يقدم الكاتب المصري قراءته لنص جديد هو (الفاعل) لحمدي أبوجليل يعود فيه بعد روايته الأولى إلى محاولة للمصالحة بين لغة الكلام ولغة الكتابة، وبين بنية السرد وألعاب الذاكرة وهي بطبعها خؤون.

اللعب مع الذاكرة

نص يصالح لغة الكتابة علي لغة الكلام

فادي عوض

الذاكرة عموما هي المخبأ السري الذي يعيد الواحد اكتشاف نفسه واكتشاف العالم من خلاله. وذاكرة الكاتب هي إحدي العيون السحرية التي نطل منها علي ما قد يكون مشتركا عاما. بدت هذه القناعة عادة مصدرا لعدد هائل من نصوص السرد الواقعي. لكنها تلونت بأشكال مختلفة حسب فصول هذا السرد والمراحل التي قطعها. خاصة إذا ربطناها بقناعة أخري مفادها أن فن الرواية ذاته كان يحاول قطع أشواط أخري للتملص من السيرة الذاتيةK لاسيما في الكتابة الراهنة. ليبدو كاتب الرواية الذي أصبح مجرد شخص عادي بل وهامشي أحيانا كثيرة بعد أن تخلي عن دور المبشر والنبي، يبدو في حيرة من أمره حول ما إذا كان لذاكرته بما فيها، كل تلك الأهمية التي أعطاها الكتٌاب لذواكرهم في مراحل سابقة. ومن ثم ألزم الكاتب نفسه بدرجات مختلفة من اللعب مع هذه الذاكرة. تتسرب أحيانا من الإطار السردي للنص: علي مستوي تطور أحداثه، أو من العين التي ينظر بها الراوي إلى شخصية الكاتب/ البطل ومشاركيه التجربة، أو قبل ذلك وبعده ـ من اللغة التي يكتب بها نصه. وهو ما سيحاول هذا المقال أن يناقشه في رواية حمدي أبو جليل الصادرة مؤخرا (الفاعل).

يكتب أبوجليل إذن من الذاكرة وعنها. ويبدأ الكتابة تحديدا من لحظة ملاطفة ذاكرته ببعض السجائر حتي تنبئ بمكنونها، وذلك فقط لأنها ضنت بالكلام (خمس سنوات)، ويبدو أن هذا فعل الذاكرة عندما تحتشد بالأحداث وتنتظر طويلا لحظة ملاطفة كهذه لتقرير مافيها. وهي عندما تفعل قد تعصف بشروط السرد المستقرة، فتتحرك ببناء النص من كونه خطا دراميا متصاعدا و«محبوكا»، إلى حالة من التداعي لا بأس أن يحدد الراوي مساراتها الرئيسية منذ بداية النص. من الفصل الأول في رواية الفاعل ندرك أن حمدي أبو جليل سيحكي لنا جانبا من سيرته الذاتية منطلقا من العلاقة بين خطين: كونه كاتبا، وعمله شيالا في (الفاعل). وهي معادلة بطبيعة الحال تغري أكثر الكتاب سخرية بالتورط في المفارقة لابتزاز مشاعر القارئ، لكن الكاتب هنا يعصف بهذ النوع من الكتابة لينتج نصا من نوع آخر. يبحث به عن مفارقات أخري أكثر تأسيسا وأعمق اتساعا من قبيل نشأته البدوية، ومارافقها من تخيل عن المدينة.

منذ البدء نظر البدو إلى المدينة كالنحلة التي لايريدون عسلها ولا لدغها. ولكن إرادة الدولة أبت عليهم ذلك فبدأت منذ محمد علي تطبق معهم سياسة العصا والجزرة. وبدأوا هم يطبقون معها سياسة «هذه إبلي.. وللبيت رب يحميه». وعندما وهبهم محمد علي أرضا أطلقوا فيها الغنم ولم يزرعوها. ثم تناسلوا ومن نسلهم خرجت فروع اغتنت وأخري بالتإلى افتقرت ومن هذه الأخيرة خرج حمدي. وكشباب قريته من جيله كان عليه أن يخرج إلى المدينة الصغيرة أولا (الفيوم)، ليدرس في معهد تعلم فيه معني خاصا للسياسة اسمه «أم حسن». وفي الوقت نفسه كان عليه أن يدق أبواب المدينة الكبيرة (القاهرة) بحثا عن الرزق، وهناك سيعمل إذن في الفاعل شأن بني جلدته الذين يفضلون الفاعل علي أعمال أخرى، ليس منها الطيران بالطبع. يدخل البطل القاهرة لأول مرة بعد الإعدادية، وهنا تختلط العوالم تماما بين البدو والفيوم والقاهرة. والقاهرة هنا هي قاهرة الزلزال، قاهرة الدكتور الذي ينظر إلى عمارة الممثلة كحلم فقط، لأنه قد يعمل فيها بوابا.

هذه إذن خطوط السرد الرئيسية بإغرائها كأمثولة كما يقول الدكتور بدوي في (الحياة)، وهو مايتجاوزه أبو جليل تماما وبطرق مختلفة أولها: الوضوح البالغ لشخصية الكاتب وعملية الكتابة في النص فكل مانراه هنا هو تداعي ذاكرة الكاتب الذي يبدو متخطيا لألم هذه الرحلة ومتجردا تماما من نبرة الشكوي، وهو الدرس البلاغي الذي حصلته الكتابة الراهنة من كتاب أسامة الدناصوري (كلبي الهرم كلبي الحبيب). وما دعٌم هذا التوجه ثانيا هو استعانة اللغة بدرجة من السخرية المشعة من طموحاته وطموحات شخوصه أمام العالم الذي لا يستجيب لفعلهم جميعا إلا بحكم أنهم لا يريدون منه شيئا.

وثالثا: الضربة التي وجهها أبوجليل لمركزية الحبكة الروائية باستعراضه للحدث في صورة مشاهد متقطعة تكتسب كل منها صيغة انفصالية أما عن باقي فصول النص ليس فقط لأنها تحضر بمنطق التداعي أو على الأقل نوع آخر من منطق تخطيط النص لايلتزم بتطوير الأحداث حول بؤرة واحدة، وإنما أيضا من العناوين المنفصلة لكل منها، والتي تجعل من الممكن إعادة ترتيب النص بصورة مختلفة، كما تطرح إمكانية تتابع المشاهد إلى مالانهاية. ويصح هنا أن نعيد السؤال حول مسألة التصنيف الأدبي حول كون هذا النص رواية أو نوعا آخر من السرد نسميه بالرواية كسلا. مما لايعني (نقصا) في النص بقدر مايعكس قلقا من تسمية الأشياء بغير أسمائها. إذ يبدو أن علينا أن نعترف بأن تصنيفات الأدب ليست أبدا رأسية، بقدر ماهي أفقية. وأنه لا قيمة لنوع من الكتابة علي حساب نوع آخر. إلا حسبما يعبر النص عن عمق في نوعه، وعليه لانخجل أن نسمي كتابا ألفه روائي بأنه سيرة ذاتية، أوسيرة روائية دون أن يعني هذا أن أحد النصين أهم من الآخر بحسب نوعه. أنا مثلا أفضل (الفاعل) علي (لصوص متقاعدون) رغم إمعان هذا في روائيته، ومخاصمة (الفاعل) لها. وليست وحدة الراوي أو وجود شخصية ممتدة كالدكتور مايجعلنا نسلم بانتماء النص إلى فن الرواية علي حساب خصمه من فن آخر لا يقل جمالا هو السيرة الروائية، أو كما قال.

هكذا إذن يتحايل النص بوقوعه في هذه المنطقة الوسط. فالنصوص هكذا لأن عالمها أصلا هكذا فيما يبدو. وبالتإلى فإن الشخوص ستقع في نفس المنطقة الحائرة: الدكتور الذي يبدو بطلا روائيا مناظرا للبطل تبدأ به الحكاية مباشرة بعد افتتاحها وتنتهي بكشف سر عودته، وكأنه سياق خاص يريد الكاتب أن ننظر إليه في ضوئه. عم أحمد وبكر أيضا هي شخوص حاضرة روائيا تجلو نفسها كبشر في مواجهة وعي المدينة، وتشرح النقطة التي وقف فيها الكاتب من هذا الوعي وعلى من كان يتفاخر بنصوصه الأولي. لكن النسيج نفسه سمح للنص بأن يضم عددا هائلا من الشخصيات التي حضرت ترسيخا لحضور الذاكرة ومن ورائها الكاتب، وبدا ما ليس روائيا في الشخصية أكثر حضورا، أو بمعني آخر، تعمد الكاتب أن يضعنا أمام السؤال الذي تراهن عليه الواقعية: هل يحدث هذا فعلا؟! أنظر إلى الأم في الفيوم. أو الأب عندما يسلم علي الفنانة المشهورة. أو المخبر عندما يستقبله كقريب حنون ثم يسلمه للضابط بكل بساطة.

ليس الأمر وقفا علي الشخصيات بطبيعة الحال. وإنما كان الإطار النصي هنا بالغ الاتساع بما يسمح بالانتقال بين عوالم شديدة التنوع بمنتهي السلاسة: فأنت تري حكايات الأسرة تاريخيا بتفريعاتها وخيباتها، ثم حكايات الطفل والمراهق، ثم حكايات الدراسة ومعهد «أم حسن»، والحبس وحكايات الحبس والمشهد الأثير: «كيف أناديك ياأمي؟»، والزلزال والمراهقات في حدائق القاهرة وعمارة الممثلة وسكانها وشبكة الدعارة، كل هذا بالإضافة أصلا إلى حكايات الفاعل (الثقل الروائي)، وحكايات كتابة الكتابة (الثقل مابعد الحداثي). وهو ثراء رغم عرضه الحدث بطريقة مرور الكرام أحيانا يبدو أن شكلا آخر لم يكن ليسمح به.

غير أن أحد أهم أبطال هذا النص هو لغته، وذلك في أكثر من زاوية، إذ لعل الاختيار اللغوي الذي يطرحه أبو جليل هنا أمر جدير بدراسة لغوية لتتبع ذلك التداخل الغني الذي يمكن أن نسميه الكتابة شفهيا. بما يعني أن الكاتب يكتب كما يتكلم تماما. بما يكشف عن كتابة أكثر تصالحا مع قارئها المفترض أو غيره حتي. فهو مثلا عندما تأخذه الحكاية بعيدا يعتذر للقارئ وكأنه شريك جلسته الحقيقي، كما تنتشر في النص من وقت لآخر كلمات من قبيل «أنا آسف، المهم...»، «أقصد»، «ماأريد أن أقوله»... وغيرها. وهنا من زاوية أخري ربما نري (الصراع) التاريخي بين لغة الكتابة ولغة الكلام إذا وضعنا هذا النص بجوار نصوص أخري تكشف ملامح دالة فيما يخص تطور العربية المعاصرة (كلبي الهرم) مثلا. خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا هنا مفردات عالم (الفاعل)، والتي هي بالتأكيد ذات طبيعة شفاهية مطلقة امتزجت هنا بفصحي معاصرة لحد يسمح ألا نشعر بأي نوع من النتوء اللغوي.