تنشر (الكلمة) تلك القراءة المركزة لرواية الكاتب المصري المرموق بمناسبة فوزه مؤخرا بجائزة الدولة التقديرية، ويكشف فيها الناقد المغربي عن مواطن تميزها وتفردها، وعن تراكب طبقات الحكاية فيها وتحولاتها.

شهد القلعة

تحولات شهرزاد، تحولات شهريار، تحولات الحكاية.

عبدالرحيم مؤدن

بالرغم من صعوبة تلخيص النص الابداعي، وابتساره أ يضا، فانني سأحاول تقديم محتوي رواية إبراهيم عبد المجيد الجديدة (شهد القلعة)(1) من خلال حوار جري بين شخصتي الرواية الرئيسيتين ـ شهد واسماعيل ـ بحكم قدرتهما علي ذلك أكثر من غيرهما. «قالت بصوت هادئ ـ في قلعة مهجورة. في مسقط. في عمان جنوب جزيرةالعرب. يلتقي مصريان. من زمنين مختلفين ليتحابا وأمامهما جرت جريمة قتل. يا لها من حكايةاا رفع رأسه اليها في دهشة، وفي غيظ صرخ: ـ عانا أنت تهرفين. لقد أتيت بي هنا لأنام معك. فلماذا تتحدثين عن هذه الأوهام؟ لماذا تتمنعين الي هذا الحد؟ قالت بهدوء، وهي تعيد نهديها داخل فستانها، وتغلق أزراره علي أسرارها، قم معي. ستري بنفسك القتيلة واثار القتل» (ص، 46 ـ 47).

المتأمل لهذا المقطع الحواري، سيكتشف أقانيم الرواية الثلاثة ـ شهرزاد وشهريار والحكاية ـ المتحكمة في النص الروائي. وسنلمس، من خلال التحليل، تفاعل هذه الأقانيم الثلاثة فيما بينها مجسدة بناء روائيا يقوم علي الحكاية ـ الاطار، أي حكاية ألف ليلة وليلة، مرممة بتقنيات أخري مستوحاة من الرواية البوليسية، أو علي الأصح الرواية ـ اللغز فضلا عن جوانب أخري سيتم التعرض لها في حينها. 

(1) تحولات شهرزاد:
تبرز هذه التحولات، عبر قرائن سردية ولغوية، جسدتها شخصية (شهد)، بطلة الرواية بواسطة أسلوب التسويف، أو الارجاء المقصود، كما فعلت شهرزاد في الحكاية ـ الأصل، بهدف الافلات من موتها المقرر من قبل شهريار. أما بالنسبة لـ(شهد)، أوشهرزاد الجديدة فانها تمارس الأسلوب ذاته عن طريق التمنع والممانعة. والأمثلة التالية توضح ذلك:

أ ـ «قالت: ألاتنتظرحتي أحكي لك حكاية الحصن؟» ص، 26
ب ـ سكتت وتنمرت عيناها ثم قالت: لا. القصة لم تنته. سأصب لك أنا الكأس هذه المرة. ص27
ج ـ شهد، أرجوك. الا أسليك؟

ـ شهد.
ـ خلاص. انتظر حتي أقول كل شئ بسرعة. ص31

قالت من جديد:

ـ نحن نصارع الزمن. لابد أن نجد القاتل قبل الصباح... بعدها أحدثك عن هذا الباب. ص53

وفي النص حكايات عديدة لاتنتهي ترسلها شهرزادالجديدة، أو شهد، إمعانا في حرمان شهريار الجديد، أو إسماعيل، من تحقيق رغبته خلال تلك الليلة الملعونة. هكذا استمر تناسل الحكايات المستمر، وكل حكاية تصب في الأخري، وكل محكي ينفتح علي محكى آخر كما برز ذلك في محكي ألف ليلة وليلة الأصل. والفارق بين الليالي القديمة والليلة الحالية، يتجسد في كون شهرزاد الجديدة، ليست مجرد حاكية فقط ـ وهذا قاسم مشترك بين الحكايتين ـ بل إنها موضوع للحكي وشخصية أساسية من شخصياته. ومن ثمة، فحكايتها، في هذه الليلة، مع إسماعيل استدعت بهدف تجاوز الوضع الصعب لكل منهما، حكايات عديدة. هكذا توالت الحكايات بدون توقف: حكاية شهرزاد الجديدة (شهد) مع المغربي الميلودي بفرنسا، وهذه استدعت، في فرنسا أيضا، حكايتها مع اسماعيل الرسام المصري، ثم جاءت حكاية ثالثة مارست فيها السحاق مع (فاتيما) المغربية بمراكش.

أثم، بل انه تمنع، كما فعلت شهرزاد قديما، مقصود لحرمان اسماعيل من اللذة المشتهاة. 

(2) تحولات شهريار:
تتأسس شخصية شهريار، طوال الرواية، علي التماهي المقصود بينه وبين شهريار ألف ليلة وليلة. فطوال الرواية لاهم له إلا التحايل علي المرأة عامة، وشهد خاصة، أوشهريار الجديدة، مصرحا بهوسه الجنسي بالفتيات الصغيرات، مترسما خطوات شهريار القديم المهووس، بدوره، بافتضاض بكارة الصغيرات. والقرائن الدالة غلي ذلك هي الآتي:

يرفض خريف الجسد، أو مواته، ويبحث عن العنفوان والتفجر والشبق. وإذا كانت عقدة شهرزاد مجسدة في خيانة المرأة (في الحكاية ضبط الزوجة متلبسة بالخيانة مع أحد عبيد القصر) مما ولد لديه حسا انتقاميا برز في ليالي المتعة والقتل، اذا كان الأمر كذلك، فإن شهريار الجديد لايتردد في الانتقام، أيضا، من عدو قاهر مجسدا في الزمن الذي حول جسد زوجته الي جسد شائخ. وسيحوله، يوما ما، الي وضع مشابه من العجز والعطل. ولعل هذا ما يفسرإعجابه الشديد بالفتيات الآتي:

أ ـ «سألته: ـ هل تعرف سر الحياة؟ اندهش للحظة ـ لاأحد يعرف سر الحياة. أجاب بصوت كسول، ثم ناولها كأسها. ـ طيب.هل تعرف سر الخلود؟ هل تعرف هي حكاية البنتين الصغيرتين؟ هل يمكن؟ إذن لماذا تسأله؟ لم يشأ أن يعطي السؤال اهتماماأكثر. قال، وهويتناول كأسه من فوق الأرض: ـ ربما تكون الحياة نفسها سر الخلود. ـ إذن لاخلود للموتي. ـ تقريبا.» ص25.

ب ـ في النص مواقع عديدة، تكشف عن بحث اسماعيل، أو(شهريار الجديد) عن الخلود بأي ثمن، خاصة أنه «يدرك منذ زمان أنه يمكن البلوغ للنيرفانا بالمجاهدة الصوفية وبالجنس معا».ص41

ج ـ وفي ذروة العشق مع إحدي الفتاتين، ينخرط في تجربة العشق بكل حواسه «وبالفعل سكنت شفتاها تحت شفتيه، وأغمض عينيه علي سر الوجود، وهو يرتشف من كل شفة علي حدة. ص، 98 

(3) تحولات الحكاية:
لايمكن فصل تحولات الحكاية عن تحولات الأقنومين السابقين ـ شهرزاد وشهريار ـ انطلاقا من تحولات شهرزاد التي تبدأ باسم العلم مرورا بتجاربها الجنسية المتعددة وصولا الي أعلي مراحل اللذة عند سقوطها في شباك اسماعيل أو شهريارالجديد. فـ(شهرزاد) هي: فيروز ـ هنا ـ مروى بالياء ـ مروة بالتاء ـ مروة الثالثة التي تجمع بين الأولي والثانية... وهي قبل هذا، أو ذاك، (شهد)، شهد القلعة، التي فاضت بالعسل المر. انها دائمة التحول في تاريخها القريب أو البعيد. إنها المتحول الثابت.

أما شهريار، أو إسماعيل، فهو الثابت المتحول، أو التحول في الثبات. ذلك أن عشقه للنساء، وعلي رأسهن شهد مجرد وسيلة لاكتشاف وضعه الانساني من حيث كونه كاتبا يمارس كتابة الرواية متماهيا مع شخصياتها الي الحد الذي يتداخل فيه الوهم انتج سردا يشبه بالحقيقة بل انه يعيش ندم (بافل) في رواية (تورجنيف) (الاباء والبنون) بعد أن دخل مرحلة الشيخوخة وفر الشباب. لكنه سرعان مايتجاوز هذا الوضع نحو طهرانية الشيخ (عفرة زيدان) في حرافيش (نجيب محفوظ) محتضنا تيهه، كما احتضن، يوما (عاشور الناجي) في الرواية شريطة أن ينهل من المتع دون أن يسأل مهتديا باخر جملة قالها الشيخ: «إذا نسيت فلنتتذكر» ص43. ولكن قبل هذا أو ذاك يظل متماهيا مع (شهريار) الفاتح الأكبر لحصون العذاري.

هكذا تنخرط الكتابة، بدورها، في لحظات التحول المتواصل علي مستوي الشخصية، في سياق تحول اخر، علي مستوي الأجناس والصيغ الأدبية مما أنتج سردا يشبه الرمال المتحركة، تفاعل فيه أسلوب الرواية البوليسية ـ أو علي الأصح الرواية اللغز ـ بالأسلوب المسرحي غبر تبادل المواقع بين اسماعيل وشهد مواقع المحقق والمتهم. ففي لحظة معينة يصبح فيها اسماعيل محققا وشهد متهمة. وفي لحظة أخري، يصبح فيها اسماعيل متهما، وشهد محققة. وبتوالي تساقط الجثت، تتوالي، أيضا، الاتهامات من الطرفين. غير أن البنية البوليسية، أو بنية الرواية اللغز، تستفيد ـ كما سبقت الاشارة ـ من الصيغة المسرحية منة خلال وحدة الزمان (ليلة واحدة) ووحدة المكان ( القلعة) ووحدة الموضوع 'الجريمة). وقد ساعدت هذه المكونات الثلاثة علي الرفع من الايقاع الدرامي للرواية عبر معاناة الشخصيتين من اثار جريمة لم يرتكبها أي أحد منهما، ولكنهما ـ في الوقت ذاته ـ يوجدان ـ دون غيرهما ـ في هذا الفضاء المشبع برائحة الدم والقتل. ولاشك أن نسبة الحوار الطاغية في النص، سمحت بتشخيص المكونات الفكرية والنفسية والاجتماعية لكل من الشخصيتين، فضلا عن توسيع دائرة السؤال حول وجود الجثة أوعدم وجودها، وبالتالي حول وجود مجرم يسمح بإبعاد التهمة عن اسماعيل وشهد.

استفادة السرد من هذين الآسلوبين ـ أسلوب الروايةالبوليسية وأسلوب المسرح ـ تحكمت فيه مفاتيح أساسية سمحت ببناء الحكاية من خلال المحطات التالية:

أ ـ التضمين الحكائي: كما ورد عند تودوروف(2) المستند الي الحكاية الاطار ـ حكاية شهد واسماعيل ـ وما اندرج تحتها من حكايات متناسلة سبقت الاشارة اليها في البداية. انها محكيات صغري تدعم المحكي الأكبر بخلاف محكي الليالي القديمة التي تستقل فيها المحكيات الصغري بحكاياتها الخاصة، وشخصياتها المستقلة داخل الحكاية الاطار الصادرة عن شهرزاد. المحكيات الصغري في الرواية، اذن، تخدم لحظات التوتر المهيمنة علي فضاء القلعة من جهة، وهواجس الشخصيتين من جهة ثانية. والتضمين، بالاضافة الي هذا وذاك، سمح بخلق ايقاع سريع للسيرورة ـ والصيرورة أيضا ـ الحكائية فرضته أجواء المطاردة الدائمة داخل القلعة.

ب ـ الفصل والوصل: وأقصد ب (الفصل) استنبات محكيات معينة، أثناء جريان السرد، تفصل بين مرحلة وأخري، ثم يعاد لحمها بالرجوع اليها حسب ما يقتضيه السياق. والمحكيات التي تفصل بين مقاطع الحكي مستوحاة من مقاطع نصية من نصوص سردية مختلفة (الاباء والبنون) اتورجنيف (حرافيش) نجيب محفوظ (حوريات) أودسيوس... وتجدر الملاحظة الي أن استدعاء هذه النصوص يتم في لحظات نفسية محددة يتداخل فيها الزمان والمكان، وبالتالي يصبح المجال فسيحا للتداعي والتذكر، والايهام بحقيقة ماجري ويجري في لحظات محددة.

ـ والعزف علي التذكر والتداعي سمح أيضا بتبئير ماتعلق بالوضع الخاص لـ(اسماعيل) مثل علاقته بالزوجة والأبناء، بالحب الأول، بالقبلة الأولي...الخ أو تعلق ذلك بوضع عام يخدم سياق التداعي نحو أهداف محددة. (احتراق قطار الصعيد ـ محرقة الفنانين والمسرحيين باحدي المحافظات...الخ)

ـ عن طريق اللمسات العجائبية (الفانتاستيكية) التي تسمح بالغاء التراتبية الزمانية، او النظام الفضائي المنطقي، والانتقال الي أزمنة متداخلة في لحظة واحدة، تمزج بين ما راه في الحلم وأصبح حقيقة، أو لعلها حقيقة أصبحت حلما. وقد لاتكون هذا أو ذاك، مادامت المرئيات من أحداث وشخصيات هي مجرد مواد عمل روائي ـ واسماعيل كاتب روائي داخل النص ـ انتهي من كتابته وهو يعيش وقائعه في الوقت ذاته. ألم يقم باهداء روايته الأخيرة الي (مروة) التي رافقته الي غرفته بالفندق، وبمجرد أن قبلها، تذكر قبلته الأولي، وانهالت التداعيات الي الحد الذي نتساءل فيه عن (مروة) بالتاء أو( مروى) بالياء؟ أو لعلها (مروة) النص؟ هكذا يتحول اسماعيل الكاتب الي اسماعيل الشخصية. هل الأمر يتغلق، اذن بالوهم أم الحقيقة؟ هل الطبعات المتعددة لشخصية «مروة» تعكس تحولات الشخصية في الواقع، أم تحولاتها في الكتابة؟

ج ـ جدلية الكتابة والجسد: تقوم الرواية، عادةعلي ثنائيةالكلام ـ ملفوظ الشخصية ـ والسرد (ملفوظ السارد). غير أن هذه الثنائية تمتد الي ملفوظ أخر مجسدا في لغة الجسد. وفي الرواية مقاطع عديدة ترتفع فيها لغة الجسد عند كل من الشخصتين ـ اسماعيل وشهد ـ الي أعلي مراحل النشوة والانتشاء، خاصة في المشهد الأخير الممتد من الصفحة 104 الي الصفحة 107. وقد يتبادر الي الذهن، خاصة بالنسبة للقارئ الساذج، أن الرواية تحفل بمقاطع «بورنوغرافية» متعددة، في حين نلمس رغبة جارفة استبدت بـ(اسماعيل)، منذ البداية، لاكتشاف حقيقة المرأة، من خلال لحظات الاشتهاء أو الشبق. وعنف العلاقة بين الشخصتين مرده الرغبة في الامتلاك الذي يصطدم بالتمرد لدي الطرف الآخر. والتمرد لايعني الرفض، بل يعني اعتزاز كل طرف بكيانه الجسدي الذي يمارس جموحه في لحظات المد والجزر«ثم ارتفع قافزا ليغطيها كلها، فأحاطته بساقيها، وشعر أن لها سيقان متعددة، وأيادي متعددة، ومن عينيها تخرج ألسنة اللهب حتي اذا استقر فيها وصرخت صار يطعنها كأنما يستدعي ماء الحياة من أبعد مكان في الفضاء فوقه» ص105

الطعن الوارد في هذا الاستشهاد، أداة لانتاج الموت والحياة، الفناء واللذة، بل إن الموت أعلي مراحل العشق، والفناء أقصي مستويات الحب. وفي تاريخ الأدباء والفنانين نلمس هذه الرغبة الجارفة للقتل الرمزي ـ بالرغم من حدوث الجريمة المادية ـ الصادر عن أحد المعشوقين، بهدف الوصول الي أعلي مراحل التجريد. هكذا يتحول القتل الرمزي الي أداة لانتزاع الجسد من ارتباطاته العادية التي تشده الي المحسوس، وتحويله الي دلالة علي قيم الفناء في المعشوق. (يمكن الاستئناس بسير فان جوخ وديك الجن وألتوسير وشريط امبراطورية الحواس... وكلها عكست رغبة العاشق في تحويل المعشوق، عن طريق القتل، الي دلالة رمزية). ومن ثم لم تعد شهد مجرد امرأة مثل باقي النساء، بل أصبحت دالة علي المرأة ـ بالتعريف ـ في كل زمان ومكان. انها كل النساء. وهاهو قد انتصر أخيرا، سواء كان الانتصار وهما او حقيقة «وأدرك للحظة أنه لايوجد في العالم إلاهما معا. وربما قذفهما الله من السماءالي الأرض... لم يعد هناك أي معني لأي شئ... لقد نال شهد وسط الموت... شهد نساء العالمين». ص107


عبد الرحيم مؤدن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ابراهيم عبد المجيد: شهد القلعة.دار الدار. مصر.2008
(2) ـ t/todorov:poetiquede la prose/seuil/1972