هذه أربع لقطات مشهدية يسرد لنا فيها القاص العراقي بطريقته المراوغة الأثر الفادح لحاضر عراقي يرزح تحت وطأة الاحتلال، ويتغلغل أثره البغيض في كل مناحي الحياة اليومية بصورة ملتبسة لا تخطئها عين القصاص.

أربع قصص

باقر جاسم محمد

أقنعة المسرح
نظرت إلى الساعة الجدارية المعلقة إلى اليمين. كان الوقت الساعة السابعة إلا عشر دقائق. إذن لم أتأخر فالموعد في السابعة. وها أنا الآن أقف في طابور من المدعوين أمام الباب الداخلي المؤدي إلى القاعة التي ستشهد الحفلة التنكرية. كان المكان يسبح بالأضواء التي تأتي من مصابيح وضعت في أماكن غير ظاهرة. وكانت الموسيقى تصدح راقصة وصاخبة. كنت أراقب من هم في الأمام وعلى وشك الدخول، فأراهم يتقدمون نحو ثلاثة أشخاص ينظمون عملية الدخول, وهم يرتدون أقنعة لم أتبين ملامحها من مكاني الذي يبعد عنهم حوالي عشرة أشخاص. وكانوا هؤلاء الثلاثة ضخام البنية حتى ليمكن القول أنهم عمالقة. وكانوا يرتدون زياً رسمياً متشابهاً. فيدور حديث خافت بين من يوشك على الدخول وهؤلاء الثلاثة. ثم يختار قناعاً من فوق طاولة وضعت إلى الجانب الأيمن من باب القاعة، ويضعه على وجهه ويدخل. لم أستطع أن أفهم ما كان يدور من كلام حتى وصلني الدور، فتبينت ملامح الأقنعة التي يرتدونها. كان أحدهم يرتدي قناعاً ضاحكاً، والثاني يرتدي قناعاً باكياً، والثالث يرتدي قناعاً يعبر عن الحيرة. قال أحد العمالقة بلهجة محايدة:

ـ أرتد أحد هذه الأقنعة.

قلت:

ـ كيف؟

أجاب ذو القناع الضاحك:

ـ العالم مأساة دائمة.

أضاف ذو القناع الباكي:

ـ العالم مهزلة أبدية.

وأضاف ذو القناع الحائر:

ـ العالم كتاب مفتوح.

حقاً إن الأمر يثير الدهشة، ترى ما الذي يقصدون؟ أشار ذو القناع الضاحك إلى ثلاث مجموعات من الأقنعة موضوعة على الطاولة المغطاة بقماش مخملي أخضر، كأنه يحثني على الإسراع. نظرت إلى الأقنعة. كان الأول يمثل وجهاً ضاحكا، والثاني يمثل وجهاً باكيا، والثالث يمثل وجهاً حائراً. أضاف ذو القناع الباكي:

ـ لك الحرية في الاختيار.

قلت في نفسي: "لي الحق في الاختيار. فأي الأقنعة سأختار؟ هل أختار القناع الحائر؟ فأنا حائر حقا! لا، لا. سوف أختار القناع الباكي، فما أشد حزني على احتلال بلادي، وعلى القتل والتدمير الذي نعيشه كل يوم. ولكن، ولكن يقولون أنها حفلة تنكرية. ليكن، سأختار القناع الضاحك." مددت يدي وأخذت القناع الضاحك ووضعته على وجهي. قال العملاق ذو القناع الحائر:

ـ تفضل من هنا.

و فتح الباب الأسود الكبير فدخلت إلى ممر معتم ثم انعطفت إلى مكان الحفلة. كان المكان يغص بالمدعوين والقائمين على الحفل الذين ارتدوا جميعا الأقنعة. وكان بعض المدعوين منشغلاً بالحديث في حين انصرف بعضهم إلى تناول عصائر ومشروبات متنوعة، واكتفى آخرون بالجلوس صامتين. أما القائمون على الحفل والمسؤولون عن إدارته فقد انصرفوا إلى متابعة ما يدور، وتوجيه مساعديهم حين الحاجة. وحين أعدت النظر وحدقت بهم جيدا، اكتشفت أن المدعوين نساء ورجالاً يرتدون القناع الضاحك. أما منظمو الحفل والمسؤولون عن إدارته فقد كانوا يرتدون القناع الباكي. وثم اكتشفت طفلا يجلس منفرداً في أحد الزوايا. وكان هو الوحيد الذي يرتدي القناع الحائر.

الحلة الجمعة 26 ـ30/ 8/ 2008م


علامة الاستفهام
كانت الساعة الواحدة ظهرا. وقد عاد أحمد توا من المدرسة التي بدأ بالذهاب إليها منذ فترة قصيرة. كان سريع التعلم. هكذا قال عنه معلموه، وشعر أهله بالفخر لقولهم هذا. بعد أن نزع ملابس المدرسة، وارتدى الدشداشة. جلس إلى طاولة أبيه، ولاحظ في جريدة مفتوحة على الطاولة عنواناً بارزاً "أين الحقيقة؟" وحين انتهى من تهجي الكلمتين، توقف عند العلامة المعقوفة. نظر إليها بإمعان. عقف سبابة يده اليسرى على هيأة العلامة، نظر إلى العلامة ثم إلى إصبعه المعقوف مرة وأخرى وثالثة. قال مخاطباً أمه التي كانت تقوم بتقشير وتقطيع البصل لتعد السلطة:

ـ ماما، ما هذا الحرف؟
ـ أي حرف تقصد؟

نهض وحمل الجريدة إلى حيث أمه في المطبخ.

ـ هذا الذي هنا. وأشار إلى العلامة المعقوفة.
ـ هذا ليس حرفا. أنه علامة استفهام.
ـ وما هي علامة الاستفهام؟
ـ أنا أعمل والدمع يكاد يجعلني لا أرى. فالزم الصمت.

نظر إلى الأرض برهة، ثم عاد إلى الغرفة حيث طاولة أبيه. وضع الجريدة في مكانها ثم ذهب إلى الشباك وأخذ يراقب الحديقة المنزلية الصغيرة.

حين عاد أبوه. وجلسوا لتناول طعام الغداء، سأله أحمد:

ـ بابا، ما هي علامة الاستفهام؟
ـ أنا مرهق من العمل وجائع. اتركني الآن.
ـ لا تزعج أباك في وقت راحته.

مرة أخرى أطرق أحمد. ثم أخذ تناول طعامه. وفجأة لاحظ وجود فراشة تائهة، وتابعها وهي تحاول الخروج من الشباك فتصدم بالزجاج الشفاف وتفشل، وتحاول مرة أخرى وتفشل، وتحاول.. نهض من مكانه وفتح الشباك فخرجت الفراشة أعاد غلق الشباك. وقبل أن يعود إلى مكانه، فالت أمه:

ـ لا تترك مكانك أثناء الطعام.
ـ كما تريدين يا ماما.

في اليوم اللاحق، كان الدرس الأول القراءة. وحين انتهى الأستاذ عارف، معلم القراءة، من فحص دفاتر الطلبة وكتبة بعض الملاحظات عليها، سأله أحمد:

ـ أستاذ، ما هي علامة الاستفهام؟
ـ هي علامة نكتبها بعد أن نكتب السؤال.
ـ وإذا قلنا السؤال، فهل نضع هذه العلامة بعد الانتهاء من الكلام؟ قال ذلك وعقف سبابة يده اليسرى ورفعها إلى مستوى وجهه.

نظر المعلم إليه باستغراب ودهشة، ثم تحولت ملامحه إلى الغضب، وقال:

ـ هل تهزأ بالصف. قم وقف قرب السبورة، ووجهك للحائط حتى نهاية الدرس.

وبعد أن وقف أحمد قرب الحائط، واصل المعلم الدرس. ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحمد يسأل أحداً عما يدور في داخله من علامات استفهام.

الحلة الجمعة 26/ 9/ 2008م


مدونة الحلم
كان جالساً في مقعده ذي العجلات. وعلى طاولة إلى جانبه، كانت هناك كراسة رسم مفتوحة. كان قد انتهى توا من رسم صورة لصبي يطير محلقا وسط دهشة بادية على وجوه عدد من أترابه الآخرين المرفوعة نحوه في زقاق قديم. أخذ يتأمل المكان. كان صوت العصافير في الخارج يختلط بصوت شخير متقطع تطلقه زوجته النائمة. فكر أن يوقظها من نومها حتى يستطيع الإصغاء إلى صوت العصافير دون تشويش، لكنه خشي العاقبة. لم تكن أحلام هكذا. كانت كائنا أثيريا رائعا، فهي جميلة ورشيقة وعذبة الكلام. وبعد زواجهما بفترة وجيزة، فقد ساقية في انفجار لغم. كان ذلك قبل خمسة عشر عاماً. ومنذ ذلك الحين انقطع ما بينهما، وأخذت أحلام تتحول شيئاً فشيئاً إلى كتلة ضخمة من الشحم واللحم والغضب. فلم يعد ينعم بالسلام إلا حين تنام. الشخير ولا الشحناء. وحين لاحظ أن طبعها قـد تغير إلى غير رجعة، أخبرها أن لا مانع لديه من تطليقها، خصوصاً وأنهم لم يخلفوا أبناءً بعد، لكنها رفضت ذلك. حاول أن يقنعها بالعودة إلى طبعها الأول، فلم يفلح. وها هما يعيشان في مكان واحد، ويفصل بينهما بحر من الصمت. من مكانه نظر إليها وهي ممدة على السرير وغاطسة في نومها وشخيرها، ثم رفع رأسه إلى الأعلى وأخذ يتأمل السقف. فجأة أنقطع الشخير. التفت إليها، فرآها تنهض من نومها خفيفة ورشيقة ومزهوة بجمالها كما رآها أول مرة. فركت عينيها الواسعتين ثم قالت:

ـ صباح الخير.
ـ صباح النور.
ـ آسفة لأنني لم أستيقظ مبكراً.
ـ لا بأس.
ـ هل تحتاج شيئاً.
ـ كلا. شكراًً.

اقتربت منه. نظرت إلى الصورة في الكراسة، تأملتها هنيهة من الزمن، ثم قالت:

ـ إبراهيم. هذه الصورة جميلة. متى رسمتها؟
ـ قبل قليل.
ـ كم هو جميل هذا الصبي الذي يحلق طائراً. صمتت قليلاً ثم قالت:
ـ إنه يشبهك كثيراًً.
ـ أحقا؟
ـ نعم. فأنا أذكر صورة لك وأنت في عمر قريب من عمر هذا الصبي. كم هو الشبه قريب.
ـ إنه تصوير لحلم قديم كان يراودني عندما كنت صغيراً.

انحنت عليه وقبلته من جبينه. ثم مررت أصابعها بين خصلات شعره الأشيب. قالت:

ـ يا لك من كهل حبيب!

أذهلته المفاجأة، ورفع رأسه ليطالع وجهها الذي أشرق مبتسماً فوقه. وضع يديه على مسندي الكرسي. وأنزل رجليه الحافيتين على بلاط الأرضية البارد، فانتابته رجفة خفيفة حين مست القدمين برودة البلاط. نظر إلى قدميه مذهولا، كأن لم يمر به عذاب السنين الطوال وهو مقعد. نظر إليها، فرآها تنظر إليه بعينين طافحتين بالحب والحنان، فنهض. وبعد تردد قصير، سار.

الحلة 30/ 9/ 2008م


في السوق
منذ أن دخل السوق وهو يفكر في أهمية التسوق بالنسبة له. فالشراء عملية تعويض عن الإحساس بالفقد. لم تكن النقود تهمه كثيرا، لكنه كان يريد أن يرى نفسه وهو يقع فريسة سهلة لخدعة أحد الباعة. وقال لنفسه: "أرغب في أن أمارس لعبة الفطنة مع هؤلاء البائعين". كان يقف لفترة وجيزة أمام أصحاب دكاكين البقالة، فيدخل معهم في نقاش حول الخضر والفواكه التي يبيعون، وبعد أن يحتدم النقاش، يضطر إلى أن يشترى في نهاية الأمر. ويفعل مثل هذا مع بائعي السمك الحي، وأصحاب محلات الجزارة، وبائعي المخللات. وحين عاد إلى بيته مزهواً، بدأت زوجته بإخراج المواد التي اشتراها من الأكياس. ثم سرعان ما كشفت له أنه كان ضحية لخداع كل من اشترى منهم. فكان التفاح يوشك أن يتعفن، وكان سعر السمك أعلى من السعر المعتاد، وكان اللحم يعود لعجل متقدم في العمر، ولا ينضج بسرعة.

الحلة الجمعة 6/ 10/ 2008م