتر أعصاب والدتها هو الحديث عن ابنتها الغائبة. وهو ما كانت فاطمة تتحاشى الخوض فيه. خصوصا عندما لا يكون لديها أي جديد، أو لديها أخبار سيئة عن ابنتها. وفي مثل هذا الوضع تسألها عن ابنتها سعاد فتجيبها بالعبارة التالية: "لا بَاس علِيها." لكن الوالدة كانت تستفزها بأسئلتها حول مصير ابنتها ووضعها، ومتى ستأتي؟ وهل ستظل غائبة؟ التي تكون بمثابة سهام تخرق جسدها، فتكتفي بالعبارة:"عْلَمْ الله بِها مَسْكِينَة! " تخرج تلك العبارة من فمها مشحونة بالحسرة والتوسل إلى الله عسى أن تكون بخير.

ويزداد حرجها أكثر عندما يقتحم عليهما شخص قريب أو غريب جلستهما، وتتعمد والدتها إحراجها بالأسئلة أمامه. آنذاك تتمنى فاطمة لو انشقت الأرض لارتمت في أعماقها. وكلما انضاف شخص ثالث إلى جلستهما تتذرع فاطمة بأبسط الأعذار وتغادر هروبا من سهام والدتها وتحاشيا لكل إحراج ممكن أمام الغرباء.

غالبا ما تعود إلى منزلها متوترة الأعصاب. وهو ما يثير انتباه أولادها الذين يتجنبونها خوفا من أن تفجر غضبها في أحدهم. تستمر على تلك الحال أياما عديدة، لا تتجاوز حال توتر الأعصاب تلك إلا عندما تسمع أخبارا سارة عن ابنتها سعاد، فتستعيد ابتسامتها وتتصالح مع عالمها الصغير. وتعود إلى هدوئها النفسي الذي لا يطول. 

إليكم أخبارسعاد كما سمعها الكاتب، قبل وبعد خلود فاطمة للصمت إثر وقوعها ضحية غيبوبة لم تفق منها إلا بعد مجهودات طبية كبيرة تطلبت وضعها تحت العناية المركزة.

* * * *

الخبر الأول: كسر الذراع
بعد سفر الزوج عزوز الرحماني إلى عمله الجديد أصبحت فاطمة مجبرة على الاستيقاظ المبكر، حتى تتمكن من إنهاء أشغال البيت في النصف الأول من النهار، وتتفرغ في النصف الثاني إما للاجتماع مع جاراتها بجانب المدخل المشترك للشقق على الدرب الصغير ذي المدخلين المقوسين والأرضية المزفتة التي كانت في السابق معبدة بأحجار مربعة رمادية مرصوصة بإتقان تعود إلى زمن الحماية كانت تمنحها جماليتها وعتاقتها لكن تلاعب المتعاقبين على تسيير الجماعة في الميزانيات قاد إلى تزفيتها، أو متابعة بعض البرامج الدينية على إحدى القنوات الفضائية التي يقدمها نجوم الشاشة الجدد ممن شغلوا الناس بطرقهم الجديدة في الوعظ، أو القيام ببعض الزيارات الواجبة للأهل أو الجيران إما لتعزية أو مباركة، وغيرها من المهام الطارئة.

تباشر عملها بتوتر حاد مصحوب بسباب ولعنة للزمن والظروف، التي أسقطتها من الأعلى إلى الأسفل، وحولتها من أحسن حال إلى أسوأ منه. وكلما اشتد غضبها تردد عبارتها الأثيرة: "الله يلعن بُو الزلط". العبارة التي تختزل فيها كل معاناتها النفسية. وترتفع حدة توترها كلما انقطعت أخبار ابنتها الغائبة سعاد. ويزداد أكثر عندما تكون على عهد قريب من زيارة والدتها التي لا تكف عن مهاجمتها بأسئلتها المحرجة. لا يخف توترها إلا عندما ترتمي في أحضان أحلامها المؤجلة، التي تساعدها على التخفيف من محنتها ولو للحظات منفلتة في غفلة من قسوة زمنها وتقلبه الرهيب.

تحضر مائدة الغذاء، في انتظار عودة ابنيها الصغير والأوسط من المدرسة. أما ابنها الأكبر فتتحاشى إزعاجه، وتتركه يغط في نومه الذي لا ينتهي إلا بعد العصر؛ وقد دأب على تلك الحال منذ مدة تزيد على السنتين بعد أن ارتمى في أحضان الأحلام الوردية التي يحققها له تدخين الحشيش ويجعله يستبعد التفكير في العمل والمستقبل. لم لا؟ وهو يجد كل يوم ورقة العشرين درهما موضوعة بجانب فراشه قبل أن يستقظ من نومه. وإن لم يجدها يقيم الدنيا ويقعدها، إذا وجد والدته، أما إن كانت غائبة فيجدها فرصة لسرقة بعض الأثاث. وهو واحد من الأمور التي تكدر صفو حياة فاطمة اليومية. يرن الهاتف. تتسارع دقات قلبها. تسرع إلى موضع الهاتف. ترفع السماعة وعيناها مرفوعتان إلى أعلى مصوبتان النظر في صورة ابنتها المعلقة على الحائط المقابل لموضع الهاتف ببهو المنزل المستطيل الشكل، في ابتسامتها الغامضة مثل لوحة الجوكندا، تلتقط صوت ابنتها بشوق زائد تشعل فتيله عاطفة الأمومة:

ـ ألو.. مَامَا.
ـ ألو... بْنيتِي لابَاسْ.
ـ لا بَاسْ أمَامَا...
ـ عْلاَشْ ما بْْقيتِيشْ تَاصْلِي؟
ـ رانِي دَرْت اكْسِيدة، سْترْنِي الله منْها وصَافِي، كنْت سايْة الطموبِيلْ في الأوطوروت. وكَانْ قدامِي وَاحدْ الراجَلْ، يَمكَنْ سكْرانْ، بْقَى كَيْلعَبْ بالطبومبيل حْتَى ادْخَل في الحدِيدْ اللي في جنْب الطرِيقْ، ودْخلْتْ فيهْ من اللورْ. حتى تجْرحتْ، وتْهرسْتْ منْ ذْرَاعِي.
ـ يَاكْ لا بَاسْ؟
ـ رَاني كَنتكَلّم معَاك مَن الكلِينِيك... الحمدُ لله.
ـ الحمدُ لله آبنِيتي على سْلامتك، تْهلاي في راسْكْ.
ـ بَارَاك الله فِيكْ أمَامَا...
ـ والزْواج اشْنو دَرْتِي فيهْ؟
ـ وَاشْ أنا دَابَا في الزْواجْ، صحْتِي هي الأوْلى...

ثم انقطعت المكالمة، دون أن تعرف فاطمة سبب انقطاعها. تصاب بالإحباط. يرتفع ضغط دمها. تخفي ذلك عن ولديها تقدم لهما الغذاء. تنعدم لديها شهية الأكل. تقرر مقاطعة جلستها المسائية مع الجارات. وتفضل الارتخاء، علّ التوتر يزول.

بعد آذان صلاة العصر، سمعت طرقا خفيفا على الباب، قامت متهالكة من السرير. أدارت المفتاح وجرت الباب، فوجدت جارتها التي دعتها للجلسة المعتادة التي لا يمكن أن تفتتح بدونها. غالبت تعبها وتوترها، وضعت إزارا على كتفيها، وحملت كرسيها الخشبي القصير ونزلت خلف جارتها.

كانت تدور تلك الجلسات في الغالب حول المستجدات التي تقع في الحي مثل الولادة والوفاة، الزواج والطلاق، دخول السجن أو الخروج منه، الهجرة إلى أوربا أو العودة منها، مغادرة الحي أو الوفود إليه، خصام بعض سكان الحي وتصالحهم. وكانت سعاد تأخذ حصة الأسد من جلساتهن بسبب إلحاح الجارات على متابعة حلقات مسلسلها. كما يتم التعريج على أخبار الكوارث والوقائع المثيرة التي تقع محليا ووطنيا ودوليا، بالإضافة إلى الأحداث العالمية الكبرى مثل الحروب والإرهاب.

وجدتهن جالسات على كراسيهن الخشبيية القصيرة على يسار مدخل الدار على شكل دائرة حتى لا ينزعجن بالداخل والخارج من الأطفال أو الأزواج، وتجدنها فرصة لرؤية ما يقع في الدرب من أحداث. بعد أن تبادلت معهن التحية والاستفسار عن الصحة والأولاد. تجدهن قد وضعن أمامهن صينية شاي يتناوبن على تحضيرها. انتبذت مكانا، وضعت كرسيها، وتهاوت عليه متهالكة حتى أصدر صوتا ممتدا شبيها بالأنين كأنه يتجاوب مع وضعها النفسي المكلوم. بعد الخوض في مواضيع متفرقة منها الهجرة والحريك. الذي تتخذه النسوة مطية للاستفسار عن سعاد. أجابت فاطمة: «ابنتي مسْكينَة عْوينَة تابْعَهَا الله يَسْترْ! حْتَى قَربتْ تتْزوجْ وهي تدِير كْسيدَة!» كان وقع كلامها متباينا على الجارات، بين مستغربة ومستفهمة وبين متعجبة وبين هادئة لا يلقى لديها الخبر أي انفعال من فرط استماعهن إلى سيل من الأخبار المماثلة.

خاضت النساء في حديث آخر. تظاهرت فاطمة بالإصغاء إليهن، لكن ذهنها ظل منشغلا بجديد ابنتها، الذي لا شك سيسبب لها إحراجا مع والدتها التي ستزورها في نهاية الأسبوع. وجدت والدتها كالعادة منشغلة بسبحتها. عاقدة ما بين حاجبيها، عيناها مصوبتان نحو باب الشقة لترصد الصاعد والنازل من المكترين. وفي أعلى الجدار المتكئة عليه لوحة، كما تمثلتها المخيلة الشعبية، للولي سيدي رحال البودالي في السجن وهو يركب الأسد الذي أُدخل إليه لكي يفترسه. تضعها تبركا بالولي المذكور ودفعا للعين والحسد. سلمت عليها. تبادلتا الاستفسار عن الصحة والأحوال. عادت الأم إلى سبحتها. جلست فاطمة إلى جانبها، مصغية إلى الوشوشة التي يحدثها تسبيح والدتها. أحضرت الخادمة صينية الشاي وضعتها أمام مشغلتها. التي توقفت عن تسبيحها. خبأت سبحتها تحت فرو الغنم الذي تجلس عليه. وشرعت في صب الشاي في الكؤوس وإرجاعه إلى البراد، حتى يستوي ثم صبت كأسين؛ ناولت ابنتها كأسا والأخرى لها. حاولت مبادرة ابنتها فاطمة بالكلام. لكنها تراجعت، بسبب التوتر الملحوظ على محيا ابنتها، والارتباك البادي انطلاقا من جلستها وتحريكها الكثير ليديها ورجليها، إضافة إلى الأنفاس العميقة الذي كانت تصدرها بين الفينة والأخرى. وبعد طول تردد، بادرتها بالسؤال:

ـ مَا كَايْن بَاسْ؟
ـ والو بَاسْ.
ـ مالْكي ساكْتة ومْعصبَة؟
ـ وَالو عَا سعاد دَارتْ كْسِيدَة الله يَسترْ، وتهرْسَت منْ ذْرَاعهَا...

وحكت لها الخبر كما سمعته من ابنتها. اشتمت الأم رائحة الكذب في الخبر. وطرحت سؤالها المريب:

ـ وَاقيلا هَذي شي كَذْبة جْدِيدَة مَنْ كْذُوب سعاد؟ ما عْياتشْ بنْتَك مَنْ الكْذوب؟ شْحَال قََدها مَا تكذَبْ؟

تستقبل فاطمة سهام والدتها بصمت المنهزم، تُحرج من تساؤلات أمها، وتحير في جوابها. وتفضل الصمت على أن تنفي عن ابنتها الكذب، لأنها لو فعلت لأسمعتها والدتها سيلا من الكلام الجارح سيقض مضجعها ليالي متواصلة. يخيم الصمت من جديد على جلستهما لدقائق. يظهر أحد المكترين ينقر على باب الشقة المفتوح تشير له الأم بالدخول. يتقدم منحنيا مسلما تأمره بالجلوس. ينضاف إلى جلستهما فتوجه الأم دفة الكلام نحوه. تحس فاطمة بأنها أصبحت زائدة في جلسة عمل والدتها، لتجدها فرصة مواتية للمغادرة والتخلص من أسئلتها المحرجة، معتذرة بحجة عودة ابنيها من المدرسة.

تنزل فاطمة السلالم متوترة الأعصاب ودموعها على أهبة الانفجار، وتقسم في داخلها بألا تعود إلى زيارة والدتها.

* * * *

الخبر الثاني: الزواج
استيقظت باكرا في واحد من صباحات أواخر شهر يونيه، باشرت عملها اليومي، عفوا شقاءها، فالعمل عندها أصبح مرادفا للشقاء، خصوصا مع ارتفاع درجات الحرارة في بداية فصل الصيف. تقوم به مكرهة بسبب أحاسيس المهانة التي يسببها لها. فلا تتغلب عليها إلا بالتداعيات التي تراود ذهنها. لكن هذه التداعيات في الغالب ما كانت تسبب لها جروحا في يديها، خصوصا عندما تكون بصدد تقشير الخضر أو غسل الأواني الزجاجية، فصارت بأيديها خدوش وعلامات تؤرخ لذات خواطر. فتلعن تلك الخواطر، وتلعن الحياة، وتسترسل في لعناتها إلى حين عودة ابنيها من خارج المنزل بعد ساعات من اللعب والتسكع بين دروب الحي الكثيرة المغرية باللعب لا تعيدهما إلى شقتهما سوى تقلصات المعدة، بعد أن توقفا عن الذهاب إلى المدرسة بسبب العطلة الصيفية.

قدمت الغذاء للأولاد على مضض، وهي تغالب تعبها وكلومها، في عجز تام عن الأكل بسبب الجروح، فتضطر لأكل الخبز، أو احتساء بعض الشربات التي لا يسبب أكلها أي ألم. عند انتهاء ابنيها من التهام صحن العدس أمرت أحدهما بجمع الأواني وغسلها. بينما انشغلت هي بمشاهدة حلقة من أحد المسلسلات المصرية، حتى تنسى ألمها. تلك المسلسلات التي ترسم الكثير من الأحلام الوردية، بنهاياتها السعيدة البعيدة عن الواقع.

في الوقت الذي كانت فيه مندمجة مع بعض المشاهد الرومانسية لبطلة المسلسل التي تلتقي حبيبها لتزف إليه بشرى سعيدة وهي أن عائلتها تنتظر زيارته رفقة والديه لخطبتها في أي وقت شاء، رن الهاتف، فقطع عليها اندماجها مع اللقطة. قامت متهالكة. رفعت السماعة، وصلها صوت ابنتها المغتربة وهو يوحي بالارتياح والفرح:

ـ ألو مَامَا مَا غَانْكَلمَكشْ حتَى تزَغْرتِي شي تْزغْرِيتَة طوِيلَة.
ـ علاشْ؟
ـ حتََى تْزَغْرتِي.

تزول كل آلامها، تحمل الهاتف وتقترب من باب الشقة، حتى تثير فضول جاراتها، وتبقي على السماعة ملتصقة بأذنها اليسرى، وتضع يدها اليمنى على أذنها اليمنى، كأنها تهم بالآذان، وتطلق زغرودتها الطويلة التي تفزع من حولها حتى أفاقت ابنها الأكبر من نومه الممتد. ثم تعود إلى مكانها، مرتاحة البال وقد ارتسمت على فمها ابتسامة أبعدت كل أحزان السنوات التي مضت، لتتابع المكالمة مع ابنتها مستفسرة:

ـ يَا كْمَا غَدتْجِي؟
ـ لا.
ـ تزَوجْتِي؟
ـ أيه تزوجْت أمَامَا.
ـ نْهَار كبِِيرْ هَذا (ثم تطلق زغرودة أخرى) الله يبَارَكْ... الله يْكملْ علِيكْ آبنِيتي غَادَا نْطِير بالفرْحة! ما كْراهتْشْ نْكونْ مْعاكْ ونْحْضََرْ لْعرْسَك ونشْطحْ فيهْ!

ثم أمطرت ابنتها بما تحفظه من أدعية تنفع في مثل تلك المناسبة، حتى انقطاع الخط، دون أن تسألها عن تفاصيل الزواج وكيف تم؟ وبمن تزوجت؟

أمضت الساعتين الفاصلتين عن جلسة الجارات اليومية فرحة مسرورة، غير مبالية بآلام يديها مرددة ما تحفظه من أغاني كلاسيكية خصوصا لفريد الأطرش مغنيها المفضل منتظرة بكل شوق جلستها اليومية مع جاراتها. بعد أن انتهت من أداء صلاة العصر، هيأت نفسها وحضرت صينية شاي، وحملتها نازلة إلى مكان الاجتماع قبل وصول الجارات، وهي التي تعودت التأخر. لم لا؟ وهي تمني النفس بالتباهي والتفاخر عليهن. وصلت باقي النسوة تباعا. اجتمعن حولها. وكلهن شوق للاستفسار عن سبب الزغرودتين اللتين أطلقتهما. هل هما إعلان عن نجاح أحد أبنائها؟ أم أن سببهما ابنتها سعاد؟

فكت لغز ترددهن ذاك فأخبرتهن بزواج ابنتها. نزل الخبر عليهن كالصاعقة. وهن اللواتي كن يظنن أن حكاية ابنتها لا يمكن أن تنتهي مثل تلك النهاية السعيدة. دون أن تخلو نظراتهن من شكوك. استغلت فاطمة فرصة اندهاشهن للتباهى بابنتها. لكن إحدى الجارات قطعت عليها استرسالها ذاك حين سألتها عن تفاصيل الزواج. تلعثمت فاطمة ولم تجد جوابا ولزمت الصمت لدقائق. ثم انتبهت وأكدت لهم أن الفرحة أنستها استفسار ابنتها عن تفاصيل الزواج. لكن ذلك لم يقطع عليها فرحتها التي امتدت إلى وقت متأخر من تلك الليلة. قبل أن تستسلم لخدر النوم، قررت زيارة والدتها قصد إطلاعها على جديد ابنتها عصر اليوم الموالي لأنها لم تعد قادرة على انتظار الآيام المتبقية من الأسبوع التي تفصلها عن موعد زيارة والدتها.

دخلت على والدتها. فوجدتها على وضعها المعتاد، جالسة قبالة باب الشقة، السبحة في يدها في دورتها الأبدية، شفتاها تتحركان في صمت معلنتين عن اندماج روحي. لكن عينيها بنظرتهما الحازمة لا تغفلان عن الباب، حيّتها كالعادة. لكنها لم تجبها. جلست بجانبها. استمرت الأم في تسبيحها. دون الاستفسار عن أحوال ابنتها. وإن كانت زيارتها في غير موعدها. ظنا منها أنها جاءت لتستعير منها بعض النقود. كما أنها ملّت من الخوض معها في مسلسل ابنتها سعاد المتناسل الحلقات. في حين كانت فاطمة تتحين الفرصة للإعلان عن خبر زواج ابنتها. في كل لحظة تهم فيها بالإعلان عن زواج ابنتها كان الخوف من ردة فعل والدتها بكلامها اللاذع يقف سدا منيعا أمامها. فظل الصمت مخيما على جلسة المرأتين، لا تكسره إلا أنفاسهما وحركات تسبيح الوالدة.

من حسن حظ فاطمة قدوم خالتها التي اقتحمت عليهما جلستهما وكسرت جدار الصمت الذي يفصلها عن والدتها، وهي امرأة تجاوزت السبعين من عمرها، كانت تلف رأسها بمنديل أبيض استسلم وجهها لهجوم التجاعيد راسما خطوطا متعددة الاتجهات حتى صار وجهها شبيها بخريطة، وقد بدأ ظهرها في التقوس. عانقت المرأة أختها وعانقت ابنة أختها وجلست إلى جانبها متبادلة معها الاستفسار عن الصحة والأولاد، وهي تلومها عن انقطاع زيارتها لها. اغتنمت فاطمة الفرصة لتطلق سراح خبر زواج ابنتها الذي ظل حبيس حلقها لدقائق. الخبر الذي أثار استغراب والدتها. باركت لها خالتها الزواج. انشرحت أساريرها واعترتها مشاعر الزهو والفخر. ولكي تحافظ على مستوى مشاعرها ذاك قامت مودعة قبل أن تخترقها سهام والدتها المستعدة للانطلاق، وحتى لا تحرجها والدتها أمام خالتها بأسئلتها المتشككة دائما.

* * * *

الخبر الثالث: الحمل
مرت أكثر من ثلاثة أشهر على خبر الزواج، وهي المدة التي انتعشت فيها فاطمة، واستعادت خلالها بعضا من بريقها وألقها، وابتسامتها التي فارقتها منذ سنوات. قل خلالها توترها. وأصبحت تهُون عليها أشغال البيت الكثيرة التي كانت تتغلب عليها بترديد بعض أغاني فريد الأطرش التي ظلت عالقة بذاكرتها منذ أن كانت ترافق زوجها إلى قاعات السينما خلال السنوات الأولى لزواجهما في بداية السبعينيات من القرن الماضي. بالإضافة إلى عودة أحلامها المؤجلة (ارتداء أفخم الملابس، اقتناء أحدث سيارة، زيارة مناطق عديدة في المغرب، شراء شقة مشمسة ومريحة والذهاب إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج). كما توّجت ذلك بسفر إلى أختها المقيمة بالبادية بضواحي مدينة الجديدة، كان فرصة للتخلص من روتين حياتها اليومية والارتياح من أشغال البيت التي لا تنتهي.

أثناء مقامها مع أختها أشارت عليها بالذهاب إلى شوافة بارعة تشهد لها كل نساء القرية ببراعتها في فك مجموعة من الأمور الغامضة التي حيرت رجال الدرك كالقتل والسرقة، التي ستطلعها على الوضع الحقيقي لابنتها. يوم السوق الأسبوعي قبل أن تباشرا عملية التسويق اتجهتا إلى الموضع الذي ينصب فيه العرافون والعرافات خيامهم إلى أن وجدتا خيمة شبه مغلقة لا تظهر منها إلا فتحة صغيرة دخلتاها، فوجدتا امرأة في الخمسين من عمرها ترتدي لباسا أخضر وفي منتصف جبهتها وشمة على شكل خط عمودي أخضر، وكذا في ذقنها وبظهر يديها، وتلتف حول عنقها الكثير من السبحات، جالسة وراء مجمر بخور تطلع منه رائحة تشمئز منها النفس. جلستا تنتظران دورهما، بعد أن وجدتا الخيمة شبه مملوءة بالعديد من النساء متخشعات يبصرن في حركات الشوافة ويصغين لكلامها.

عندما حان دورهما تقدمت نحوها فاطمة مرتعشة محاولة الالتزام بتوصيات أختها. فأمسكت الشوافة بيدها اليمنى ورمت قليلا من البخور في المجمر حتى غرق المكان في الدخان ذي الرائحة الخانقة. وقالت لها:

ـ خَير كثِير هَذا اللي جَاي!
سألتها فاطمة وهي تسعل من الاختناق:
ـ خبْريني علَى بنْتي اللي في الخَارجْ؟
فاجابتها:
ـ بنْتك غَادا تْزِيدَك خَيرْ على خَيرْ، نُوضِي علِي ألاَلة رَاهْ نيْتكْ مَقْضِية!

ثم أخرجت فاطمة ورقة نقدية لم تتبينها من جيب جلبابها ثم وضعتها في يد الشوافة وطبعت عليها قبلة ممتنة لها وقد بلغت درجة لا توصف من الفرح.

في إحدى صباحات شهر شتنبر انتبهت إلى أن كمية الخضر المتبقية غير كافية لتحضير وجبة الغذاء. فقررت الذهاب إلى السوق العتيق لجلب بعض الخضر. السوق الذي يبقى واحدا من المعالم الأساسية في عين الشق، يقع على يمين مسجدها الكبير، ووراء حمامها، وتلتف خلفه حديقة الألعاب التي يعود بناؤها إلى تسعينيات القرن الماضي، وهو قبة كبيرة مستطيلة الشكل ذات مدخلين أمامي وخلفي، يؤثثه أكثر من ثلاثين حانوتا مصطفة على شكل خطين مستقيمين متوازيين، أغلبها أقفل أو حُوّل إلى ورشات للخياطة أو النجارة، نتيجة وفاة أصحابها، فالمقفلة ناتجة في الغالب عن صراع الورثة أما التي تحولت إلى ورشات فمرد ذلك إلى اختلاف الاهتمامات المهنية للأبناء عن الآباء.

تركت صيدلية عين الشق على يسارها عبرت شارع تمارة ليواجهها الحمام العتيق الذي يقبع وراءه السوق. في طريقها إلى السوق الذي لا يبعد كثيرا عن مسكنها بالدرب الأول عن يمين الداخل إلى الزنقة رقم أربعة، كانت تلتقي بين الفينة والأخرى ببعض معارفها خصوصا جاراتها ممن تقطن الدروب الأخرى للزنقة أربعة. تتبادل معهن الاستفسار عن الصحة والأولاد. مع إلحاحها على زف خبر زواج ابنتها على مسامع كل من استفسرتها عن سعاد. كانت ترتاح عندما تلاحظ علامات الاستغراب والذهول التي يثيرها الخبر على وجوههن. وإن كانت لا تطيل تحليل ذلك.

دخلت السوق، وقفت أمام أول خضار، استفسرته عن الأثمان، ثم شرعت في اختيار كيلوغرامات من الخضر في أكياس بلاستيكية سوداء، مدّتها للخضار ليزنها، ثم أرجعها لها لتضعها في القفة، نقدته، وأسرعت الخطى عائدة إلى بيتها حتى تكمل ما تبقى من أشغال الصباح وخوفا من أن تتصل ابنتها في غيابها. وصلت إلى البيت. وضعت القفة جانبا وهمت بخلع جلبابها، أربكها رنين الهاتف، تراجعت عن خلع جلبابها. وتوجهت إلى موضع الهاتف. رفعت السماعة. فالتقطت صوت ابنتها سعاد:

ـ ألُو مَامَا (تنتبه إلى تعب ابنتها من خلال نبرات صوتها)
ـ مَالْك ابنِيتِي مَا كَايْن بَاسْ؟
ـ وَالُو أمَامَا غير الوحَمْ... رَاني مَا حَمْلاش رَاسي..
ـ إيوَا مبرُوكْ.. (تطلق زغرودة).. هي غَادي نولِّي جَدة...

واصلت الحديث معها وأسدت لها الكثير من النصائح المساعدة، انطلاقا من تجاربها الأربع. وختمت كلامها معها بالدعاء لها ولحفيدها المنتظر بالصحة والعافية. وضعت السماعة وقد بلغت غاية من الانتشاء والفرح والسرور. هوّنت عليها ما تبقى من الأشغال التي كانت تنتظرها في ذلك الصباح.

خلعت جلبابها. ثم انهمكت مجددا في الأشغال. وكان أولها تحضير الغذاء. سمعت طرقا خفيفا على باب الشقة، توجهت إلى الباب، فتحته. تفاجأت بجارتها، التي لا شك جاءت تسفسر عن سبب الزغرودة التي أطلقتها فاطمة قبل قليل. فتذرعت باستعارة القليل من الخضر لأنها انتهبت إلى ذهاب فاطمة إلى السوق. لبّت طلبها المزيف كما لبت طلبّها الحقيقي حين زفت إليها خبر حمل ابنتها دون أن تكلّفها عناء الاستفسار. الخبر الذي سيكون بلا شك مفتتح جلسة الجارات المسائية المعتادة.

* * * *

الخبر الرابع: الإجهاض
تتوالى أيام الخريف في الانصرام معلنة عن انخفاض درجة الحرارة، يعود للمرأة بعض من هدوئها، وتشعر بأنها بدأت تسترجع وضعها الاعتباري داخل الحي ووسط العائلة الممتدة. خصوصا بعد توالي خبرين إيجابيين عن سعاد. إضافة إلى استقرار الزوج في عمله الجديد، على الرغم من بُعده، الذي حقق لها استقرارا ماديا استطاعت أن تواجه به متطلبات الحياة اليومية. كانت تجهد جسدها حتى تتغلب على أشغال البيت التي لا تنتهي، خصوصا مع اشتداد برودة الجو؛ كل يوم تنظيف وغسيل وطبخ. لاحظ زوجها في إحدى زياراته لها تزايد أتعابها، فاقتنى لها آلة غسيل، علها تخفف من تعبها. وبالفعل بدأ تعبها يتناقص بتزامن مع ارتياحها النفسي خصوصا بعد تلقيها أخبارا تؤكد تحسن أحوال ابنتها الغائبة. وهو التحول الذي استرعى انتباه الأولاد والجارات.

بعد انتهائها من أشغال البيت الصباحية التي توجتها بوجبة غذاء شهية طاجين بلحم الغنم والبصل والزبيب، بمعية ابنيها الأوسط والأصغر اللذين لمسا تغييرا ملحوظا على الأطباق التي كانت تحضرها لهما، كما وكيفا، شرعت في تهييء معدّات الحمام، وضعتها في قفة مخصصة لذلك، وارتدت جلبابها. لفت رأسها المطلي بالحناء بمنديلين. حملت القفة وخرجت تجر بلغتها قاصدة الحمام. مرت على جاراتها، جريا على عادة انضمت إليها منذ سنتين وهي الذهاب إلى الحمام سوية عصر كل يوم خميس. ليكون الحمام مقرا لجلستهن اليومية المعتادة عوضا عن الدرب. وكان الاستحمام فرصة للتخفيف من أشغال الأسبوع المتواصلة التي ترهق أجسادهن وتتراكم آثار غبارها على جلودهن.

يقع الحمام قبالة صيدلية عين الشق، وعن يساره تقع محلات العدولات التي تتقدم المسجد الكبير، ويلتصق به من الخلف سوق عين الشق البلدي. وتمتد خلفهما حديقة الألعاب. ويبقى الحمام بدوره من المعالم الأولى بعين الشق يعود بناؤه هو الآخر إلى فترة الحماية إذ تم تشييده رفقة السوق. على الرغم من بناء حمامات جديدة بالأحياء المجاورة يظل أثيرا لديهن. يتكون من بهو للاستقبال وتغيير الملابس وثلاث قاعات؛ الأولى درجة حرارتها عادية، والثانية متوسطة الحرارة، والثالثة شديدة الحرارة. بعد أن تمددن في القاعة الثالثة لتسخين عظامهن وطلي جلودهن بالصابون البلدي الذي يساعد على إزالة كل ما علق بالجلد من أوساخ. اتجهن إلى القاعة الثانية التي تشهد كل تفاصيل الاستحمام. اخترن مكانا قريبا من صهريج الماء. ما أن شرعن في الاستحمام، من حك ودلك وطلي الجسم بالحناء، حتى بدأن في تنفيذ جدول أعمال جلستهن بالخوض في أحاديث متفرقة، انطلقت من الحديث عن أحوال العيش، وعن بعض الشؤون النسائية بما فيها علاقاتهن الجنسية مع أزواجهن، وصولا إلى مستجدات الحي من زواج وطلاق وموت وهجرة. دون أن يخلو مجلسهن من الحديث عن المستجدات الدولية من إرهاب وعنف بالعراق وفلسطين.

لم تتحاش الخوض في الحديث عن ابنتها ومستجداتها، خصوصا بعد خبر زواجها وحملها. بل كانت تتكلم بصوت مرتفع من موقع المتباهي والمفتخر حتى تسمع كل من حضرت الحمام بجديد ابنتها، لاعنة الحاسدين والحاسدات والشامتين والشامتات.

عادت من الحمام ساعة الغروب. بعد أن ودعت الجارات. صعدت إلى شقتها. فوجدت ابنها الأوسط متصنما يتابع إحدى مباريات كرة القدم على الشاشة الصغيرة في الصالة. وضعت القفة جانبا. وتمددت في استرخاء إلى جانبه. طلبت منه مناولتها كوب ماء. فعل بسرعة وعاد إلى تصنمه. عبّته دفعة واحدة وعادت إلى تمددها على إيقاع تراقص ألوان الشاشة الباهتة وصوت المعلق وردود أفعال الابن التي تعبّر عن حرارة المباراة التي كانت تعادل حرارة جسمها. راودتها فكرة أن تطلب من ابنها تحضير براد شاي، لكي تطفئ حرارتها. لكنها تراجعت خوفا من أن تفسد على ابنها متعة متابعة المباراة.

شيئا فشيئا بدأ يدب الارتياح في جسدها، ونزلت معه حرارة جسمها. اعتدلت جالسة. خلعت الجلباب، وأزالت الفوطة التي كانت تشد بها رأسها. نحتها جانبا. وتوجهت إلى المطبخ، وشرعت في تحضير صينية الشاي. وضعت بقرج الماء فوق النار. انشغلت بتجفيف الكؤوس بمنديل في انتظار أن يسخن الماء. شرع الماء في صفيره معلنا عن سخونته. وضعت ملعقتين من الشاي الأخضر في البراد. همت بصب الماء الساخن على الشاي. رن الهاتف. أعادت البقرج إلى مكانه. أطفأت النار. وهرعت مسرعة إلى موضع الهاتف ببهو الشقة. رفعت السماعة:

ـ ألُو...
ـ ألُو مَامَا.. (بصوت متثاقل)
ـ مَا كَايْن باسْ آبْنِيتي؟ واقِيلا ثَقْلتِي؟
ـ لا... راهْ خْسَر لِي بْنَادَمْ...
ـ الله... الله... كِيفَاش؟

ـ رَانِي كُنْت راكْبة مْع رَاجلِي في الطُّومُوبِيل، وكَانْ قَاطَعْ وَاحَدْ الرَّاجَلْ الطْريقْ وسَاهِي، شويَ كَانْ غَادِي يموتْ كونْ مَا فرَانَاشْ رَاجْلِي. تخلَعتْ بَزَّافْ. وحَسّيتْ بالوجَعْ. وفي اللِّيل لحْت بْنَادَمْ.

ارتبكت فاطمة، سقطت السماعة من يدها المرتجفة. قصدت غرفة نومها والأرض تدور بها، متخلية عن تحضير الشاي. جلست على السرير وضعت رأسها بين كفيها دقائق. شعرت بآلام حادة برأسها. تناولت بعض المهدئات. وتمددت على سريرها تنتظر النوم. لكن النوم عاكسها وأضرب عن الاستجابة لرغبتها. قضت الليلة كاملة ساهرة، تتقلب في فراشها وما سمعته من أخبار عن ابنتها لا يفارق ذهنها وتفكيرها. ظلت على حالها تلك إلى آذان الفجر. قامت من فراشها سخنت الماء وتوضأت وصلّت وعادت إلى الفراش وهي تردد بعض الأدعية التي خففت من توترها، واستسلمت للنوم، بعد أن نال التعب من ذهنها وجسدها.

استيقظت متأخرة عن موعدها اليومي، متهالكة متعبة عاجزة عن تحريك أطرافها. ومع ذلك قاومت تعبها. تناولت فطورها. واندمجت في الأشغال. وهي تفكر في الطريقة التي ستخبر بها جاراتها ووالدتها، إلى أن روادتها فكرة إخفاء الخبر عنهن.

في الجلسة المسائية لم تستطع كتمان الخبر، على الرغم من قرارها القاضي بإخفائه، فباحت بفحواه لجاراتها اللواتي لاحظت تبرمهن. وأمام استفساراتهن المحرجة ودرءا لشماتتهن، اعتذرت بحجة ترك باب شقتها مفتوحا. وصعدت تعض على شفتيها ولم تعد.

أما بالنسبة لوالدتها فقررت عدم إخبارها. حفاظا على مشاعرها وخوفا من إحراجاتها وكلماتها الجارحة.

* * * *

الخبر الخامس: الحمل مرة أخرى
تُقلب صفحات أيامها في تسارع، ينصرم الأسبوع فيتلوه الآخر معلنة عن انتهاء الخريف وحلول الشتاء بصقيعه. وهي محافظة على رتابة إيقاعها اليومي، الأشغال الصباحية والجلسات المسائية رفقة الجارات، وزيارة الوالدة نهاية كل أسبوع. دون أن تتلقى أي جديد يذكر عن ابنتها. فتعود إلى سابق عهدها لتستسلم لهجوم التوتر والقلق اللذين خيما على حياتها في استقرار دائم. كانت تحاول في أوقات فراغها الترفيه عن نفسها بمشاهدة بعض المسرحيات أو الأفلام الكوميدية العربية التي تعرضها القنوات الفضائية، لكنها تزيد من توترها، عندما يتبين لها أن الممثل لا يضحكها بقدرما يضحك عليها لتفاهة ما يعرضه؛ موضوعا وأداء. لا تكسر قلقها إلا لماما عندما يُسمعها ابنها الأصغر بعضا من طرائفه بالمدرسة، أو لمّا تسعفها مخيلتها في استعادة أحلامها المؤجلة التي كانت تنسيها قليلا الوضع الغامض لابنتها المغتربة.

خلال زيارتها الأخيرة لوالدتها، سمعت أن خالتها عائشة التي تقطن بالحي المحمدي منشغلة بالتحضير لحفل زفاف ابنتها الصغرى. ووجهت لهما الدعوة لحضوره في الأسبوع الموالي. وقد اتفقت مع والدتها على أن تمر عليها للذهاب سوية. كان عليها أن تعتني بنفسها لكي لا ينتبه نساء العائلة لتوترها وآثاره على مظهرها. لذلك ذهبت للحمام صباح ذلك اليوم. وفي العصر أخرجت أعز ما لديها من ثياب تقليدية تفيد في مناسبة مثل تلك. كوتها. وشرعت في الاستعداد للخروج إلى العرس. بعد أن قدمت لأبنائها وجبة الغذاء. وبدأت في اللباس، دون أن تنسى وضع ماكياج خفيف يتناسب مع سنها. ثم لبست جلبابها الجديد، وشدت شعرها بمنديلين حتى لا تنفلت بعض الخصلات وتفضح غزو الشيب لشعرها. حملت حقيبتها اليدوية الصغيرة التي لم تعد تستعملها منذ سنوات. واعتذرت لابنيها عن إمكانية التأخر. وأمطرتهما بالكثير من التوصيات أهمها تجنب التشاجر مع أخيهما الأكبر. توجهت إلى الباب وهمت بفتحه قصد الخروج. لكن رنين الهاتف منعها من ذلك. رفعت السماعة:

ـ ألُو...
ـ ألُو مَامَا
ـ لا بَاسْ ابنِيتِي؟
ـ الحَمْدُ لله رَانِي حْمَلَْت مَرَّة أخرَى.
ـ الحَمْدُ لله ابنتِي، مَبْرُوكْ. الله يكَمَّلْ عليكْ. وا تْكايْسِي هَاذْ المَرَّة..

ثم اعتذرت لها، بسبب موعدها، وأنهت المكالمة وهي تكاد تطير فرحا. وتمنت لو كانت لها أجنحة لطارت إلى بيت والدتها. نزلت على وجه السرعة. أشارت لطاكسي صغير. ارتمت داخله وطار بها إلى بيت والدتها بشارع النيل.

وجدت والدتها جالسة في مكانها الأثير مهيئة نفسها في انتظارها. بعد التحية والسلام والاستفسار عن الصحة. همت والدتها بلومها عن تأخرها عن زيارتها. لكنها تراجعت خوفا من أن توتر أعصابها في مناسبة كتلك، خصوصا بعد أن انتبهت إلى ارتياحها. ثم خرجتا لتستقلا الحافلة رقم 44 التي ستأخذهما إلى الحي المحمدي.

يقيم البيضاويون أعراسهم عادة أيام السبت أو الأحد؛ فالميسورون منهم يقيمونها بقاعات الأفراح الفسيحة في أجواء باذخة. أما متوسطو الدخل فيقيمونها في بيوتهم؛ إذ ينصبون خياما كبيرة أمام بيوتهم، حتى تسع الأعداد الغفيرة من المدعوين الذين يكون أغلبهم من النساء.

وبما أن خالتها من الصنف الثاني فقد نصبت خيمة كبيرة أمام بيتها. احتل الجوق الشعبي مكانا استراتيجيا داخلها، وجلس بجانبه، عن يمين الداخل، على منصة بارزة العريس والعروس بلباسهما التقليدي، وبجانبهما جلست نساء العائلة متباهيات بأحدث صيحات الموضة على مستوى اللباس التقليدي وبما ادخرنه أو استعرنه من حلي ذهبية إذعانا في التباهي والتفاخر، مواريات وجوههن خلف مساحيق التجميل، أما يمين الداخل فكان مخصصا للمدعوين من معارف العريس. دخلتا الخيمة، بعد أن سلمتا على العروسة والعريس. وفّر لهما منظمو العرس مكانا حيث تجلس نسوة العائلة. وبين الفينة والأخرى كانت تسلما على امرأة أو امرأتين. ولم يخل ذلك من استفزاز فاطمة بالاستفسار عن ابنتها وغيابها المريب الذي صار حكاية جارية على طرف كل لسان من أفراد العائلة، ومفتتح جلساتهن، بل تناسلت عنه حكايات كثيرة: «كَايَن شِي خبَار جدِيدَة علَى سعَاد؟ مَا عَاتجِيش؟» كانت تشعر بالارتباك كلما بادرتها إحداهن بالسؤال. لكنها كانت تجيب بزهو بأن ابنتها حامل وتنتظر مولودا. أما والدتها فكانت تتظاهر بالارتياح وتتصنع الابتسام في وجه كل من استفسرتها عن حفيدتها مكتفية بترديد أجوبة فاطمة.

في كل مرة بعد انتهائها من إجابة المستفسرات عن ابنتها، كانت فاطمة تختلس النظر إلى بعض الثنائيات التي كانت تتشكل تلقائيا وتخوض في وشوشات وهمس، كان يخفيها صوت الجوق الذي كان يصدح بالأغاني الشرقية والشعبية التي كانت تستفز الشبان والشابات فيقومون للرقص على إيقاعاتها، فتتأكد أن موضوع همسهن هو ابنتها سعاد.

لا تنتهي الأعراس عادة إلا في وقت متأخر من الليل، ويظل الجوق يصدح بأغانيه عبر مكبر الصوت غير مبال بإزعاج الجيران. وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للأكل. فيكره المدعوون على السهر. بعد تقديم الأكل يبدأ المدعوون والمدعوات في الانسحاب مباركين لأهل العرس، وهم يغالبون النوم وقد بلغ التعب منهم مبلغه.

كانت فاطمة مجبرة على الانسحاب لأنها تركت أبناءها لوحدهم، في غياب زوجها الذي ينتقل من مدينة إلى أخرى بسجون المغرب في عمله الجديد. وقد يكون ذلك فرصة مواتية لابنها الأكبر المدمن على الحشيش لاختلاس بعض الأثاث، إمعانا في الاستجابة لسلطة المخدر الخطير الذي سيطر على عقله، على الرغم من أنها تضع كل يوم ورقة نقدية من فئة عشرين درهم بجانب فراش نومه قبل تخلصه من سطوة النوم. فكلما خرجت فاطمة لقضاء بعض الحاجات التي تأخذ وقتا لا باس به، مثل الذهاب إلى الحمام أو السوق أو زيارة والدتها، يغتنم فرصة غيابها لاقتناص بعض الأثاث؛ مذياع أو مكواة أو إزار أو كوكوت... كل ما وجده أمامه ليبيعه بما اتفق، المهم بالنسبة له هو الإذعان لسلطة المخدر. حتى صارت له صولات وجولات مشهورة في ذلك تتداولها الألسن. منها أنه في إحدى المرات تربّص بوالدته عندما سمع أنها ستذهب للسوق لاقتناء بعض التوابل تاركة الكوكوت فوق النار، حين أيقن أنها خرجت، حمل الكوكوت من فوق النار وأسرع بها ساخنة إلى سوق القريعة ليبيعها.

صعُب عليها استئجار طاكسي صغير إلى منزلها. اقترحت عليها خالتها الذهاب مع إحدى نساء العائلة التي قََْْدم زوجها ليأخذها بسيارته. وافقت وشكرت خالتها وودعتها مباركة. على متن السيارة بادرتها المرأة بالسؤال عن سعاد. فكان ذلك فرصة لفاطمة كي تتباهى بابنتها وتخبر المرأة المستفسرة بأن ابنتها تزوجت من قطري وهي الآن حامل. لكن السؤال الذي كان يخرسها هو متى ستعود؟

تصل إلى بيتها لتجد الأولاد قد استسلموا للنوم. تجري جولة في البيت فتتأكد من بقاء الأثاث في أماكنه. تتخلص من ملابسها التقليدية وترتدي لباسا خفيفا وترمي بجسدها المتهالك في الفراش لتستسلم لنوم لذيذ.

* * * *

الخبر السادس: الميلاد
يحضر الزوج ويغيب. يخرج الأبناء إلى المدرسة ويعودون. وتظل فاطمة وفية لإيقاعها. الأشغال الصباحية والجلسات المسائية. زيارة الوالدة نهاية كل أسبوع. الذهاب إلى الحمام كل خميس. عدم التأخر عن حضور المناسبات التي تقع على مستوى العائلة أو الحي، حزينها ومفرحها. تمر الأيام وتتعاقب معها المناسبات بين سارة وحزينة معلنة عن مرور تسعة أشهر عن خبر حمل ابنتها بحلول فصل الصيف.

سمعت أن ابن جارتها عائشة التي تقطن في الزنقة الخلفية قد عاد من إيطاليا بسيارة فخمة. وقد تزوج من إيطالية أنجبت له طفلين، ومكنته من الحصول على الجنسية الإيطالية، بعد غيبة دامت أكثر من ست سنوات، حتى ظن أهل الحي أنه مات غرقا في البحر، خصوصا وأنه ذهب إلى هناك عبر الهجرة السرية صحبة شابين آخرين من الحي وحيدي أبويهما كان مصيرهما الغرق في البحر الأبيض المتوسط، وقد شكل ذلك الحدث مأساة كبرى ضاهت شهرتها حكاية سعاد، تداولته الألسن شهورا عديدة. اتفقت مع جاراتها على الذهاب سوية لتهنئة جارتهن وقت اجتماعهن المسائي بعد العصر.

أنهت فاطمة شقاءها الصباحي بغسل أواني وجبة الغذاء. وتمددت علها تسترق بعض الدقائق من القيلولة، مع يقينها التام أنها لن تحصل عليها خصوصا وأنها كلما همت بها، يظهر مانع مادي أو معنوي يفسدها عليها، وخصوصا مهاتفات ابنتها التي تختار ذلك التوقيت الذي يتناسب مع عودتها من العمل. وبالفعل رن الهاتف فتأكدت أنها ابنتها سعاد. كان يصلها الصوت ثقيلا:

ـ آلُو مَامَا...
ـ يَاكْ لا بَاسْ ابنتِي؟
ـ الحَمْدُ لله ملِّي وْلدتْ على خيرْ..
ـ الحمْد لله ابنِيتي علَى سْلامتَكْ..

تهم بإطلاق زغرودة. لكن صوت ابنتها لم يشجعها. إضافة إلى خوفها على ابنتها من الحسد والعين. وتسألها:

ـ يَاكْ ولَدتِي طَبِيعِية؟
ـ لاَّ...(وبتتثاقل تصحبه أنات) رَانِي وْلَدت بالفتيح. كَانْ الولْد مَقلوبْ وصْعَابَت الولادَة الطَّبيعية، أكثَر مَن نصْف نْهَار وَأنَا كنْتوَجع، حتَى فتْحَوا لي كرْشي... يا الله فقْت منْ البنْجْ... الحمْد لله عْلى كُل حَالْ...
ـ عْلَى سْلامتَك ابنِيتي.. مبرُوكْ علِيكْ.. تهلاي فرَاسَكْ...

ثم أمطرتها بالنصائح حتى انقطاع المكالمة. أعادت السماعة إلى موضعها. مسلمة نفسها لتجاذب شعورين متناقضين؛ الفرحة بالوليد والخوف على الوضع الصحي لابنتها، فصارت مشاعرها شبيهة بقارب صغير يقاوم قوة الأمواج والاصطدام مع الصخور. ثم عادت إلى مراودة القيلولة لكن دون أن تحظى منها ولو بدقيقة. فظلت تتقلب في الفراش حتى آذان العصر.

بعد آداء الصلاة، هيأت نفسها للخروج إلى جاراتها حسب الموعد المتفق عليه. مرت عليهن. دخلن إلى أقرب حانوت للمواد الغذائية. اقتنين ما تيسر من قوالب السكر. وقصدن بيت جارتهن عائشة. رحبت بهن غاية الترحيب، قدمن لها قوالب السكر المحمولة في قفف، وكلامهن كله مباركة، تعبيرا عن مشاركتهن لها فرحتها بعودة ابنها من الغربة. أحضرت إحدى بناتها صينية شاي وطابقا متنوعا من الحلويات. وضعتهما أمام والدتها التي شرعت في صب الشاي في الكؤوس وإرجاعه إلى البراد حتى يستوي، مع إجابتها، وبارتياح كبير، عن كل استفسارات النسوة.

لما استوى الشاي، نادت عائشة على ابنتها. امتثلت أمامها، وبإشارة منها قدمت البنت للنسوة كؤوس الشاي، وبعدها مررت عليهن طابق الحلويات حتى يخترن ما تشتهيه أنفسهن. كانت فاطمة تسترق النظر إلى جارتها الفرحة. وتتمنى في سرها لو كانت في وضعها. فبدأت تتراقص في ذهنها أحلامها القديمة بعودة ابنتها ظافرة متزوجة هي وابنها وزوجها لتُقيم احتفالات متواصلة يحضرها القاصي والداني... تنتبه النسوة إلى شرودها، فيتغامزن.

عندما شرعت العتمة في مهاجمة ما تبقى من ضوء النهار، أمرت عائشة ابنتها بإشعال الضوء. كان ذلك فرصة لإعلان النسوة عن انصرافهن. حاولت عائشة إبقاءهن حتى العشاء حسب ما تقتضيه قواعد المجاملة والنفاق الاجتماعي، لكنها عجزت أمام أعذارهن المفرطة في الأدب واللياقة. فأشارت إلى ابنتها بأن تنادي على أخيها لتبارك له الجارات.

دخل عليهن بقامته المتوسطة الطول ووجهه الدائري وعينيه الصغيرتين، رفقة زوجته وطفليه. انحنى للسلام عليهن. كما سلمت عليهن زوجته التي بدت أكبر منه سنا طويلة القامة ذات ملامح متوسطية بشعر أسود قصير مقبولة الجمال بابستامة بريئة. باركن له. ثم قامت النسوة مغادرات. مدت لهن عائشة قفافهن وقد وضعت فيها ما تيسر من الهدايا، مثل علب القهوة وقنينات العطور.

عادت فاطمة إلى بيتها منتعشة، ممنية النفس بعودة ابنتها ظافرة مثل ابن جارتها لتقيم لها احتفالا لم تشهد له عين الشق مثيلا. أصبح مبتغاها ذاك حلم يقظة سيعيد الهدوء والتفاؤل إلى إيقاع ما سيأتي من أيامها.

* * * *

الخبر السابع: الموت
في إحدى صباحات شهر أكتوبر أحست فاطمة بانقباض شديد على مستوى صدرها. تمتمت بما تحفظه من آيات قرآنية، زال الانقباض. لكن كان يعاودها في فترات متقطعة، يذهب ويعود طيلة ذلك الصباح. انقباض مصحوب بخوف لا تعرف سببه. وهو ما عطل أشغالها المنزلية أكثر من مرة. وكان من تبعاته تأخرها عن تحضير وجبة الغذاء في موعدها المعتاد. انشغل الابنان الأصغر والأوسط بعد عودتهما من المدرسة بمتابعة بعض البرامج التلفزية. انتبها إلى تأخر وجبة الغذاء. فراحا يجهزان على ما تبقى من وجبة الفطور؛ بقايا الشاي والخبز المدهون بالزبدة الاصطناعية. وهو ما خفف عنهما معاناة تقلص معدتيهما بعد أربع ساعات داخل جدران المدرسة.

مرت أكثر من نصف ساعة على عودة الطفلين، شرعت فاطمة أخيرا في تحضير مائدة الغذاء. وصلت إلى مسامعها أصوات نحيب نساء ليست ببعيدة عن شقتها. لعنت الشيطان في سرها، واستمرت في تحضير المائدة. نادت على ولديها. أشارت لهما بمباشرة الأكل حتى لا يتأخرا عن حصصهما الزوالية. وشرعت بدورها في الأكل. ارتفعت أصوات النحيب. تأكدت أن الأمر يتعلق بموت أحد الجيران. تركت المائدة. وضعت إزارا على كتفها ونزلت مسرعة في اتجاه مصدر النحيب بالطابق الأرضي. لتوقن أن سبب البكاء هو موت جارها الركراكي وهو رجل مسن قد بلغ من الكبر عتيا وقد لزم فراش المرض لسنوات. دلفت إلى بيت الجنازة. عزت أهل الميت ووواستهم في مصابهم الجلل. كان يزداد انقباضها وخوفها كلما استمرت في ذلك الطقس. عجزت عن مواصلته. ثم اعتذرت صاعدة إلى شقتها. ازدردت بعض اللقم. توجهت إلى المطبخ، وحضرت بعض الأعشاب الطبية التي قد تخفف عنها الانقباض. شربتها. وتمددت في استرخاء، بدأت تشعر بقليل من الارتياح حتى أخذتها غفوة قيلولة. قامت مفزوعة بسبب رنين الهاتف. اتجهت إلى موضعه. رفعت السماعة:

ـ ألُو...
ـ ألُو مَامَا...( بصوت متتثاقل)
ـ مَا كَايْن بَاسْ؟ (تسألها مفزوعة)
ـ البَارَحْ في الليلْ طَلْعتْ لولْدِي السخَانَة بزافْ فَاتْتْ الربْعينْ، دينَاه للطبيب، عطَاهْ شي مُهدئات، برَدْ شوي. رْجَعْنا للدارْ دَازَتْ شِي زُوج السَّاعَات وهي تطلَعْ ليهْ السخانة مرَّة أخرى، بْقَى يَبْكِي والسخَانَة كتطْلَع عْطينَاه الدوَا مَا نَفْعُو فوَالُو. حَاوْلنَا نَديوه مَرَّة أخرَى للطبيبْ، لََكنْ مَاتْ قْبَلْ مَا نوصْلو للكلينيكْ.

واست فاطمة ابنتها، بكل ما تعرفه من أساليب المواساة، في الوقت الذي كان يصلها فيه نحيب ابنتها، ودعت لوليدها المتوفي بالرحمة والمغفرة ولباقي أموات المسلمين، إلى أن انقطع الخط. أرجعت السماعة إلى مكانها. عاودها الانقباض مجددا لكن بقوة أكبر. شربت ما تبقى من الأعشاب المسكنة التي صاحبتها بتهجي ما تحفظه من آيات قرآنية. استمرت على ذلك الوضع حتى حلول الليل.

مباشرة بعد صلاة العشاء، بدأت تصلها أصوات المقرئين بتلاوتهم الجماعية للقرآن ذات النغمة المغربية، معلنة عن بداية طقس المأتم. نزلت متعبة لمشاركة أهل الميت حزنهم ولتحيي معهم ذلك الطقس الذي لا يمكن التأخر عنه مهما كانت الظروف. كما كان فرصة للتخفيف عن نفسها من مصاب ابنتها. كلما وجدت الفرصة سانحة للحديث عن الموت وفجائعها، كانت تلقي على مسامع من حولها جديد ابنتها: «وَلد بَنتِي مَا زَال مَا شَاف وَالُو في الدنيَا وَدَّاتُو الموت الغَدَّارَة!» تتلقى النسوة الخبر باستغراب وحيرة. يعجزن عن التشكيك فيه أو الاستفسار عن ملابساته وتفاصيله في مثل ذلك المقام. لكن كلام فاطمة كان يحفزهن على الخوض فيه وتحليله، فكانت تلاحظ بين الفينة والأخرى همس النسوة لبعضهن البعض، فتتأكد أن موضوع همسهن هو ابنتها سعاد.

يسكت المقرؤون. يقدم الكسكس. بعد الانتهاء من الأكل يشرع أحد المقرئين في الدعاء للميت ولذويه، يرفع الحضور أيديهم بالدعاء في خشوع. ما أن ينتهي، يقدم إليه أحدهم ما تيسر من النقود. فيعود إلى الدعاء. هكذا حتى ينتهي سخاء الحاضرين وفق ما يقتضيه مقام الرهبة والخوف من الموت. تقدم فاطمة بعض النقود إلى ابن الميت ليناولها للمقرئ وتوصيه بأن يدعو بالرحمة على موتاها وكذا على وليد ابنتها الذي توفي في الليلة السابقة. يتناول المقرئ النقود ويشرع في الدعاء. يستغرب له كل من حضر. وتشتعل في أذهانهم الكثير من الأسئلة. أين هي؟ من تزوجت؟ ومتى؟ وكيف؟ وهل أنجبت بالفعل؟

انتهت المراسيم في منتصف الليل. صعدت فاطمة إلى شقتها متعبة ومتوترة. آوت إلى فراشها. راودت النوم عن نفسه. لكن دون جدوى. فاستسلمت للأرق الذي أنعش وساوسها التي تحولت إلى كوابيس يقظة. والتي ستغزو فراشها ليالي أرق متواصلة في انتظار ما ستبديه لها الأيام اللاحقة.

* * * *

الخبر الثامن: الطلاق
يقرر السارد التخلي عن تقنياته في تأطير أخبار سعاد. ويقدم هذا الخبر مجردا من التأطير الزمني والمكاني، أو بعبارة أخرى خلوا من توابل السرد. ويستسمح إن كان سيتخلى عن قراره هذا في تصوير ووصف آثار الخبر على فاطمة:

ـ أَلُو...
ـ أَلُو مَامَا... رَانِي تطلقَتْ...
ـ آويلي... عْلاشْ؟
ـ رَاه مَلي مَات الوَلْدْ بسَبَب السخَانَة، العِيشَة حْرَارَت بِيني وبِينُو، نْصَبحُوا عْلَى النير ونْمسّيوا علَى النير، حَاوَلتْ مْعَاهْ لَكنْ مَا قْدَرْتشْ، وَلّيتْ طَالْبَة غِيرْ السْلاكَة، حْتَى تطَلَّقْتْ مَنُّو.

تسقط السماعة من يد الأم. يرتفع ضغط دمها. تقع مغشيا عليها. ينتبه إليها ابنها من شدة قوة السقطة. يحاول إسعافها مستعملا كل ما يعرفه من وسائل تنفع في مثل تلك الحال. يخبر أقرب جارة. تحاول بدورها استعمال خبرتها في الإسعاف الشعبي. لكن دون جدوى. يظل وضع المرأة مستقرا. يتثاقل أنينها، تنبس بكلمات متقطعة، استطاعت الجارة فهم عبارة واحدة وهي: بــَـنْ تــي تْــطَـــ لـْـقَــتْ. تحضر باقي الجارات. يعود إبناها من المدرسة. تصل سيارة الإسعاف متأخرة تأخذها على التو إلى قسم المستعجلات. توضع تحت العناية المركزة. بعد ساعتين تفيق من غيبوبتها. لكنها تظل ممسكة عن الكلام.

* * * *

توضيح لا بد منه

قد نتابع أخبار جديدة عندما تُفك عقدة لسان فاطمة...

في انتظار ذلك يعفى السارد من مهمته. التي يختمها بهذا الاعتراف: على الرغم من كوني سارد هذه الرواية، فإنني لحد الآن لا أعرف إن كانت هذه الأخبار التي سردتها تطورات طبيعية فرضها وضع سعاد؟ أم أن سعاد كانت تختلق تلك الأخبار حتى تخفف من محنتها؟ أم أن الأم هي التي كانت تمدد في الحكاية وتختلق المستجدات حفاظا على سمعة ابنتها؟ أم أن الأمر مجرد تخيلات حمّلني الكاتب مشقة روايتها؟

* * * *

الدار البيضاء صيف 2007