يقدم الكاتب والباحث المصري في هذا المقال دراسة مقارنة بين توجهات سياسة التفريط في ممتلكات الشعب المصرية باسم مجاراة العولمة، وآليات النهب الجديدة، وبين ما قامت به ماليزيا التي تفوقت على مصر اقتصاديا من الحفاظ على كرامتها وثرواتها لأبناءها.

أبناء الأرض وأبناء العولمة

محمد السيد سليم

"أبناء الأرض"، أو البوميبوترا، هو مصطلح ماليزى يقصد به فى لغة المالاى باهاسا، اللغة الوطنية الماليزية، السكان الأصليون وهم المالاى، والأورانج أصلى وهم يشكلون حوالى 60% من سكان ماليزيا. ويستخدم هذا المصطلح فى ماليزيا لتمييز هؤلاء عن غيرهم من "مواطني" ماليزيا من الصينيين والهنود، وهم الذين أتوا كمهاجرين فى القرن التاسع عشر فى ركاب الاحتلال البريطانى، وحملوا جنسية الدولة بعد استقلالها. صحيح أنهم موطنون، ولكنهم ليسوا "أبناء الأرض".

(1)

ما أهمية التمييز بين البوميبوتيرا وغيرهم؟ فى ماليزيا يعطى أبناء الأرض مزايا عديدة فى مجال التوظف والتعلم وامتلاك الأرض وغيرها من الفرص الاقتصادية والتعليمية. وتعد تلك السياسة هى المسئولة عن الحفاظ على صلابة ووحدة المجتمع الماليزى بعد الاضطرابات العرقية التى شهدتها البلاد فى مايو سنة 1969 بين المالاى وغيرهم من الأعراق، مما هدد بانهيار اجتماعى شامل. وقد فهمت العناصر الأخرى أن من مصلحة ماليزيا تمييز "أبناء الأرض" باعطائهم الأولوية فى امتلاكها وفى الانتفاع بثرواتها. وفى ظل تلك السياسة، التى أسميت "السياسة الاقتصادية الجديدة" وطبقها بكل حزم محاضير محمد، استطاعت ماليزيا أن تحقق نهضتها الاقتصادية، وأن تحقق التوازن بين الأعراق المختلفة فى ماليزيا.

وقد حدد محاضير محمد العلاقة العضوية بين مفهومى التنمية الوطنية، والبوميبوترا بقوله إن منهج التنمية الماليزى يدور حول زيادة كمية الانتاج واعطاء البوميبوترا نسبة أكبر من الزيادة. وهو مايتمثل فى بعدين: أولهما أن الدولة لاتتخلى عن العملية الانتاجية، بما فى ذلك "الإشراف" الصارم على القطاع الخاص المحلي والأجنبي، بحيث لايدخل إلا مجالات الانتاج التى تحددها الدولة. أما البعد الثاني فهو الحفاظ على الثروة الوطنية العقارية فى أيدي الماليزيين وحدهم، وعدم السماح لأى قطاع أجنبى بامتلاك تلك الثروة. وبالتالى لاتسمح ماليزيا للأجانب بامتلاك الأراضى والعقارات، ويقتصر هذا الحق على المواطنين. ولايسمح للأجنبى الا بشراء وحدة عقارية فى حدود 250 ألف رينجت ماليزى (حوالى 68.500 دولار أمريكي) دون موافقة حكومية، وبشرط أن يكون ذلك للاستعمال الشخصى، ولايسمح القانون للأجانب بشراء الأرض للاستثمار، أو بمجرد الاحتفاظ بها. فهذه الحقوق مقصورة على المواطنين، وفى مقدمتهم البوميبوتيرا. أكثر من ذلك، فبموجب القانون الماليزى يتعين على من يبنى عقارات جديدة للبيع الاستثمارى أن يخصص 30% من وحداتها للبوميبوتيرا. وقد يحصل المستثمرون (وهم فقط ماليزيون) على اعفاء من هذا النص، ولكن بشرط أن يثبتوا أنهم لم يجدوا مشتريا من البوميبوتيرا لهذه الوحدات العقارية.

(2)

أما فى مصر، فالأمر جد مختلف. ففى مصر يروج المنظرون العولميون لمقولات عكسية مؤداها أن الاستفادة من منافع العولمة يعنى انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادى، وفتح الساحة دون قيود أمام القوى الرأسمالية العالمية والمحلية، بحيث تتحول تلك السوق الى ساحة مفتوحة للمتنافسين سواء كانوا مصريين أم غير مصريين، رأسماليين أم معدمين. وأن هذا التنافس سيؤدى الى نتائج ايجابية "تتساقط" فوق رءوس الطبقات الفقيرة، وإن التنافس يجب أن يكون مطلقا وشاملا، وأن "بيع الأصول المملوكة للدولة" بما فى ذلك الأصل الثابت، وهو الأرض، هو الطريق الى نهضة مصر، والاندماج الحميد مع العولمة. ويلاحظ هنا أنهم يستعملون مصطلح "الادارة" كمرادف لمصطلح "البيع" وهو اجتهاد طريف لأنك حينما تدير، لن تبيع، وحينما تبيع فان ادارتك تسقط. فكيف تبيع الشيء وتديره فى آن واحد؟

المصريون، عند المنظرين الجدد، هم "أبناء العولمة" وليسوا "أبناء الأرض". فأرض مصر هى مجرد ساحة جغرافية محايدة ومفتوحة، لاينتمى اليها أحد الا اذا كانت لديه القدرة على دفع ثمنها فى تنافس مفتوح بين أبناء الأرض وغير أبناء الأرض، بين المصريين بمختلف شرائحهم الرأسمالية وغير الرأسمالية، وبين الأجانب بمختلف أشكالهم. وبالتالى فعلاقة المصرى بأرضه لاتختلف عن علاقة غير المصرى بها. ولكن لما كان المصرى المتوسط والفقير أقل قدرة على دفع ثمن الأرض، فان علاقته بالأرض قد انتهت عمليا. فالأرض تذهب الى أصحاب الثروات المصرية والأجنبية المتوحشة ، حلال عليهم جزاء مادفعوه. أين يذهب البيوميبوترا المصريون؟ يجيبك المنظرون الجدد بأنهم سيستفيدون من الآثار "المتساقطة" على رءوسهم من فيض ثروات وأنشطة الملاك الجدد، كما أننا سنحاول أن نجد لهم حلولا تتفق وامكاناتهم المحدودة، واحسانات الملاك الجدد عليهم.

كذلك يجيبك هؤلاء بكل ثقة "لانجد مخاوف من بيع الأراضى. هل يمكن لأحد أن يحمل عمارة أو شقة أو قطعة أرض ويحاول تهريبها. نحن لانخاف ولن نخاف من بيع الأراضي"، وهو ماقاله وزير الاسكان المصرى فى أكثر من مناسبة. وهذا القول يفترض أن السيطرة الاقتصادية تأتى فقط من تهريب السلع الى الخارج، وهو افتراض شديد التبسيط، لأن الملكية العقارية ترتب حقوقا وتنشئ التزامات تؤدى الى نزح ثروات الوطن من خلال المضاربة على تلك الملكية. كما أنها تؤدى الى ضياع الثروة الوطنية. فهل ننسى أن مصر خضعت للسيطرة الأجنبية ثم الاحتلال بسبب شق قناة السويس، رغم أن أحدا لم يحمل القناة على كتفه ويخرج بها فى ميناء بورسعيد؟ ألم يقرأ هؤلاء التاريخ لكى يعرفوا أن مايقولونه غير صحيح؟ وما الذى يستفيده الوطن من قيام رأسمالى أجنبى بزراعة أرض مصر، واستعمال مواردها المائية، ثم وتصدير ناتجها الى الخارج، وحصوله هو على العائد؟ وما الذى تستفيده الغالبية من الطبقتين المتوسطة والفقيرة من قيام الرأسماليين ببناء الفيلات والمنتجعات باهظة الثمن على أرض مصر، التى من المفترض أنها ملك لكل المصريين، وليس لهؤلاء الرأسماليين وحدهم.

(3)

لو نظر هؤلاء المنظرون العولميون المصريون الى الخبرة التنموية الماليزية قبل أن يعملوا سيوفهم فى جسد الطبقات المتوسطة والفقيرة المصرية، لأدركوا منذ البداية أن سياساتهم محكوم عليها بالفشل. فماليزيا هى من أكبر الدول اندماجا مع العولمة، وهى تصنف فى مؤشر العولمة على أن ترتيبها هو رقم 23 من بين 122 دولة، ورغم ذلك فانها اتبعت سياسات دارت حول رفض السياسات التى يروج لها منظرو العولمة فى مصر. فماليزيا لم تفتح أسواقها أمام القوى الرأسمالية المضاربة، بل ورفضت مبدأ جعل ماليزيا ساحة مفتوحة لتلك القوى، واتبعت سياسات تحمى مواطنيها من القوى الرأسمالية الأجنبية، وكان من تجليات ذلك القيود التى فرضتها على سياسة بيع الأراضى والعقارات للأجانب، بل واتباعها سياسات لصالح "البوميبوترا" أى "أبناء الأرض" تضمن التوازن الاجتماعى من ناحية، وربطهم بالأرض قولا وعملا من ناحية أخرى. وبالتالى برهنت ماليزيا بجلاء على أن العولمة لاتعنى الانبطاح أمام القوى الرأسمالية العالمية، أو انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادى، أو التفريط فى الأرض، وبيعها لغير الماليزيين. هذا فى الوقت الذى اتبعت فيه مصر، وترتيبها رقم 64 من بين 122 دولة فى مؤشر العولمة، سياسات تحابى القوى الرأسمالية المحلية والأجنبية على حساب "أبناء الأرض" المصريين، وهى السياسات التى تدور حول مفهوم أن الأرض حلال على من يدفع ثمنها، مصريا كان أم أجنبيا. فمصر ساحة جغرافية محايدة ومجردة من الهوية، يمتلكها من يدفع ثمنها.

(4)

والحق أنه لابد من النظر الى هذه المفارقات بين الخبرتين الماليزية والمصرية فى ضوء الاختلاف الكبير بين المفهومين الماليزى والمصرى للتنمية. فقد قام النموذج الماليزى على الدور القوى للدولة ليس فقط لتأطير عمل الرأسمالية الماليزية وتوجيهها نحو فروع الانتاج المطلوبة، بل أيضا قيام الدولة بالمشاركة فى العملية الانتاجية. فى الوقت الذى اتبعت فيه مصر نموذجا يقوم على انسحاب الدولة من الانتاج، بل ومن توجيه الرأسمالية، مع اطلاق العنان للقوى الرأسمالية المصرية والأجنبية، لكى تحدد مسار التنمية المصرية، و المسارعة ببيع الثروة الوطنية. كذلك قام النموذج الماليزى على الحفاظ على الثروة الوطنية، بما فيها الثروة العقارية، ملكا للماليزيين، وبالذات "أبناء الأرض" فى الوقت الذى سيطرت فيه فكرة البيع على عقول المنظرين والمنفذين المصريين، وأصبحوا يحسبون الزمن، لا بعدد السنوات والشهور، ولكن بعدد وحدات الثروة الوطنية التى باعوها، أو بالأحرى أهدروها. وبينما قام النموذج الماليزى على فكرة أن المجتمع يستهلك من انتاجه، فإن المنظرين المصريين يبعون الأرض لإطعام المصريين. مصر تبيع أرضها لتأكل. هكذا قال وزير الاسكان الهمام. فأحد أوجه انفاق عوائد بيع أرض مصر هو توجيه مبلغ 870 مليون جنيه غذاء لطلاب المدارس. وفى احدى المرات أشار بيده الى فمه ليؤكد أن مصر تبيع الأرض لكى تطعم تلاميذ المدارس، فى الوقت الذى تنتج فيه ماليزيا ما تأكل أو تشتريه بناتج أبنائها.

(5)

يبرهن المثال الماليزى بجلاء على أن الصعود الاقتصادى لايعنى التفريط فى ثروات الوطن. فها هى ماليزيا وقد ارتقت فى سلم العولمة متقدمة على مصر بإحدى وأربعين درجة اتبعت سياسات فى الاتجاه الذى يحمى ليس فقط مواطنيها، ولكن فى المقام الأول المواطنين "أبناء الأرض" بأن منعت بيع الثروة العقارية لغير الماليزيين، أوالمنافسة الخارجية لأبناء أرضها فى أرضهم. أى اتبعت سياسات تختلف تماما عما يفعله بالمصريون المنظرون العولميون. وبذلك تسقط مقولة هؤلاء أن سياسة بيع الثروة الوطنية هى السياسة الأكثر توافقا مع العولمة، أو مع مصالح المصريين. فليس ثمة سياسة أضرت بالمصريين بقدر ماأضرتهم تلك السياسة، وليس ثمة سياسة أفادت الماليزيين بمثل ما أفادهم عدم اتباع تلك السياسة.