تقدم الناقدة العراقية هنا قراءة للوجع العراقي في ديوان (موسيقى الأحلام) للشاعر المصري محمد ابراهيم أبو سنة. محاولة تلمس كيفية تعامل المتخيل الشعري العربي مع حدث سقوط بغداد الجلل.

محمد ابراهيم ابو سنة والحدث التراجيدي

وجدان الصائغ

كيف تعامل المتخيل الشعري العربي مع حدث سقوط بغداد 9 / 4 / 2003؟! هل مارس غوايته في منح المبدع تاشيرة فرار من سعير اللحظة الراعفة المعبأة برائحة البارود وازيز القذائف صوب فراديس مخضلة بالمجاز والصور المدهشة؟! أم جعل من المتون الشعرية مرايا سحرية نبصر من خلالها أجندة الانسان العربي المحاصر بالقرارات الدولية التي اباحت حرمة الدم العراقي وعنتريات الخطابات السياسية وجحيم اللافتات المستوردة المزركشة بالحرية وحقوق الانسان والديمقراطية، لنشهد عبر تلك المرايا حركة عيني المبدع العربي المغرورقة بالدمع وهي ترقب تمزق الجسد العراقي تحت وابل من القصف والقنابل الذكية، ونسمع نبرات صوته المنتحبة وهي تتأمل تفتت ذاكرة المكان تحت صرير مجنزرات الاحتلال وبساطيل المارينز؟! كل تلك التساؤلات قفزت الى ذهني وانا اتأمل قصائد مجموعة (موسيقى الاحلام) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2004 ـ للشاعر المصري محمد ابراهيم ابو سنة التي شكلت منذ عنونتها صرخة احتجاج بوجه الواقع الملبد بحمم الموت وطوفان الدم، تأمل مثلا قصيدة (بغداد، ص83) التي كتبت في 23 / 4 / 2003، أي بعد اجتياح بغداد، ولاحظ كيف أرخ المتخيل الشعري بحس المثقف العربي لليالي العراق التي كانت تقاس بعدد الصواريخ وهي تطفىء وهجها بصدور الضحايا:

بغداد
عفوك
ان القول يعتذر
غاب الاحبة
والاعداء قد حضروا
كنا نرجي ضحى
يأتي بعزتنا
هذا الاباء
الذي خناه ينتحر
تلك الذئاب على اعتاب جنتها
زمر تجيء على اعقابها زمر
تلك القنابل والارواح شاكية
ترجو الغياث
وليل الظلم
يعتكر
من للطفولة
تلقى حتفها بددا
من للعجائز
والنيران تستعر
تاتي البروق
على اغصان
الوية
تعلي شريعة غاب
سنها بشر
هذا الربيع
ولازهر
سوى دمها
هذا الفرات
وقلب المجد ينفطر
من للعراق؟
وقد جاءت تحاصره
هذي الجحافل
مثل الليل
تنهمر
من للعروبة تذوي
شمسها غربت
طغى الظلام
فمن بالبأس يأتزر
جاؤوا من الغرب
غربانا مدججة
قد امطروا
لهبا
ماهكذا المطر!!!
يا بؤس ماحملت
ايام محنتنا
اعداؤنا كثروا
احبابنا اعتذروا
بغداد لاتهني
في صد جحفلهم
تبدو الحياة جحيما/
أينما ظهروا
جاؤوا
بباطلهم
والزيف منكشف
شدي العزائم
ان الحق ينتصر!

يلوذ المتخيل الشعري بايقاعات بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن)، الا انه يقوم واعيا بتفتيت التفعيلات لينثرها على بياض الورقة، يبعثرها عاكسا بذلك تبعثر خيمة الشعر، تشظي الذاكرة التاريخية والحضارية تحت شراسة ما يحصل على الارض، ليسلط الضوء على عمق الحدث الكارثي الذي أغرق البلاد والعباد في طوفان من الدم والدمار، وليصوغ بنية شعرية تعكس عبر تكرار تصدر السطور الشعرية بالحرف الانفجاري التاء (تلك الذئاب + تلك القنابل + ترجو الغياث + تاتي البروق + تعلي شريعة الغاب + تبدو الحياة) ارتعاشة القلب وهو يصغي الى هطول صواريخ كروز، وهو يسمع صراخ الضحايا الذي يصم الاذان، المتن يضعك عبر (قد امطروا/ لهبا/ ماهكذا المطر!) قبالة مطر التكنولوجيا، مطر القنابل الذكية والصواريخ العشوائية لتكون ازاء (نيسان) وحشي ملبد بحمرة الموت (هذا الربيع/ ولازهر/ سوى دمها) ـ التفاتا الى تاريخ سقوط بغداد ـ فضلا عن ان التكرار الواعي للتساؤل الواخز (من للطفولة + من للعجائز + من للعراق + من للعروبة) يضيء بامتياز مشاهد القتل الجماعي فتلمح حركة نهش القصف بالجسد العراقي على مرأى ومسمع الكون.

وهي تساؤلات تنجح في ان تضيء منطقة الوجع الجماعي التي تتمدد باسترخاء على تاريخنا المعاصر المكبل بالهزائم (يا بؤس ماحملت/ ايام محنتنا/ اعداؤنا كثروا/ احبابنا اعتذروا؟!). لتكون القصيدة برمتها صرخة احتجاج بوجه الصمت العربي بل الصمت الكوني، بوجه القرارات الدولية التي سوغت قتل الانسان الاعزل. بوجه طوفان التكنولوجيا العابر للبحار.

وقد يصوغ المتخيل الشعري متنا تراجيكوميديا ينتقل عبره من حوار المكان الذبيح المهتوك المغتصب (بغداد) الى الحوار مع انسان بلاد وادي الرافدين، تأمل مثلا قصيدة (اخي في العروبة، ص89) ـ المدونة في 5 / 6 / 2003 والمتشذرة طباعيا الى ست شذرات ـ ولاحظ كيف شغل الخرم الطباعي ليتحكم بمستوى النبر الصوتي من جانب، ومن جانب آخر ليعكس حركة اختراق الرصاص الحي شغاف الروح والجسد معا:

(تعقل..؟!..
.. اخي في العروبة..
لاتعترضهم..!! ـ
.. ودعهم يمرون
فوق عظام اخيك
وجثة امك
فوق التراب
الذي لم يضن
وناح لرؤيتهم
انهم اصدقاؤك
لاباس ان هدموا
بعض دارك
لابد من تضحيات
لتنعم.. بالجنة القادمة!!
.........................
.........................

انت بالضرورة ازاء دايولوج مغلف بالسخرية المريرة وازاء متن يعكس سوريالية اللحظة الراعفة التي تشهد تهشم الانتماء (دعهم يمرون فوق عظام اخيك/ وجثة امك) وتفتت الهوية (...فوق التراب/ الذي لم يضن/ وناح لرؤيتهم) بل ان الاخترامات التي تمترس بها المفتتح (تعقل..؟!../.. اخي في  العروبة../لاتعترضهم.. !! ـ /.. ودعهم يمرون) تعكس حركة انثيال الحبر والدمع والدم لحظة صياغة النص، بل وتلمح تعثر الحروف قبل تدافعها، لتعكس محنة الحرف وعبثية الكلمة في راهن ملبد برائحة الموت والبارود، زد على ذلك فان خاتمة الشذرة ـ المتشكلة من سطرين مخرومين ـ تفضح نبرات البوح النازف وتكسر العبارة امام طوفان الدمع وقد عزز هذا التأويل علامات الاستفهام والتعجب التي تعكس اقصى المرارة والحيرة، وتضيء تفاصيل الحدث التراجيدي ـ سقوط بغداد ـ تأمل الشذرة التالية، ولاحظ كيف عكست مرايا النص وجه ابي سنة وهو يتأمل مشاهد الدمار لينقلها مغلفة برؤيته لما يحصل على الارض:

لماذا غضبت
وهم يتركونك
حرا
لتنهب ما خلفته العصور
وتضرم نار السعادة
في كل ما قد بناه الاوائل
تسخر من جهل
ابائك الاقدمين
وتطعن اخوتك
العابرين
تدوس
على جبهة
"العاصمة"؟!!
.........................
.........................

يعكس التساؤل المرير (لماذا غضبت؟) عمق الفجيعة الجماعية التي نجحت في ان توحد الضمير العربي حين جعلتك تسمع نواحا جماعيا يمتد من الماء الى الماء، وطرحت ثمارها زمنا مرا ملفعا بالخذلان والمرارة لذلك تجد المتخيل الشعري يختم النص بسقوط المكان الرامز لزهو الحضارة الاسلامية العربية، ولكنه لم يشأ ان يسميه بل اكتفى بان يجعله مقيدا بين عضادتين تشبه السلاسل التي كبلت التاريخ العربي. فسقط وسقطت معه بغداد مغتصبة مضرجة بالهزيمة (جبهة "العاصمة") بل ان هذه العبارة جعلتني ـ انا التي راقبت بعيون دامعة حركة بساطيل المارينز وهي تجوب العاصمة في صباح مكفهر مضرج بدم الاحتلال ـ استدعي لحظات الوأد تلك، وقد افلح ابو سنة حين استدعى الخاتمة بسطريها المخرومين طباعيا ليمنح المتلقي سانحة ان يملأ تلك السطور برؤاه، فيشارك الشاعر في صياغة النص من جانب ومن جانب اخر فانه يعكس وجه المكان الذي اخترمته مجنزرات الاحتلال. زد على ذلك فان المتن يستدعي اللافتات الملونة بالحرية والديمقراطية التي رفعتها الآلية الحربية بوجه انسان بلاد وادي الرافدين، ليعكس الحركة الواعية لمحو الذاكرة الحضارية للمكان (لتنهب ما خلفته العصور + وتضرم نار السعادة/ في كل ما قد بناه الاوائل/ تسخر من جهل + ابائك الاقدمين)، وتضيء الشذرة الخامسة والاخيرة انتقال كاميرا النص المحمولة من وأد المكان الى وأد انسانه، لاحظ الاتي:

(تعقل !!!..
.. ودعهم يقيمون
" قبرك"
تحت النخيل الحزين
ولاتنتفض
في وجوه
الذين لخيرك
جاؤوا
هم الاصدقاء
هم الرحماء
فهيا تمدد
ومت في هدوء
فان عشت
عش يا اخي
في العروبة
كالغنم السائمة
لتنعم بالرحمة
الدائمة.

من اللافت ان المتن يستدعي مفتتح الشذرة الاولى ( تعقل..؟!../ .. اخي في العروبة../ لاتعترضهم.. !!.. ودعهم يمرون) ليعيد صياغتها في مفتتح هذه الشذرة اذ يضعك ازاء الوجه الديمقراطي للموت (ودعهم يقيمون/ "قبرك"/ تحت النخيل الحزين) كما يضعك ايضا ازاء صياغة جديدة لخاتمة الشذرة الاولى (لتنعم.. بالجنة الدائمة) لتكون في هذه الشذرة (لتنعم بالرحمة الدائمة)؟؟؟ وفي اطار حركة دلالية دائرية تعكس الوجه الكالح للراهن المعاش، وتعكس فجيعة الذات الرائية والذات المحشورة داخل الحدث التراجيدي.

وقد يقف المتخيل الشعري ليحاكم الذات التي راهنت على اللاشيء فخسرنا معها بلادا وامانا، لاحظ مثلا قصيدة (نهايات، ص71)، وتامل كيف استطاع ابو سنة ان يغلفها بهالة من الترميز ليوصلك في خاتمة المطاف الى الحدث التراجيدي الذي صنعته بالضرورة انامل البطل التراجيدي وفقا لتنظيرات ارسطو ووفقا للفاجعة التراجيدية التي فاضت مرارتها على الراهن المعاش لتغرقنا في دوامة الاحتلال:

ياسيدي
لاتتعب الخيول
في الطريق
فنحن لانريد.
ان نملك الافلاك
ستنتهي.
ولاصديق
تود ان تراه
اويراك
وبعد ليلتين لن يكون
هاهنا سواك
يواجه الرعود والبروق
وكل مافي الارض
حول خطونا
شراك
وهذه الاحلام
في قيودها
تخور في دمائها
هاوية في جبها العميق
وليس غير صرخة
الاحزان
في حديقة الاشواك

أية (نهاية) شاء المتخيل الشعري ان يطرحها بين يديك منذ العنونة (نهايات)؟! واية مشاكسة دلالية شاء ابو سنة ان يوقع القراءة العجلى فيها؟! هذه المشاكسة التي اضاءها التاريخ المثبت في خاتمة القصيدة 1962، وقد تجلت في حركة انامل ابوسنة وهي تحشر هذه القصيدة بتاريخ صياغتها ضمن قصائد هذه المجموعة التي كتبت مابين عامي 2000 و2004 لتوثق ضمن مناخاتها المسكونة بالابتكار لتراجيديا الانسان وفجيعته بهتك المكان واغتصابه، بل لتوثق شعريا لاشرس هجوم تكنولوجي معاصر على حرمة الذات العربية العزلاء الا من الشعارات والخطابات واللافتات. زد على ذلك فان هذه العتبة الزمنية المشفرة 1962 تحيل من خلال حشد الافعال المضارعة المتحركة من عمق اللحظة الراهنة الى رحم المستقبل (تتعب + نريد + نملك + ستنتهي + تود + تراه + يراك + يكون + يواجه + تخور) الى هزيمة 1967 التي قادتنا بخطى ثابتة الى فجيعة جماعية حين صحونا من عسل التحرر على كابوس الاحتلال.

كما ان هذه العتبة نفسها تنجح في ان تعكس عتمة الراهن المعاش وتحديدا حدث اغتصاب بغداد عام 2003، فاية بنية شعرية شاءت انامل ابراهيم ابو سنة ان تنسجها لتعكس فجيعتنا الجماعية التي تتحرك من الماء الى الماء؟! لنهاياتنا المشتركة ـ التفاتا الى العنونة. بل انك تجد ان المتخيل الشعري يجعل من الدايالوج عتبة تضيء من جانب وجه الذات المتكلمة والمكلومة والمندغمة بالضمير الجمعي والانوات الواقعة تحت شراسة الحدث التراجيدي ويكرس هذا تكرار ضمير الجماعة (نحن + نريد + نملك + خطونا) ومن جانب آخر تضيء وجه البطل التراجيدي الذي تحرك بخطى واثقة نحو الخطيئة التراجيدية التي لم تمنحه وحده تاشيرة للشتات والوحشة والمكابدة ـ كما هو شأن التراجيدية الاغريقية (6) ـ بل منحتنا ايضا نحن النظارة تأشيرات للنفي والفجيعة وقد تمظهر ذلك عبر ضمير المخاطب: ( تتعب + ستنتهي+ تود + تراه + يراك) بل ان افتتاح الخطاب الشعري بعبارة (ياسيدي) تفضح انتماءات الذات المخاطبة ـ بفتح الطاء ـ والمخاطبة ـ بكسرها ـ اذ ان احدهما سيد والاخر مسود، زد على ذلك فان تكرار المتن اداة الرفض (لا): (لاتتعب + لانريد + ولاصديق) يهرب احساسات الرفض التي اجتاحت الذات الرائية لحظة صياغة النص. هي ذاتها الاحساسات التي جعلت ابو سنة يستل هذه القصيدة من زمنها 1962 ليموضعها في منجزه الجديد مؤكدا بذلك على دائرية الزمن العربي حد الانغلاق، فمأساة اليوم هي مأساة الامس؟!

وخلاصة القول؛ فان قصائد الشاعر محمد ابراهيم ابو سنة في مجموعته (موسيقى الاحلام) قد اضاءت فراديس جديدة للقصيدة العربية المخضلة بندى الراهن المعاش، بعذابات الانسان العربي المحاصر، بطواحين الاستلاب حد التهميش وبمجنزرات الاحتلال وبلافتات الديمقراطية وحقوق الانسان، قصائد تلامس جرح الراهن المتخم برائحة البارود بصرخات الموت الجماعي، قصائد تؤرخ لراهننا المعاش المتخم بثقافة الموت.


ناقدة عراقية مقيمة في اليمن