يقدم الناقد المغربي محمد رمصيص من خلال نماذج مختارة من القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية، سمات عامة وتركيبية للخطاب القصصي، أساليب وأنماط التخييل وسمات الواقعية السحرية التي ميزت هذا الأسلوب من الكتابة القصصية في هذه الجغرافيا المركبة.

القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية

نماذج مختارة

محمد رمصيص

عرفت القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية تحولا جذريا منذ عقد الأربعيات من القرن العشرين وصعودا بسبب تمردها على أساليب المعالجة الفنية المعتادة وطرق العرض وأنماط التخييل المستهلكة. بحيث انصرفت إلى استبطان الذات والخيال الجامح والإشتغال المكثف على الرمز والحلم والسحر والأسطورة كروافد جذيرة بخلق الدهشة والمتعة الفنية. ومن ثم تأسيسها لقصة مضادة. فبتنا نصادف على متن قصصها ـ تجاور الواقع بالأسطوره واشتباك الحلم باليقظة، الأمر الذي منح أدب هذه المنطقة نكهة غير معتادة. وجعله يبدو وكأنه غزو أدبي مضاد لأروبا مخلخلا قناعاتها بوهم الريادة الأدبية ـ وهو المنحدر من عالم ثالث. علما أن هذه الحركة الأدبية التجديدية بأمريكا اللاتينية تزامنت مع ما عرف في أروبا بالرواية الجديدة وإن اختلفا التياران في نقط جوهرية. فإذا كانت الرواية الجديدة قد ركزت الاهتمام ـ أساسا ـ على تجديد الشكل وتعدد الأزمنة اللغوية والواقعية والاكثار من المرايا والأسطح العاكسة(*)، فإن قصة أمريكا اللاتينية ركزت اهتمامها على تطويع الواقع المادى نفسه ـ الواقع المأهول بالسحر والخرافة والأسطورة... وصهره في خليط يتعانق فيه المتعالي بالتاريخي والسحري بالواقعي. مشتغلة على الوقائع الغريبة التي تخرق منطق الطبيعة والعقل، مغذية فعل التخييل بروافد خصبة كالأسطورة التي بتخلصها من خطية زمن الأحداث وتسلسل الوقائع تستطيع منحنا رؤية العالم وكأننا أول من يراه. وتقدم لنا فرصة الإقامة على تخوم اللاشعور لأنها رؤية متحررة من سلطة الرقيب...

ان انصراف القصة القصيرة في أمريكا اللاثينية لتوظيف وسائط تبالغية مبتكرة لم يشغلها عن تسجيل مواقف متجدرة من حالة التخلف والأزمة المجتمعية الساحقة التي وسمت أمريكا اللاثينية حتى الآن(**). ومن ثم بحثها المحموم عن مخرج لحالة الانسحاق الخانقة من خلال احتكامها لرؤية جمالية اسطلح عليها بالواقعية السحرية. واقعية تنمحي فيها الحدود بين الطبيعة والثقافة وترتفع فيها الحواجز بين المجرد والشاخص. وحتى نتمكن من استخلاص نقط التماس والتقاطع لكتاب القصة القصيرة بأمريكا اللاثينية ارتأينا الاشتغال على طائفة من القصص لكل من لويس بورخيس (الأرجنتين) خوان رولفو(المكسيك) كاردوسو(كوبا) وادراردوكاليانو(الأروكواي) ورييير(البيرو).. 

1ـ واقعية اللاعقل والزمن المرتد
يرجع بعض قصاصي أمريكا اللاثينية(***)، جذور الواقعية السحرية لأدبهم لعدة مصادر منها الطبيعة البكر لهذه القارة وغاباتها العذراء ومناخها الاستثنائي حيث الاضاءة معثمة جراء الضباب السائد طيلة النهار الأمر الذي جعل الرؤية ملتبسة ومشحونة بالتهيؤات والخيال الجامح. معطيات طبيعية رافقت ثقافة شديدة الثراء والتنوع. فالى جانب حضارة الأزتيك والموشيك والانكا والمايا توجد حضارة الهنودالحمر وثقافة السود والمولودين.. سياق عام هيأ الأرضية لذهنية خارقة ومدهشة. ذهنية كانت غايتها تعايش الانسان مع الطبيعة ومواجهة الحياة الصعبة. وهذا الواقع العجائبي لأمريكا اللاثينية يجعلنا نقر أن ما نادى به رواد المدرسة السوريالية والعبثية واللامعقول بأروبا في النصف الأول من القرن الماضي كانت امريكا اللاثينية تعيشه بشكل يومي ومنذ آلاف السنين.. عمق حضاري وثقافي أسعف كتاب هذه القارة على اجتراح أفق جديد للكتابة الابداعية. أفق ينهض أساسا على تمديد مفهوم الواقع ليشمل المتعالي واللامنطق، السحروالجنون،الحلم والزمن المرتد الذي يسير عكس تطوره المألوف حيث يصير المستقبل حاضرا والحاضرماضيا وبالتالي تجاور الأبعاد الثلاثة للزمن في ذات اللحظة القصصية أو لنقل فيض الزمن على كل الاتجاهات. لنتأمل هذه القرينة القصصية من قصة "غرفة التماثيل" للويس بورخيس(1)، يقول السارد ص29:

"وجدوا في الغرفة الخامسة مرآة في شكل دائري من صنع سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ لا تقدر بثمن لأنها صيغت من معادن مختلفة، فمن نظرفي قمرها رأى وجوه آبائه وأبنائه منذ آدم أول الخلق والى من سيسمع صوت النفخ في الصور". ان الزمن الفزيقي الذي نعرفه من خلال الساعة أو وضع الشمس في السماء يصبح ضئيلا موازاة والزمن الكوني المرصود في قصص لويس بورخيس. زمن طرفيه لحظة الطرد من جنة عدن، ولحظةالبعث.. مسافة زمنية هائلة تتولد بمجرد الرؤية في المرآة. زمن يفيض عن لحظة الحاضر ويستبق الآتي ويتنبأ بما سيقع ومن ثم خروجه عن حيز ادراك الانسان الذي اعتاد اعتبار المستقبل مجرد احتمال بينما هو في النص واقعا عينيا ثابتا. وذلك من خلال معرفة الفرد لأحفاد أحفاده. عند هذا المستوى تصيرالمرآة قرينة التوغل في أعماق الانسان ووسيطا لمعرفة سلالة وأنسابه. مفارقة دورها المعتاد في انتاج ذواتنا المرئية الى مالا نهاية. مرآة لا تكتفي بعكس الجسد المحدود بالزمان والمكان ممتدة الى عكس مآله وأصله. علما أن التنبؤ لايعني فقط استباق الأحداث وانما تجريد للزمان والمكان أساسا..

وفي ذات الاتجاه الجمالي يسير القاص الكوبي "اليخو كاربنتير" في قصة "رحلة البذرة" حيث الزمان ينساب الى الوراء ويتدرج الشيخ في اتجاه الطفولة، وتعود العصافير لأعشاشها كي تصير بيضا. بل ان العمال عند حظورهم للمعامل يجدون مهامهم منجزة وشموع أكواخهم تزداد طولا بدلا من التلاشي والتآكل. رؤية فنية توفق من خلالها القاص في خلق عالم لاتسيره قوانين الطبيعة التجريبية وانما يخضع لقوى عليا تنتمي لعالم السحر في محاولة لفض أسرار الكون. وذات التفوق يحرزه القاص المكسيكي "خوان رولفو" في قصة "قل لهم ألا يقتلوني" قصة وان كانت تبدو ضاهريا مغرقة في هموم ذاتية حيث يستشعر مزارع هاجس المحو والقتل،فانها ضمنيا تستثمر رحلة الضياع الكبرى والطمس التي عاشها شعب الهنود الحمر وتعيد فتح جراحهم التي لن تبرأ. كل هذا من خلال ربط القاص للخاص بالعام. لنتأمل هذه القرينة القصصية لخوان رولفو. يقول السارد:

"كان قد حاول النوم للحظة، عله يهدأ، لكن الوسن هجره، وانتفى الجوع أيضا. ما كان يرغب في شيء، أن يحيا فحسب، فالآن، بعد أن أدرك جيدا أنهم سيقتلونه، غمرته رغبة هائلة في الحياة، كتلك التي تعتري المبعوث لتوه"(2). علما أن زمن جنحة هذا البطل الفار من القتل تقارب الأربعين سنة: جنحة اقتحام خرافه لحقل جار ثري في موسم قاحل وجاف. ليقتل المزارع رميا بالرصاص بحجة خرقه للقانون.وإن كنا نعلم أن القانون الذي جرمه يسقط الجرائم لا الجنح فحسب بالتقادم إذا استثنينا جرائم الحرب.. ويلعب الزمن الماضي في هذه القصة دور البطولة المطلقة لأنه يغدي ساكنيه بالدغينة والانتقام ويجعلهم ينتصرون للموت لا للحياة. لنعد لهذا المقتطف من القصة ذاتها: "حدث هذا مند خمس وثلاثين سنة، في آيار، ففي نيسان كنت فارا في الجبال ولم تجديني البقرات العشر التي وهبتها للقاضي نفعا، ولا حجر داري من أن أجل خروجي من السجن. وحتى بعد هذا، استولوا على ما تبقى مقابل الكف عن ملاحقة، لكنهم ظلوا يلاحقونني"

في قصة "ليست الأمور على ما يرام يا كارميلوروسا" للقاص البيروفي "رييير" يعود المبدع لنفس التقنية السحرية، تقنية تقويض وجهة الزمن وجعله يسير إلى الخلف.. فقط لا ينبغي اعتبار هذه الركيزة ضمن الواقعية السحرية هروبا من مواجهة الواقع بقدر ما هي تقنية لالتقاط الأسرار التي تكمن تحت مظاهر الواقع والسر المبهم الكامن في أحشائه. لنتأمل هذه القرينة القصصية الراصدة لجدل شيوخ حول وجهة الزمن. يقول السارد: "بين يوم وآخر سيعود كل شيء ليس الى ما كان وإنما إلى ما كان ينبغي أن يكون وستعود شابا مرة أخرى دون أن تفكر أن لا شيء يعود إلى الماضي".

يبقى السؤال المربك خلف شيوع هذه التقنية في القصة الأمريكولاتنية محيرا ومثيرا. ترى ما هي الخلفية الفلسفية ـ إذا غضبنا الطرف عن بعدها الجمالي ـ لتقنية الارتداد بالزمن إلى الخلف؟ هل تضمر تهيبا من الموت ما دام الاحتكام لخطيته الطبيعية تعني اتجاهه نحو المستقبل ومن ثم نحوالموت. أم هي تقنية تخفي شعور الإنسان الدفين بخوفه من الوهن والضعف الملازمين لفترة الشيخوخة؟ وعموما يمكن اعتبار تقنية "الزمن المرتد" فضلا عن كونها تمنح مجرى الأحداث عمقا سحريا ومدهشا فهي تعيد لغز الموت للواجهة مع ضمان تأجيل مواجهته أو لنقل جعل حتميته محتملة. تقنية تلاعب هذا القلق العميق والجرح الوجودي الغائر. إن لم نقل أنها تسخر منه مرتين:مرة بإشباع الموت قتلا ما دام فعل الكتابة يأبى المحو والنسيان. ومرة ثانية بتقويض وجهة الزمن وسيره نحو زمن البديات الأولى للأشياء  

2 ـ العجائبية والقصة المضادة:
إذا كانت العجائبية تراهن على الغريب والمدهش وتخلص لشحنة المفارقة التي تخترق كينونتنا مشددة على أن العقل والمنطق غير قادرين على تصوير الواقع وتمثل مشمولاته بشكل مجدي ومقنع. فإن القصة المضادة تقدم صورة للعالم المعاصر باعتباره فوضى والإنسان باعتباره ضحية للعقل(3). قصة ترفض التظاهر بالأخلاقيات الزائفة وتثور على التقنيات التعبيرية النمطية مخلخلة كل الثوابت السردية التقليدية لأنها تضرب بقوة إعصار بحري بالغ العمق تماما كما هي ثقنية "المرايا المكسورة" في قصة "إيماتونت" للويس بورخيس(4)، تقنية تفتت الواقع وتصر على عدم العناية بربط جزئياته وتسلسلها حيث ترتفع العلاقة السببية لمكوناته. عند هذا الحد يتساوى التكنيك القصصي بالمضمون في إيصالي رؤية المبدع. لنتأمل هذا المقتطف النصي للويس بورخيس حيث البطلة "إيما تونت" مرة تتخيل نفسها تتجول، ومرة تتخيل نفسها تائهة، ومرة ثالثة تتخيل نفسها تعريها عيون الجياع. يقول السارد ص 54: "يقينا انها ذهبت ذلك المساء إلى الميناء لعلها شاهدت نفسها، وهي تعبر ممشى خوليو السيء السمعة، مضاعفة في المرايا تشهرها الأضواء وتجردها من ملابسها عيون الجائعين. بيد أنه من المعقول أكتر الافتراض بأنها تاهت، دون أن يلاحظ أحد، خلال سوق غير آبه.. دخلت حانتين أو ثلاثا.. هل فكرت "إيماتونت" في كل ذلك الزمن الموجود خارج الزمن، وفي تلك الفوضى المحيرة للأحاسيس المنفرطة والفضيعة؟"

أما فرادة قصة "قل لهم ألا يقتلونني" لخوان رولفو فتكمن في إحضار الحرس لمزارع بئيس اقتحمت خرافه ضيعة جار ثري قطع على نفسه ان يكون الرد هو القتل. ولحظة حضور المزارع احتوته فكرة مواجهة خصمه قصد إفحامه بان الغني عادة ما يغتني على حساب إفقار الفقير وبالتالي وجب على الغني أن يخجل من غناه لا الفقير من فقره. لكن إبان عودته لن يجد سوى صوت ملتبس وموقف أشد التباس. لنتأمل هذا المقطع القصصي:

"سيدي العقيد ها هو الرجل
كانوا قد توقفوا امام عتبة الباب وقد أمسك هو قبعته بيده علامة على احترام. واتنظر خروج شخص ما.. فلم يخرج سوى الصوت (...) قال الصوت:
إربطوه وقدموا له شيئا يشربه حتى يسكر كي لا تألمه الطلقات".

ان التباس هذا الموقف يكمن في جمعه بين القسوة واللين.فماذا يجدي الهالك تجنيبه الألم وهو سيعدم رميا بالرصاص؟ان اسكار الهالك من لدن العقيد وجوقته يعد هروبا من مواجهة نظراته الحادة. اذ بحمله لدائرة اللاشعور/ حالة السكر يتحرر من حدة المواجهة. فاسكار الخصم ليس حبا فيه ولكن كرها لعنادها ومحاولة للنيل من صموده. فقط تجب الاشارة هنا أن تغييب القاص لمرتكبي الظلم واكتفائه بحظور صوتهم هو قتل رمزي لهم. كما أن احتفاضه بعيني الهالك جاحضتين بعد رميه بالرصاص كناية على رغيته الأكيدة في استقبال الموت بعيون مفتوحة ودون تهيب لأنه صاحب حق وقضية. ان تفوق صوت الظلم لا يعني أن الشر دوما منتصر بقدرما يحيل على أن احقاق الحق طريق لازال يتطلب الكثير من التضحية..دون أن يعني أنه أمرا مستحلا...

نستنتج أن القصة المضادة بأمريكااللاثينية ـ الى جانب جدة وسائطها التبالغية ـ تفضح أكثرماتحفي اخفاقات الانسان المعاصر وتناقضاته.. وتكشف زيف الحضارة الراهنة وكل أشكال التشوهات السيكولوجية التي فاضت عن مجراها. وتفتح جراح التناقض التي تعتري سلوك الفرد المعاصر مدمرة بثبات براءته المدعية ونبله الزائف. 

3 ـ اللغةالشعرية للقص ورهان الثلويت:
اذا كان الأدب المضاد ـ بشكل عام ـ يبدأ بهدم الأشكال، ومحوالحدود بين الأنواع الأدبية. ومنح اللغة قيمتها الحقيقية فان القصة المضادة هي كذلك قصة ضد لغة مضغت واجترت حتى الملل. وانتهت بأن اننزعت منها حيثيات التعبير الأدبي.. قوتها تكمن في اتجاهها نحو العمق وليس باتجاه الامتداد.. قصة تبدو وكأنها بدون قاع ولاسقف، دلالتها شاهقة العمق غائرة الاحالة. لنتأمل هذه الكمياء الشعرية المتولدة جراء تركيب الجمل واستخدام مجازات ديناميكية وبالتالي الوصول الى لغة مشحونة بمسافة توثر دلالي غير محددة الاحالة. يقول السارد في قصة "الفتاة ذات الندبة" للقاص "ادواردو غاليانو". عادت لتجد الطقوس الصغيرة دونما تغيير. الطقوس أن تبلل أصبعا وتمرره على النذبة التي تقسم دقنها. أن تستعير ساقها من تحت الطاولة، تدخين السجارة ذاتها، شرب الأنخاب والكأسان ملتصقين. الطقوس: نقل الدخان أو الخبز من فم إلى فم. طلع القمر مبتلا قبل أن تغيب الشمس. تمشينا لغاية الشاطئ الصخري. طير البطريق تبعنا بطيران منخفظ. سبحنا في البحر عراة. لم يسبق لها أن جربت. رأينا من بعيد نقاط تكبر: قواريب الصيادين. عائدون والمستودعات مليئة بسمك القرش. كنت أعرف ذلك الإحتضار الفضيع: الأسماك المختنقة تتقلب في الشباك قبل ان تهوي مكدسة".

إن تفاصيل العلاقة العشقية بين هذين البطلين تطلبت لغة شعرية تتناسب والموقف المرصود. حيث لجأ القاص لالتقاط تفاصيل دقيقة متوسلا بلقطات مكبرة ترصد الأشياء الحميمةبغاية التعرية: تعرية الأعماق والغوص في تربة الرغبة وهواجس الذات. تفاصيل مسنودة بضمير متكلم في صغة الجمع (نحن) ضمير ملتبس! لأنه بقدر ما يتمدد ليشمل البطلين، بقدر ما يجعل الذات القاريء تنزلق لأرض الحدث حيث تنتفي المسافة بين الفاعل والمتفرج عليه (تمشينا لغاية الشاطيء الصخري.. سبحنا عراة.. راينا من بعيد نقاطا تكبر..) فضلا عن لجوء القاص لإسقاط حروف الربط وهي إحدى تقنات اللغة الشعرية مع اشتغاله المكتف على رموز عميقة الإحاء (نبيد، جسد، قمر، بحر) وباحتكام القاص لهذه الترسنة التقنية يكون قد تجنب القص الخطي وارتضى القص الدائري بديلا من خلال رصد الجزئيات وإكثار النعوت والتشبيهات والمجازات منتهيا لكتابة داخلية ذاتية الإحالة والانعكاس.

في قصة "فرانسيسكا وألمينية" للقاص الكوبي كاردوسو يحضر الوصف الشعري للمكان ويشتبك النثر بالشعر نافيا سلطة نقاوة الجنس الأدبي. الأمر الذي يحيلنا رأسا على النص المتعالي بالمعنى البارثي. النص الذي يتعالى عن الأجناس الأدبية في الوقت الذي يستفيد منها ويتداخل معها دون أن يحصر نفسه في خانة معينة. لنتأمل هذا المقطع القصصي: "قالت أرمينيا لنفسها راضية، وتابعت المسير في الطريق المحاطة بالزعتر والندى. وفعلا، فقد كان شهر آيار، والأمطار التي هطلت قبل ذلك لم تكن لتسمح للبدور البرية وللسويقات من البقاء تحت الأرض دون أن تخرج للشمس. كانت أغصان السنابيل الوليدة كشجرة "السيباكالكوبا" الشفافة وجدع "الغواقة" يطلق قشرته في مواضع متابعدة، مظهر اللحم النظيف للخشب. لم تحو حقول السكر ورقة واحدة صفراء. اخضر كل شيء، من الأرض حتى الهواء، والأزهار تعبق برائحة الحياة"

إن التشكيل اللغوي لهذه القصة بتجلياته الشعرية المختلفة من صور ومجازات تجعل منها لغة إحائة متعددة المرجع والإحالة أفق يجعل البعد التواصل الصرف للغة يضيق فاسحا المجال لذاتية اللغة من خلال تغلغل الذات في تصوير الواقع. دون أن يعني هذا أن اللغة الشعرية حاضرة لوحدها بقدر ما تتجاور مع اللغة الإبلاغية في الدرجة الصفر للكتابة وتفاعلهما وفق مبدأ الحواري. إن تلويت نقاوة القصة المشحونة بنفس شعري يقابله في الشعر توسل القصيدة بعنصر الحكي كما في دواوين أوكتافيو باث التاليين "متاهات الوحدة" وملحمته الميكسيكية "حجرة الشمس".

إن رهان الواقعية السحرية لقصة أمريكا اللاتينية على تجاوز المتنافر واشتباك المتباعد وتعالق المفارق يمكن إجماله في القولة العميقة للويس بوخيس: "أن تعبر الفردوس في الأحلام وتجني وردة فهذا أمر جميل، لكن الأجمل منه أن تصحو والوردة في يديك"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ أنظر على سبيل المثال القبة الكونية "لنتالي ساروت" 1959. طريق فلاندر "لكلود سيمون"1960. ممر ميلانو "لمشيل بيتور" 1954.وذكريات من المثلت الذهبي "لألن روب غري" 1978.
(**) ـ نسوق هذا الاستشهاد لتمثل الوضع المترهل لدول أمريكا اللاثينية وهوبيان جماعة أدبية نشر في مجلة البيرو الأدبية.العدد الأول تشرين الثاني 1966.يقول البيان: "ولدنا في بلد من أكثر بلدان العالم تخلفا، وحياتنا بمثابة المعجزة: فقد جاوزنا العشرين من عمرنا (قرابة الخمسين بالمائة من أهالي البيرو يقضون لأسباب متعلقة بالجوع قبل بلوع العشرين) ونحن نمثل اسثتناء ضيقا. فقد أتممنا دراسات جامعية، وهذا امتياز في بلد يعاني الستون بالمائة من سكانه الأمية"
(***) ـ نقصد بالتحديد القاص الكواتمالي ميخيل أنخل أسترياس والكاتب الأرجنتيني (خورخي لويس بورخيس) أنظر حوار الأول بكتاب منهج الواقعية في الابداع. صلاح فضل. مؤسسة مختار للنشر1992. من ص289الى315ص. وحوار بورخيس بمجلة قاف صاد المغربيةع /6/ 2008
(1) ـ الدنو من المعتصم.خ لويس بورخيس. قصص. ترجمة ابراهيم الخطيب. منشورات نجمة.1992. ص29
(2) ـ مجمل القصص الأمريكولاثينية المشتغل عليها وردت في ملف خاص قدمته مجلةالمعرفة/ ع 259. شتنبر1983
(3) ـ عالم المعرفة ع122. أدب أمريكا اللاثينية.تنسيق وتقديم.سيزا فرناندث مورينو. المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب ـ الكويت. أنظر على وجه الخصوص الفصل الثاني الخاص بمفهوم الأدب المضاد.
(4) ـ الدنومن المعتصم. بورخيس. م/ م. ص54
(5) ـ ذاكرة الحلم والوشم. محمد الخطابي. اياديف للطباعة والنشر2005. ص134