يقدم الباحث الجزائري في هذا المقال نبذة عن البدايات الباكرة للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ويكشف عن وقوعها في استلابات المستعمر، واستبطانها لتصوره المغلوط عن الواقع الجزائري.

الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي

مرحلة ما بين الحربين العالميتين

الطيب بودرباله: ترجمة: سليم بتقه

كان ظهور الرواية الجزائرية في القرن الماضي بتأثير من الأدب الغربي، ونتاج عملية طويلة من المثاقفة التي وضعت ثقافتين مختلفتين في سياق تاريخي خاضع للتوسع الكولونيالي الغربي وعنف التاريخ، مثاقفة خاصة أطلق عليها المختصون في الأنثروبولوجيا "مثاقفة تصادمية Acculturation Antagoniste" لأنها تتحقق بالمواجهة، ومن خلال سيطرة ثقافة على أخرى (حالة الجزائر مثلا). فقد ظل الأدب الجزائري حقلا خصبا ومفتوحا على التفاعلات الثقافية والحضارية المتنوعة، فضاء للتبادل والتواجد بامتياز. لقد كان من نتاج هذه المثاقفة محو الجذور العميقة للهوية الفردية والجماعية, فنحن في مواجهة مأساة التهميش مع كل ما يؤدي إلى الضيق والاضطراب، فمثلا البطل "بولنوار" في رواية "رابح زناتي" يعيش المعاناة بالرغم من أنه يتحكم في الثقافتين العربية والفرنسية، جراء هذا التناقض الثقافي، وعن تساؤلاته المحيرة يجيبه أحدهم: «إن ديكارت، روسو، فولتير قد وضعوا في ذهنك جراثيم لا تريد أن تطردها. أنت نتاج ثقافتك المزدوجة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك، أنت من الآن عبد للعقل الغربي والخادم المتحمس له».

وبفضل المدرسة الفرنسية برزت نخبة من الأدباء الجزائريين الذين تلقوا نوعا معينا من التعليم يفضي إلى التنكر للماضي وللهوية، فمنطق النظام الكولونيالي يعارض كل سياسة انعتاق تهدف إلى تمدرس الجزائريين إلا للمفضلين بالمال أو المولد، وبالتالي فإن مهمة التحضير التي تدعيها فرنسا ما هي إلا خدعة. هذه النخبة من المثقفين أغلبها تنحدر من العائلات الأرستقراطية المتعاونة من فرنسا. إن تمدرس الجزائريين حسب وجهة نظر الفرنسيين ينبغي أن يهدف إلى خلق طبقة من المتعاونين قادرة على مساعدة النظام الكولونيالي على الاستقرار وتمكينه من تأطير السكان، مع ضمان شروط بقائه وإعادة إنتاجه. وقد كتب "بيير بورديو P. Bourdieu" و"جون كلود باسرونJ. C. Passeron " في هذا الموضوع: " تستطيع المدرسة أكثر من ذي قبل أن تساهم في استتباب النظام لأنها قادرة على التكتم على المهمة التي ستوفي بها". لكن الإنسان ليس آلة مبرمجة، فهذا التعليم الذي استطاع أن يلبي احتياجات الإدارة الكولونيالية من حيث الإطارات والموظفين يخفي حقيقة الفرد، وحقيقة التهميش الكولونيالي.

فلا يلقن التعليم الفرنسي للمتمدرسين الجزائريين المحظوظين أفكار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه يعمل على ترسيخ تلك الأكذوبة في أذهانهم. من جهة أخرى فاللغة غير حيادية، ولا هي مجرد ناقل للفكر.إن استيعاب لغة يعني استيعاب مضامينها الثقافية والأيديولوجية والحضارية. يعلمنا " دوسوسير De Saussur" أن اللغة مؤسسة اجنماعية تفرض شروطها، وقوانينها، ومخططاتها، باختصار رؤية كلية للعالم الحقيقي في المجموعة التي تتكلمها. وبالنسبة لـ"هايدجرHeidegger" "اللغة مأوى الفرد". من هنا تطرح القضية الشائكة المتعلقة بحقيقة اللغة الجزائرية المعبر عنها بلغة فرنسية. إن المشكلة في تفاقمها تظهر الازدواجية بين لغتين تنتميان إلى عائلتين لغويتين تختلفان اختلافا جوهريا: الأولى (العربية/ الجزائرية) سامية والثانية (الفرنسية) هندو أوروبية.

حين يعود بنا الزمن، نلاحظ أن أول مؤلف كتب بالفرنسية من طرف كاتب جزائري هو لـ"حمدان خوجة" (المرآة) كتبه مع بداية الغزو الفرنسي، وتحديدا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر. في هذا الكتاب يحث الكاتب فرنسا على احترام الشخصية الجزائرية وعلى مساعدة هذا البلد على العيش في حرية مثل بقية بلدان العالم. وفيما يخص الأعمال الأدبية، ينبغي أن نسجل بأن القرن التاسع عشر لم يسمح بظهور أدب جزائري ذو التعبير الفرنسي مبكرا بسبب التأخر في إقامة المنظومة المدرسية الاستعمارية، إلى جانب تحفظ الجزائريين إزاءها. لكن التاريخ يؤكد أن أول قصة جديرة بهذا الاسم كتبت سنة 1891 من طرف أحد المثقفين الجزائريين الذي اشتهر بفضل شخصيته، وتقربه من النخبة الجزائرية والسلطات الفرنسية ويتعلق الأمر بـ"محمد بن رحال"(1856 ـ 1928)، وقد ظهرت هذه القصة في المجلة الجزائرية والتونسية (أدب وفن الثلاثي 3) 26 /9 / إلى 30/ 9/ 1891 تحت عنوان "انتقام الشيخ" la vengeance du cheikh. الكاتب رجل ثقافة جمع بين الكتابة والسياسة. تمكنه من الفرنسية والعربية جعل منه رمزا للثقافة والأنتلجنسيا المحلية في الربع الأول من القرن.

وبعد واحد وعشرين سنة من ذلك التاريخ، وبالتحديد سنة 1912، نشر "أحمد بوري" روايته مسلسلة في مجلة (الحق) التي كانت تصدر بوهران بعنوان "مسلمون ومسيحيون" Musulmans et Chrétiens الرواية تحكي قصة حب بين شاب جزائري "أحمد" وابنة أحد المعمرين "مارسال". أما العشرية الثانية من القرن العشرين فقد شهدت ظهور جزائريين يهتمون بالشعر والقصة، وحسب "جون ديجو J. Dejeux" فإن أول مجموعة شعرية نشرت هي لـ"سالم القبي" سنة 1917 بعنوان "قصص وأشعار إسلامية". كما يظهر من العنوان، فالأمر يتعلق بفكرة تصور مشرق أسطوري غرائبي ومثالي، ففي ذهن المعمر كما هو لدى النخبة المستوعبة للعصر فإن الاستعمار ستكون إقامته دائمة في الجزائر، فكل مستقبل خارج الحضور الفرنسي يعد ضربا من المستحيل.

وقد سجل الاحتفال بمئوية الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1930 تحولا في تمجيد الحلم الاستعماري. كتبت "سكينة مسعدي" في هذا الخصوص: المجتمع الكولونيالي بما يملكه من قوة سياسية واقتصادية في البلاد دخل في مرحلة تحمس ... فهو يرى المستقبل مضمونا وساطعا، هذا الاطمئنان كانت وراءه بعض الكتابات الأدبية الطموحة، حيث وضع الكتاب الفرنسيين أقلامهم ـ منتشين بهذا النصر المحقق ـ في خدمة مجد المؤسسة الاستعمارية وعملها التحضيري" وعندما ظهرت بواكير الأعمال الأدبية الجزائرية كان الفضاء الروائي الجزائري تسيطر عليه الرواية الكولونيالية، وبالتالي ينبغي عليك أن تكون صغيرا حتى تقبل في عالم الآخر، فهناك عوامل يحددها التاريخ وتحددها الأيديولوجيا، فليس غريبا إذن أن نجد أول عمل روائي جزائري نشر بعد الحرب العالمية الأولى تحديدا سنة 1920 حمل عنوانا خاصا وموحيا لخضوع الكاتب للأيديولوجيات الاستعمارية (أحمد بن مصطفى رئيس القوم) Ahmed ben Mustapha chef goumier لصاحبه القائد "ابن الشريف" (1879ـ 1921) ويعد الكاتب ممثلا خالصا للنظام الاستعماري. ومن الضروري ونحن نتحدث عن مرحلة ما بين الحربين العالميتين أن نحيط بعناوين الروايات التي تمثل هذه المرحلة لتكوين رؤية شاملة عنها، فإضافة إلى رواية ابن الشريف المذكورة هناك:

ـ زهرة زوجة عامل المناجم Zahra femme du mineur لـ"عبد القادر حاج حمو" (1891ـ 1953).
ـ مأمون مشروع مثل أعلى Mamoun l ébauche d un idéal، والعلج أسير البربرEl Eulj captif des barbaresques لـ"أحمد شكري خوجة (1891 ـ 1967).
ـ مريم في النخيل Meryam dans les palmiers لـ"محمد ولد الشيخ" (1906 ـ 1938).
ـ بولنوار الشاب الجزائري Boulanouar le jeune algérien لـ"رابح زناتي".

إن عنونة هذه الأعمال تظهر أن مشكلة الهوية تطرح بصورة تؤكد الأنا الثقافي، وأيضا بصورة اقتران الأنا بالآخر من منظور اندماجي يحيد كل تعابير التناقض. بالنسبة لهؤلاء الكتاب الجزائريين فإن الجزائرية والعروبة والإسلام يمكن لها أن تتعايش مجتمعة مع القيم الغربية في البوتقة الفرنسية.

لقد اكتشف النقد الحديث بأنه لا يوجد نص بدون تناص، بمعنى آخرأن كل عمل أدبي يخضع بالضرورة لمجموعة من مصادر التأثير. لقد كان لزاما أن تكتب الرواية الجزائرية بطريقة أو بأخرى في فضاء أدبي محتل من طرف الآخر، والثمن هو التنكر، التورط حتى الخيانة. نضيف إلى هذا أن هؤلاء الروائيين ينتمون إلى عائلات كبيرة مرتبطة بالنظام الاستعماري، فهم تربوا وتغذوا في هذا الوسط الأرستقراطي. وعلى الرغم من دعواتهم للإندماج وخضوعهم غير المشروط للأيديولوجيا الاستعمارية، فإن هؤلاء الروائيين وضعوا في منطقة حدودية تقع بين الجاليتين. هذا الوضع الغامض أدى إلى طرق مسدودة، فقد كانوا المدافعين المتحمسين للإندماج، لم يألوا جهدا في إظهار تبعيتهم لفرنسا من خلال ما كتبوه (مقدمات، اهداءات، تصريحات ...) فقد أكثروا من خطب الاعتراف والتبعية لسادة ذلك الزمان والذين ـ حسب رأيهم ـ قد أنهوا عصور البربرية، والعبودية وجعلوا من هؤلاء البربر أكثر إنسانية.

إن اختيار الخطاب الاثنوغرافي يكشف رضاهم وقبولهم نمط الوجود الواقعي الاستعماري (مرحلة اضطرارية بالنسبة إليهم) وإرضاء الجمهور المتكون كله من الأقدام السوداء Les pieds noirs. مع هذه الروايات، نجد أنفسنا في مواجهة ما يمكن تسميته بالدونية، فاللغة المستعملة تحيل على حقلين دلاليين في صورة العالم الكولونيالي: من جهة نجد لغة تعبر عن القيم الإيجابية (مدرسة، حضارة، نور، حرية، علم، إنسانية ...) ومن جهة أخرى هناك لغة تعبر عن الدونية والاحتقار وكل ما يحيل على العالم المستعمر مثل البربرية، الجهل، الظلامية القدرية، الاستبداد. إن فرنسا ليس مطلوب منها المساعدة على وضع حد نهائي للنظام الاستعماري وتحسين صورة الجزائري، ولكن لتكون ممجدة ومقدسة، إنه أدب الدفاع والاعتراف. والواقع أن هذه الروايات تتطلب إستراتيجية جديدة للقراءة، قراءة تفكك الخطاب الظاهر، حتى يسمح بالبحث في فضاء المستتر والمجهول. ويلاحظ أن أغلب هذه الروايات تعرف نهايات درامية (انتحار، موت، جنون، إحباط ...) هذه النهايات تندد ضمنيا بالاستعمار، لكن هذا التنديد لا يمس أسس النظام الاستعماري، ولكن تعسفه، وتناقضاته.

عندما ظهر جيل الخمسينيات منذ 1950 لم يكن ليرتبط بهذا الأدب، لقد كانت تجاربهم الروائية تكريسا للقطيعة الشاملة مع الأيديولوجيا الاستعمارية التي فرضت الزيف من خلال الرواية الكولونيالية الحاملة لهذه الأيديولوجيا في تجلياتها المرحلية المختلفة. لقد قلبت هذه الأعمال صيغة الأنا والآخر، وأتاحت للجزائري لأول مرة التكفل بانتمائه التاريخي بطريقة سامية.

عنوان المقال باللغة الفرنسية:

Le roman Algérien de langue française : Période de l'entre deux guerres mondiales

المراجع:

1ـ Christiane Achour, Abécédaire en devenir, idéologie coloniale et langue française en Algerie,Alger,Enap,1985.
2ـ Jean Dejeux, situation de la littérature maghrébine de langue française, Alger, Sned, 1986.
3ـ Sakina Messaadi, les romancieres coloniales et la femme colonisée, Alger, Enal, 1990.
4ـ Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, Paris, Minuit1970.
5ـ Yvonne Turin, Affrontements culturels dans l Algérie coloniale et langue française, Alger, Sned, 1986.