عبد المنعم بونو يصافح الكاتب الكواتيمالي انريكي كوميث كرييو باللغة العربية: فاس الأندلسية

مرة أخرى يقدم الباحث المغربي في الآداب الاسبانية والبرتغالية عبد المنعم بونو (جامعة فاس) ترجمة كتاب فاس الاندلسية للكاتب الكواتيمالي انريكي كوميث كرييو وفي مايلي التقديم الذي صدَّر به عبد المنعم بونو الترجمة العربية الصادرة مؤخرا:

لقد مضى قرابة عقد من الزمن على اكتشافي لكتاب فاس الأندلسية للكاتب الكواتمالي إنريكي كوميث كرييو. ومنذ ذلك التاريخ وفكرة ترجمته تراودني. وزادت رغبتي في نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية عندما كنت بصدد إعداد مختارات من أدب الرحلة الإسبانية حول مدينة فاس، إذ تبينت لي القيمة الأدبية التي يحتلها هذا الكتاب إلى جانب المعلومات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي يزخر بها المؤلف. ولد إنريكي كوميث كرييو سنة 1873. وقد ألف ما يزيد عن 80 كتابا خلال فترة حياة قصيرة لا تتعدى أربعا وخمسين سنة. وقام طيلة حياته بأسفار متعددة إلى درجة أن بعض أبناء بلدته كانوا يعتقدون أن أسفاره البعيدة إلى اليونان وفلسطين ومصر وروسيا واليابان وكندا والأرجنتين والمغرب والجزائر ليست سوى ضرب من الخيال. لهذا إذا أردنا أن نقوم بتعريف لانريكي كوميث كرييو، سنتحدث عنه كما لو كان روحا تائهة. لقد سقط هذا الكاتب الكبير في خانة النسيان بالرغم من أن معاصريه كانوا يلقبونه بأمير المؤرخين. لهذا يمكن اعتبار هذه الترجمة محاولة لرد الاعتبار لهذا المثقف الذي عاش حياة مليئة بالأمجاد.

وقبل تناول الظروف التي ظهر فيها الكتاب، نذكر القارئ بأن فاس الأندلسية كتاب يدخل في خانة ذلك الجنيس الأدبي الذي هو أدب الرحلات. ولتقريب القارئ من هذا الجنيس الأدبي، يمكننا القول بأن بداية ظهور أدب الرحلات تعود إلى القرن الخامس عشر حيث تزامن مع نهاية استكشاف الطرق البحرية والبرية، الأوروبية والآسيوية والإفريقية. ابتداء من تلك الفترة، ظهرت الخطوط الأولى لتحول أغلب الوثائق التاريخية والأنتربولوجية إلى وثائق أدبية من نوع خاص، حيث حصلت قفزة نوعية انطلاقا من العمل الوثائقي العجائبي وصولا إلى العمل الأدبي. يتعلق الأمر هنا بجنس أدبي ظل حيا في الغرب منذ القرن الخامس عشر إلى بداية القرن العشرين، تتميز نصوصه بكونها ذات طابع مركب يتقاطع فيها الأدب بالتاريخ والأنتربولوجيا، ويقوم القاص فيها برحلات مختلفة حقيقية أو خيالية (بحرا وأرضا وجوا)، باحثا عن مادته. لكن في نهاية القرن العشرين، غيرت السياحة ـ رأسا على عقب ـ مفهوم الرحلة من ناحية ألحكي معلنة بذلك نهاية أدب الرحلات وبداية واقع مختلف (جموع من السياح، وتغيير عادات القراءة)، كما أصبح القارئ يفضل الجرائد والرسائل الالكترونية على القصص الطويلة، وهكذا أصبحت الرحلة لا تقتصر فقط على بعض الأشخاص دون الآخرين، بل تم تعميمها وأصبح بإمكان السائح الذهاب إلى أي مكان شاء محملا بآلة التصوير والفيديو التي أصبحت بمثابة إعلان عن نهاية السرد الأدبي. وبدل الأسلوب الأدبي الرفيع الذي كانت تكتب به الرحلات من قبل أصبح الدليل السياحي المطبوع فقيرا من الناحية الأدبية.

ظهر كتاب فاس الأندلسية في طبعته الاسبانية في سنة 1926. كما ظهرت الطبعة الفرنسية في السنة الموالية أي قبل وفاة المؤلف بشهور قليلة. وأصل الكتاب، الذي يعد آخر ما كتب كوميث كرييو، يعود إلى سفره إلى المغرب مبعوثا من طرف جريدة أب س في خريف 1924، وذلك للقيام بعمل صحفي حول المغرب، وبالضبط حول الحرب الريفية. وعندما حل بالرباط قادما إليها من مدينة بوردو الفرنسية، قام في اليوم الموالي بالسفر إلى فاس (طوريس، 351: 1956) حيث كان الكاتب مستعجلا للوصول إلى هذه المدينة الأسطورية من أجل معرفتها. لم يكن الكاتب يريد أن يضيع ولو ساعة واحدة في اكتشاف أشياء أخرى وعوض القيام بالمهمة التي جاء من اجلها، مكث شهرين في فاس بعد أن أصبح قلبه متعلقا بها.

وفي وصفه لجوانب الحياة اليومية الجميلة في مدينة فاس، صار الكاتب كوميث كرييو على خطى سلفه بيير لوتي وأندري شوفينيون. لكن يجب علينا أن نؤكد انه على الرغم من تأثره بالنزعة الغرائبية التي كانت تميز كتابات بيير لوتي إلا أن رؤيته كانت وليدة نظرته اللاتينية، حيث أن اهتماماته الشرقية أو الاسشراقية لم تكن مصطنعة أو ملونة في تعاملها مع الآخر. لقد كان الكاتب الكواتيمالي يتناول العالم المشرقي ليس فقط انطلاقا من موقعه كمثقف أوروبي أو غربي، بل كان أيضا ينظر إلى البلدان العربية خصوصا والمشرقية عموما كما لو كان من سكانها وأبنائها. أليس هو من يستحضر الماضي المشترك ويقول في كتابه هذا:

ليس عبثا إن كان أسم أجدادك هو لوص سيفرويص دي البرنس همس في أعماقي صوت غريب. ربما كان الشأن كذلك، وقد يوجد ـ في الواقع ـ شبه يرجع إلى أصولي العربية، وربما هناك أثر غريب لحياة سابقة في مدن كهذه، بين أشخاص كهؤلاء، لأنني في الحقيقة أحس بقرابة ليس فقط نحو الأشياء، بل نحو الإنسان العربي أيضا، وأحيانا عندما أصادف رجلا ذا لحية عارمة وعينين هادئتين لا تكاد تراني، أتوهم أنهما تنظران إلي بعطف ومحبة، أحس بشيء يدفعني لكي أوقفه وأسأله إذا كان هو أيضا سليل إحدى عائلات مالقة أو أشبيلية وإذا كان يحتفظ في قعر خزانته المرصعة بمفتاح جد قديم يمكن بواسطته فتح ذلك البيت الرائع الذي كان يعتقد أجدادنا القدامى أنهم قد شيدوه حتى يبقى تحت رعاية الله... هكذا شيئا فشيئا، كنت أطلق العنان لخيالي فأنتهي أتسائل هل هي مصيبة كوني أنتمي لسلالة أولئك الذين بقوا، أولئك الذين تخلوا عن العمامة والجلابة، أولئك الذين احتفظوا فقط من بين ما احتفظوا به من أسمائهم بالبرنس ولا أنتمي إلى تلك السلالة التي عرفت مسبقا ما ستؤول إليه الأوضاع في ظل حمى التقدم العبثية، فالتجأوا إلى فاس... وهكذا، وتحت تأثير نشوة الاستحضار والذكريات، أصبحت أحس أنني أتواجد بين ما كان يعرف بأهلي حتى لم أعد أدري هل أنا موجود في المغرب أم في الأندلس، وأصبحت أحس أيضا أمام الحواجز التي تخفي الحدائق والسقايات التي تبحث عنها روحي برغبة كبيرة بإحساس عميق وغامض كأنني إنسان حكمت عليه الأقدار بالمنفى فصار يتأمل في وقفة أخيرة صورة حية لبلده وقد عمه القلق والحزن... ويمكننا القول أن الوطن الذي كان يبحث عنه كوميث كرييو لا يتعلق فقط بشبه الجزيرة الايبيرية حيث كان أصدقاؤه الفرنسيون ينعتونه بالمثقف الاسباني بالرغم من المدة الزمنية الطويلة (ثلاثون سنة) التي قضاها في فرنسا، بل أيضا بالمغرب الذي كان يعتبره امتدادا لاسبانيا. ويظهر من خلال كتاباته الصحفية حول المغرب أنداك أنه كان أيضا ضد التدخل السياسي والعسكري المستمر في الشؤون الداخلية للمغرب ميركي (170 ـ 172 ـ 1927).