تقدم (الكلمة) هنا تجربة جديدة وهي أن تصاحب الرواية المنشورة في العدد دراسة نقدية وتحليلة ضافية تضيء خوافيها، بل توشك في تحليل الناقدة السورية أن تكون مجموعة من الدراسات المتراكبة والمتصادية للرواية التي ننشرها كاملة في العدد نفسه.

الأدائيّة السرديّة في سلمون إرلندي

أثير محمد على

(1) آرلكان قناع الكاتب والرواية مرآته

مع صيف هذا العام (2008)، صدرت رواية خليل الرز الأخيرة "أين تقع صفد يا يوسف": رواية تنتهي ببهلوان أعزل، وعاصفةٍ طوفانيّة. لسنوات عديدة تعود استغراقات الرز الروائية، في لجج الرمال المتحركة، ومع عمله الأول المكتوب عام 1986، تلوح رغبة الكاتب الشاب في أن يضرب الخطو في بحران التجربة، فتنسرب خطواته السرديّة متلاحقة، وهي تحاول التحقق من خلال جمال اللامكتمل وهو يصارع العمل المنتهي، ومن خلال التخلي عن خطيّة مونتاج التقدم المتصاعدة، إلى رؤية فنيّة تكتب أفعال البشر، والحيوان، والحجر، في فضاء غروتسكي مفتوح على إيروسية سادية التحطيم، حتى تداعي وحدة السرد المعياريّة المتعالية، إلى وشموم مشظّاة تضمر قابلية التشظي، أو خيار تجديد اللصق، في لحظة الخلق نفسها... على كل ذلك يبدو اتكاء الرز الواعي أثناء فعل الكتابة في سياق عالمٍ رحب، أو سكنٍ أرحب، يوحي بذهان كارثة على وشك الوقوع، إن لم تكن قد وقعت نسخة منها، منذ حين ليس بالبعيد.

ولد الرز في مدينة الرقة السورية سنة 1956. وكما في الحكايا، كان الصغير المسحور، بادئ بدء، يجول في مخبآت سوق البلدة العتيق، يجتلي زمزمة صدأ الحديد، ويتسمر أمام حداء سواد صِباغ النسيج، وينكفئ على استطالات ظلال ناصية شحيحة قبل إيابه اليومي لمثواه الأول، وقبل عقود من عودته لزيارة مقبرة المدينة، حيث تصدى يبوسة المكان بلحديّ الأب الحداد وعبد الله الصبّاغ. تعلم القراءة الجميلة، ودرس الأدب العربي في جامعة حلب، وفيها ارتقى خشبة المسرح الجامعي، فأخذته مشخصات الفضاء اللعبي، ومن القناع المسرحي سيقطع اليقين بالشك في رؤيته للحياة وللسرد. حصل عام 1984 على منحة من الحزب الشيوعي السوري لتعلم اللغة الروسية في الاتحاد السوفيتي سابقاً. اشتغل في موسكو ضمن مؤسسة إعلاميّة إذاعيّة موجهة للناطقين باللغة العربية. زاول الطيران على دراجته الهوائيّة بين دوامات الدروب، وأهواء المشاعر المحتدمة. هوى اقتناص خيالات الواقع وتمتمات الغيب. عاش في روسيا صرير الخروج من شموليّة الأنظمة، بكل معانيها الأورويليّة، إلى شتات التحولات نحو النفعيّة الليبراليّة، وذرائعيّة السوق الحر، إلى أن نزَّ نثيث البرد من جنبات تحققه الشخصي والسردي، فحمل حاله، وخبرة عمره حينئذٍ، ورجع إلى جغرافيته الأولى عام 1993. استقر في العاصمة دمشق، ولا يزال فيها حتى الآن، متفرغاً لمتخيلاته السرديّة، وترجماته عن اللغة الروسية، ومواظباً على عمله في وزارة الثقافة في الهيئة العامة السورية للكتاب.

يبدو خليل الرز كما لو كان يمارس الإياب، والعودة، والرجوع مع كل مبادأة تقدم نحو السرد، وكأن الرواية تمثّل لما كان، وإعادة حساب مع المعيش والمعاش، وقبل كل شيء مع التخييل نفسه. من رواياته: "سولاويسي" سنة 1994، "يوم آخر" سنة 1995، "وسواس الهواء" سنة 1997، "غيمة في شباك الجدة" 1998، و"سلمون إرلندي" سنة 2004. له مسرحيّة تحمل عنوان "اثنان" 1996، ومن ترجماته "قصص روسية مختارة: أندرييف، بونين، إرنبورغ، نابكوف" 2005، و"حكاية الزمن الضائع: قصص ليفغني شفارتس" 2006، ومختارات لأنطون تشيخوف في مجلدين. ربما خيّل لبعض قراء روايات خليل الرز، أن عملية الكتابة السرديّة لديه تدور ذهنياً في حلقة شبه مسرحيّة، يتقاسم فيها القارئ حيّز الفرجة مع الشخوص الروائيّة، بينما يتقنّع الكاتب بأرلكان في عراء الحلبة، يسرّح خواطره الغروتسكيّة، ويمارس شهوة السرد. ينتقي شخوصه من العتمة المترقرقة، ويفردها تحت مسخرة نور ركحي، يتعرى معها إلى الصفاء الفاضح البسيط، ويعرض أوصال المهزلة الممسرحة مشوهة، بلا خوف ولا شفقة، ويسمر فيها نظراته الساخرة ملتقطاً، لسيمياء سرديته تضاريساً بهلوانيّة، وسياقات تسلية تطهيريّة، رغم آلام السقوط إلى أغوار حضيضٍ بلا قعر(1).

*   *   *

(2) قبل أن يبدأ السرد، وبعد أن ينتهي
حاذر الروائي خليل الرز المعمار السردي التقليدي، والمسبوك قبلاً، لنصرة انفصام الأواصر مع محورية النموذج المثال. استقطبته الحلول التقنية كتمثّل لتجربة ثقافيّة نوعيّة، وجذبته حيوات مارسها في الرحيل إلى معاشرة عدة من علوم وفنون أُخر، كالمسرح والشعر والفنون التشكيليّة، وفيما يبدو الموسيقا والسينما. وهاهو يتمهل، ويرحّل أفانين بعض ما غمّق فيه لنصه الروائي "سلمون إرلندي". ولحمولته كفته شقفٌ من حيوات، وحفنةٌ من شخوص في زمن سرديّ يستمد حاضره من الشروع في حقبة علّمت حدودها قذائف الدبابات على البرلمان الروسي، وكأن تواريخ اللغة العسكرية الروسية، في السطور الأولى من "سلمون إرلندي"، ليست أكثر من شرك تغريبيّ، يتركه المؤلف، لقارئه العربي، كطعم توريطي، أثناء تحديد شواخص النص الزمنيّة، وما يفيض عنها بعملية حساب متواضعة، طرحاً وجمعاً، لتتداعى معاني التواريخ الدلاليّة المعلنة، والمضمرة، والتي منها:

نهاية الأزمة الدستورية الروسية، وإعلان يلتسن والعسكر انتصار الليبراليّة الجديدة في 4 تشرين الأول سنة 1993. ولعل هذا التاريخ يستدعي ـ لدى البعض ـ يوم سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989.

يمتد الزمن السردي في رواية "سلمون إرلندي" إلى ما قبل 1973 بأعوام قليلة، وينتهي 1993، وهو نفس عام لقاء الكاتب خليل الرز مع سوريا بعد غيبة سنين في روسيا.

يوافق اليوبيل الفضي لشخصيّة الروائي رفيق السكري في التخييل تاريخ 18 تشرين الثاني 1993. بمعنى أن صدور كتابه الأول يقع في 18 تشرين الثاني 1968، أي بعد نكسة حزيران بعام ونيف.

شخصيّة رغداء المتخيّلة ابنة موظف الجمارك رزق الله اسحق، وصديقة رفيق السكري الحميمة. من مواليد عام النكبة 1948. رسبت سنة النكسة 1967 في امتحان الشهادة الثانويّة. تزوجت من أستاذ المدرسة عسّاف، ومن ثم هجرته للالتحاق بالمؤسسة التعليميّة في دمشق كتلميذة في الجامعة قبل عام 1973 بأعوام قليلة.

تلوب رواية "سلمون إرلندي" بين صور المثقف، والثقافة كموضوع لها. ويسرح السرد ـ وهو يمرح ـ ممارساً النميمة، ومفككاً الضرورة مسبقة الصنع، لأنثربولوجيا ثقافة مجتمع متقوّض، من باب إنسانه ـ المخدوع والمخادع ـ إلى محراب سلطته المنخور. هكذا يميط نص "سلمون إرلندي" اللثام، عن بيئةِ القول الجمالي، ووجوه مكارم أخلاقه اللاقيميّة.

يتحمس الكاتب، كما ذكر أعلاه، لوسيط فنيّ، مكون من عدة شخوص. يقتطع لكل منها لوحة متعضّية عن اللوحة التي تجاورها في مجمل البنية المتخيّلة. وتتالى اللوحات كما لو كانت تصاويراً كنسيّة في مصلى قروسطي، حتى تنفرط شبكة السرد المبني على عقدة تحبك الأحداث، ويُستبدَل منظور البطل المركزي كلياً، لصالح هذه الشخوص، وهي تلج السرد البانورامي بتسليمها، ونكوصها، وهذياناتها، وأطماعها، وسُعارها، وأسرارها ولابطولات عشيّات حِماها...

تتألف الرواية من إحدى عشرة لوحة مستقلة، معنونة بطريقة مشابهة لتقنيّة فيلم سينمائي صامت، أو مسرحيّة ملحميّة، حيث يوجز العنوان الفرعي فحوى اللوحة، مع كل بداية في المحطات السرديّة.

وتباعاً، نقرأ العناوين الفرعيّة المكونة لمجمل الرواية، على النحو التالي:

1. رغداء تتلقى سطور رفيق السكري الذي يسافر فجأة إلى الرقة.
2. من هو رزق الله اسحق؟، وكيف كانت رغداء قبل أكثر من عشرين عاماً؟.
3. رغداء الطالبة الراسبة في امتحان البكلوريا تلتقي الشاعر قدري الباشا.
4. من هو قدري الباشا؟.
5. رغداء تريد أن تصبح شاعرة.
6. رئيس المنطقة يغضب في عيد الشجرة.
7. رغداء لا تريد أن تكون يائسة في عشاء قدري الباشا الأخير.
8. رغداء تريد أن تصبح مسيحاً. رغداء تريد أن تصبح رسامة. رغداء تلتقي رفيق السكري لأول مرة.
9. قبل وصول رفيق السكري إلى الرقة من هو سعد البصري؟.
10. رفيق السكري يصل إلى الرقة.
11. رغداء لا تريد أن تصبح روائية عندما يعود رفيق السكري إلى دمشق.

تنفرد كل من اللوحة الأولى والأخيرة، بتعاقبهما الزمني، مما يمنحهما مجتمعتين دلالة مختلفة، عن بقية البنية السرديّة، والتي يتعثر باستمرار تماسك زمنها الكرونولوجي في مسار خطي موحد الاتجاه. لذلك يمكن أن تعدا متتاليتين استهلالاً، أو خاتمة لبقية اللوحات، أو بالأحرى قصة جانبيّة مفردة. في معرض الحديث هنا، لا بد من القول، أن الرز قام بمسرحة بضعة مساحات من مادته السرديّة، على نحو مشابه، وإن تباين الاتجاه، لما فعله بريخت، حينما استحضر السرد إلى بنيته المسرحيّة. وعليه، تمت الاستعانة ببعض مفاهيم الفن المسرحي أثناء القراءة النقديّة للوحتين الأولى والأخيرة، وبشكل خاص طبيعة العلاقة البيراندلليّة بين الشخصيّة ومؤلفها. تتقاسم كل من اللوحة الأولى والأخيرة سمة التكرار السردي، وتستبان عبرهما تقنيّة الدائرة التي تنغلق نهايتها على بدايتها. واقتلاعهما من النص يترك ما تبقى من مجمل السرد معلقاً في المابين، ومفتوحاًً على خارج سرمدي غير معين.

إن القول بأن اللوحة الأخيرة تستبطن اللوحة الأولى، وتباينها صحيح على حد سواء. ففي اللوحة الأولى، تنويه إلى أن الروائي رفيق السكري ترك قبل سفره ملاحظاته التحريريّة لرغداء المتطلعة لأن تصبح روائيّة، أو لأن تؤدي دور الروائيّة كي تنفذها بحذافيرها كما أقره تنزيل العرف بينهما. وفي نص اللوحة الأخيرة، تأكيد على التعاليم السكريّة، مع تحوير بسيط في التعليق السردي عليها، فحينما تستيقظ رغداء في منزل الصديق الحميم، تجد نفسها في سياق مزدوج، يوحي الأول فيه بسكونِ موتٍ مهيمن ومفارق لحركيّة الواقع المتزامن، والمتروك بين قوسين في النص: "لأن باب الشرفة كان مفتوحاً، ولأن الهواء في سكون (مع أنه كان يهب) منذ أفاقت رغداء، (...) ولأن شريط السماء الذي تسمح به عادة فرجة الستارة المسدلة لم يخطر به طائر واحد (مع أن عصفوراً قطعه قبل دقائق) (...)، ولأن مرآة زينتها كانت مشعورة (مع أنها سليمة) (...)، ولأنها إلى ذلك كله كانت بردانة بردانة فإن أحداً قد مات"(2). ورغم فأل خير فوران قهوتها، ورغم انعكاس مرآتها الذي وشى لها بمقاومة جسدها للزمن... كان شؤم الحالة الدراميّة "الركحي"، الذي وُضِعت فيه هذه الشخصيّة، يوعز بلا لبس بأن موتاً قد تحقق أو في طريقه لذلك، وبأن عليها أن تسمي الميت، وتقتله في التخييل. و"بقوة خارجة عن طوعها حصرت رغداء الميت في أحد أفراد أسرتها البعيدة"(3)، وكأنها دمية تحركها خيوط خفيّة في كواليس واقع فني، لا يمت للواقع الحياتي المفترض والمنصوص عليه بين قوسين بصلة. و"بشجاعة يائس"، أزاحت والدها الموظف رزق الله اسحق من على حافة موت محقق، وتعزز قرارها المتواطئ بفتح ستارة الشرفة، فسقط الضوء على صورة صديقها الروائي، وكانت "الإشارة بسهولة الماء: رشّح الضوء رفيق السكري إلى القبر المفتوح"(4). وكأن في إشارة النور الكالديروني "لمسرح الدنيا العظيم" المفترض، إحالة لحتميّة القدر الدرامي في الفضاء المتخيّل، وبأن رغداء براءٌ من فعل بعثِ رفيق السكري عند رفيقه وبارئه الأعلى.

وبما أن شيمة الموت هي الصبر العلقمي، في مثل حالتنا الدراميّة، أمام حلاوة الروائي السكري القاهرة!!.. تدرك: "رغداء أنها لا تعرف، إذا خرجت الآن، إلى أين ستذهب. ولكنها التقطت حقيبتها. توجهت نحو الباب. طبقته خلفها. وعلى الدرج فقط تبين لها أنها منذ فترة طويلة لا تريد أن تصبح روائية"(5). في كل الأحوال، تبدو محاولة رغداء قتل رفيق السكري تخييلياً، إضافة لفعل خروجها من "بيت الدمية" الابسني رفضاً لدور ترى فيه استلاباً لها.. دور لا تستطيع التعايش الحر معه، كما لا يسمح لها بالإبعاد (Distanciation) الواعي عنه. وما سيكولوجية قتل الأب في مثل هذا السياق الذي وضعت فيه شخصيّة رغداء، إلا قتل الطاغية بالنسبة لها: المؤلف رفيق السكري. كما لو كان موات روائي من مقام السكري، وشرط زمن روايته، حاجة وضرورة كي تستطيع شخصيّة رغداء من لعب دورها، وإطلاق مواهبها للعلن، وإنجاز فعلها الفني. من هنا، يمكن القول، أن عنوانيّ اللوحتين، الأولى والأخيرة، يحيلان لهذه الفكرة، فالعنوان الأول، ينطق عن هوى تلقي رغداء الدور بسب غياب المؤلف/ الطاغية، ويشير عنوان اللوحة الأخيرة، لمعنى إرادة لافعل رغداء للدور في حضرة المؤلف/ الطاغية. وبذلك تبدو شخصيّة رغداء، وكأنها ترفض الامتثال لشروط خالقها الاغترابيّة التي تلاشي إبداعاتها، ولا تعترف بفرادتها، وتلاحقها بالقسر ولحظ الملاحظة، مما تصلح معه بوجه من الوجوه قراءة لافعلها لدور الروائيّة، المنوط بها، على أنه فعل إرادة ذات حرة.

عند هذا المستوى، يتفق الخطاب السردي مع القول: "لا رواية بلا ديموقراطية (...) ويقصد بذلك، روائياً، الشخصيات الروائية التي تتمتع بالمساواة وترفض الخضوع للأوامر القائمة على القهر وإلغاء الشخصية (...) ويتجاوز البعد الديموقراطي، الذي تحتاجه الرواية، سؤال الرقابة، الذي يحيل على السلطة السياسية، فهو يمس التربية الاجتماعية (...)، فالتصور الروائي للعالم يقوم على الاعتراف بالتعدّد، بشراً ولغة ومصائر، وتأكيد التغيّر (...). تتعين الديموقراطية، في الحالات جميعاً، شرطاً لنهوض الإبداع الروائي (...). لا موقع للرواية في المجتمعات المستبدة"(6).

تقنياً، إن دورة سردٍ تنطوي بدايتها على الفعل/ الخضوع، وتصير نهايتها إلى نقيضه المعلن عنه بـ اللافعل/ اللاخضوع، تفارق سكونيّة الزمن اللاهوتيّة والعبثيّة، وتنزاح عنها إلى حركيّة متغيّرة، تكون فيها دلالات المعاني أكثر نضجاً، من نقطة انطلاقها عند تمام الدورة، وكاستعارة على هذه الدورة تبرز سيرورة سمك السلمون النهري، وهو يعود إلى منابعه الأولى أكثر خصوبة للتكاثر، بمقتضى مراجع الموظف رزق الله اسحق العلميّة التثقيفيّة. ويبدو تمام الدورة على مجمل اللوحات السرديّة، كما لو أنه صورة كلية لواقع مفكك يمكن قراءته بلا تعيين، ومن أية لوحة، أو بأي ترتيب.

حسناً، يطرح التساؤل التالي نفسه: من هو راوي الحوليات (Chronicle) السرديّة، بين دفتي اللوحتين الأولى والأخيرة، أثناء غياب رفيق السكري؟! يُعاد هنا للتأكيد، بأن رفيق السكري ترك لرغداء ملاحظاته "على سبيل برمجتها بما يتلاءم مع ما سيعترضها في فترة غيابه (...) وحين يحيّر السطر الذي يقتضي الوضوح إنما يتبرأ سلفاً من خطأ مقاصده إذا حدث، ولكي يكون في مقدورها أن تطلق العنان لمخيلتها المبدعة طالما أنها المذنبة على أية حال. إنها لا تكتفي عادة بالتوصل إلى الهدف المرتجى بل تخدمه بالتفاصيل المباغتة دون أن تحرفه عن مساره (...) إنها تتقبل الآن تحطيمه بهاء النتائج التي تتوصل إليها في غيابه والتي لا تصب إلا في مصالحه متعددة الوجوه. ولكنها لا تعرف الآن لمن نفذت سطوره المكتوبة في دفتر الملاحظات ما دامت لن تستلمه من المشرحة (...) لأنها قررت أن تغادر الآن"(7).

ألا يعني هذا الاقتباس أن رغداء هي من أنجز النصوص السرديّة بين اللوحتين الأولى والأخيرة، ومن أخرج ملاحظات السكري التحريريّة إلى التخييل، على النحو الذي يمكن الاعتبار فيه أن هذا السرد المنجز يعود لأدائها الخاص المتفرد؟!! بمعنى أنها رفضت أن تكون روائيّة في التخييل كما ذكر سابقاً، وبالآن نفسه هي كاتبة المحطات الاستعاديّة لسيرتها، وشظايا سير الآخرين المتخيّلة في اللوحات الواقعة بين الأولى والأخيرة. يحاول الكلام هنا الإحالة لمفهوم العائق (Obstacle) الفني. فوجود العائق، الذي يمنع الشخصيّة من تحقيق رغباتها، ضروري لتكوين الفعل الدرامي في المسرح الأرسطي، كما أنه مضمر في المسرح الملحمي السردي، وفي النص الروائي، وفي الفن السينمائي... في جملة تناقضات الشخصيات أو سياق الأحداث. وتخطي العوائق هو ما يجعل للحكائيّة سيرورة، بمعنى أن "الرياح في القصص يجب أن تعاكس السفن"(8)، على حد تعبير إحدى شخصيات خليل الرز في روايته "وسواس الهواء". ويشابه تجاوز الشخصيّة للعقبات، التي تعترض سبيل رغباتها، تخطي سمك السلمون لعوائق التيار المعاكس في رحلة الإياب إلى المنابع الأولى.

يتلخص العائق، الذي يقف حجرة عثرة أمام رغداء، لأداء شخصيّة الروائيّة، في طبائع استبداد التعاليم السكريّة، ولكن ذلك لم يمنعها من اتخاذها كنقاط علام، للانطلاق منها، بل وخدمة حتميتها بـ "التفاصيل المباغتة"، من صدف ومواقف ارتجاليّة، إلى الحد الذي توصف فيه نتائج مناوراتها الفنية بـ "الباهرة" من بين الصفات(9). ولن يكون بعيداً عن الصواب القول، أن خروج رغداء عن وصاية الثوابت السكريّة فيه تأكيد على نسبيّة الذائقة الجماليّة. كل ذلك يعني أن ضرورة شرط الحرية والديموقراطيّة لإنتاج السرد صحيح، كذلك القول بأن العمل في شرط القهر ليس له علاقة مع القيمة الجماليّة للمنتج الأدبي. فكل "عمل فني ينتج بفضل التوتر بين سلسلة من المقاصد وسلسلة من العوامل التي تقاوم تحقيق هذه المقاصد (...)، فإذا كانت عوامل المقاومة في اتجاه معين مما يستحيل التغلب عليه، فعندئذٍ تتحول ملكة الابتكار لدى الفنان وقدرته على التعبير إلى هدف لا يعترض طريقه شيء، ولكنه نادراً ما يكون لديه مجرد الشعور بأن العمل الذي أنجزه بديل للعمل الحقيقي"(10).

ربما وبالخروج هنا عن سياق القراءة النقديّة لحين يمكن فهم جانب من لاسكينة الكاتب خليل الرز أمام فعله الأدبي المنجز، ورغبته بإعادة كتابة بعض المكتوب، وتبرير ذلك إلى جانب تراكم الخبرة الحرفيّة بعوائق الواقع العياني على اختلاف تمظهراته، إضافة لعوائق الواقع التخييلي المكرس.

من كل ما سبق: إن الأسلوبيّة المضادة لمركزيّة جمال المعيار المتعالي، والتوتر القائم على مبدأ التوسع عبر لوحات لامتسقة زمكانياً، يضمران غائيّة الرواية الجماليّة وقولها السردي، فجبريّة تراث الإعاقة الثقافيّة يجاور احتمال قدْريّة فعل روايةٍ وفنٍ مفارق، ويشتبك معه. وكأن خليل الرز يجادل لاسردية رغداء/ الذات العارفة بتجربة واقع الكتابة، بكيفيّة سرديتها لهذا الواقع/ الموضوع في مجمل اللوحات، ويترك الأفق مفتوحاً على الشك عبر نقطتين متتاليتين، توعزان بمسار أو مغامرة جديدة، بعد آخر كلمة تصل إليها الرواية: "انتهت.."(11).

*   *   *

(3) كرنفال الشخوص... باروك السرد
يرى خليل الرز العالم في "سلمون إرلندي"، سرداً غروتسكياً تعمره شخوص بيكارسكية.. شطار تتقلب بهم الأحوال من مقام حكاية رعوية، إلى سياق حبكة تنوس بين أحاديّة النظرة للواقع، وبين موشوريّة تعدديتها. وفي المحصلة، يعارض السرد ما يُرى لنصرة ما يُعرَف، وعليه تتجاوب البنية الروائيّة في "سلمون إرلندي" مع سردِ فعلٍ يضاهي الواقع المادي، لنقضه بسرد يحاكي فكرة قابلة للاستبصار، فتتراكب المستويات الحسيّة والتعبيريّة والمجازيّة والرمزيّة والاستيهاميّة... الخ في فضاءات شبكة السرد وأزمنتها المتقاطعة والمتقطعة. كما أن العمل السردي يأخذ بالتكوّن، حين تتكافل القوى التي تتحكم بالفعل في الحكاية، وتتنازل لبعضها البعض عن أدوارها المهيمنة، مما يشتت الصراع ويحيّده، فالتفاف الشخوص المتعارضة واندماجها حول مائدة ما، أو تماهيها شغفاً بأمسية طرب، أو عبث اجتماعها في بيت يقع على أطراف مركز العالم... هو طباق لتناقضات تلك الـ "أهليّة محليّة" الخاصة بمجتمعات العنف الثالث عالميّة.

يهندس خليل الرز شخوصه عبر كيانات، تقوم على انحلال القوالب المعياريّة، التي تعلو على الجميع في السرديّة الشموليّة. يصمم لكياناته هذه ما يشبه السمات المتفردة اليوميّة، ولكنها في الآن ذاته تحمل إمكانيّة اختزالها وأسلبتها إلى نماذج توعز بمرجعيّة لها في المخيلة الجمعيّة الاجتماعيّة. وتُترَك هذه الكيانات التي ندعوها هنا بالشخوص عالقة في منطقة تعادليّة متوسطة، بين شخصيّة من لحم ودم وبين شخصيّة نمطيّة مؤسلبة، فهي لا ترتقي للشخصيّة المتمايزة المتطورة في البنية السرديّة التصاعديّة، ولا تستقر في كليّة التنميط وثباته. والكلام هنا يطال جميع شخوص الرواية، باستثناء شخصيّة رغداء، التي تنفرد بخصوصيّة التحوّل أو الانقلاب (Peripety) في مسير سيرورتها في اللوحة الأخيرة.

لا تخضع الحكاية لتسلسل الوقائع، لأنها وقائع مفتتة، حيث تُلصق كل قطعة من الحكاية في كولاج من استرجاعات، واستطرادات، واستباقات البنية السردية، لتوحي بسيرة الشخص الذي تحكي عنه. وتغدو الرواية فسحة لجدل حكاية معروفة للكل، مع سرد يقول: كيف حدث ما حدث؟! من ناحية أخرى، يُنجَز السرد فيما بين اللوحة الأولى والأخيرة، بناء على نشاط ذاكرة تستحضر وقائع ماضٍ منقضٍ يفترض أن إعادة النظر فيه غير مجدية ولكن البنية السرديّة غير التامة، وجانب الشخوص اللاشخصي المؤسلب، وحركة الزمن المبعثر دون تعيين خطي... تسهّل تدفّق الزمن الماضي للوقائع الحكائيّة نحو زمن السارد، مما يؤدي لغياب دلالة "الحاضر" لتحل مكانها كمرادف لها دلالة "الراهن مستقبل الماضي". الأمر الذي يدفع للتفكير أن الرواية تستبطن أيضاً القول:... وكيف يستنسخ ما حدث؟!!

ويمكن القول، أن التقطيع إلى لوحات سرديّة، وتغيير اتجاه الحكاية وقفزها السينمائي، ينال من الشخوص التي تشغلها، فلا يتمتع أي منهما بوحدة متماسكة على مدار الامتداد الزمني النصي. حيناً، يتبدى واحد منها بحضورٍ هام في البعد الأول للوحة ما، ليلحقَ بالبعد الثاني في لوحة أخرى، أو حتى يستغنى عنه ويخرج من نطاق المسرود كلياً. فالمثقف اليساري قدري الباشا يتقدم متأخراً إلى النص في اللوحة الرابعة، وكأن لا قيام للرواية بدونه، ويختفي وكأنه لوحة، أو فكرة ملحقة تفتقر لمهارة الديمومة في واقع السرد. ويطرأ شيء مشابه على حضور كل من رزق الله اسحق، ورفيق السكري، وسعد البصري... الخ وجميعها شخوص لا يمكن التعرف عليها من خلال الظاهر المعلن، ويمكن للقارئ متابعتها برفقة السارد، وهي تمارس التفكيك الذاتي لأخلاقها (Ethics)، وسلوكها، وأفعالها، وخطاباتها، ودوافعها، فهي لا تتوقف عن التشكل، كالحرباء، مع كل حدث وسياق تلج فيه إلى النص، وكأن نجاتها، وحتى شرط تمتعها بوجود أنطلوجي، يقوم على هذا التمويه، و"الكاموفلاج" في مجتمع الكل فيه متهم أو ملاحق بشيء ما.

يحاول السارد الإجابة على ماهيّة الشخوص، وتعريفها في الحين الذي يبصبص فيه على ديناميكيّة تجاوبها جسدياً، ومعنوياً، ونفسياً مع السياق الذي حشرت فيه. ففي بداية اللوحة الثانية، يتوجه السارد إلى قارئ مفترض، مستخدماً ضمير الغائب، ومتابعاً معه تقديم موظف الجمارك رزق الله اسحق، على نحو يوحي بأنه راوٍ كلي المعرفة بالحكاية: "رزق الله اسحق رجل يدعوك لنسيانه جهم، خجول، بشاربين مشذبين وأثر ابتسامة ملصوقة على فمه المطبق. وتظن، إذا دققت، أنه راض بالأثر الباهت الوحيد الذي تتركه فيك نظافة ألبسته، فتستكثر عليه القدرة على الغضب مثلاً. مع أنه كان يغضب أحياناً إنما في منزله حصراً، فلا يكسر صحناً ولا يمزق قميصاً ولا يقلب خزانة، بل يضرب أم رغداء والعمة فقط، يفعل ذلك دون تجهم، تنهد قبضته على ظهر إحداهن وخاصرة الأخرى كما لو أنه يستغرق في التفكير. وبالعادة يضربهما بلا مقدمات، ولأسباب لا علاقة لها بزلات لسان أم رغداء ولا بغباء العمة"(12).

لعل مدخل السارد التعريفي بشخص الجمركي رزق الله اسحق، يترك بين يدي القارئ أبسط خيوط توتر الشخوص، وتمزقها بين قطبين: الأول (الطبع/ الوصف)، والثاني (السلوك/ سرد الفعل). ثنائيّة لا يتفق قطبها الثاني (التجريبي، الصورة المتحركة) مع القطب الأول (المثالي، الصورة المكرسة) لكنه لا ينزلق إلى معاداته، وكأن الصورة المكرسة هي معطى أيقوني يتجاوز قول النسبيّة. والكلام هنا لا يعني أن التوتر يتوقف على هذه الثنائيّة المذكورة، بل يفيض عنها، لتوالي تقلب أطوار الشخوص وسلوكها في القطب التجريبي الثاني. في كل الأحوال يشير النص إلى أن الشخوص ليست كلاً متجانساً، ومحاولة تعريفها يخضع لنشاط سردي لا يستنفذ، وإدراك أنساق أخلاقها وسلوكها يتشكل من الانحرافات المستمرة للصور المتحركة ضمن السياقات والمواقف المتعددة.

على المستوى السردي، يمكن القول، أن السارد يستمد جمالاً لسرده من تقنيّة التضليل والخداع.. من مخاتلة ماغريتيّة (نسبة لـ Magritte) تتلاعب مع مفهوم الحقيقي، وهي تنكر عليه حقيقته، فتُوظَف في النص تقنيّة السرد داخل السرد، ويكثر توازي سردٍ لسرد آخر لنفس الشخص أو الواقعة يتوجه به السارد خفية نحو القارئ، منكراً على السرد الأول إيهامه بمشابهة الحقيقة، ويترك حقيقة السرد الآخر لمصير الشك والمساءلة. وكأن متلقي الرواية هو ذلك النائم الذي يحلم بأنه يحلم، ويعي في حلمه أنه يحلم.

لعل هذا الإحساس المتذبذب بالواقع السردي، إضافة لمحاصرة الشخوص بـ "الوعي الزائف"، وخيارها القائم على "الغش الذاتي الواعي"... هو ما يستند عليه ضمير الغائب والمتكلم، الذين يتناوبان السرد، في مجمل النص الروائي. على سبيل المثال، يتابع السارد بضمير الغائب، استعراض يوم في حياة موظف جمارك الحدود، ويؤكد على يقين سريرته مع مطلع كل نهار، وارتباطه المرجعي المتعالي بصومعة الناسك/ الدين، ومن ثم يسلط الضوء على قوة انضباطه مع النظام الحكومي إلى درجة أن تأمله الإشراقي للجبل الأخضر المؤطر بكادر نافذة في غرفة عمله يقوده لأن "يقرر بينه وبين نفسه أن بلادنا قطعة من الجنة"(13)، أو بتعبير القديس أوغسطين أن بلد(نا) هي "مدينة الله" وبأنّ(نا) مصطفون للعيش فيها. مسلّمة لا ينتاب رزق الله اسحق الشك في حقيقتها، إلا عندما يقصى من لعبة تفتيش المهربين، ومن الحوافز السنويّة التي تساويه بزملائه "الفاسدين"، فيشعر بحصار نفسي لمن ارتكب خطيئة بحق الوطن/ القطعة الفردوسيّة، ويدفعه إدمانه على أنه متهم بمصداقيّة حبه لبلده، ليسعى عند رئيس المنطقة/ ممثل السلطة، طلَباً لراحة الضمير البرغماتيّة، وعارضاً عليه خطاباته الإنشائيّة، التي تلاقى صدى جيداً لاستثمارها، وإلقائها في الاحتفالات الرسميّة على اختلاف تلويناتها البلاغيّة. هكذا يشترك موظف الجمارك طوعاً في الخطاب الرسمي، ويكون فعل انخراطه فيه بمثابة اعتراف خلاصي، يخادع به نفسه والمؤسسة، ليكفر عن شذوذ استقامته المشبوبة الآثمة في حلوليّة الفساد.

في اللوحة الثالثة، يتعرف رزق الله اسحق على قدري الباشا/ المثقف اليساري في الحانة/ هامش المجتمع، ويكون لقائهما بمثابة مرآتين متقابلتين، على خلفية التواجد الصوتي لأغنية "أنا هويت" لسعاد محمد. وبعد عدد من أقداح العرق، يتقدم الجمركي ناصية الحوار، مدلياً باعتراف مناقض لذلك المذكور أعلاه، ويبوح للشاعر الباشا الذي يجلس إلى طاولته، بأنه مخدوع: "وقال كمن يعترف له بعصفور يختنق في عبهّ: أشعر أحياناً أنني سلمون مخدوع... الأنهار عموماً من يعدها؟ إذاً لماذا لا يخطئ السلمون؟ أنا على سبيل المثال، اعذرني ولكن مثلاً مثلاً... هل تستطيع أن تثبت لي أنني عدت فعلاً إلى نهري الأول"(14). يتوسد السارد ضمير المتكلم، واللغة الإيحائيّة، ليكثف طبيعة الخديعة التي يعاني منها، ويوظف سمك السلمون كرمز للإنسان. وتبلغ درجة التماهي مع الرمز حدَّ رفض رزق الله اسحق أكل السلمون، فهو ليس من أكلة لحوم البشر. وتغدو الرحلة، إلى منابع الأنهار، كأوديسيّة الإنسان المغترب لاسترداد إنسانيّته/ براءته الأولى: "السلمون يتذكر... لكي يتكاثر نهره الأول، هناك عندما وجد نفسه سلموناً لأول مرة... يقطع البحار ويعاكس الأنهار ويقفز فوق الشلالات فيتحطم أكثره على الصخور ولكنه يعود... يعود"(15).

ويتلهف موظف الجمارك لسماع قدري الباشا، حينما يسمح له هذا الأخير بتقاسم نصيّة العرق معه: "قال الشاعر بصوت عميق خفيض كمن يتحدث في نومه: بلاد أضنُّ عليها بروحي ليست بلادي. (...).ثم سكت، فيما ذهل رزق الله اسحق كأن أحداً أنزله أخيراً من سقيفة خانقة (...)، ثم مال نحوه رزق الله اسحق وهمس إليه بصوت متهدج مخنوق: اعذرني... ولكنك سلمون مخدوع"(16). عند هذا الاكتشاف المعرفي الذي يصل إليه الجمركي، من خلال خبرته كمخادع بديماغوجيّة البلاغة التي سمعها من الشاعر قدري الباشا، تنقلب معادلة القول بأن المثقف يرى ما لا يراه الإنسان العادي رأساً على عقب في هذا السياق، وتنهار معرفيّاً التراتبيّة التي تفصل رزق الله اسحق عن قدري الباشا/ المثقف اليساري، بل ويمكن قراءة الدعوة التي وجهها الجمركي للشاعر، لإتمام السهرة في عقر داره، على أنه يتجرأ عليه اجتماعياً أيضاً. بمعنى أن الموظف "البسيط" الذي أتى للعالم ورزقه على الله، يتحرر من الفوارق المعرفيّة الباشاويّة للمثقف القادر (أو عبد القادر)، حينما يستبصر أن الاستلاب يساوي بينهما، ويجمعهما معاً ضمن هامش لاطبقي يتمتعان فيه بالمشكلة الأخلاقيّة ذاتها. من هذا المنطق يغدو الاغتراب ديموقراطيّ السمة كالمصير الإنساني. وهو ما يبرر أن لا مفر من القول على لسان الجمركي: إما الجحيم/ بلد(نا)، أو العودة لمنابع القيم الإنسانيّة (17). إن خطاب البدايات، أو "العَود الأبدي" في النص يستند على غنائيّة بيولوجيا التطور السلموني، وعلى شعريّة مقاومة التيار، وطوباوية استعادة سفر التكوين الإنساني الخصب.

من هنا، ربما أمكن الاستنتاج أن في المساواة في الاستلاب، إشارة لحلول عوامل التهميش والفساد، مكان الفوارق الاجتماعيّة، لتلعب دورها في التأثير على أخلاق الشخوص الروائيّة في كثير من النصوص السرديّة العربيّة الجديدة، ومنها نصّ "سلمون إرلندي". ولعل في ظرف الجحيم ـ الذي يتقاسمه الجميع في واقع النص ـ بعضاًً من تفسير، وفهم لإيحاءات العنف الذي تبطنه، وتمارسه الشخوص الروائيّة كحق طبيعي، وبذئبيّة تعلو على العقد الاجتماعي، وترتد عنه لاعقلانياً إلى الحالة الغابيّة، معاكسة بذلك اتجاه الحركة الهوبزيّة.

نتعرف في النص على عنف السجن السياسي، والعنف الجسدي، وعنف الاعتداء الجنسي، وعنف الكبت الجنسي، وعنف الطغيان الثقافي، وعنف اللغة، وعنف القبح والسوقيّة، عنف التطاول على الآخر.. إلا أن أكثر أشكال العنف مجازية يُمارس من قبل الموظف رزق الله المسحوق/ الأب البطرياركي/ السلطة على نحو آلي بحق زوجته وأخته. وتستنسخ علاقات العنف المجتمعيّة مع توارث ثقافة الجلاد/ الضحيّة. وتوزع الأدوار من جديد، فيحلّ عسّاف أستاذ المدرسة، محل الأب الجمركي بعد إحالة هذا الأخير إلى التقاعد للقيام بدور الجلاد خير قيام، بينما تأخذ وديعة على عاتقها أداء دور الضحيّة الذي كان من نصيب العمة في السابق. تقدم تنويعات العنف في الرواية من منظور جماليّات السخرية السوداء، والسرد الغروتسكي، والتهكم الكاريكاتوري بكيفية انجازه، مما يؤدي لانزياح الاندماج مع الواقع الروائي أمام تداعيات مبالغات اللامعقول، وفانتازيا الغريزة، وشطحات الخيال المضحكة. وتتفتت خلفية العنف المباشر، وتخفف سوداوية السرد وراء أسلوبيّة ملهاة المواقف والشخوص، والهجاء اللغوي اللاذع.

ولكن، "من هو قدري الباشا
كان قدري الباشا هارباً من حلب..
لست هارباً، فأنا لم أرتكب جريمة حتى أهرب"(18).

على التوالي، يعود الاقتباس السابق لعنوان اللوحة الرابعة، وللجملتين الاستفتاحيتين فيها. وكما هو واضح، لا ينغلق العنوان بعلامة استفهام (والأمر نفسه بالنسبة لعناوين اللوحتين الثانية والتاسعة)، وكأن العنوان المفتوح يستبطن تتمة لتساؤل غير مكتمل. يبدأ السارد بتوظيف ضمير الغائب في الجملة الأولى، ولا يلبس أن يقاطع بضمير المتكلم الذي يتقدم، ويأخذ على عاتقه سرد الوقائع، ورواية أجزاء من سيرة قدري الباشا في اللوحة الرابعة، قبل انضمامه "المصيري" إلى عشاء الجمركي في اللوحة السابعة. تبدو مقاطعة ضمير الغائب بضمير المتكلم، كدلالة على توتر السارد الخفي بين صوته الخاص، وصوت الشخص موضوع السرد. ويشير هذا التوتر لمفهوم مشابه في المسرح الملحمي السردي، قوامه إبعاد الراوي عن دور الشخصيّة من جهة، والتماهي بدورها من جهة أخرى.

لعل المبدأ الجمالي كما يفهمه شخص كقدري الباشا، والذي يحال في تاريخ الحكاية إلى النصوص القائمة على الإيهام والتمثل، هو ما فرض هذا التغير الآني في آلية السرد. وكأن الشاعر اليساري أراد أن يسدل عليه الجدار المسرحي الرابع كي يستطيع تجاهل وجود المتلقي الراهن، فيحفظ لنفسه شيئاً من ماء الوجه ويحمي شخصه من الأحكام المسبقة، أثناء العملية التهكميّة لتعريته الذاتيّة سردياً. إضافة إلى أنه يقاوم إبعاد ضمير الغائب السارد بمعايشة مضادة، تقوم على تماهي السارد بشخصه عبر ضمير المتكلم، فتضيع العلامات الفارقة بينهما. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتناول السارد تجربة وقعت في الماضي وانقضت، ويغرّبها عن المألوف والمعتاد. يقف على مسافة نقديّة كافية من الممارسة اليساريّة ضمن زمن الحكاية ويراها من خلال منظور يكشف المخفي في البنية العميقة، ويطفو به لعَلَنِ البنية السطحيّة السرديّة. بمعنى أن تطابق القوة الفاعلة مع شخص قدري الباشا/ السارد يمكّن السرد من الإحاطة بكيفيّة صناعته من الداخل كشاعر، إضافة للإحاطة بكيفيّة تأثير المثال الأعلى للجمال الخير (Kalokagathia) اليساري على الحياة وإنتاج الفن والأدب من الخارج.

يستعرض قدري الباشا/ ضمير المتكلم ماضيه بصراحة سرديّة بليغة. يعترف برذائله وفضائله بزهوة فروسيّة نرجسيّة، ويستسلم لمعارضة هزليّة لثوريّة المثقف اليساري. يتوقف مطولاً عند "مرض العصر" الذي كرسه كشاعر في سوريا: أسبقيّة الإيمان على المعرفة، في مناخ انحلال الفرد في الرعيّة والعقيدة. رغم ذلك، فإن رواية السارد تشير إلى أن إيمان المثقف الباشا المكين لم يكن في يوم من تلك الأيام، إلا لشخصه المتعالي في برج ذاته العاجي. وقد استخدم لغاية تكريس اسمه، بلاغة اليأس كوسيلة لتبرير شعريّته: "اليأس عندي طريقة في الحياة التي أحبها (...). الشعر كان دليلي إلى اليأس. حدث ذلك في مطلع شبابي بعد أن هجرتني فتاة قبل أن أهجرها بقليل (...) ثم كتبت قصيدة لها تحت وطأة يأس شديد فباغتني أن الاستحسان الكبير الذي لاقته هذه القصيدة (...).ثم استنبت فيما بعد بذرة اليأس هذه في أصصي الشعرية الخاصة (...). لقد تمكنت من تكنيك الشعور بالمرارة دون الحاجة إلى حدوثها بالفعل (...) طالما أن ذلك يروجني كشاعر متميز لدى جمهوري، أخص منهم الثوريين الشباب الذين ينوؤون تحت حمل ثقيل مرهق من الآمال الكبرى (...). وكان الثوريون من جمهوري يؤولون يأسي على أنه نوع من رفض الواقع المرير ودعوة حارة إلى تغييره ولا يجدون في نساء قصائدي إلا صوراً للوطن من زوايا مختلفة"(19).

لا يشير الاقتباس أعلاه، إلى مفهوم الموهبة الشعريّة، بل يؤكد على دور المهارة التقنيّة، والصنعة في إنتاج الشعر (الأصح القول افتعال الشعر). هكذا، استثمر الشاعر تجربة يأس شخصيّة، وقام بتصعيدها إلى فكرة اليأس، لتنهض عليها شعريّته. لعل في اليأس الخالص ـ وهو ضمنياً مرادف للشعر الخالص ـ واحد من براهين تقويض علاقة هذا الشعر مع الواقع التجريبي، فقد التزم الباشا شعرياً، المبادئ الأخلاقية العقائديّة، لجمهور مكون من "ثوريين شبان"، تشكّلت ذائقتهم بمقتضى متطلبات نموذج قبْليّ. ولدوافع ذرائعيّة، حرص قدري الباشا على وضع تجربته الأدبيّة تحت تصرف الجمالي لدى متلقيه "الثوري"، طالما أن هذا المتلقي يكرسه شاعراًً (بوقاً دعائياً) لحاجاته الثوريّة والفنيّة، موفراً عليه بذلك عناء البحث عن جمهور أوسع. وأصدق تعبير عن هذا الظرف مقولة: "الجمهور عاوز كده"، التي استخدمت من قبل منتجي "الفن التجاري"، لتبرير النزعة الميلودراميّة المفرطة في أعمالهم.

بمعنى أن تجربة قدري الباشا لم تعرف التوتر الذاتي بين شعره، وبين مستقبِل إنتاجه الشعري بالمفهوم المتعارف عليه في التجارب الأدبيّة التاريخيّة، لذلك فتجربته تقع على هامش التاريخ الاجتماعي بمعناه الجدلي.

ولعل نزعة الاستمتاع باليأس لدى الشاعر، ومتلقيه في هذه المرحلة تستدعي فلسفة الألم العظيم والموت لدى الرومانتيكية، من حيث أنهما أي غنائيات اليأس والألم والموت تحقق لشهوة جماليّة التدمير الذاتي. يعتقل الشاعر. وفي السجن يحيدّ السارد الجو الانفعالي الذي يسببه الغثيان البصري، والمعاناة الإنسانيّة، ومتاهات البشاعة وراء فكاهة، تقوم مقام محرقة جماليّة ترمد العذاب بالتهريج الغروتسكي، وتمنح التجربة مظهر حلم، أو كابوس هجائي.

يُرى عالم السجن من خلال منظار أنا السارد، وتوضع في هذه المرحلة، أخلاق المثقف الباشا على محك التجربة، ليكون داخل السجن فرصة أمام بوح الأنا السردي لإظهار دخيلة الشاعر، وإحساسه المعدني الذي يعلو على الروح الجماعيّة، لتعزيز صيرورة فرديته، وتصنيع كاريزما أناه المتفردة. في الحبس يبحث الشاعر عن متلقيه المثالي ليلقي حوله شباكه، ويمدد نحوه قنوات الاستقبال الفني كما يفهمها. ويجد بغيته في فوضوي شاب (Anarchic)، يرى فيه حاجته، لكونه مادة خام قابلة للتشكيل، ولَعِبِ دور المستقبِل الحَوّاريّ لمقامه السماويّ: "لقد برهن الشاب الجامعي على عداء فطري أصيل لكل ما يتعلق بالسلطة أياً كانت وكيفما تجسدت (...). كان جذاباً وساذجاً مثل شهيد لم يقتل بعد وبقدر ما كان موحياً بالعصيان كان محتاجاً لتبريره (...). كان ثمة فراغ لا بد من ملئه بعبودية من نوع خاص كأن ينفجر ببكاء دوري (...) أو يشعل حريقاً أو يصبح داعية مستميتً لعقيدة أو أحد. ولذلك لم أجد صعوبة كبيرة في أن أملأ له أنا هذا الفراغ. صار مروجاً لي دون أن يكون ملماً محترفاً بمفاتيح الشعر"(20).

المتلقي المثالي بالنسبة لقدري الباشا/ المرسِل هو ذلك التابع السلبي الذي يُسلّم له بدعوته الشعريّة فنياً وفكرياً في عملية الاستقبال.. هو ذلك التابع الفاقد للحرية والذي يخدمه بمهمات البروباغانده، ونشر الدعاية حول رسالته الجماليّة. فيما يبدو أن شاعر هذه الحكاية، لا يعير انتباهاً لفهم المستقبِل لروامز رسالته الشعريّة، ولا يناسبه المتلقي الفعّال القادر على التأويل، والحكم، والتذوق، وبناء المعنى الخاص به. واختياره يدل على أنه يتجنب المستقبل الإيجابي الذي يستطيع تحقيق التواصل معه، ويساعده عن وعي بترك المجال مفتوحاً أمام الشعر للتأثير على إدراكه الجمالي. باختصار، هو المتلقي المستلب الحرية فكرياً وفنياً من الشاعر، وعن الشعر على حد سواء.

يشكل السجن في اللوحة الرابعة من النص، المرحلة الجماليّة السرديّة التي تتجلى فيها طاووسيّة الشاعر المحب للحياة قدري الباشا. وتتوضع خيلاؤه على الطرف المقابل للدانديسم (Dandyism) الرفيع والسامي، لأنها خيلاء غروتسكية تتحقق على خلفية من الاغتراب، والعنف الهزلي، وقبح السياق المحاصر بالشناعة والقسوة الإنسانية.

وبين صورة الشاعر خارج السجن كموضوع للاستلاب، وصورته داخل السجن كفاعل للاغتراب، تكمن واحدة من مفارقات الشاعر في نص "سلمون إرلندي". بتوجيه بقعة الضوء إلى اللوحة التاسعة، حيث يُفرَد المجال لتقديم بورتريه لسعد البصري: "مهاجر" من أصول عراقية، يقطن مدينة الرقة السورية. يبدأ السارد بضمير المتكلم تصميم السرد في اللوحة، موظفاً تقنيّة الحلم، ولذلك من الممكن أن الوقائع جرت بين ليلة وإصباح كرونومتريّ في السادس من أيار سنة 1993. أو أنها دامت كنوم "أهل الكهف" في تاريخ سكوني. يوحي الزمن أنه يعود خطياً نحو الخلف، إلا أن دورة الزمن في اللوحة، تتكشف عن نهايةٍ تتقهقر، وتلوذ بالنقطة التي بدأت منها، مشابهة بذلك الدورة السرديّة في كليّة الرواية، ولكن دون أن تتمخض عن أي تحوّل مفصلي، كما لو كانت تدور في زمن عبثي.

يبدأ السارد سرده، بالزمن/ الفعل الماضي، بمقطع يبسط فيه للقارئ الشخوص المؤثرة على ملامح شخص سعد البصري: "منذ سنتين قصفوا البصرة، وفي ليلة البارحة طلبت مني أختي أن أفيق باكراً لأخطط دماغ ابنها (...). ومريم خطيبتي بالكلام منذ ثلاثين عاماً أو أقل وعدتها البارحة هي الأخرى أن أخطبها رسمياً في مساء هذا اليوم. واليوم هو عيد الشهداء وأول خميس في الشهر فوق ذلك. وأم كلثوم طبعاً لم تمت وهذا يعني (...) أننا لم نمت. نحن فعلاً لم نمت"(21). وتنتهي اللوحة في المقطع الأخير، بالزمن الماضي أيضاً: "بينما كانت مريم نائمة (...) أيقظتها وأخبرتها بأنني سوف أخطبها غداً رسمياً (...) في البيت كانت أختي (...) طلبت مني قبل أن أنام أن أخطط دماغ ابنها الصغير غداً في خميسي أيضاً الذي يصادف في عيد الشهداء. نعم يحدث أحياناً أن يتعاقب خميسان من خميساتي دون أن يفصل بينهما أي يوم آخر من أيام الأسبوع (...) نمت واستيقظت"(22).

إن المتاهة الزمنيّة الحلميّة، التي تحيط بفيض الأفكار في هذه اللوحة، والارتداد بالزمن، وتكرار اللحظة، والانسياب المتزامن للوقائع، واستبطان الحاضر للماضي، وحركيّة المكان المنفتح على كافة الاتجاهات... تصب في الفرار السردي من تقديم بورتريه "جبهي" واضح لشخص سعد البصري. لعل الأمر يتعلق بقراءة قد تمس خصوصيات البصري الحميمة، وأسراره المحيّرة التي تحيط به، والمودعة في الأدراج والخزائن الرمزيّة. هناك تعبير متداول في بعض الثقافات يقول: "الخروج من الخزانة"، أي الاعتراف، والكشف العلني عن هوية الشخص الجنسيّة، وتخطي محرم المجتمع، والدين... ولكن ما علاقة كل ذلك بشخص سعد البصري نزيل الرقة، "المثقف التقني" أمين سر الثانويّة الوحيدة فيها؟! في حقيقة الأمر يلفّ السارد شخصه بالغموض، وأقنعة التورية إلى حدٍ لا يترك معه مجالاً، إلا لخيار الافتراض الحدسي، والضرب بمندل "تسمية الأسماء بغير أسمائها" لكشف المستور المفترض، أو تجاهل المناورة الأسلوبيّة، والاكتفاء بقراءة نص اللوحة أفقياً، ضمن مستوى البنية السطحيّة، إلا أن إغراء التغلغل في فك الأحجية والرموز، والقراءة الاحتماليّة، وكيفيّة تقديم شخص البصري لها فتنتها الخاصة.

لعل إشكالية شخص أمين سر الثانويّة تتمحور في الهوية الثقافيّة، والوطنيّة، والجنسيّة. ومسألته هذه لا تتأتى من الاشتباك الصراعي لذاته/ أناه مع الجماعة في الواقع الخارجي، بل على العكس من ذلك، فالجماعة هي من يعاني هذا الصراع، ويخوضه بعنصريّة لاعقلانيّة، تعزل البصري وتنفيه كفرد بين أهله. يخْلص البصري من تقليبه في فحوى الهويّة، إلى الانتماء التواجدي الخالص بأم كلثوم، فقد رأى في فنها مبرراً لحياته، ووصلت به القابليّة الصوفيّة للامتداد في أغانيها، إلى أن يُوجَّه إيقاع يومياته وفقاً لمقامات ألحانها النغميّة، وهنا تنقلب مقولة أن الفن انعكاس للواقع، ليكون وقع الحياة متوافقاً مع ما يمليه الفن الذي "يتعاطاه" المتلقي، وبذلك يقدم السارد معارضة ساخرة تنقلب معها مقولة "الدين أفيون الشعوب"، إلى "الفن أفيون الشعوب". من جانب آخر، يعرّف السارد شخص البصري، بصوت أنا المتكلم، وفق مخطط تناصي مبطن، تمليه عليه كلمات أغنية "ذكريات" لأم كلثوم، فالسرد في اللوحة التاسعة يتشكّل من "ذكريات عبرت وفق خيال" السارد/ البصري، لتروي "قصة حبه"، واستيقاظ شغفه وشبقه. إنها "ذكريات داعبت فكره وظنه"، لأنها "في سمعه على طول المدى"، "فكيف ينسى ذكرياته"، و"هي أحلام حياته"، و"صورة أيامه على مرآة ذاته"... وعليه يمكن القول أن بعض تعريف شخص البصري/ الذكر ينسج سردياً من خلال رحلته المعرفيّة إلى المرأة/ الأنثى.

"ولكن هل يكفي الإنسان الطبيعي أن يكون أمين سر الثانوية الوحيدة في البلدة ومتعاطياً رسمياً لأم كلثوم حتى لا يشعر بالحكة؟"(23). يضمر قول "الإنسان الطبيعي" قول الحكة، المتعالي على قول الإنسان المتعلم. وإذا تم الافتراض أن فن أم كلثوم بمثابة مُسكّن، ونشوة للخروج من كثافة الجسد، هل يكفي هذا الفن للتصدي لـ "حكة" الرغبة الجنسيّة، وفحيح الغريزة المكبوتة؟!!.. يجيب السارد/ البصري: "لقد تبين لي أنه لا يكفي"(24). وبعد هذا الاستنتاج، تسطع على التوالي من السرد المقطعي "رائحة نشارة الخشب" تفوح من النجّار، تراود شبق البصري الفطري: "في المنزل شعرت أن رائحة الخشب التي صنتها في رأسي تحكّ لي المكان الذي يأكلني ببراعة أكبر بكثير مما تفعله أظافري"(25). ويقرر البصري/ المريد، التتلمذ على يد النجّار، وتلقي أسرار التلقين، والتعرف على الحرفة بالسر بعيداً عن الأعين، لأنه كمتعلم يعتبر أن العمل اليدوي عار عليه. في كل الأحوال، وبهذا العلاج العضلي التنفيسي، لتسكين ما يعشعش في ذاته السريّة، يبدأ البصري بالتعامل مع دغدغات غريزته المكبوتة، ويستنتج قائلاً: "كان النجار على حق فقد علمتني التجربة أن ممارسة النجارة أشد وقعاً على الحكة من رائحة الخشب"(26). إن إثارة رائحة الخشب، وارتباطها بالنجّار/ الذكر، والمعرفة التي مصدرها القرين الجنسي، تضع هويّة البصري في هذا السياق محل مساءلة في السرد. وفي معرض الحديث هنا، لا يقصد الكلام أن احتمال المثليّة، أو ثنائيّة الجنس يخرج عن قول "الإنسان الطبيعي".

يقرر البصري ممارسة هوايته في البيت، بعد فشله في ممارسة النجارة في الورشة، المعادل المتخيّل لممارسة الشبق، فيتفق مع ابن النجار الغلام الكسول على تزويده بما يلزمه من مكعبات خشبيّة، كي يَنجُرها، ويحكّها، ويدكّ أطرافها بعضها إلى بعض، ليصنع منها مقاعداً صغيرة، إلا أن ممارسته المنزليّة لا تفرز إلا عينات وهمية فضائحيّة قزمة، ومشوهة، ومعيبة غير كاملة، يودعها في خزانة جداريّة/ الباطن الجوّاني، تسترها سجادة تمثل منظراً رعوياً/ الظاهر العلني. وفي يوم من الأيام، يلاحظ سعد البصري مريم/ المرأة في المطبخ (فضاء مرتبط بشهوة الأكل، وتسكيت الجوع)، لتشتبك مع قضية حكّته، ويبدي لأخته رغبته بخطبتها. لتبدأ صلته لها بها على خطى توقِّعها مقامات أغاني أم كلثوم من تمنّع، وفتنة، ولوعة، وعذاب، وآهات... وتصبح مريم موضوع هذا الوجد العذري المازوخي. أما مقامات اللحن الكلثومي، فتنقلب من مسكن إلى مهيج للشهوة، خاصة حينما يُبلَّغ البصري أن أغنية الخميس القادم ستكون "ذكريات"، بمعنى أن عليه التغميق الفعلي مع مريم كي تنقلب إلى موضوع وصال خاص بارتعاشة الذكرى من الماضي.

ويفكر بأن عليه أن يجرب ويتعلم الجنس مع امرأة حقيقية: "قلت الأفضل أن يصطاد الإنسان سمكة، ولكن لكي يصطاد سمكة يحتاج إلى دودة (...) وفي الظلام يفشل الإنسان في خوزقة الدودة (...) والصياد في الليل يتعرض لكلاب المزارع (...) وفي هذه الحال أهون على الإنسان أن يكون سمكة من أن يكون صياداً لأن كل ما تفعله السمكة في عملية الصيد هو أن ترى الدودة وتبلعها، أما الباقي فعلى الصياد المسكين"(27). يُفترَض، أن الاقتباس السابق، يشير إلى أن التفكير، ربما أخذ بالبصري إلى تجريب الشبق مع "مومس"، ليتعلم منها الفعل الجنسي "المكتمل". وفي كل الأحوال يشي الاقتباس، بأن سعد البصري/ الرجل في هذا الطور، يرى الوصال مع المرأة كصلة الصيادٍ بفريسته، يحتاج لطعم كي تقع بين يديه، وأن الرجل/ الصياد هو الفاعل، في العملية، بينما المرأة/ السمكة هي المفعول به السلبي.

إن الهوة المتحفزة في ذهن شخص من مقام أمين سر الثانوية، وافتقاره للعقليّة العمليّة مع استمرار لسع شرنقة الحكّة تدفعه لابتكار فضيلة وجماليّة المثاليّة، على هيئة فراشة. ويسعى لتخليص نفسه من خيبات الممارسة العمليّة، بتحنيط/ تخليد مثاله/ حبه الأفلاطوني مبرراً بذلك عزوفه عن التجربة. وكلما كان نيل المريد/ أمين السر للفراشة أكثر صعوبة، كان تعلقه بها أشد شغفاً. إلى أن جاء يوم وحلقت الفراشة فوق موكب جنائزي لقتيل حرب من الحروب، وتحولت إلى اللون الأزرق الخالص/ الموت، واختفت عن الأنظار في سماء زرقاء/ الفناء/ العدم، ليستفيق البصري، بعد الاستبصار المعرفي للمصير البشري، إنساناً آدمياً عليه أن يفعل، ويكدّ، ويشقى على أرض الحياة الواقعية. وحينما يغلق نافذة غرفة نومه المفتوحة، التي كانت قد دخلت منها الفراشة الجميلة سابقاً، يرى خنفساء سوداء كبيرة على الحائط الخلفي. هكذا يقدم السارد الخلاصة الفلسفيّة (Summa) لإيروس المثاليّة والحسيّة عبر حركتين: عندما كانت النافذة مفتوحة دخلت الفراشة/ المثال من الخارج (عالم الأفكار أو الصور)، وعندما أُغلِقتْ النافذة أبصر البصري الخنفساء/ الغريزة في داخل غرفته. وكأن النافذة هي كوة من كوى الحواس. وغرفة النوم هي الكون الكياني النفسي لأمين سر الثانوية. وهذه المرحلة هي المرحلة الحسيّة التي يواجه فيها حقيقة الحكة/ الغريزة الجنسية التي تتمشى في كيانه بكل تحولاتها من حكّة بدئيّة، إلى هواية النجارة وتجليد الكتب كمعادل تعويضي عن فعل الجنس، ثم فراشة المثالية الرومانتيكيّة، فمرحلة الخنفساء الحسيّة التجريبيّة التي يجب أن يطبقها.

يستغل البصري غياب أخته/ ممثل المحرم الديني، ليصارح خطيبته مريم بحقيقة غريزته الحسيّة (الخنفساء)، دون أن يفوته التنويه لحسن نواياه الأخلاقيّة (وأصولها الفراشيّة) إلى جانب كل ذلك: "فقلت لها بصوت خفيض: سوف أحنط اليوم خنفساء كبيرة، (...) وأردفت متلهفاً: أصلها فراشة ولكنها الآن خنفساء حقيقية وسوداء"(28).

ويبدو أن كلمته لها عادلت في نفسه سَعْدَ فعلٍ متخيلٍ، تمخض عن طمر أسراه/ عورته في عبّ/ جيب مريم(29)، وكأن السارد يأخذ نية البصري مأخذ الفعل، مستفيداً بذلك على طريقته من الحُكم/ الإدانة الديني الإنجيلي. أما التفصيل السردي للممارسة الميكانيكيّة، والتسمير الجنسي الاستيهامي لجسد مريم، فهي من أكثر مقاطع الرواية باروكيّة، وتكتماً، وتخفياً، وتجنباً للتسمية المباشرة، حيث يغوص السارد/ ضمير أنا المتكلم في عزلة الاختلاء مع رمزيّة اللغة، يراود لاعقلانيّة التعابير، وينقب في وجوهها السورياليّة التي لا تضع حداً لتداعي المعاني والرؤى. بحيث تتحول قضية تحنيط الفراشة السابقة إلى قضية تحنيط الخنفساء. وما يشتت القارئ هو لجة التداخل المتواقت، الذي يتعمّده السارد، بين عملية تحنيط خنفساء/ حشرة حقيقية غير رمزيّة، وبين "آليّة" فعل الجنس، حين يحاول البصري ترك العنان لنداءات خنفساء غريزته، كي تُعبّر عن فطريتها الأولى.

وفي الاقتباس اللاحق سيتم التركيز على ما له علاقة بالخنفساء الرمزية، لتتم قراءة سيرورة فعل الشبق بوضوح أكثر، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستبدالات اللغوية والذهنية التالية: مريم (علبة الكرتون)، الغريزة الجنسية (الخنفساء)، الجسد (المكتب)، الجهاز التناسلي (الدرج الثالث من المكتب بمقتضى لوحة لسلفادور دالي)، العضو الذكري (الإبرة، و "هو" حسب رواية البرتو مورافيا)، الخصية (كيس النايلون)، السائل المنوي (خيط أبيض):
"شعرت بأني أميل إلى العلبة وأنقصف فوقها مثل شجرة ينشرونها (...) أمسكتها (الخنفساء) أخيراً من حدبتها، سحبتها، وقلبت العلبة بيدي الأخرى (...) الإبرة! الإبرة التي أرفو بها سراويلي الداخلية. سحبت الدرج الثالث في مكتبي واستللتها من كيس نايلون صغير. كان خيط قصير أبيض يسيل من ثقبها. ثبت الخنفساء في نزلة الظهر بين إليتي العلبة ثم خرزتها بإبرة سراويلي (...) أطفأت النور من خجلي. صار بإمكاني أن أخلع ملابسي وأفخر بنفسي وأتعرّق بلا أي حرج. وقفنا عاريين أنا وهو في وسط العتمة (...) لقد علمتني التجربة في تحنيط الأشياء أن تجليد كتاب يختلف حتماً عن مسك امرأة من قفاها والدليل عضوي المنتصب (...) في نزلة الظهر بين إليتي مريم. أليست مريم علبة كرتون"(30).

إلا أن زخم مقام النهاوند الموسيقي الكاشف، والصريح في أغنية "ذكريات"، يضع البصري في حالة مواجهة مع أيامه ومرآة ذاته، ومع هروباته وانسحاباته المتلاحقة، ومع استلابه الإيروسي الإرادي واللاإرادي كآلية دفاعية تجاه إلحاح الليبيدو: "فهمت عن طريق اللمس أن النهاوند جاء ليؤكد على مريم لا بوصفها عملاً رديفاً لكراسي مشوهة بل باعتبارها كياناً مستقلاً عن حاجتي إلى حك أعضائي الداخلية الحصينة، وهذا يعني أنني، أنا نفسي قد وقعت في حبها دون علمي منذ سنين طويلة"(31).

كشف هذا السياق، عن دور ينكر مؤثر الفن التخديري، الذي قيل سابقاً (سرد الفكرة ونقيضها)، فالفن، في إطار مقام النهاوند، يوقظ المستقبل، ويُغَرِبُ المتلقي عن إغترابه وتماهيه. كما أن رؤية سعد البصري/ الرجل، في محطته الإيروسية هذه، لمريم/ المرأة تتحول من اعتبارها موضوعاً جنسياً لرغباته، لرؤيتها كذات، وكيان مستقل.

من جهة ثانية، ورغم إبصار البصري، لحقيقة ذاته وذات مريم في مرآة الفن، فإن عبء قيامه بالفعل "يعيد حليمة إلى عادتها القديمة"، وإلى اسطوانة اختلاق الحجج والأعذار، والتعويضات الجانبية واجترارها، بدل الإقدام على الاقتران بخطيبته/ حبيبته مريم، التي ستُترَك، لتقترن في البنية السردية العميقة بنعت العذراء، لثلاثين سنة على أقل تقدير. وعليه، فإن مسؤولية اكتمال عملية الاستقبال الفنية، تقع في جانب منها على عاتق المتلقي، فاستلام ووعي المسْتَقْبِل برسالة المرسل، لن يكون مجدياً، إلا بالموقف/ الفعل حتى يكتمل دور الفن في نزع الاغتراب. يلج رفيق السكري السرد بدخوله سَكَن سعد البصري، الواقع في واحدة من مدن الأقاليم، وينتصب كمرآة نقيضٍ غبشة، أمام زميل دراسته القديم في الجامعة. تسرد مرايا الشخوص المتقابلة ذكرى طموح السكري المبكر الالتحاق بالكلية العسكرية، وكيف أن الحيلولة دون إتمام هذه الرغبة، قادت سيرورة الرفيق السكري إلى العاصمة، حيث امتهن هناك الثقافة، وحرفة مثقف السلطة، ليلتحق في الخطوط اللوجيستية، والطوائف الحرفيّة (Lodge) الرديفة، والرفيقة لحكم العسكر. إن العملقة النرجسيّة لتاريخيّة رواية السلطة، التي كتبها السكري، لم تحل بينه، وبين فُرْجَة دونيّته الداخليّة، متمثلة بأرغوزيّة جسده الفيزيائيّة، والتي يتحايل عليها بمهارة، ويخفيها، مؤطراً ما يريد إيصاله بكادر من استعراضيّة (Exhibitionism) وسائل الإعلام وشاشات التلفزة. يركز السارد على التقنيات التي يتبناها شخص السكري في السرد، ويجعلها مشابهة لتقنيات ممثل هزلي جوّال (Jongleur) يقوم بدور الكوندوتيري، قائد المرتزقة، ونموذج لذة إرادة القوة. وبما أن لشخص السكري طابع الاستعراض، فسيترك الحديث عنه في هذا الحين، ليظهر مرة أخرى في هذه الدراسة، في فقرة المشهديّة السرديّة لاحقاً. 
ولكن كيف تندفع الشخوص، وتستسلم لتهكم ضميري السارد، وتقبل بتعريتها السرديّة الصارخة؟!! استعان السارد بآلية تعمل عمل أقنعة كرنفال باروكي. القناع المفترض هو ما يستر عورتها أثناء انكشاف فضيحتها، ويموه هويتها الذاتية وراء غشاوة من مشهديّة الصور والإيحاءات اللغوية البديلة، فتتحرر وتنعتق أمام القارئ، وتعترف، وتكشف عن مكنوناتها المخبأة بسادية/ مازوخية مركبة. وتظهر غربتها عن إنسانيتها، وقبولها الاستلاب كوسيلة دفاع تنصل بها من مسؤوليّة القيم الإنسانيّة، وتحيّد نفسها بعيداً عن تبعات أخلاق المقاومة، والتحطم كالسلمون فوق الصخور.

رأينا كيف أن الشخوص تتصرف، في كثير من الأحيان، وهي ترى نفسها كيف تتصرف، وتؤدي أدوارها، وهي لا تتكون كنتيجة للوقائع فقط، وإنما كمولد لهذه الوقائع بأخلاقها. أي أن وجهي الاستلاب الذي تعيشه الشخوص المؤتمتة لا يعوم في إنشائيّة العزلة والغياب عن المحيط والذات، فجميع الشخوص تعي بشكل من الأشكال معنى الاستلاب وتتحايل عليه، أو تقبل به، أو تستسلم له. كما أن الاغتراب في الرواية ليس ذلك الذي يفرزه انعدام التواصل الحداثي، بل هو ذلك الاستلاب القروسطي ما بعد حداثوي الذي تتسم به مجتمعات لم تمارس الحداثة بمعناها الجوهري. الأمر الذي يجعل إنسانيّة الإنسان موضوعاً مبهماً خاصاً بعجائبيّة التخيلات وأضغاث الأحلام.

*   *   *

(4) مشهدية السرد في "سلمون إرلندي"
في معرض جدله ومفاضلته بين الشعر وفن الرسم، يقول دافنشي: "الشعر يقدم صورة عبر الحروف والكلمات، بينما يضع التصوير أشكاله أمام العين على نحو واقعي (...). يقدم التصوير أعمال الطبيعة إلى الحس الإنساني، بقدر من الحقيقة واليقين يفوق ما تقدمه الكلمات والحروف. ولكن الحروف تقدم الكلمات إلى الحواس، بدرجة من الدقة تفوق ما في التصوير. التصوير شعر صامت، والشعر تصوير لا يرى"(32). كما هو معروف، يصدر كلام دافنشي عن رؤية فلسفية كلاسيّة تنزع لهندَسة العمل الفني وفق الشكل المقفل المتوازن، وترى الجميل في منطق "محاكاة الطبيعة"، وفي المنظور، والاتصال العقلاني المنسجم بين مختلف أجزاء العمل من جهة، وبين الكل من جهة أخرى. ولاعتباره أن "العين نافذة الروح" فضّل التصوير على الشعر. ما يهم السياق هنا هو الاقتراب من بعض الأمثلة في نص "سلمون إرلندي"، كي يتم التعرف على كيفيّة تعامل الرز مع مخيلة القارئ.

ذكر سابقاً، أن الرواية ترتكز على شكل التعاقب المفتوح، والتقطيع إلى لوحات لا تعتمد بنائيّاً على بعضها البعض، بل تقوم على التجاور (Juxtaposition) المبعثر زمنيّاً، وهي لوحات قابلة للتجزئة إلى عدد من المسرودات الأصغر، ويمكن النظر إليها ذهنياً على أنها لوحات حية يخططها سرد الحكاية بعلامات كتابيّة تصويريّة، لتتحرك ضمنه الشخوص وتجري فيه الأحداث. ويكتسب الجميل تميزّه في نواح واسعة من الرواية بالأسلوبيّة التصويريّة، التي تتحقق من خلال الالتباس بين المتخيّل السرديّ والمتخيّل المشهديّ. بشكل عام يمكن القول أن الكاتب أولى عناية بصريّة خاصة لتنظيم الفضاء المتخيّل ومكوناته، وتصميم مظهر الشخوص، وماكياجها، وأغراضها الدلاليّة، وتوزيعها، وحركتها في المعمار السردي، وتواصلها الجسدي فيما بينها وبين الفضاء، والتأثير المتبادل بين حركتها ولغتها الكلاميّة، ولغة إيماءات الوجه، ووجهة بصرها (ما يُرى وما تراه)، إضافة للعناصر الأخرى من موسيقى ومؤثرات سمعيّة، وألوان أوليّة، وتدرجات لونيّة، وتعارضات الظل والنور... الخ. أي ما يمكن أن نسميه بسينوغرافيا العمليّة التخييليّة، فيما إذا صح القول أن (بعض) السرد تصوير متخيّل.

من جانب، تعامل الراوي مع بعض تفاصيله السرديّة وكأنه يصف منظراً، أويعرض صوراً لغوية بصريّة سمعيّة، أويُظهر تشبيهات إيحائيّة اعتباراً من رؤية خياليّة لا يكبح جماحها منطق، بل تناوش وجود الواقع العقلاني في النص باستمرار. ومن جانب آخر، نظّم الراوي بعض المقاطع السرديّة وكأنها بنية تصويريّة، تتنوع جماليات المكان فيها تبعاً لمؤثرات الأنساق الدلالية المميزة في المشهد المسرحيّ، أو المشهد الفيلميّ، أو اللوحة التشكيليّة بتنويعاتها المختلفة وصولاً للطبيعة الصامتة، وحتى التركيب المشهديّ المتخيّل بصرياً (Installation) والمفرغ من الشخوص...

تمّ التعامل مع الفضاء المكانيّ في الرواية على أنه شيء مركب، ليس له عمق واحد/ نقطة فرار، وغير متناسق في مكوناته، وهو قابل للتفكيك وتحليل أبعاده المختلفة كلٌ على حدة. وليس بخاف على أحد، أن طبيعة التعامل مع المكان من حيث علاقته الجماليّة بالحركة والزمن في السرود المشهديّة، له أثر بالغ في الصورة الذهنية المتخيّلة لدى المتلقي، وفي توجيه قراءة الخطاب الروائيّ وإمكانيات التأويل.

يتمكن السرد المشهدي، في فضاء "سلمون إرلندي" المنهار عقلانياً، من الانتقال بإيقاعيّة مميزة بكافة الاتجاهات الزمنية، والتحرك بين الوصف، وبين النسق البصري البنائي المستمد من فنون أخرى. وبما أن السرديّة المشهديّة ودقائقها التفصيليّة النصيّة هي من الغنى بمكان يتجاوز المساحة المخصصة لهذه القراءة النقديّة، لذلك سيكتفى ببعض الأمثلة عليها وفيما يلي تنويعات على بعض المشهديّة في النص عبر تراكمات رحلتين:

مغامرة قدري الباشا مع إيمان في شوارع حلب صباح الأحداث الدامية
بعد مضي سنة وثلاثة أشهر، يفرج عن الشاعر قدري الباشا. على باب السجن يستنشق الهواء، وينسى أو يتناسى من خلفهم وراءه، لتبدأ مرحلة سرديّة انتقاليّة جديدة تمتد من لحظة دخوله مدينة حلب، حتى خروجه الأول من بيت إيمان.

يتركب فضاء المدينة في هذه المرحلة، من مجموعة من تفاصيل مكانيّة ذات زمانيّة متنوعة، تعلّمها حركيّة الشخوص، واستجابة لغة جسدها للسرد المشهديّ، الأمر الذي يؤدي لاختصار الحوار بشكل عام، وتنامي المؤثر التعبيري السردي للغة الجسد وإيماء الوجه بين الحين والآخر كنسق قابل للإدراك في هذا المرحلة.
تدور الوقائع في مدينة ليست المدينة المرجعيّة في الواقع، فحلب ليست حلب السوريّة، رغم العناية بتوثيق أسماء الشوارع، والعمارات، والمقاهي، والساحات. فكما ينكمش الوجه الإنساني المذعور، ويفقد ملامحه اليوميّة المميّزة، ويصبح تجريداً لهول الرعب، كذلك تفقد المدينة سيمياءها المألوفة وتجرد إلى مدينة ترزح تحت عنف سريان قانون الطوارئ، وتؤسلب لمكانٍ موحش غير مأهول وغير معروف. كما أن المدينة لا تملك منطق الوحدة المكانيّة المنسجم جمالياً، فالسرد يبدل من خصائص المكان الذي تتحرك فيه الشخوص. حيناً تتسم صورة المكان المتخيّل بطابع استعاريّ، وحيناً يكون أقرب للمكان المسرحيّ أو الفيلميّ في المخيلة، لينقلب إلى مكان تشكيليّ في ركن من أركان المعمار السردي..

تصور حلب في السرد كمكان خياليّ، تتواجد فيه الشخوص (قدري الباشا، إيمان، العمة، زوج العمة)، وأشكال (Figures) عابرة من عسكر، و"قطيع" من نقاد، وشعراء، وتجار غنم... جميعها توحي بأنها حقيقيّة رغم لامعقول العنف الذي يحيط بها. وكأن المدينة بكليتها فضاء تصويريّ سُطِّحَ منظوره فرسم ببعدين، ونصب كخلفية لمضمار حركيّة شخوص الرواية في سرد يتدفق من ذاكرة السارد البعيدة.

إن انفصام الوحدة المكانيّة بين مضمار الشخوص وخلفية مسطحة لمدينة حلب (تَجاهُل المنظور، وعدم مراعاة خداع البصر Trompe l'oeil) يثير تناقضاً في استقبال مخيلة القارئ التي تكوّن الصور المكتوبة، الأمر الذي يعيق تماهيه العاطفي مع سلوك الشخوص، ويجرّد تركيزه على كيفية سلوكيتها في المصادفات السردية المهشمة والمتعاقبة، بل ويجعل من نفس الشخوص الروائية مراقب أو متفرج على سلوكها الخاص في المواقف المجزأة.

منذ وصول الباشا الساعة التاسعة والربع إلى حلب الغارقة في الظلام، ومن ثم دخوله إلى بيته، وحتى عثوره على تكسي في الصباح التالي، لتقله إلى موعده مع إيمان، يؤكد السرد باستمرار الزمن الكرونومتري، وكأن شخص الباشا لا يكتفي بإعادة اتصاله مع الحياة خارج السجن عبر خطوط الهاتف فقط، وإنما أيضاً عبر إمكانية قياس الزمن بعقارب ساعة تتفق عليها الإنسانيّة جمعاء، لينفلت منه هذا القياس كلياً ما إن يبدأ غمار أوديسيته الغائيّة إلى فرج إيمان، بالتوازي مع مسارات عنف الاحتواء العسكري لعنف الإخوان المسلمين في مسارب فضاء المدينة.

قبل أن يتم تناول رحلة الباشا في شوارع حلب صباح الأحداث الدامية، لا بد من القول أن سرد أفعاله المتلاحقة داخل بيته يحيل للمشهد الفيلمي المتصل، والمصوّر ضمن ديكور واحد لا يتغير، وهو ما يعرف باللقطة المرحلة (Sequence). والقفزة السينمائيّة المنجزة في هذا الداخل/ البيت، مع عودة الباشا للقيام بيومياته الاعتياديّة، طعّمت السرد في هذا المقطع المشهدي بنكهة اللامعقول: لا معقول إعداد قهوة صباحٍ مر عليها سنة وثلاثة أشهر. بمعنى أن الرجوع بين ليلة وضحاها لما كان، بعد صيرورة التجربة/ السجن، وكأنها لم تكن، يشير إلى احتمالات أن تكون هذه التجربة حكاية مختلقة من قبل السارد (ضمير أنا المتكلم لشخص الباشا نفسه)، أو أنها ضرورة إنشائيّة، من قبل الكاتب، تتغيا إضافة واحدة من كليشيهات السيرة الذاتيّة للمثقف اليساري في رواية "سلمون إرلندي".

يتحرك الزمن، أثناء ركض الشاعر مع إيمان في شوارع حلب، كمسار فيلمي، يُقطَع تدفقه، بالنسبة لقدري الباشا، عندما يهوي خلف إيمان المنبطحة على بطنها، بمحاذاة "إعدادية الحكمة". يستمر إيقاع زمن العسكر بالحركة سماعياً، بينما يتوقف زمن الشاعر عن الحركة بعد إغماضة عين وفتحها، في مشهديّة تشكيليّة، أو لقطة سينمائيّة مقربة لمؤخرة إيمان، وهي مشهديّة/ لقطة مصورة أفقياً بثلاثة أبعاد، اعتباراً من وجهة نظر الباشا/ عين الكاميرا بين فخذي إيمان المنفرجين ذعراً(33). سردياً هناك تحوّل في طبيعة الراوي: يترك السارد (ضمير الأنا) لشخص الباشا (ليبيدو الأنا) مجالاً خفياً، ليقيم معارضته المقلوبة للوحة "أصل العالم" لغوستاف كوربيه Gustave Courbet، من خلال وصف تشكيلي/ لقطة مقربة لمؤخرة تؤسلب المرأة كموضوع جنسي بحت، دون أن يفوت التلميح هنا إلى أن المتخيّل الجمالي لعجيزة إيمان يتكئ لونياً على تناقضات النور العتمة (Chiaroscuro).

"بدأ سواد عميق يشع أمامي تحت تنورتها المشمورة. كان ينبئ عن نفسه ظلام جميل من فرجة بين فخذيها البيضاوين. وكان خيطان مؤلمان من ظل واهن يصعدان من بينه، ينحنيان ويرسمان حدي أليتيها ثم يذوبان في ضوء وركين ممتلئين. أقلقتني لحسة خفيفة من النور في وسط الفرجة الفاحمة"(34).

لعل الاستيهام السردي لليبيدو أنا الباشا، الذي يقوم على شَرطيّة المرأة/ عضو المؤخرة، يعني استلاب وتشيؤ كيان وجسد إيمان الكلي، ولكنه بنفس الوقت يستبطن اغترابه كذات عن موضوعه المكتشف/ عضو المؤخرة، فقذفه المبكر ما قبل الناضج (Premature ejaculation) لاحقاً في فرج إيمان، وطردها الذكوري له يجبره سردياً، على التنازل عن مهمة مقاربة مضمون هذا "الجمال المضمر" مجازياً، لشخص آخر هو سعد البصري، الذي سيلج السرد في لوحة قادمة، آتياً بأزمة هويته الجنسية وتردد إيغاثه/ رعشته فيما بين إليتين وهميتين. لا يقطع طول شَمَق (Euphoria) الباشا التشكيلي، أو ضبط لقطته المقربة على رصيف "إعدادية الحكمة"، إلا تبول إيمان المرعوبة بفعل رشقات من رصاص مرّ فوقهما كمعادل موضوعي لقذف متخيل، مرغوب سردياً من قضيب الشاعر نحو موضوعه. أما عيون جموع الجنود التي تحركت بهم الناقلة العسكرية، والمسمّرة بين فخذي إيمان المنبطحة على بطنها، فتعادل عيني الشاعر، بينما أسلحتهم المنتصبة والملقّمة هي معادل قضيبه المتشبّق، من هنا يمكن القول أن ليبيدو أنا الباشا المنبطح أرضاً يتناغم مع استيهامات العسكر/ القوة العمودية، لتحضر ثقافة الذكورة الأقوى سلطوياً، كمرادف للقوة الجنسية.

ينطلق الباشا وإيمان من جديد، وبعد عبورهما جسراً مقنطراً يصلان إلى نصب قسطاكي الحمصي التذكاري. يحيل التمثال الذي يجمع في شخصه الكاتب، والشاعر، والناقد "الجسور" ـ رغم أنفه المجدوع (ربما بفعل الزمن) ـ إلى استعارة حداثةٍ آفلة، يُرى مستقبلها في حاضرِ ثقافة تجمع في صورة واحدة: كتاب، وشعراء، ونقاد، مع تجار أغنام، وهم يلوذون تحت الطاولات في مقهى القصر في حلب.

تصل الرحلة إلى المحطة المشهديّة المكانيّة، التي تدور في بيت خالة قدري الباشا، في إحدى الأقبية المظلمة الدفراء، وبذلك تصبح حلب فضاء مفترضاً في الخارج. كما هو معروف دُرِجَ في سوريا على استعمال تعبير: "أخذوه إلى بيت خالته"، للإشارة إلى اعتقال شخص وإيداعه السجن. ولعل مرافقة السارد/ الباشا لإيمان إلى بيت خالته، يستبطن اعتقالاً لشخصها كامرأة، وإيداعها سردياً إحدى المشاهد الأكثر تمثيلاً للثقافة السوقيّة (Vulgarism) في مجمل الرواية. تتكئ جماليّة تصوير قبح ورداءة ذوق "الحضيض" على إيصال دلالات الصورة الإحساس إلى أقصى درجات التطرف. يُصوّر ما يدور في بيت الخالة وكأنه يجري فوق خشبة مسرحيّة تستنسخ راهناً ثقافياً مطلقاً، وتدعو حواس المستقبل الخمس للمشاركة في عملية التخيّل. هكذا تُوصَف هيئة الشخوص، وتُرصّ في إطار بيئة محكمة التصوير ذات نزعة طبيعيّة، وتوزّع في وسط تتحكم فيه تدرّجات العتمة وعمق اللون والضوء الواهي، ويُترك للسارد مهمة قيادتها إلى التدمير الذاتي بذات سوقيتها الجيوفيزيائية القَبويّة المتعالية. فعلى سبيل المثال، تُدمّر استمرارية صورة اللحظة الانطباعيّة للنور "الأخضر الكليل" الساقط على بروفيل الخالة السماوي الورع، مباشرة حينما تنطق صورتها الصوتيّة مخاطبة زوجها: "بتحسن تحط خرا بحلقك وتسكت؟"(35)، لتنتقل بعدها للترحيب ببشاشة بالزوار الطارئين، لتتشوه ضيافتها الممسرحة إلى تصور مرغوب بأن تسدّ فم إيمان الضاحك بشحّاطة البلاستيك.

أما زوج الخالة فيتداعى طوال السرد المشهديّ من سوقيّة أخلاق (Ethics) إلى أخرى.. سوقيّة تعلّم شواخصها روامز سلوكيّة ترافق كلامه، للدلالة على مفهومه عن امرأة كليّة توزع أخلاقه بين وجهين لعملة واحدة: حقيقة احتقار زوجته "الطاهرة"، وحقيقة زيف احترامه لإيمان، التي يجزم في دخيلته أنها عاهرة "محتقرة". تعود صورة المكان لتأخذ طابع الحركة الزمنيّة بالخروج من القبو، واستئناف الرحلة باتجاه بيت إيمان. يضيف المونتاج المسرود في السيارة إلى فضاء حلب الكلي فضاءات ذهنية صغيرة ومتواقتة: ما تتخيله إيمان، ما يحدس به السارد عن زوج الخالة، وحلم اليقظة المفترض لزوج الخالة. أما المصعد الذي سيعلو بالباشا إلى بيت إيمان فيستبطن هبوطه أو حلم من أحلام السقوط. وما طرد إيمان للباشا، بعد الصور المونتاجيّة للمجريات الجسديّة بينهما، إلا نتيجة لخيبة تصورها المسبق عن الشاعر/ المثال الجنسي، وقد كشفت لها التجربة مع الرجل فيه مدى انخداعها به. ومن جهة أخرى، يبدو أن ردة فعلها بعد انتهاء الممارسة الجنسيّة، ما هو إلا ثمرة تربية ذكوريّة تتحكم في رؤيتها لموضوع الجنس وذات فاعليه. كذلك الأمر وإن كان على نحو معكوس بالنسبة لقدري الباشا/ الرجل الذي يستند على الشاعر في محاولته استبدال ذات إيمان في الواقع، بموضوع شعري في قصائده، متحايلاً بذلك على رجولته "المهانة"، ومؤكداً بنفس الوقت استمرار انفصاله الشعري عن الواقع.

بعد الطرد، يعود الباشا للمرور وحيداً على محطات رحلته السابقة، كشاعر يقف على أطلال المحبوب، ويبدو عشقه لامتلاك موضوع عصي على الاستحواذ، كشكل من أشكال مازوخية تراثيّة تغور شعرياً في أعماق لذة اليأس، وعدميّة موضوع إيمانه.

سرحة رغداء الروحيّة مع سيرة المسيح ودرب الآلام، وفي أن تكون أو لا تكون في المرسم.
تمتد الرحلة من باب الدير المقفل حتى كابين الهاتف في ساحة السبع بحرات، وفيها يروي السارد، مرتداً نحو الماضي بتقنية الـ (Flashback)، بضعة أحداث في سيرورة حكاية رغداء في دمشق العاصمة في اللوحة الثامنة. وقبل مرافقة الراوي في هذه الرحلة، سيتم التمهل بغية الاقتراب من التمهيد والدافع لهذه السرحة المغامرة.

في المقطع الذي يسبق عودة السرد خلفاً لتنظيم الرحلة، تنتظم الأحداث في فضاء محترف الرسام في دمشق، وهو فضاء كلي يعتمد فيه الراوي ضمير الغائب لسرده (وضمير السارد الغائب هو واحد من التبدلات، التي طرأت على رغداء بعد قدومها إلى دمشق، لأن السرد كان قد ترك لها ضمير أنا المتكلم في اللوحة الخامسة، المعنونة "رغداء تريد أن تصبح شاعرة"، وكأن لهذا التغيير ارتباط باستلابها في العاصمة من قبل الفن، والأدب كما سنرى). تتخلص رغداء الموديل، بتحريض نزعة أبيقوريّة سرديّة مدققة، من سروالها الأزرق القطني الداخلي، كي لا تعلّم آثار حوافه البارزة على حرير شلحتها أثناء رسمها. يحيل أزرق السروال القطني إلى بقايا أزرق رومانتيكيّة برنس عسّاف، أيام الحب الأول والهوى للشعر، في اللوحة الخامسة، قبل قدوم ابنة موظف الجمارك إلى دمشق(36).

 ثم ترتقي رغداء الطاولة الخشبيّة، "وعندما استوت عليها أظهرت شلحتها الخضراء المنقطة بزهور صفراء كم هي قصيرة على قامتها وكم هي مناسبة"(37). يقود السارد عين القارئ الذهنية لتغيير زاوية النظر، مما يؤدي لاختلاف الاستقبال من رؤية ذهنيّة موازية لرغداء، إلى رؤيتها من زاوية منخفضة، ترفعها إلى مقام يتعمق فيه الانطباع بقصر الشلحة بفعل إعلاء حضورها الجسدي. وتشي خلفية هذا التلاعب باختلاف الواقع العياني المفترض عند تحوله لمشروع واقعٍ فني. تستلقي رغداء في مرسم الفنان كموديل لجسم امرأة. وتتم عملية الرسم سردياً من قبل كلٍ من الرسام، ورغداء التي تمارس تأثيرها في مجريات العملية بكيفيّة تقديم نفسها. يحاول السارد تكويّن السرد في فضاء المرسم، مستفيداً من تقنيات بنية لوحة تصوريّة آخذة بالتشكل. ويمكن القول أن المحترف يمثّل الفضاء الكلي، الذي تتحرك فيه خطوط السرد، ويتواجد فيه ثالوث (الفنان، رغداء، رفيق السكري)، ومن ثم يتجزأ هذا الفضاء الكلي في البنية السرديّة إلى فضاءات متخيلة، ومتداعية من ذهني الموديل وكاتب الرواية التاريخيّة.

يحضر رفيق السكري في فضاء المرسم، كتشخيص لخطاب هذا الفن، حيث يترجم وجوده محتوى الشكل بدلالة رموزه القوميّة التي يتسلح بها (قفة الأيور كمجاز لبلاغة/ بذاءة قطع دابر الاستعمار)، والإيحاءات المتخيلة التقليدية (الطربوش والنرجيلة) المتعايشة بالتكافل مع رموز الحداثة (القبعة والغليون). وهنا يُترَك هذا المقطع السردي المتخيل بصرياً، كتسوية تناصيّة لجدل النصوص الدلاليّة بين أفضلية اعتمار (القبعة)، أم (الطربوش) في بورتريه تاريخ الحداثة العربيّة، وكإشارة غير مباشرة لطبيعة ومرجعيّة الرؤية التاريخيّة التلفيقيّة في روايات رفيق السكري.

ويمكن القول أن وصف فضاء المرسم، أثناء المحي الرمزي الذي تقوم به رغداء لموجوداته، يشير لتناص بصري مضمر مع اللوحات العالمية الفنية التي خصصت موضوعها لتصوير مرسم الفنان(38)، كما أنه يحاور مفهوم الانعكاس في لوحة "الوصيفات" (Las Meninas) للاسباني دييغو بيلاثكيث Diego Vel?zquez.

وتأتي محاولة رغداء الذهنيّة في السرد لتفريغ المحترف كرغبة منها لاحتلال بؤرة اللوحة الرئيسيّة، وعدم تقاسمها مع أي غرض، أو كائن، أو أية لوحة أخرى معلقة في المرسم. وتوظف إغراء جسدها واستقطابه الحار لخداع الرسام، إلا أن عدم قدرتها على محي وجود رفيق السكري، يعني المؤثر المتنامي في سبعينات الزمن الحكائي لرؤية مؤلف الرواية التاريخيّة في مصير اللوحة التي يتم إنجازها.

يقدم نفس المقطع حواراً لونياً متعدد الاتجاهات بين أحمر (طربوش السكري، والشمس، ومخدة الساتان، وجسد رغداء)، كما يقدم حواراً بين أخضر الشلحة المونّسة بزهور ذهبية، وبين أخضر المرج وزهوره الصفراء(39). وتجعل ترميزات النور والألوان التي تقوم مقام الظلال من جسد رغداء مجازاً تمثيليّاً خالصاً في التصوير التشكيلي. ومن جهة أخرى، هناك جدل لوني يتولد في مخيلة القارئ، عند تصوّر الأحمر فوق قماش الرسم، والذي يستدعي لونه المتمم، وهو الأخضر. وكما هو معروف، فإن تجاور الألوان المتممة، يقود التضاد اللوني إلى حدوده القصوى، وكأن جسد المرأة المتماهي في خصوبة الطبيعة، يعاني من هذا المجاز، والتنميط.

هكذا تتمدد رغداء كجسد غير مكتمل فوق قماش الرسم، وتكمن قضيتها في عاملين أساسيين:

1. نسبة الألوان الحارة إلى الباردة في اللوحة (الأحمر، أصفر الزهور، أخضر المرج، أخضر الشلحة، أزرق السماء...)، لما لهذه النسبة من تأثير على التكوين التشكيلي والرمزي المتخيّل سردياً.

2. فن يخادعها، ولا تنفع معه خديعتها ودموعها، لتأكيد فرادتها برسم رأس يحمل ملامحها المميزة. وبالتالي مقاومة الاستلاب الذي يحاصرها في اللوحة.

يحيل تصوير رغداء/ الأنثى كجسد بلا رأس في السرد، إلى تناص تصويري مضمر ومقلوب ليوحنا المعمدان/ الذكر، والذي غالباً ما رسم رأسه المقطوع في مختلف تيارات الفن التشكيلي وغيب جسده عن الحضور.

كما هو معروف، يشير الجسد في الدراسات الباختينيّة إلى ما هو سفلي ومادي (وضيع، وقبيح مرذول، وديونيسي غريزي حسب كل من أفلاطون، والمسيحيّة، ونيتشه على التوالي)، بينما الرأس يمثل ما هو مثالي وذهني (رفيع، وجميل روحي، وأبولوني عقلي حسب أفلاطون، والمسيحية، ونيتشه على التوالي)، وأن الأدب الرسمي ارتكز على البعد المثالي النخبوي، بينما مثلت الفنون الغروتسكيّة الكرنفاليّة حالة انعتاق جسديّة شعبيّة من سيطرة أيديولوجيا الرأس المكرسة. وبالمحصلة أكدت الدراسات الباختينيّة على ضرورة تلازم بعد (الجسد/ الحس/ المادة) مع بعد (الرأس/ الذهن/ المثال) في الأدب والفن. في حالة رغداء الموديل، تجري الأمور على نحو معكوس، فغروتسك الحالة الفنيّة يكمن في تكرار تصوير كليشيهات جسدها، وتحجيب رأسها بلصق رأس أنثوي مغاير آخر محله، الأمر الذي يعني استلابها الفكري عن صورتها في الفن الذي يدّعي تمثيلها. من هنا تبدأ معاناتها في سبيل تصوير رأسها المفقود، وما رحلتها السرديّة من باب الدير حتى ساحة السبع بحرات، إلا محاولة منها لاقتناء رأس/ مثال لها كي تكتمل صورتها الناقصة، بتحولها لمثقفة برأس سافر قادر على التفكير. وعليه فإن ورشة الرسام تشكّل الفضاء الكلي (نسق تشكيلي)، والاستهلال الذي ينطلق منه الراوي لسرد حكاية رغداء في بحثها عن الرأس المثال.

يكشف الراوي للقارئ أن عملية التكوين السردي، تنجز من خلال تداخل ابتكارات الخيال مع معطيات الواقع الملائم، لخطاب صاحب العمل الفني: "ماذا يضرها لو كانت لها أم مثل أمها وعمة مثل عمتها وزوج مهجور مثل عساف؟ ربما يضرها، وربما سيتأثر المرج الأخضر الذي يحيط بها من أنها سكنت الدير سنتين بعد مجيئها إلى دمشق، لعل الأفضل أن لا تكون قد سكنت في الدير سنتين، فهل سكنت في الدير أم لم تسكن؟ هل أحبت هناك الخوري الإيطالي أم لم تحب؟ أي الاحتمالات أجدى لكي يرسم الرسام رأسها الآن؟"(40). بعد اعتماد احتمال سكن رغداء في الدير، ووقوعها في حب المبشر الإيطالي. تقصد الوصول متأخرة عن موعد إغلاق باب الدير، وترجو في سرها أن لا تستجب الراهبات لقرعها، "لأنها أحبت أن تظهر بسيماء الشهيدة الطريدة في سبيل الحب. ومن أجل هذه الغاية نزل عليها مطر ضروري شديد، ثم كان رعد وبرق ورياح فتركت باب الدير ونصبت على جناح السرعة وهي تمشي في زقاقات القيمرية خيمة من ريشات موعظة الأحد. دخلت فيها فكان في الخيمة يوسف يحمل سراجاً وعلى السرير الخشبي تجلس مريم وفي حضنها الوليد يسوع. قال يوسف: ظهر لي ملاك الرب وأمرني أن نهرب معاً إلى مصر (...)، فسقطت رغداء الخادمة عند قدمي مريم وسفحت عليهما دمعاً حاراً وهي تتوسل للسيدة أن تمتثل لكلام الملاك. فذهبوا جميعاً إلى مصر"(41).

يشكل الاقتباس السابق الخطوة السرديّة الأولى لإدراج فضاء سيرة المسيح المتشعبة، وفضاء شوارع دمشق المتفرعة ضمن فضاء المرسم الكلي. ومنه يمكن تفكيك الأفكار التالية، والتي ستؤثر على التشكيل المشهدي السردي لاحقاً في محطات السرحة الروحية:

الشهادة هي فكرة وغاية، وليست وسيلة. والسيمياء هي مظهر بصري حسي (متخيل ذهني في السرد)، ولكي تحمل السيمياء فكرة لا بد من سياق يتحقق فيه مفهوم الفكرة. لذلك فصورة هيجان الطبيعة ضرورة وحاجة ماسة، لاكتمال المعنى البصري الذي سيتوج بـ "سيمياء الشهادة"، وبتعبير أخر: سيمياء الفكرة.

صورة خيمة ريشات موعظة المبشر الإيطالي اللغوية البصرية، ترمز للخطاب الفكري، وتشير لتناص مع الإنجيل كما يرويه المبشر الأوربي الغربي. وبالمجمل، الخيمة المنصوبة هي دلالة بصرية لشمولية الرؤية اللاهوتيّة التي تحيط مغامرة رغداء الفنيّة.

داخل الخيمة ينقل القارئ إلى الفضاء السردي لسيرة المسيح (يمتد الزمن 33 سنة)، وهو فضاء ممسرح (محاكاة إيهامية)، قابل للتخيل الذهني كحيز للعب، أثناء تواصل القارئ معه.

زقاقات القيمرية، وغيرها من محطات اسميّة لاحقة، تنقل القارئ إلى فضاء رغداء في العاصمة المغيّبة تقريباً في الصمت (الزمن يمتد لساعة ونصف تقريباً من الليل)، فيما عدا الحضور السماعي مرتين لجمهور مباراة كرة القدم، في ملعب العباسيين.

وما يدعى هنا بمشهديّة سيرة المسيح السرديّة، يعلن ـ تجاوزاً ـ استناده البصري على تراجيديا إلهية مقدسة، تتمخض عن ساتيرة إنسانيّة غروتسكيّة قابلة للإدراك في فضاء دمشق. كما هو معروف، التراجيديا هي "محاكاة فعل جليل"، ورحلة رغداء تنطوي روائياً على هذا النظام المأساوي، حيث يدفعها السارد لمحاكاة سيرة المسيح بـ "هلوسات" سرديّة بصريّة، ولا يُكتفى بذلك، بل وتلعب أدواراً مختلفة في هذه السيرة، كأنها ممثل محترف يتقلب بين أدوار مختلفة في مسرحيّة ملحميّة. كل ذلك يعمل على تشتيت ثالوثي لهوية رغداء: بين خالق السيرة المسيحيّة الفنيّة، وبين مؤد لأدوار مختلفة فيها، وبين راوٍ للسيرة الإنجيليّة الجليلة. هذا التمزق الباروكي هو ما يفتح أمام القارئ إمكانيّة تخيل تناصات تقنيّة متزامنة، تحقن المشهديّة الروائيّة بأنساق فنيّة متنوعة، تعود مرجعيتها لفني المسرح، والسينما.

تتكون المغامرة، من الدير إلى ساحة السبع بحرات من تتزامن الفضاءات التالية:

  فضاء المسيح في السيرة الإنجيليّة (تناص ديني مقدس)، وفيه تحضر أصوات الجماهير المتراصة في ملعب العباسيين، للإشارة للعامة الثائرة ضد المسيح/ رغداء، بعد مثوله أمام رئيس الكهنة للمحاكمة، ومن ثم صلبه.

فضاء البطل الإيجابي في تاريخ الأدب (تناص مع الأدب المكرس)، وهو فضاء مضمر، وفيه تلعب الجماهير المحتشدة في ملعب العباسيين دور الشعب الثائر، الذي يسير ذهنياً وراء البطل الإيجابي/ رغداء.

فضاء رغداء ليلاً في طرقات دمشق، وهي تتقدم باتجاه ساحة السبع بحرات، إلى مصيرها الحتمي بانتهاك جسدها، والاعتداء الجنسي عليها، وتحولها القدري بعد ذلك إلى مثقفة مفترضة. وفيه تلعب سماعياً الجماهير المتراصة في ملعب العباسيين، دور الجمهور المتفرج، على المباراة الدائرة فيه.

تستبطن هذه الفضاءات البصريّة المتخيلة قول القربان، ويبدو السارد فيها متشظياً لاستخدامه التقنية الفيلميّة زمنياً (تزامن الفضاءات جميعها)، والتقنية المسرحيّة مكانياً (محاكاة السيرة داخل الخيمة، ولعب رغداء لأدوار مختلفة فيها)، ووحدة الفعل سردياً المعتمد على منطق العلة والمعلول لتحقيق المصير القرباني.

وتتحقق السرديّة المشهديّة، لهذه المغامرة جمالياً، من خلال الرؤية المسيحيّة للحياة، بوصفها رحلة تراكميّة متعددة المحطات، يكافح فيها الجسد من أجل التعبير عن العقل/ الرأس/ المثال. كما أن هذه الجماليّة تتحقق شكلياً عبر التخلص الواعي من الانسجام الكلي، وانحلال التوازن المشهدي، والاحتماء بالإغراب والاكسترافاغانزا (Extravagance)، والتداول الحر للأنساق المكونة للفضاء المكاني بمقتضى اللحظة السرديّة، على نحو يشابه عالم الأحلام، أو المونتاج السينمائي، أو حتى النزعة السورياليّة التصويريّة.

ذهنياً، يستمر تخيّل دق المسامير على الجسد فوق الصليب "دكْ... دكْ... دكْ..."(42)، بدوام تخيّل عملية انتهاك جسد رغداء أمام البنك المركزي، إلى أن تخترق نافذة المرسم حجرة عرضية، كمعجزة تقطع استغراق منطق العلة والمعلول، وتوقظ رغداء ورفيق السكري على فضاء المرسم. "ولكي يثبت (رفيق السكري) أن حريته التي بدأ يتمتع بها قابلة للتجريب دوّر كفه اليمنى حول فمه على شكل مكبر صوت ولعلع بخطابية مهيبة:..."(43).

ينقلب رفيق السكري ليلعب دور المرشد، الذي يقود جموع مفترضة من السيّاح، ويلقي عليهم خطابه، عبر ميكروفون متخيّل، حول حياة وعمل الفنان غوستاف كليمت. ويروي أن البورتريهات الثلاث التي أنجزها كليمت بين عامي 1904 و1908 قدمت تجديدات فنيّة، بتناول ملامح واقعيّة لوجوه أنثويّة، محاطة بنمطيّة التجريد البيزنطي. ومن ثم يلقي بلا مقدمة، ولا رابط معلومة انهيار الإمبراطوريّة النمساوية سنة 1914.
إن الكلمات التوثيقيّة، التي يتركها السارد على لسان السكري، تترك الباب مفتوحاً أمام القارئ لتذكر، أو مراجعة أعمال كليمت التصويريّة التي جاورت البعد المحاكي (Imitative) والبعد الزخرفي (Ornamental)، وبنفس الوقت تستحضر هذه الأعمال بدورها الحواريّة التاريخيّة والجدل غير البيزنظي بين منهجيّة واقعيّة فنيّة "بلا ضفاف"، وبين نزعة هندسيّة تجريديّة شعائريّة. بالتوقف قليلاً هنا، نتذكر أن السرد، في كليّة الرواية، حاول التحرك بآلية مشابهة للوحة كليمت، أي ضمن وحدات مشهديّة واقعيّة، تلتف حولها مشهديات فانتازيّة رمزيّة، مغالية بشطحات الخيال.

من فضاء السكري الخطابي الإعلامي، ينتقل السارد إلى فضاء رغداء المنفصم بين المرسم، وبين فضاءات (المسيح، البطل الإيجابي، المرأة المغتصَبة): "ثم صارت رغداء تلهث تحت الدك (...) فانفجرت بالبكاء مستغيثة بالرسام: خلصني... خلصني... خلصني...

قال الرسام: لن أرسم رأسك.

فاستنتج رفيق السكري (...): لن تنهار إذاً أي إمبراطورية نمساوية مرة ثانية.

توقفت رغداء عن البكاء (...) نزلت عن الطاولة الخشبية (...) وخرجت ولكنها أبقت على الباب موارباً لكي يتبعها رفيق السكري فتبعها (...) قالت رغداء: أبي ليس رزق الله اسحق (...) أبي عازف كمان...(44)".

المشهد الحواري السابق يشير إلى:

ديمومة اغتراب رغداء من قبل فن نمطي مضاد للفردية.
فشل رغداء رغم قربانها في الحصول على رأس مفكر، يمتلك خطابه الحر.
الربط اللاعقلاني، بين الفن الذي يعبر عن الواقع، وبين انهيار كيان الإمبراطورية الحكم الأوتوقراطي.
حرية التعبير في الفن، وقيامه بدور غير مستلِب (رسم رأس رغداء) يعادل خيانة عظمى قد تفجر حرب عالمية، على نحو مشابه لما حدث عام 1914.
تحيل الإمبراطورية النمساوية إلى كل إمبراطورية قديمة، أو جديدة. بمعنى أنها تحيل إلى مفهوم الحكم الفردي التسلطي.
الربط بين المثقف الحر، وبين انهيار الحكم التسلطي. والأمر نفسه بين المرأة القادرة على التفكير الحر وبين انهيار هذا الحكم.
إدراك رغداء لمؤثر خطاب رفيق السكري، يدفعها لترك الباب مفتوحاً له بقصدية انتهازيّة لتقيم علاقتها معه (في بداية عقد السبعينات). (وإغلاقه في نهاية الرواية في العقد العاشر بعد وعيها التجريبي معه).
أسطرة رغداء لسيرتها وواقعها، تقدم نموذجاً مصغراً لغرائبيّة مجتمع يعيش عزوفاً تاماً عن فكرة الصيرورة، وغرقاً في وهم وزيف التحولات الكبرى (الشاعرة، الرسامة، المثقف/ النبي).

هكذا تفشل مغامرة رغداء، في الآن الذي تخسر فيه سوريا مباراة كرة القدم. ويغدو السرد المقطعي للمغامرة، بحثاً مشهدياً تجريبياً، غايته معارضة هجائيّة تفكك شكل السرد المكرس، ومحاكاة لتقنيّة الاغتصاب والاغتراب السلطوية المنحطة.

ويمكن القول أن الرواية تتميز بأفق واسع في رؤيتها، لعلاقة الجنس الروائي مع الأجناس الأدبيّة والفنيّة الأخرى، لدرجة تبدو معها الحدود منفرجة فيما بينها، مستفيدة بذلك من الانزياح التاريخي المستمر، للجنس الأدبي والفني الأرسطي المغلق، وانفصال الأنواع واستقلالها، نحو الانفتاح المعاصر على التصنيف تبعاً لأنواع الخطاب، وأسلوبيّة معالجة الشكل.

قبل الانتقال إلى مقاربة نقديّة أخرى للرواية، تحضر كلمات لويس بونويل إلى الذاكرة عندما قص في مذكراته "زفراتي الأخيرة" (Mis ?ltimos suspiros): "دعاني دالي لقضاء عدة أيام في بيته، ولدى وصولي إلى فيغيراس، رويت له حلماً كنت قد رأيته قبل فترة قصيرة: غيمة تقطع القمر، وموسى حلاقة تشق عيناً. وقال لي بدوره أنه في الليلة الأخيرة رأى في الحلم يداً ملأى بالنمل. وأضاف: "إذا انطلقنا من هذا، هل نستطيع أن نصنع فيلماً؟"(45).

من هذه الأحلام تشكلت مشهديّة الفيلم السوريالي، الأول في تاريخ السينما: "كلب أندلسي" عام 1929، ومن منطق تخيلات مشابهة، تكونت المشهديّة السرديّة في رواية خليل الرز "سلمون إرلندي" عام 2004.

*   *   *

(5) زفيف اللغة والكلمات عبر السطور
في اللوحة السابعة، المعنونة "رغداء لا تريد أن تكون يائسة في عشاء قدري الباشا الأخير"، يعرض المونتاج الحواري تقاطعاً لحوار قصير، يدور بين رئيس المنطقة، وبين رزق الله اسحق من جهة، مع حوار دائر بين العمة، وبين المدام سوزان من جهة أخرى(46). يوحي هذا التقاطع ـ للوهلة الأولى ـ بمعارضة للحواريات اللغويّة في مسرح اللامعقول، المفرغة من المعنى، لانعدام التواصل الإنساني. ولكن المتأمل في الردود، والإجابات في هذه الحوارية من "سلمون إرلندي" يصل لنتيجة مفارقة لأعراف حواريات العبث، بمعقوليّة الإجابات، والتعليقات المتناوبة، والمنزاحة عن وجهتها، لعل السبب يكمن في أن مدام سوزان، التي تّرِك لها دور القحبة، تقابل رئيس المنطقة كمرآة له، بينما العمة التي تتصدى لدور مشروع عاهرة مبتدئة تقابل موظف الجمارك كمرآة له. من هنا فإن تناوب الردود يمتلك معقوليّته، وانسجام تواصله اللغوي، كأنه حوار بين شخصين، أو كأنه حوار المرايا للمرايا، بالآن الذي ينسرب فيه قول "البغاء السياسي" من البنية العميقة.

يبدو أن الكاتب يخوض تجربة الكتابة، وهو يتلذذ بالتلاعب بالقواعد، والأنظمة النحويّة والدلاليّة. يتنازل عن أحاديّة النص لصالح تعدديّته، رغم اختزاله تعدديّة الأصوات بتأثير مساواة الشخوص الروائية في الاستلاب.

إنها باروكيّة لغويّة جديدة، تعمل عمل متاهة تلفظ ألفاظها، وأنفاسها الحيّة، وتكتب السرد بتقنية وشم ينتهك الكتابة النمطيّة المستقرة، فتتحرر النصوص في الرواية من محاكم التفتيش الذهنية، لتقول الكثير في جميل القليل.

يُمارَس السرد كطقس سحري مؤلم، يغور فيه الوشم، ويتلوى معيداً تشكيل مرايا الطبيعة/ الواقع و"يشوهها" بلحم الكلمات، فوق نسيج الورق وفي ذهن المتلقي، إلا أن هذا الإيروس السردي الحيوي، يراوغ بكل وسائل الغروتسك كي يغلِّف الألم بضحكة راقية، ومتعة خفيّة. يمارس الغروتسك في "سلمون إرلندي"، كفلسفة جماليّة، وتمرد حِرَفي يصوغ مادته من رصفٍ مونقٍ ولمَّاحٍ للكلمات، ومن دهشةِ فجاءة الإحساس، ومن كتابة ساخرة سوداء متشكلة من الصور والأصوات... لكسر الثوابت اللغويّة، ورفض روح الشيخوخة فيها.

لعلها رواية سوداء ساخرة جديدة، تتحرك فيها شخوص هامشيّة مهمّشة، يحملق كل منها في الشخص الآخر، ليرى صورته، ويقرأ طالعه... شخوص لا تعرف اتجاه ظرفها في الواقع، رغم أنها تدرك حراك آليّة فساده التاريخي.

تُوظَّف في الرواية السخرية اللغوية التي تحاك من (الكلمة، والجملة، والصورة)، كما يحاك الرسم من (الظلال، والنور، واللون)، حتى تصل إلى الإيقاع المطلوب، لا لتثير رعشة في المشاعر، بقدر قضّ مضجع السبات العقلي أثناء عملية التواصل. ولتحقيق السخرية الغروتسكيّة السوداء، لا يتورع السرد عن النبش في بيان البلاغة، وشعائر علم البديع والصنعة، وتوظيفها بإطار مؤثر التغريب (Alienation Effect) نافضاً عنها غبار الاعتياد والتقديس. من هنا يزخر السرد بتجديدات تطال سخرية اللامعقول اللغوي، والسخرية الكاريكاتوريّة، والرمز، وتبديل الكلمات، والتضاد، واللعب بالألفاظ والمعاني، والجناس، والطباق، والتورية، والمبالغة، والكناية، والاستعارات، والمعارضة، والالتباس، والمفارقة، والتناقض بين ما يقال وواقع الحال، والتهويل، والمجاز، والإيحاء. يفككّ خليل الرز نظام اللغة، ويلغي علامات الترقيم إلى الحد الأقصى. ويبدل الانطباع الذي تحدثه الكلمة، والجملة بما يشحنه فيهما من طاقة سياقيّة، ووهج تعبيري تتغير من تفصيل مقطعي لآخر، لتغدو معها لغته حربائيّة المعاني، مع كل اقتراب، ومقاربة نقديّة.

الكتابة في "سلمون إرلندي" تتصدى لتناول همهمات الأحاسيس الرماديّة، رهافة الحنايا شبه المرئية، حفيف الحرير، نشوة الأذن، لفتة الجسد، رفيف العين، غصة الحلق، رائحة الـ "شوا"، عفن الأقبية، الواقع المجدور، مسوخ النمل الإنساني، التملص من فجيعة خيار "الحياة أوالموت"، وسوسة الصور، المرايا الكدرة، شاشة اللاشعور، غيابات المخيّلة، جَوبات السويداء الغائرة، دوامة العراء النفسي، تشوّف السرد البلوري، تغريب طوطمية الكلمة والمصطلح، ميوعة الفضاءات والساعات... كل ذلك بتروٍ موجز فريد، لا ينجرّ لوضوح "حسن اللياقة"، ولا لـ "الاندفاع والعاصفة"، ولا لـ "مصداقيّة" العلوم الطبيعية. تبرز البنية اللغويّة ما هو مصطنع، وشاذ، وغير مألوف في مادتها التي يدرك القارئ فرادتها إدراكاً واعياً، وتتموج اللغة ضمن مروحة واسعة، من شعريّة شفيفة إلى كلام محكي يومي، ويتفرع هذا الأخير بدوره إلى مستويات عدة، حتى يلامس بتلقائيّة فريدة السوقيّة الكلاميّة المنفّرة. وما يميّز مروحة الاستخدام اللغوي هو غياب مفهوم التراتبيّة، وترك الباب مفتوحاً للسياق كي يختار لغته الجماليّة المناسبة.

تحضر الشعريّة في الرواية من ولع يوتوبي جمالي، يتغذى من نواة تغريب الشعر في النسق الروائي. بينما تتواجد اللغة المحكيّة بالقدر الجمالي الذي تفسحه لها اللغة الفصحى/ المكتوبة بمقتضى متطلبات اللحظة السرديّة. وفي كل الأحوال لا يعني حضور اللغة المحكيّة في الرواية انعكاساً مبرمجاً للغة الواقع الحياتي، ذلك أن ولوجها في أبعاد الروامز الجماليّة السرديّة يجعل استقبالها مختلفاً عما هي عليه في الحياة العادية. ولا يخلو نواس اللغة المتأرجح بين الشعريّة والمحكيّة، من حُجب صمتٍ، ورَفـّات صورِ... تتخلل التوقيع اللغوي، لتنداح معه خواطر القارئ، ومخيلته، مشاركة في بناء الرواية، وسيمياء انطباعاتها، وما فوق تلقيها. من كل ما تقدم: اللغة في "سلمون إرلندي" هي كون مفعم بالموحيات... ركامات تتمزق حنيناً أمام جسدِ سردٍ لا يكتمل، لا تهجس بدورها كوسيلة تواصل وقول، وإنما بفاعليتها البرغماتيّة المؤثرة على كيفيّة التواصل، وكيفيّة القول: أي الخطاب.

*   *   *

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الصورة هي للوحة بابلو بيكاسو المعنونة "أرلكان يتطلع في المرآة".
(2) ـ الرز، خليل: سلمون إرلندي، دار الينابيع، دمشق، 2004، ص 179.
(3) ـ المصدر السابق، ص 27 و 182.
(4) ـ المصدر السابق، ص 183. 
(5) ـ المصدر السابق، ص 185.
(6) ـ درّاج، فيصل: الذاكرة القومية في الرواية العربية من زمن النهضة إلى زمن السقوط، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 271.
(7) ـ الرز، خليل: سلمون... ، ص 184.
(8) ـ الرز، خليل: وسواس الهواء، منشورات وزارة الثقافة، قصص وروايات عربية (72)، دمشق، 1996، ص 47.
(9) ـ راجع الرز، خليل: سلمون... ، ص 6، وص 184.
(10) ـ هاوزر، ارنولد: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، تر: زكريا، فؤاد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1981، ص 43.
(11) ـ الرز، خليل: سلمون... ، ص 185.
(12) ـ المصدر السابق، ص 9.
(13) ـ المصدر السابق، ص 14.
(14) ـ المصدر السابق، ص 21.
(15) ـ المصدر السابق، ص 21.
(16) ـ المصدر السابق، ص 23.
(17) ـ راجع المصدر السابق، ص 21 و 22.
(18) ـ المصدر السابق، ص 29.
(19) ـ المصدر السابق، ص 31 33.
(20) ـ المصدر السابق، ص 41 و42 .
(21) ـ المصدر السابق، ص 132.
(22) ـ المصدر السابق، ص 156-157.
(23) ـ المصدر السابق، ص 136.
(24) ـ المصدر السابق، ص 136.
(25) ـ المصدر السابق، ص 136.
(26) ـ المصدر السابق، ص 136.
(27) ـ المصدر السابق، ص 140.
(28) ـ المصدر السابق، ص 143.
(29) ـ المصدر السابق، ص 145.
(30) ـ المصدر السابق، ص 146-147.
(31) ـ المصدر السابق، ص 149.
(32) ـ دافنشي، ليوناردو: نظرية التصوير، تر: السيوي، عادل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، سلسلة فنون، 2005، ص 46-47 و60.
(33) ـ راجع الرز، خليل: سلمون... ، ص 50.
(34) ـ المصدر السابق، ص 50.
(35) ـ المصدر السابق، ص 53.
(36) ـ راجع المصدر السابق، ص
(37) ـ المصدر السابق، ص 114.
(38) ـ راجع المصدر السابق، ص 116.
(39) ـ راجع المصدر السابق، ص 69.
(40) ـ راجع الرز، خليل: سلمون... ، ص 118.
(41) ـ المصدر السابق، ص 119.
(42) ـ المصدر السابق، ص 127 و129.
(43) ـ المصدر السابق، ص127.
(44) ـ المصدر السابق، ص129.   
(45) ـ بونويل، لويس: مذكرات بونويل، تر: حداد، مروان، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، الفن السابع 5، دمشق، 1991، ص 136.
(46) ـ راجع سلمون إرلندي...، ص 101.