يرصد الناقد العراقي هنا عبر دراسة تحليلة جدل الشكل والمحتوى في رواية نجيب محفوظ المهمة (حديث الصباح والمساء) ويقدم قراءة مغايرة لتجديدها السردي ولمحتوى البنية الروائية فيها، وهو يتتبع مسار عائلاتها الأساسية الثلاث.

جدل الشكل والمحتوى في السرد الروائي

(حديث الصباح والمساء) إنموذجاً

باقر جاسم محمد

1 ـ مقدمة

لئن كان الكاتب الكبير نجيب محفوظ قد أنجز، في سياق عمله الإبداعي في مجال السرد الأدبي، دورة الروائية العربية كاملة بكل ما انطوت عليه من أشكال فنية وتعبيرية. فإن هذا الأمر هو ما أنجزته الرواية الأوربية قبل ذلك، ولكن ضمن سقف زمني أكبر يكاد يبلغ القرنين، وبجهود عدد كبير من الروائيين في بلدان شتى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وايرلندا ثم أمريكا. على أن السمة البارزة في جهد نجيب محفوظ الإبداعي في حقل الكتابة الروائية هي أنه لم ينقطع يوماً عن العمل الحثيث والمثابر بحثاً عما هو جديد وسعياً لتخصيب وإغناء الشكل الروائي العربي وإقامته على أسس مستمدة من طبيعة الثقافة واللغة العربية بوصفهما الحاضنة الحضارية لهذا الإبداع، دون أن يعني ذلك الكف عن التحاور الإيجابي والفعال مع تطور التجارب الشكلية على مستوى الإبداع الروائي في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا على وجه الخصوص(1). وتجيء رواية (حديث الصباح والمساء) لتشكل معلماً بارزاً في مسعى كاتبنا الكبير هذا. فالرواية تدهشنا بشكلها غير المألوف، بل الصادم، وببنائها الفني التجريبي الذي يؤشر نقلة مهمة في تجديد الخطاب الروائي العربي. وهذا مما يؤكد حقيقة مهمة هي أن نجيب محفوظ ليس رائداً تاريخياً للرواية العربية المتقدمة فنياً فحسب، وإنما هو أيضاً رائد في مجال التجديد والتطوير وريادة آفاق وأراض ٍ بكر في شكل الرواية العربية، وفي محتواها الفكري والفلسفي كذلك. 

2 ـ الأسس الفكرية للتجريب الشكلي
يثير التجريب في الفنون عامة، وفي البناء الشكلي الرواية خاصة، مسألة أساسية هي ضرورة أن يرتبط المسعى التجريبي بمواقف اجتماعية أو بهموم فكرية وفلسفية تسهم في ربط هذا المسعى بعصره من جهة وتسوغ للكاتب محاولاته التجريبية من جهة أخرى. فالكاتب المبدع لا يكتفي بمجرد استهلاك أشكال فنية أبدعها أسلافه من الكتاب. وبما أن الأشكال الفنية كانت دائماً نتاج تفاعل عبقري بين ذوات مبدعة وعصورها. فنحن نفترض بأن الكاتب المبدع يجد تناقضاً بين ما تتيحه الأشكال الفنية السائدة والمستقرة، وبين ما يروم التعبير عنه، وهو ما أسميه بالعلاقة الجدلية بين القوالب الفنية والواقع الموضوعي ورؤيا الكاتب المبدع. ولقد حسمت فلسفة الفن المعاصرة، وكذلك نظرية الأدب، هذه المسألة بأن جعلت ثمة توازياً وتفاعلاً بين عمق وثراء الفضاء الفكري للنص الأدبي (content) والشكل الفني (form) الذي يفرغه فيه الكاتب. فلم يعد التجريب الشكلي نوعاً من الترف الفكري، إنما هو استجابة لقلق حضاري ضارب في وعي المبدع، وتعبير عن ضيق ذلك المبدع وإحساسه بقصور الأشكال التقليدية عن استيعاب رؤياه الجديدة، ذلك أن "الفن ليس تأملاً، إنه شيء فعال، ولذا لا يمكن كتابة أدب مهم إذا لم يكن متعلقاً بموضوع مهم"(2)، كما يقول أحد منظري الفن الحديث. ولقد تساءل أثنان من كبار الباحثين في نظرية الأدب "إن كانت ملحمة (الفردوس المفقود) ستكون بالأهمية نفسها لو أنها كانت تصف مكنسة"(3).

واستناداً إلى هذا الفهم الذي يربط على نحو وثيق بين الشكل الفني المبتكر أو التجريبي الذي يصوغ فيه الكاتب ومن خلاله رؤياه الفكرية التي يطرحها فيما يعرف بمحتوى العمل الروائي، سنحاول استقراء طبيعة العلاقة الجدلية بين الشكل الفني الجديد لرواية(حديث الصباح والمساء) ومحتواها الفكري العام ، وما يقترحه هذا الترابط الوثيق بين الشكل والمحتوى على صعيد توصيف المغزى الشامل للإنجاز الروائي المتحقق، فهذه الرواية، كما يصفها الناقد صبري حافظ "واحدة من النصوص الأخيرة القليلة التي تنطوي بنيتها على أهم محددات رؤيتها"(4).  

3 ـ السمات التجريبية في (حديث الصباح والمساء)
ترى ما هي ملامح التجريب في الشكل الروائي التي تضمنتها رواية (حديث الصباح والمساء)؟ وما هي الدلالات الفكرية والفلسفية التي يمكن أن نقيمها عليها بوصفنا قارئين للنص؟ ولأن السؤالين مترابطان ومتداخلان، فسوف تكون إجابتنا عليهما متداخلة أيضاً.

تقع رواية (حديث الصباح والمساء) في حوالي 231 صفحة من القطع المتوسط. وهي تحتوي أيضاً عدداً من الرسوم التخطيطية لبعض شخصيات الرواية. وسنهمل هذه الرسوم لجملة أسباب مهمة هي:

1 ـ أنها ليست جزءاً من النص السردي الذي أبدعه الكاتب وإنما هي إضافة المصمم والناشر،

2 ـ أنها تنتمي إلى حقل الفنون التشكيلية،

3 ـ أنها تعبر عن رؤيا الرسام، أو أن لنقل قراءته التشكيلية للرواية، وليس عن رؤيا المؤلف نفسها. وبذلك فنحن نعدها، وبهذه المعاني فقط، موجهات خارجية (نسبة إلى النص السرد)، وعنصراً دخيلاً مما يوجب استبعادها في هذه المقالة/ الدراسة.

إذن، تقع الرواية في 231 صفحة، وفي هذه الصفحات القليلة نسبياً قدم الكاتب ستاً وستين شخصية تنحدر من ثلاث عائلات هي: عائلة عطا المراكيبي وعائلة يزيد المصري وعائلة معاوية القليوبي. وقد تتبع المؤلف هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات عبر رحلة زمنية امتدت لأكثر من مائة وثمانين عاماً(ابتداءاً بالحملة الفرنسية على مصر في العام 1798 وانتهاءاً بأواسط الثمانينيات من القرن العشرين). وشكلت هذه المسافة المدة الطويلة الإطار الزمني الخارجي لأحداث الرواية. أما الإطار المكاني للأحداث فقد شمل رقعة جغرافية واسعة تتضمن الإسكندرية وبني سويف وأحياء سكنية ومناطق مختلفة من القاهرة. فكيف تعامل الكاتب فنياً مع كل هذه العناصر في حيِّز كتابي ضيق نسبياً؟

لقد ابتكر الكاتب شكلاً جديداً في بناء نصه الروائي هذا، فاعتمد على أسلوباً مختصراً في تقديم حكاية (بمعنى الإخبار والسرد البسيط) كل شخصية من الشخصيات الست والستين وفقاً للتسلسل الألفبائي لأسماء الشخصيات.فكان يورد حكاية كل شخصية على حدة، وبإيجاز سردي شديد التكثيف معتمداً أسلوب التلخيص لا أسلوب المشهد(5). ولقد نتج عن هذا المزج الدقيق بين البنية السردية ذات الجوهر الحكائي وتوزيع المادة السردية داخل النص باعتماد التسلسل الألفبائي ما يأتي:

أولاً: تفتيت الزمان السردي وكسر، بل تشظية، المسار الخطي للزمن التقليدي. فالرواية تبدأ بحكاية (أحمد محمد إبراهيم) في عشرينيات القرن العشرين ليتشكل مسار زمني من نوع جديد ذي طبيعة بندولية: رجوع في الزمان عن لحظة بدء الزمن الروائي، ثم تقدم عليه، فرجوع، فتقدم، ودون أن تغفل هذه الحركة الزمنية البندولية المرور بزمن البداية عدة مرات. ويستمر هذا النسق الزمني الداخلي حتى تنتهي الرواية بحكاية (يزيد المصري) التي تأخرت بسبب من أن اسم صاحبها يبدأ بحرف الياء، وهو آخر حروف الهجاء العربي، أما زمن (يزيد المصري) التاريخي، فإن الجملة الأولى من الحكاية تفصح عنه بجلاء إذ نقرأ "وصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام" (ص 216) ثم يجري بعد ذلك سرد الحكاية كاملة بإيجاز خبري متمكن. وهذا يعني أن الزمني الخارجي، أعني المدة التاريخية للرواية، قد جرى تحطيم تسلسله وتفتيته وإعادة توزيعه وفقاً لمنطق التسلسل الألفبائي الذي هيمن على بنية النص الروائي وشكل المعلم الأساس في بنائها. ولعل هذا الصنيع يذكرنا بعنوان الرواية من جهة ويوحي لنا بالمقولة السائدة "سأحكي لكم القصة من الألف إلى الياء" من جهة أخرى.

ثانياً: وبالارتباط مع النقطة أولاً أعلاه، فقد أوجدت الرواية زمناً حياتياً، وقد أقول بيولوجياً، خاصاً بكل شخصية واتخذته منطلقاً للتبئير الزمني السردي. ويتجلى هذا الزمن بتكرار دورة الولادة فالطفولة، الصبا، فالشباب، ثم الكهولة، والشيخوخة، والموت مع كل شخصية تقريباً. وشكل هذا الزمن الداخلي إيقاعاً ثابتاً في الرواية بالرغم من أن الكاتب قد اختار أن يكسر هذا الإيقاع أحياناً فجعله غير مكتمل حين تنتهي الحكاية الأولى بموت احمد إبراهيم المصري وهو في مرحلة الصبا ليعبر هذا الخيار المبكر عن مزاج مأساوي يسود الرواية منذ البداية.

ثالثاً: لا يرتبط الزمن السردي الداخلي والخاص بكل شخصية بالزمن الخارجي (التاريخي) ارتباطاً واضحا، لأن لكل منهما طبيعته الخاصة. إنما ترد في النص الروائي جمل متفرقة هي بمثابة إشارات ودلائل على مثل هذا الترابط. ولتشكل هذه الجمل المتفرقة نقاط التقاء وتمفصل للزمنين. ففي حكاية (قاسم عمرو عزيز) نتابع زمن الشخصية في تحولاته، حتى يرد في النص ذكر خبر زفاف قاسم على ابنة عمه (بهيجة سرور عزيز) فنقرأ "وتم الزفاف فيما يشبه الصمت بسبب الظلام المخيم في فترة الحرب، واحتفلت به المدافع المضادة للطائرات" (ص 184). هنا نكتشف الصلة بين زمن الشخصية الروائية معبراً عنه بتتابع أحداث الحياة الخاصة للشخصية والزمن الخارجي، زمن الحرب العالمية الثانية وفترة قصف القاهرة تحديداً، فتنعقد الصلة. ولا تخفى على القارئ الرصين لهجة السخرية التي صيغت بها هذه الجملة، كما لا يفوته أن يلاحظ ذلك التناقض بين (الفرح) الذي يفترض أنه يسود حدث الزفاف، وهو حدث خاص، و(المأساة) التي تسم الحدث الخارجي، وهو حدث عام، كونه حدثاً حربياً له ضحاياه. فكأن الأفراح هي نقاط ضوء صغيرة منشرة هنا وهناك على خلفية مأساوية شاملة.

وتتكرر حالة التمفصل الزماني مع أحداث تاريخية عديدة مثل الحملة الفرنسية التي ورد ذكرها في بداية الرواية وذكرناه سابقاً، وتسلم محمد علي حكم مصر، وثورة 1919، والحرب العالمية الثانية، ثم حروب العرب وإسرائيل 1956 و1967 و1973، وموت جمال عبد الناصر، وحادث اغتيال السادات. وهكذا تنعقد صلة واضحة، وإن تكن متقطعة ومبعثرة، بين الأزمنة الشخصية (الذاتية) والزمن الخارجي الاجتماعي (الموضوعي).

رابعاً: لقد كانت نتيجة هذه التقنية في التعامل مع الزمن داخل الرواية أن أعيد إنتاج الزمن الشخصي الخاص بكل شخصية في الرواية والزمن الخارجي الاجتماعي أو كلاهما معاً مرات عديدة، وفي مواضع مختلفة من الرواية. فمثلاً جرى ذكر أحداث وتحولات مرتبطة بشخصية (بهيجة سرور عزيز) وتعبر عن زمنها الخاص بها، كما جرى ذكر الأحداث المرتبطة بالزمن الخارجي عند الحديث عن هذه الشخصية في جزء مبكر من الرواية لأن أسم هذه الشخصية يبدأ بحرف الباء، وهو ثاني حرف في الألفباء العربي، ثم أُعيدت رواية هذه الأحداث نفسها، والمرتبطة بالزمن الشخصي أو بالزمن الاجتماعي، في الحكاية الخاصة بشخصية (قاسم عمرو عزيز) في جزء متقدم من الرواية لأن اسمها من الحروف المتأخرة في الألفباء العربي.

خامساً: ما حصل مع الزمان حصل مع المكان أيضاً، فجري تفتيته وتوزيعه على مواضع متباينة في الرواية. وقد نقلنا الكاتب إلى حيث عاشت كل شخصية، كما أعاد الكاتب وصف الأمكنة التي اشتركت في العيش فيها أو ارتبطت بها عدة شخصيات روائية. وهكذا تحول المكان أيضاً إلى عنصر تابع للبناء الفني القائم على التسلسل الألفبائي العربي.

سادساً: لقد ترتب على تفتيت المكان وتوزيعه وإعادة وصفه أن الكاتب تجنب الإفاضة في وصف المكان سواء أكان بيتاً أو وكالة تجارية أو محلة، فكان يذكره لمحاً وبذكر اسمه ودون التركيز على ما يميزه من ملامح مدركة بصرياً. وهذه السمة غالباً ما نلاحظها في سرد الحكايات الشعبية وفي قصص ألف ليلة وليلة. أعني أنها قد تكون ذات جذر تراثي، ولكن الأصح هو أنها قد فرضتها الحاجة الفنية النابعة من طبيعة البناء الروائي المستند إلى تفتيت الزمان والمكان وإعادة توزيعهما مما يمنع الكاتب من ذكر مكان بعينه تفصيلاً للمرة الأولى ثم ذكره بإيجاز في المرات اللاحقة لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى فضح حضور المؤلف التاريخي، أعني نجيب محفوظ نفسه. كما أنه يمكن أن يفسر على أنه انحياز إلى شخصية ما دون الأخرى وبالتالي فهو سينال من موضوعية السرد. ولو قارنا أسلوب وصف نجيب محفوظ للمكان في روايات (زقاق المدق) و (خان الخليلي) و (بين القصرين) ووصفه للمكان في هذه الرواية للاحظنا اختلافاً جوهرياً له مغزاه. فالوصف الروائي للمكان في تلك الروايات كان مشهدياً حين كان يقدم المكان للمرة الأولى، ثم مشهدياً أيضاً ولكن أقل احتفاءاً بالتفاصيل حين يرصد الكاتب المكان في المرات اللاحقة، أما في (حديث الصباح والمساء) فقد التزم الكاتب أسلوب الاكتفاء بذكر الاسم أو الإيجاز المكثف للغاية في وصف المكان. وهذا يفصح بوضوح عن تغيير جوهري في الرؤيا الفنية والفكرية معاً. كما أنه أسلوب يتطلب قارئاً من نوع خاص.

سابعاً: يمكن القول أن بعض الأمكنة قد اقترنت بعائلات ومظاهر سلوكية معينة ميزت أفراد تلك العائلات ووسمت حياتهم بميسمها. وهكذا اكتسبت هذه الأماكن صفة رمزية ثرة، وهو مما يغني الفضاء الدلالي للنص، فسراية (ميدان خيرة) كانت رمزاً لثراء وعنجهية عطا المراكيبي وطبقته، بينما كان ميدان(بنت القاضي) رمزاً لعائلة يزيد المصري وطبقته. فلم يعد مغزى العمل مقتصراً على تتابع الأحداث، الذي يجب أن يعيد القارئ إنتاجه، وعلى مصائر الشخصيات وما يمكن أن يعزى إليها من دلالات فكرية وفلسفية، وإنما صار نتيجة لتأويل رمزية المكان أيضاً.

ثامناً: نتيجة لكل ما سبق فقد تأثرت الحبكة (plot) والحدث (event) في الرواية، إذ افتقرت الرواية إلى الحبكة المركزية بالمعنى التقليدي. فبدلاً من الحبكة المركزية قدمت الرواية حكايات، أو لنقل حبكات، صغيرة متعددة تشبه المراقي أو الدوائر الحلزونية المرتبطة بالشخصيات. وهنا يمكن القول أن الشخصيات وحكاياتها كانت وحدات البناء الفني الأساسية وفقاً للكيفية الخاصة المشار إليها سابقاً. وقد انعكس هذا على الحدث بوصفه دالة تتحدد بموجبها كثير من خصائص الشخصية الروائية. فقد استعيدت الأحداث بأعيانها مرات عديدة لأن الشخصيات التي أسهمت فيها كثيرة ومبثوثة في أجزاء مختلفة من الرواية. أي أن التكرار الناتج من جعل الزمان والمكان تابعين للشخصيات الروائية قد أدى أيضاً إلى تكرار الحدث كلما ذكرت شخصية لها علاقة به. فهذه الحكايات تروى وتكتمل وتنقطع ليعاد إنتاجها مرة أخرى وبالأسلوب نفسه. وقد سبق لنا القول بأن الكاتب قدم ستاً وستين شخصية في حيِّز كتابي ضيق نسبياً. وإذا ما قمنا بقسمة عدد الصفحات على عدد الشخصيات لظهر لنا بأن معدل عدد الصفحات المكرس شخصية قد كان حوالي ثلاث صفحات ونصف. وقد وصل الحد الأقصى لعدد الصفحات المكرس لحكاية (أحمد عطا المراكيبي) إلى ثماني صفحات، ووصل الحد الأدنى المكرس لحكاية (وردة حمادة قناوي) إلى ثمانية أسطر فقط. ويرتبط اختلاف عدد الصفحات باختلاف وتعدد الأدوار والأحداث التي تسهم بها كل شخصية.

تاسعاً: يمكن تشبيه البناء الفني لرواية (حديث الصباح والمساء) بصورة فسيفسائية هائلة الحجم قُطِعَت أجزاؤها الستة والستين إلى أجزاء غير متساوية وقُدِمَت لنا على غير الترتيب المألوف لكي نعيد تجميعها وتخليق حبكتها المركزية، وبهذا فهي رواية قارئ بقدر أكبر من الروايات ذات البناء السردي التقليدي لأنها تتطلب منه إسهاماً أكبر في إعادة صوغ وتخلق بنيتها السردية المجزأة نصياً.

وفضلاً عما سبق، فقد أدى هذا المنحى الجديد في بناء الشكل الفني إلى جملة من المؤثرات الفنية الخفية التي يمكن إيجازها بالآتي:

أ ـ زيادة حصة كل شخصية في الرواية من السرد. فكانت تحظى بحصتها الخاصة عند رواية حكايتها لأول مرة، ثم تحظى بفرص أخرى حين يرد ذكرها في حكايات ومواضع أخرى من الرواية.

ب ـ منح الحكايات، حين تسرد أدبياً، سمة الموضوعية التي هي صفة ترتبط عادة بالإخبار (بكسر الهمزة) المجرد، فكانت الموضوعية حصيلة تواتر ذكر كل حادث وكل شخصية عدة مرات، ومن ثم، وهو الأهم, بمنظورات سردية مختلفة.

ت ـ جعل الشخصيات الروائية، نتيجة ما ورد في (أ) و (ب) أعلاه، على درجة عالية من الوضوح والتميز في التكوين البدني والنفسي والاجتماعي حتى لتكاد تكون مرئية. وهذه المسألة تحتاج لدراسة خاصة تستبين كيف يمكن لسرد بهذه البساطة، من حيث مكوناته في كل حكاية، أن يؤدي بالنتيجة إلى مثل هذا الأثر الأدبي الذي يتطلع إليه كثير من الكتاب ولكن عبر تقنيات إخبار سردي أكثر تعقيداً. 

4 ـ في مغزى رواية (حديث الصباح والمساء)
قبل أن أشرع في الكلام على مغزى الرواية لدي ملاحظتان مهمتان. الأولى هي أنني قد تحدثت فيما سبق عن بنية النص الروائي دون محاولة إعادة سرد أحداثها لأن من شأن ذلك أن يوهم القارئ بأن ما سردناه هو النص الروائي بعينه في حين أنه في الحقيقة نص ثانٍ. ولذلك فأنا أؤمن بأن من أخطاء النقد القاتلة محاولة الناقد أن يقدم تلخيصاً للنصوص موضع البحث النقدي لأن التعليق النقدي سيكون على النص الثاني وليس على نص المؤلف نفسه، كما أنه قد يصرف القارئ عن قراءة النص الأولى مكتفياً بالنص الثاني. ولكن ذلك لا يعني أبداً الامتناع عن الإشارة إلى بعض مما تضمنه النص الروائي من أحداث أو قضايا فكرية أساسية ومهمة في فهم النص الأصلي للمؤلف. والثانية هي أنه إذا أقررنا بأن علم التأويل hermeneutics يتعلق بالدلالة وليس بالمعنى الحرفي للنص الذي نفترض أنه يعبر عن قصد المؤلف، فإن مغزى النص، وصوره العديدة، هو موضع اهتمام النقد الأدبي(6). وهكذا فإن بعض الملاحظات التي أوردناها حين الحديث عن السمات التجريبية في شكل البناء الفني في رواية (حديث الصباح والمساء) هي من قبيل الجهد التأويلي الذي يقع في الصلب من الجهد. فما هي ملامح الدلالة التأويلية لرواية حديث الصباح والمساء التي تتجاوز الوصف وتمثل بعداً نسقياً كامناً في شبكة العلامات المكونة للنص؟

لقد سعى الكاتب الكبير نجيب محفوظ، في سياق روايته هذه، إلى الكشف عن صيرورة الشخصيات وتنوع استجاباتها إزاء ثلاثة مؤثرات أو قوى ضاغطة هي: قوة العاطفة والغرائز كما في حكايات (بليغ معاوية القليوبي) و(جميلة سرور عزيز) و(عزيز يزيد المصري)، وقوة الأعراف والتقاليد الاجتماعية كما في حكاية(داود يزيد المصري)، وقوة المتغيرات السياسية والاجتماعية في أغلب الحكايات الأخرى. وقد ركَّز الكاتب على تجسيد استجابات الشخصيات المختلفة وردود أفعالها إزاء هذه القوى دون الإغراق في التفاصيل ليصل في النهاية إلى تشكيل مشهد شامل بانورامي لصيرورة الذات الإنسانية في تفاعلها مع هذه القوى المُمَثِلة لمؤثرات ميتافيزيقية على الرغم من كونها ترتبط بوجود الإنسان في مجتمع بعينه. وبذلك يكون الأستاذ نجيب محفوظ قد قدم رواية ملحمية في جوهرها وإن كانت ذات شكل فني جديد تماماً وهي أيضاً بدون بطل ملحمي بالمعنى التقليدي الذي نعرفه في الملاحم القديمة. فقد كانت المصائر الشخصية تتداخل، وتتقاطع، وتصطرع لترسم صيرورة زمن عصيب هو زمن المتغيرات الاجتماعية الشاملة، زمن الخروج من مجتمع القرون الوسطى والتحول إلى مجتمع نهايات القرن العشرين. وكل ذلك قد أُنجِز في حيِّز كتابي ضيق نسبياً وبأسلوب ومعمار فني جديد حتى ليمكن القول أن الرواية تمثل نمطاً جديداً من الكتابة الملحمية.

لقد فعلت الرواية كل ذلك دون التفريط بخصوصية الشخصيات، فكان المؤلف يركِّز على الإنسان فرداً وذاتاً اجتماعية واضحة الملامح في المجتمع وشديدة الخصوصية في ملامحها الفردية وفي معاناتها الذاتية. ونعتقد بأن هذا المنهج يقدم مدخلاً مهماً في فهم مغزى الرواية الشامل. فالرواية تظهر وتؤكد الفردانية الإنسانية وتُعلي من شأنها، وتُقلل نسبياً من أهمية الأحداث العامة التي يرد ذكر لمحاً في حين تذكر استجابات الشخصيات لهذه الأحداث على نحو أكثر تفصيلاً. أعني أن الأحداث العامة تذكر لكي يشار إليها بوصفها أسباباً لمعاناة الشخصيات وحياتهم المأساوية، تلك المعاناة التي هي في مركز الاهتمام والتبئير السردي.

إن هذا الصنيع لكاتبنا الكبير هو على الضد مما تقوم به الرواية الواقعية الاجتماعية حيث يجري خفض قيمة المعاناة الفردية بالمقارنة مع المعاناة الاجتماعية التي تحتل مركز العمل. وقد يمكن تفسير هذه الرواية على أنها تؤكد فكرة أن القضايا العامة إن هي إلا حصيلة ذلك التنوع الهائل للحيوات الفردية الخاصة بكل حقائقها وبكل ما يكتنفها من مشكلات وتعقيدات متشابكة. بمعنى أن الرواية لم تخفض قيمة الجانب الاجتماعي بقدر ما أعادت التركيز على الجانب الفردي حتى ليمكن الاستنتاج بأن رواية (حديث الصباح والمساء) هي رواية ردِّ الاعتبار للإنسان فرداً إزاء طغيان النزعة الجمعية. ولقد فعلت ذلك على نحو فيه تجريب يربط ربطاً جدلياً محكماً بين الشكل الفني الجديد والرؤيا الجديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ صدرت رواية (حديث الصباح والمساء) في العام 1987 عن دار مكتبة في القاهرة. أي قبل فوز الأستاذ نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988. كما أنتج التلفزيون المصري مسلسل درامي مأخوذ عن الرواية. وقد فقدت الرواية في المسلسل التلفزيوني كل المزايا الفنية والفكرية التي تحثنا عنها في هذه المقالة/ الدراسة إذ تحولت، كما هو متوقع، إلى شكل درامي ذي بناء تقليدي.
(1) ـ لقد درس عدد من باحثين الأكاديميين والنقا إسهامات الأستاذ نجيب محفوظ في تأسيس الدورة الكاملة للرواية العربية. وقد اتخذ مسار التأسيس هذا البدء بمرحلة الرواية التاريخية، وتضمنت روايات (رادوبيس) و(عبث الأقدار) و(كفاح طيبة)، ثم مرحلة الرواية الاجتماعية، وأبرزها روايات (زقاق المدق) و(خان الخليلي) و(الثلاثية)، ثم المرحلة الرمزية الفلسفية الرمزية، وأبرزها روايات (أولاد حارتنا) و(الطريق) و(اللص والكلاب) و(الشحاذ)، ثم تحول الكاتب إلى نزعة تجريبية تهدف إلى تقديم رؤيا سردية شاملة معبرة عن المسؤولية الفنية والفكرية للكاتب فكانت سلسلة الروايات التي بدأت بروايات (ملحمة الحرافيش)، ثم (حديث الصباح والمساء) وهلم جرا.
(2) ـ كولنجوود، روبن جورج، (مبادئ الفن) ترجمة أحمد حمدي محمود. ص 413. الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966.
(3) ـ ويليك، رينيه، وأوستن وارين، (نظرية الأدب) ترجمة محي الدين صبحي ومراجعة د. حسام الخطيب. ص 115. الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981.
(4) ـ حافظ صبري، مقالة (البنية الروائية كمرآة للتفكك الاجتماعي) مجلة (العربي) الكويتية، العدد 366، مايو 1989.
(5) ـ سرمليان، ليون، (بناء المشهد الروائي)، وهو فصل من كتاب ترجمه الناقد فاضل ثامر ونشره في مجلة (الثقافة الأجنبية) العدد الثالث، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987. ويذهب سرمليان إلى أن هناك أسلوبين في السرد القصصي والروائي هما أسلوب السرد المشهدي (scene) وأسلوب التلخيص (summary).
(6) ـ أنظر : A Glossary of Literary Terms" Abrams, M. H.(1999)
 New York. Holt Rinehart & Winston. Hermeneutics (pp 127-134).