في هذا النص/ الشهادة الذي يقع على تخوم التأمل والاعتراف والتحليل النقدي، يكتب القاص السوري الموهوب تصوره عن هذا الفن العصيّ المراوغ، فن القصة القصيرة، ويتأمل طبيعة العلاقة الخاصة بينه وبين الكتابة في حركيتها الفاعلة.

عن الهاجس ونواته!

إبراهيم صموئيل

رغم نشأتي في وسط يحضّ على الاهتمام بالشأن العام، والسياسي المباشر، وعلى الانشغال بالأفكار والمعاني والدلالات والموضوعات ذات الوزن الثقيل، وكذا بالموقف من، والدفاع عن، والصمود إزاء، دافعاً إياي كي أرى ما عبّر عنه محمود أمين العالم من أن الإنسان موقف... إلا أنني في أعماقي، داخل صندوقي الأسود، كنت منغمساً في تدبّر شياطين الكتابة التي تتقافز حولي، مبحلقة بي، ومادَّة إليَّ ألسنتها الحمراء الطويلة، في تحدٍّ سافرٍ: "هاتِ أرنا كيف ستكتب هواكَ التوّاق وشغفك المفرد: القصة القصيرة؟!".

في الردِّ العملي عليه كان سؤالاً بالغاً في صعوبته. فمن: "هاتِ، أرنا.." بدت لي صعوبة الكتابة شاهقةً. لا الموضوعات كانت تنقصني، ولا التجارب، ولا الرؤية... الكتابة في ذاتها، والكتابة في ازدحام الكتابات، هي لبُّ الهاجس ونواته.

في ظل هذا الهاجس أودعت توقيَ إلى الكتابة الانتظارَ عشرين عاماً، منذ أن نُشرت قصتي البكر "الثوب الجديد" العام 1968 وحتى ظهور مجموعتي الأولى: "رائحة الخطو الثقيل" العام 1988. وعلى امتداد السنوات هذه، بل وحتى الساعة التي أتحدث فيها أمامكم، ما شغلني سوى شاغل رئيس: كيف أكتب القصة القصيرة؟ وفي ظل هذا الهاجس رحت أسائل نفسي: كيف تراك ستقرع بياض الصفحة الأولى، وبأية كلمات تُبادئ‏ قصتك لحظة تهلّ؟ ثم كيف ستخطو إلى بهو المساحات التالية، صفحة بعد صفحة، لتخطَّ عليها أناك الحلم، أناك القصّ، وأناك السرد، من دون أن تستهويك الجلسة فتسهو عن ثرثرتك ولغوك، أو تقلق من مرور الوقت فتجفو وتشحّ؟ كيف لك أن تنهض بعمارتها، وأية خيوط ستختار لنسيجها، وما السبيل لإقامة الإلفة بين جملها والتنادم بين مفرداتها على مائدة القصِّ؟ وكيف ستحاول تحقيق الاقتصاد في الشريط اللغوي كي يمشي، ما أمكنه، على صراط المعادلة الصعبة بين هاويتيّ: الإسراف والتقتير، القاتلتين؟

وإلى ذلك، وبجهد خاص أضيفه، سعيت وأسعى إلى البحث في الطرائق المختلفة لافتتاحها كي تغري، بلا ابتذال، القارئَ لزيارتها، حيث تمدُّ حبل الكلام معه، خلال دقائق معدودات من دون أن يشغله عن حديثها شاغل، ثم كيف تنهض القصة مع قارئها لتودّعه في خاتمة الزيارة بعد أن حاولتْ وشمه، ما أمكنها، بأجوائها كي يغادرها وقد تحوّل إلى حكّاء أو قاصّ يحكي، ويقصّ لنفسه ما ضاق الوقت عنه، أو ما تقترحه الحياة خارج القصّ، على الورق.

على هذه الصخرة، كما بنى السيد المسيح كنيسته، أبني قصتي.

وفي الحقيقة، لم أنظر يوماً إلى هواجسي هذه على أنها من باب البداهات في الكتابات الأدبية الأولى، سرعان ما تُرمى خلف الظهر بعد التمرّس أو نيل الشهرة، وإنما هي في الصلب من كياني والبؤرة من قلق روحي إلى اليوم، فما حملت أوراقي وجلست إلى مكتبي، إلا ووجدت تلك الهواجس مفروشة أمامي كحالها في داخلي. بل إنني أصارحكم أكثر فأقول: ما من قصة حملتُ جنينَها (حتى تلك التي تتخمر الآن في أدراج مكتبي) إلا وكان القلق داخلي يشبه قلق المسافة القصيرة بين الزنزانة وحدِّ المقصلة! ولكن.. لماذا أهوِّل هذا التهويل كله؟! في الواقع، لا أهوِّل ولا أهوِّن. فقط أبوح وأروي ما جرّبتُ به القصة، وما جرّبتني به من دون أن أغفل عن أن حالاً كهذه ستجعلني مقلاًّ في الكتابة، وستحرض الأصدقاء المحبين لما كتبت لحثّي على الكتابة مزيداً، في حين سأجد نفسي، جراء حثّهم وبهجتهم، عائداً إلى المربع الأول ـ على حدِّ التعبير السياسي ـ كي أحاذر مزيداً وأجوّد ما استطعت خشية التفريط بما عاهدت نفسي عليه في كتابة القصة، وخشية السقوط في منزلق التسرع والاستسهال، كحال عددٍ لا تخفى أسماؤهم عنّا جميعاً!.

في عزلة المحاولة التي رحت أرعى خلالها الكتابةَ، دهمني ـ بالطبع ـ لأكثر من مرة التساؤل المحذِّر: ولكن... ألا تخشى من التضحية بدفق الفكرة، وإشراق الموضوع، وفيض الرؤية، وطلاقة السرد والكلام، ودفء اللمسة... على مذبح تلك الرقابة الفنية الصارمة، والتَّنبه العقلي، والموازنة الإرادية.. إلى آخر ما يندرج تحت العنوان القديم الجديد: صناعة الأدب؟!.

في حالتي الشخصية ـ ولا أُعمم ـ لم تقتل العنايةُ العفويةََ، ولا ضيّق الشغل الفني فضاء الرؤية، ولا كتم التنبّه العقلي انبثاق الصوت وتدفّقه. الأمر أشبه بالحمل عند المرأة. حين تهبني الحياة جنينَ قصةٍ، فإن عنايتي ورقابتي وغذائي ومحاذراتي، طوال الأشهر التسعة، لا تغيّر جنسَ الوليد ولا شخصيته ولا طباعه ولا ملامحه ولا خفّة ظله أو ثقل ظله... سيكون هو هو، وسيظهر وفق تكوينه الجيني الأساسي، بل وحتى بعد ولادته وظهوره، فإنني لا أقدمه للآخرين كما انبثق، وبما انبثق، لأنَّ كتابات كهذه ربما كانت تصلح لطبيب نفسي يدرس أحوال مريضه المختلفة، أو يتفحّص خفايا أعماقه، ويكشف عن مشكلاته وعقده الداخلية... لكنَّها لا تصلح إطلاقاً، لقراء من مختلف المشارب والمستويات، لا يقل العديد منهم عن الكاتب ثقافة وحساسية وتجارب حياة.

وإذ أولي قصصي الاهتمام والعناية والشغل الدؤوب، فإنني أكون بذلك كمن يجوب أرضاً خضراء فسيحة كي يقطف الأزهار لحبيبته، موجزاً ومكثّفاً في ألوانها وتجاوراتها وهيئتها ما يضجّ في داخله من العشق لها، والوله بها. ويقيني أن ما يجعل الكاتبَ قاصّاً هو قصُّه، والروائي روايته، والفنان تشكيله، والممثل أداؤه، والمخرج عينه... وإلا، إن لم يكن ذلك كذلك، فكل مجرّب في الحياة حكّاء، وكل حائز ألوان فنان، وكل مالك أحجار بناءٌّ!!

وبعدُ..

فإنني كثيراً ما سألت نفسي: ولِمَ قام العشق بيني وبين هذا المخلوق الأدبي دون الرواية أو الشعر أو المسرح؟ ما الذي شدّني إلى القصة القصيرة بالذات، وماذا يغريني فيها إلى الآن مع أن البعض يدّعون موتها وأن العالم ـ ونحن في جملته ـ يبدّل من مرحلة إلى أخرى ديوانَه الأثير وجنسه الأدبي الشائع؟ لا أدري تماماً. أغلب الظن أن تكون حياتي نفسها، أو ربما تكويني الداخلي الذي طالما هفا ويهفو لا إلى المصافحة بين الناس بل إلى درجة شدِّ الأكفّ وحرارتها. لا إلى المأساة التي تُروى بالكلام، بل إلى خبو العينين واختلاجات الوجه وارتجاف الأصابع. لكأنما أترصد اللحظة الراعبة لانبثاق الحوت من جوف المحيط، ساهياً عن المياه الشاسعة والجسد الضخم. أنشدُّ إلى برهة الانقضاض ووهلة اشتباك اللحظتين، المندفعة والهاربة، بين نمر وغزال. تستحوذ عليَّ آهة الألم النادّة رغماً، لا وقائع ورواية تفاصيل ذلك الألم. تسرقني شهقة فرح، أو وقع مباغتة، أو عثرة، أو زلّة بوح.. إذ تكشف لديَّ عن المخبوء المخزون في قاع الأرواح الآدمية، بما لا يحققه، ربما، سردٌ طويل وشرحٌ مفصَّل.

ألما سبق تراني عشقت هذا المخلوق النبيل والصعب؟ لا أدري. فنحن نقع في الحب، الحلال أو الحرام على حدٍّ سواء، ثم نجد أنفسنا لائبين مفتّشين عن أسباب وذرائع تقنع العقول التي تسأل، أو المُحرِّمين الذين يلومون، وواقع الحال أنّا، نحن أنفسنا، لا نعرف!!.