يقدم هنا الناقد المصري تحليلا مستبصرا لديوان الشاعرة المصرية فاطمة قنديل الجديد (أسئلة معلقة كالذبائح) ويموضعه في سياقه من حركة الشعر الجديد في العالم العربي، ومسيرة الشاعرة على السواء.

تناظرات الكتابة والحياة

في ديوان «أسئلة معلقة كالذبائح»

محمد بدوي

يمثل ديوان (أسئلة معلقة كالذبائح) الحركة الثانية في تطور فاطمة قنديل، فبعد ديوانين من شعر العامية، وديوان من شعر الفصحي، ورسالتين جامعيتين مع قليل من الترجمة، يأتي ديوان (الأسئلة) تعبيرا عن ثراء رحلتها وتعقدها، وربما حتي تنافر عناصرها، أحيانا. ديوانها الأول (صمت قطنة مبتلة) كان يحمل آثار لحظة الانفلات من مفاهيم شعر التفعيلة الي مفاهيم كانت آنذاك في طور التكون هي مفاهيم قصيد النثر، ولكن من خلال سمات محددة، بها آثار جلية من الاشكالية الأدونيسية في تجليها المصري، وآثار لا تقل جلاء، من معركة العداء للرومانتيكية، كمنظور ورؤية للوجود، والكائن. في هذا الديوان نثارت من تلك البرهة القصيرة، حين كتب الشعراء قصيدة النثر تحت دوي مدفعية شعر التفعليلة، وبخاصة لدي الشعراء المأخوذين بالتجريب الذي يجد صياغته في أيديولوجيا جمالية ترفع لواء "التجاوز والتخطي" وهي أيديولوجيا حداثية بامتياز، بل ربما كانت تمثل ما دعاه منظرو مابعد الحداثة باسم "الحداثة العليا" في الشعر العربي، في مواجهة ما استقر وثبت من "تقاليد شعر التفعيلة" وبخاصة حين يكون هذا الشعر وثيق الصلة بالسياسي واليومي والمباشر. ومع أن (صمت قطنة مبتلة) حامل لمفهومات رومانسية غنائية الطابع، إلا أنه في الوقت نفسه كان يسير نحو تبني "السرد" الذي كان يعني لدي شعراء قصيدة النثر الاقتراب من الحياة، بمعني الرغبة في إعادة الشعر الي ما هو يومي واجتماعي وسردي، ودمجه في "الفعل" بالمعني الذي نظر له ليوتار، بعد أن وصلت الحداثة بالشعر الي أوج انغلاقه علي نفسه. ويعني ذلك في بعض ما يعنيه زحزحة تخوم النوع الشعري. فالسرد الذي لا يتكيء علي سلطة العروض، أي السرد النثري الذي لا يتواتر ايقاعه ولا ينتظم، يمارس عنفا تشكيليا علي النوع الشعري، بل يهدم تخومه، فيفتحه علي اللانوع.

يشير العنوان (أسئلة معلقة كالذبائح) الي العلاقة بالديوان الأول عبر الاصرار علي "المجاز" كعنصر مؤسس للشعر. المجاز في العنوان يحقق التباسا دلاليا، أي يحفز علي التأويل، فلابد من بذل مجهود قرائي مضعف لتربط العنوان في دلالته الأولي كعبارة لغوية قصير، بدلالة تجاوز الجملة الي النص كله، أو الكتاب، وما إن يدخل القاريء الي النصوص، حتي يكتشف أن وراء المجاز، ليس فقط موروثا حداثيا، بل اصرار علي تعريف للغة وللشعر. باعتبار المجاز كامنا في اللغة، اللغة المغوية، لكن التي لا يمكنها قط أن تقتنص الوعي: أن تسيطر علي تكثر العالم وتعقده. علي أي حال تقول الشاعرة: إن "المسألة بحذافيرها كانت موجودة في الكتب" لكن "شرط القراءة" لا تصدق الكتب. كما أن "المجاز ليس انزياحا وانما خرائط للأفق لم تؤرشف بالعناية الواجبة". أما الترجمة الحرفية فهي "صيد لم يزل مضرجا في دمائه". ما معني هذه المجازات الملغزة؟ معناها في تقديري أن الشعر لا يتضمن ترجمة فقط، لكنه يتضمن أيضا مفهوماته. علي أن نفهم الترجمة هنا بما يجاوز معناها الحرفي أي النقل الأمين من نص الي نص، أو من "العالم" الي "اللغة" أو من "الأصل" الي "الصورة". وهكذا تكتب الشاعرة، وما تكتبه يتضمن نصا شارحا مساعدا، ففي النهاية ليس لدينا سوي النص الذي تنهدم أسواره لكي يصبح جزءا من نص كبير هو اللغة. هذه تحديدا اشارات، تشبه بيارق المحاربين، هي منافستو شعري يحدد المفاهيم، ويعلن عن السلامة، وبوسع القاريء أن يدرك أنها "ترجمة" ما لبعض ما قاله دريدا، لكن الشاعرة أيضا تحدد لنفسها هوية أخري ما بعد حداثية، حينئذ تضع بيرقا آخر في النص الافتتاحي هو "جماليات التجاور" وهي صياغة كمال أبو ديب لمفهوم "ما بعد الحداثة" بمعني أن التجاور يعني الهجنة وقد يعني هيمنة "العلاقة المكانية" ومن ثم "الكناية" لا "الاستعارة".

تمارس الشاعرة "اللعب"، ومن ثم تقوم بنثر الاشارات في مواضع متباعدة من النصوص، ومن ثم ستقول لنا إن "الشعر" في بعض وجوهه علي الأقل سرد. و"سرد عن الحياة اليومية" ذلك أن "التفاصيل تصنع حكاية" و"هي أيضا بإمكانها أن تحكي/ غير أن التفاصيل مثل قطرات الشمع/ تجمد علي التو" ص68، بل أنها تختم الكتاب بالعبارة "توتة توتة، خلصت الحدوتة" وهي كما نعلم آخر ما تقوله "الحكاية" أي "اعلان نهاية النص" وفي لغة راوي الحكايات الشعبية. كل هذا يحمل "تعريفا" للشعر التعريف معناه الحد، والأهم أن معناه أن "اللغة" يمكن أن تقيد وتحدد وتدخل العالم الي بيتها. عموما التعريف هنا "ما الشعر" يرتبط بشيء، انه "علاقة" لا "ماهية" والحق أننا مع تعريفين: "الشعر كامن في الكتب"، و"الشعر كامن في التفاصيل" التي هي "ذكريات" كالمرأة يمكن وطؤها ولمس "طيات لحمها". ومادامت الذكريات "لها سخونة طيات اللحم" فإن الشعر يأخذنا إلي "كتاب الحياة" كما عبر رولان بارت بعد أن أدرك أن العالم لا يمكن سجنه في "حبة فاصولياء". هل نحن ازاء ثنائية "ما" ستقول الشاعرة علي الفور حتما أن لا ثنائية، فكل طرف لا يمكنه أن يكون في "غني" عن الطرف الثاني. وعلينا ألا نصدق وجود متعال مطلق، ثمة فقط "الاختلاف" و"الأرجاء" و"اللعب".

لكن الشاعرة أيضا امرأة، ضمن هويات متعددة، صحيح أنها "ساردة"، لكن هذه صفة لصيقة بالمرأة الراوية، علي الأقل في ثقافات بعينها، من ضمنها الثقافة العربية، لذلك ربما لم تقنع فقط بالسرد، فأضافت اليه هذه المفاهيم والحدود، التي تموقعها في سياق آخر، ربما غير سردي، هو سياق "الفكر" لأن السرد، قد يقودها، وقد قادها فعلا، الي "الجسد" و"المادي" و"اليومي" فلا بأس اذن من ادراجه أي السرد فيما يجاوزه ويحتويه. تقول الشاعرة ضمنا: أن "منظور الأنثي" لا يعني أنها تعبر عن "المكبوت" واللاوعي الأنثوي، بالمعني السائد لدي بعض كاتبات البوح. مع هذا سنجد "استعارة العصا" الذكورية التي تشق قلب الدوامة (ص 33)، وسنجد استعارة "الفراغ الأنثوي"، ثم "استعارة الأزميل" (ص36).. الخ. لكن يجب أن نتذكر أن الشاعرة قالت ضمنا أن السلب هو الذي يحدد "الايجاب"، وأن الفراغ هو الذي يجعل العصا عصا. 

شعر الحياة اليومية
نحن مع نصين كبيرين ليسا متجاورين، لكن أدمج أحدهما في الآخر في عملية انتاج الكتاب، النص الأول أقرب الي مفاهيم قصيدة النثر التي تلت تجربة شعر السبعينيات المصرية، حيث "نص الحياة" و"كسر التابو" أي الحضور القوي للمادي واليومي والشخصي، للسرد والأمثولات، وزحزحة جدران "النوع الشعري". وأقرب العناصر للشاعر هنا هي جسده وتاريخه الشخصي وبخاصة طفولته، والعلاقة بالأبوين.. الخ. لكن هذا كله سرعان ما صفي من شوائبه، وخفت صوت الايديولوجيا الشعرية، بعد أن بدأ الشعراء الأقوياء يبحثون عن "أصواتهم" عقب انفلاتهم من برهة التدريب الشعري. وفي هذا النص بإمكان المتلقي أن يتخيل ساردته التي تصلنا بالشاعرة. قصائد طويلة مكتوبة تحت وطأة احساس بفاعلية الشعر بوصفه فيضا تتدفق فيه الذكريات والأشواق والأحلام. انه هذا النص صوت شاعرة "تسعينية" كما راجت التسمية، تمضي في العالم وهي تختزن الصور والمشاهد، هذا هو مفهوم الساردة، انفلت منها برغمها لا كتعريف كما نجد في مفهومات المجاز، لكن. كمشهد تقول:

الكاميرا المختبئة في ضلوعي
ليس هناك سوي الفلاش
حارقا وملتمعا
ينزوي في النهار
وحين يأتي الليل أسمع بقبقة الحامض
جربت مرة أن أنقذ هذه الصور
أغمس يدي في الحامض
وألتقطها
مرة واحدة لم أكررها
ومن يومها يطاردني رعب النيجاتيف ص72

"رعب النيجاتيف" هذا هو "الخوف من الكتابة"، وحين يتكثف ويضغط يمكن أن يصل بالمرء الي "الصمت".

من أي منظور تكتب قنديل "تاريخها الشخصي" سواء أكان هذا التاريخ واقعيا أو مختلفا. النص يصوغ الساردة امرأة تعاني الوحدة، تتوق الي الحب "لكنها لم تعد صالحة له". ومن ثم تخشي الموت: (أخاف أن أموت/ أخاف أن يموت من أحبهم) ولعل ذلك ما يجعلها تكتب، لكن الكتابة تضعها في مواجهة الخطر (سيبقي من يعبث بأوراقي/ وهذا ما يخجلني. فما إن ينغلق قبري/ ستبيض كل أوراقي) ص.71 نحن إذن في العالم، الذي تكتبه النصوص من منظور مزدوجة، بل لعله تناحري. لأن الساردة ليست في علاقة ارتياب أو سوء ظن بالعالم، بل في موقع من ينظر خلفه في "هدوء" ورضا، ومن ثم فهي لا تكتب "مظلمة" ص.46 انها تسرد "تاريخها الشخصي" لكي تهيمن علي "الزمن" كأي سارد، لكن لأنه زمن شخصي تصبح الكتابة قرين استعادة النور والرؤية فيما يمثل الصمت دور العمي. ولذلك ترضي الساردة عن بطلتها، لدرجة كيل المديح للطفلة التي كانتها. في هذا السرد المتدفق، حرص أن يحتل اللغة الي خارجها رغم أنف التعريف الذي صدرت به الكتابة من أن "المسألة بحذافيرها في الكتب" بل لعلها أسرفت في هذا السعي، فوقعت في "النثرية" بما هي وقائع وتفاصيل وطرائق تلفظ اجتماعي في أكثر من موضع، فالحرص علي اللانوع، والولع بالماضي وألق الذكريات، يجعلها تقع في التسجيل والنثر أحيانا. 

اللحم والعظام
هنا يجيء النص الثاني، ولعل الأوفق أن نسميه نصا مكملا، كأن الشاعرة أنتجت شيئا، يحسن صقله وتنعيمه، أو كأنها في استعارة لا تستخدمها الشاعرة. خلقت مخلوقا من عظم، ويجب أن تكسو العظام لحما. في ذلك ستلوذ قنديل بمجاز الرحلة. لدينا مجاز أول حاكم هو مجاز الصندوق، صندوق التاريخ الشخصي (79، 80) ولكن ثمة مجاز "أوسع" يحتوي مجاز الصندوق، هو مجاز رحلة الصيد، الرحلة حركة بين بدء وانتهاء، بين ولادة وموت، هي رحلة الشاعرة والساردة، في مستوي هي رحلة صيد، وفي مستوي آخر هي رحلة النص لتتحول القصائد الي لحظات في الرحلة. من جهة يحقق مجاز رحلة الصيد الانفتاح علي النصوص الأخري، ولذلك تكتب الشاعرة "هامشا" تعترف فيه أن مجاز الرحلة متحدر من نص سردي شهير هو "صخب البحيرة" لمحمد البساطي، لكنها تؤكد أن الصندوق لها هي، أي أنه ليس صندوق صخب البحيرة ص.82

يتيح مجاز الصندوق أن تتأمل الشاعرة ما فيه. ومن منظور الساردة أن لحظة الحب تساوي "الماسة" في هذا الصندوق من منظوري كقاريء أن "الماسة" شعريا هي قصيدة البيت، التي تغري بقراءة خاصة بها، ليس هنا مكانها. لكن مجاز "رحلة الصيد" صيد المعني، وصيد "الذكريات" يمنحها أن تمارس "اللعب" و"الارجاء".. من ذلك أن الرحلة سرد، ومن ثم تصدر قنديل كتابها بنص لاميلي ديكنسون تقول فيه ان الصراحة هي الخدعة الوحيدة، لماذا؟ لأن اللغة لا تستطيع أن تقتنص العالم، فهي ليست "بيت الوجود" كما قال هيدجر، ولأن هذا التصدير، يراوغ الرقابة، الرقابة الوحش الذي يجلس علي مقدمة مكتبك الحقيقي أو المجازي وأنت تكتب في "هذا الشرق"، ثم انه أخيرا يتصادي مع عبارة "توتة توتة، خلصت الحدوتة" التي تأتي بها الشاعرة من "تقاليد النصوص الشفاهية" حيث المرأة الحكاءة، وتغلق بها النص.

من ذلك اللعب الذي يتجه مجاز الصيد "الحديث عن الشبكة، المنسوجة، التي هي في مستوي آخر النص"، وأن تصبح القصيدة الأخيرة عن الخمر مغرية بربط الخمر، بعودة الصياد وراحته، ومن ثم اللواذ بالبيت والشراب، لأنه ليس مضطرا لأن يبكر للصيد في اليوم التالي. لكن المجاز عموما، يمكن الشاعر من خلق مسافة تبعيد زماني ومكاني بين الكتابة وتأملها، بين "الكلام والصمت" وبين "اللغة" و"الكلام"، وبالتالي يمكنها من "نسج النصوص" في نص كبير. في تقديري أن هذا النص/ المستوي الثاني يحمل أيضا دلالة علي زمن الكتابة. لقد أتاح أن يتداخل في النص أكثر من زمن، وأتاح أن يقطع النص صلته بأي نزوع رومانتيكي، وقد يري البعض أنه أثقل القصائد في بعض "الصفحات" بجهاز ثقني ثقيل الوطأة، لكنه برغم هذا الثقل منح الشاعرة القدرة علي العودة. هذا يعني انني أربط غياب شعر فاطمة قنديل بالعمي، وعودتها بالقدرة علي الابصار، الأحري أنها هي التي قالت ذلك:

مثل أعمي، حديثا/ مددت قدمي لأتحسس الطريق/ فانشبكت/ وعاودتني الرؤية.


عن (أخبار الأدب)