ها هو عام آخر ينصرم من عمر (الكلمة) يشتد فيها عودها، ويلتف حولها القراء بصورة فاقت كل توقعات صاحبها وتجاوزت أحلامه. هنا يشارك رئيس التحرير قراء الكلمة وكتابها الاحتفال بعيدها الثاني، ويفكر معهم في مستقبل مشروعها العقلاني الحر.

عامان من عمر (الكلمة)

صبري حافظ

كلما تكاثف الظلام اشتدت الحاجة للضوء
ها هي (الكلمة) تكمل عامها الثاني في واحدة من اكثر اللحظات العربية ترديا وجنونا، حيث تدك آلة الكيان الصهيوني العسكرية البربرية غزة، وتوقع مئات الضحايا من الأبرياء والعزل مابين قتيل وجريح في محرقة مجنونة، وحكام البلدان العربية صامتون، بل إن بعضهم متواطئون. هذا الصمت المريب الذي يكتنف المؤسسة الرسمية العربية إزاء هذا العدوان الغاشم، ويعريها من أي شرعية أو مصداقية، يقابله ضمير عربي محتقن ووجدان شعبي عربي يشتعل غضبا، دون أن يستطيع أن يحيل هذا الغضب إلى فعل قادر على التأثير في الموقف، أو توجيه أي من الأسلحة التي أنفقت عليها الأنظمة/ أم تراها الشعوب العربية؟/ الملايين صوب تلك الغطرسة البربرية الصهيونية. فلم تكن الفجوة أبدا بهذا الاتساع بين مواقف المؤسسة العربية الرسمية ومشاعر شعوبها في التاريخ الحديث. حيث يستخدم العدو الصهيوني أرقى ما في جعبة التكنولوجيا العسكرية الأمريكية من عتاد للدمار لمواجهة صواريخ بدائية، وشعب محاصر، بينما تغص الترسانة العسكرية العربية بالأسلحة الحديثة التي اشتريت من دم الشعب العربي، لا للدفاع عن قضاياه العادلة، أو لردع تلك الغطرسة الصهيونية، وإنما لحماية تلك المؤسسة الرسمية العربية التي ينطبق عليها مفهوم جرامشي بأنها مؤسسة العروش الخاوية.

وكلما اتسعت الهوة بين صمت المؤسسة العربية المريب وعجزها الفاضح، وبين عرامة الغضب الكظيم الذي يمور في الوجدان الشعبي العربي وهو يشاهد على شاشات الفضائيات تفاصيل المذابح اليومية، ولا أقول المعارك ـ فأي معارك تلك التي تدور بين عدو يعتصم بأحدث الطائرات، وشعب محرّم عليه الحصول على أي أسلحة حديثة، ناهيك عن صواريخ مضادة لتلك الطائرات التي تدك بيوته وتقتل نساءه وأطفاله، وتستبيح فضاءاته دون رقيب أو حسيب ـ كلما ازدادت معاناة هذا الشعب العربي من المحيط إلى الخليج من الإحباط والهزيمة حدّة وتجذرا. وكلما تفاقم شعور الشعب العربي الكبير بالعجز والهوان ـ في عالم يزداد فيه تخلفا وتقهقرا، بينما تنهض بقية الأمم والشعوب وتتحرر وتثور، وفي واقع يعيث فيه الفساد والاستبداد في شتى ربوع عالمنا العربي بلا رادع، بينما تتساقط الأنظمة المستبدة في كل مكان ـ وكلما اتسعت الهوة بين المؤسسات العربية الرسمية وشعوبها، وبين تلك الشعوب وأمانيها وصبواتها كلما أصبحت الكلمة هي الملاذ، والعقل هو السبيل للخروج من تلك الكارثة. فالعجز العربي الذي يتجلى بوضوح في تلك اللحظة التي تخرج فيها الشعوب للتظاهر ضد الغطرسة العدوانية الصهيونية في كل بقاع العالم ـ ولاتجد شعوبنا العربية أمامها الفرصة للتعبير بوضوح عن مشاعرها، حيث عليها أن تواجه مؤسسة القمع المحلية وقوات قمع المظاهرات المدججة هي الأخرى بالأسلحة في عقر دارها العربية ـ يسم المؤسسة العربية القامعة أيضا بالعجز ويعريها في الوقت نفسه من أوراق التوت المهترئة التي لاتخفي عوراتها.

في هذا العالم الذي يتفاقم فيه الإحباط ويزداد الإحساس المؤسسي والشعبي معا بالعجز والهوان تكتسب الكلمة، الرمز والقيمة، الكلمة الحرة المستقلة، أهميتها لاستنهاض بلداننا من وهدة هذا الهوان، كما تكتسب (الكلمة) المجلة دورها في ريادة هذه النهضة ورعاية مسيرتها العقلية. لذلك لايدفعني هذا الوضع الكارثي الذي يتفشى فيه الإحباط والعجز والجنون إلا للتمسك أكثر بالكلمة وبغاياتها التي أعربت عنها في افتتاحية عددها الأول. فكلما تكاثفت الظلمة وحلكت دياجيرها، كلما اشتدت الحاجة للضوء، وكلما أسفر الجنون عن وجهه القبيح كلما اشتدت الحاجة للعقل وللفكر العقلاني الحر. والكلمة هي أداة العقل في جل الثقافات الحية التي تحرص على تمحيص الكلمات وبلورتها، وتخليصها من اللبس والتزييف والغموض، ورد معانيها الدقيقة لها باستمرار. وطرح أسئلة الواقع الجوهرية عليها، كي تظل قادرة على التعبير عنه.

لأننا لانستطيع الحياة كبشر جديرين بالانتماء للبشرية دون الكلمة الفعالة ذات الدور الناصع الوضوح. وقد كان للكمة دور فعال في الواقع العربي، حينما كان للكلمة حراسها الأوفياء، الذين يدافعون عن شرفها بنزاهة، ويزودون عن حماها بكبرياء. ويدركون أن شرف الكلمة لا ينفصل عن شرف المثقف واستقلاله. ولكن هذا الدور بدأ يتعرض للتآكل والتضعضع والضمور. عندما فقد حراس الكلمة استقلالهم، واحتوتهم المؤسسة بأدواتها المعروفة من ترغيب وترهيب، ومن تهميش وتشويه لمن يرفضون الانصياع. وبدأ عدد كبير من المثقفين يتحولون إلى كلاب حراسة لأنظمة ومؤسسات تشوه الكلمة، وتلطخ شرفها في الوحول من أجل الدفاع عن مصالح تفتقد في كثير من الحالات للمشروعية والمصداقية، وعن رؤى وأيديولوجيات تدعم وجود هذه الأنظمة، أو تكتسب الأنظمة أسباب وجودها من تبنيها لها، وتحقيقها لتصوراتها مهما كانت هذه التصورات معادية لمصالح الأوطان التي يحكمونها. وكلما اشتدت شراسة كلاب الحراسة وتعاظمت سطوتها، تنامى معها الخلط والتخليط في ساحة الكلمة، وصعب تمييز الغث فيها من الثمين، وعانت من انعدام الدور والفاعلية. وأزداد القارئ بلبلة وفقدانا للبوصلة الهادية التي يميز بها سكة السلامة من السكك الملتوية والمودية إلى التهلكة، وسيطر عليه العته والجنون. وازدادت مع هذا كله الحاجة إلى منبر يسترد للكلمة شرفها ودورها وأصالتها ومصداقيتها، وينفض عنها أتربة الخلل والتزلف والتشويه.

وهذه الحاجة هي التي دفعتني أساسا إلى التفكير في إصدار هذه المجلة قبل عامين والسعي بها إلى أن تسترد للكلمة العربية شرفها، وتخليصها مما علق بها من أدران كلاب الحراسة ونجسهم. فهي مجلة لا يهمها إلا التعبير الصادق عما يمور به الوجدان العربي من مشاعر وخلجات. ولا تتغيا إلا استيهام نبض الأمة العربية بإخلاص، والتعبير عن أحلامها وصبواتها بدقة، وبلورة رؤاها وأولوياتها بوضوح. في زمن يعاني فيه الواقع العربي ـ كما يتجلى في تلك اللحظة المرعبة من تاريخه الحديث ـ من اتساع الفجوة بين وجدان الغالبية العظمى من القراء ورؤاهم، وبين خطاب المؤسسة العربية الرسمية وتوجهاتها. بل يوشك التعبير عن رؤى هذه الأمة وضميرها، وعن أولوياتها ومصالحها، أن يكون غائبا عن المنابر الرسمية المقروءة منها والمسموعة والمرئية برغم كثرتها. وهي المنابر التي تدعمها المؤسسة عادة، وتغدق عليها بسخاء، مهما اختلفت أقنعتها، وتباينت تجلياتها. 

غايتنا شرف (الكلمة) وإرهاف دورها
لذلك انطلقت هذه المجلة قبل عامين من غيرة حقيقية على الكلمة، ومن وعي بأن الثقافة التي تفقد فيها الكلمة شرفها ومصداقيتها هي ثقافة محكوم عليها بالموت، أو على الأقل بالتخلف المستمر والانهيار. ومن حرص على إحياء الكلمة الحرة الصادقة المستقلة، ومن رغبة مخلصة في تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون مواربة أو تدليس. ومن رغبة مخلصة في رفع راية العقل والمعرفة في مواجهة جحافل الظلام واللغيبية والتخلف، وفي إعلاء صوت الحق الخافت في مواجهة صوت الباطل الزاعق والمدجج بأسلحة المؤسسة وأموالها ومحطاتها الفضائية والأرضية على السواء. فقد انبثقت هذه المجلة عن وعي ملح بأن الواقع العربي المتردي على الدوام ـ وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة ـ في حاجة ماسة إلى منبر عقلي مستقل شجاع. يعيد للكلمة فاعليتها ومصداقيتها والتفاف القراء حولها. ويمكن صاحب الكلمة الحرة المنزهة عن الغرض من أن يستعيد دوره الريادي في توعية قرائه، وإزاحة ما يتراكم في وعيهم من كلمات زائفة، ورؤي مغرضة مغلوطة. وتنوير بصيرتهم بطريقة عقلية نقدية، تمكنهم في نهاية المطاف من التمييز العقلي بين الغث والثمين بأنفسهم. فهي مجلة تسعى إلى إعلاء صوت العقل والنقد والمساءلة والتمحيص، وإلى طرح الأسئلة الثقافية والمعرفية والفكرية الجوهرية الأصيلة، وإلى وضع أجمل ما في طاقة هذه الأمة من إمكانيات صادقة على الخلق والبحث والإبداع على المحك دون مساومة أو غمغمة أو التواء، وإلى أفساح مساحة واسعة للعقل العربي والإبداع العربي ليناقش ويجرّب، وإلى طرح القضايا الملحة والمقلقة دون حسابات للربح أو الخسارة، أو مراعاة لقواعد الرقابة ومحظوراتها، اللهم إلا الرغبة الصادقة في المعرفة وقول الحق.

هي إذن مجلة مستقلة بالمعني الشامل لهذه الكلمة، استقلال فكري واقتصادي وسياسي. ومجلة ثقافية بالمعنى الواسع لكلمة الثقافة الذي يتسع لمختلف وجوه الإبداع واستقصاءات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولكنها ليست مجلة سياسية بالمعنى الضيق لكلمة السياسة، وإن كان استقلالها نفسه ينطوي على رؤية سياسية وفكرية واضحة، تضيق بالتبعية بكل أشكالها وتجلياتها، الثقافية منها والفكرية والسياسية. وتعلي شأن قيم الاستقلال والعقلانية والحرية. ولذلك كان من الضروري، بل الحتمي، أن تكون هذه المجلة مبادرة فردية متواضعة، في عصر سيطرة المشاريع المؤسسية العملاقة. تدرك أن هذه المشاريع العملاقة والتي تعددت منابرها طوال العقود الثلاثة الأخيرة لم تنجح في الخروج بعالمنا العربي من محنته التي تزداد تفاقما يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى.

فقد انتهت الأمور بأن أصبح عالمنا العربي ـ برغم كل مؤسساته السياسية والحضارية والإعلامية الضخمة ـ رجل العالم المريض في مستهل القرن الحادي والعشرين، كما كانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض الذي تتصارع الدول الأوربية على ممتلكاته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فالعالم العربي الآن هو رجل العالم المريض، يقف مهانا وبائسا وكئيبا، لا يعرف لنفسه طريقا، وليست له مشروعاته أو أولوياته الخاصة التي يسعى لتحقيقها، وسط عالم يضج بالنمو والنشاط والأجندات المتصارعة. فإذا كان للولايات المتحدة مشروعها الكريه في السيطرة وغطرسة القوة والعنف العسكري، وإذا كان للصين مشروعها التنموي السلمي الجبار، الذي أصبحت معه مصنع العالم، وللهند مشروعها المماثل الذي أصبحت به مركز بيع الخدمات المعلوماتية في العالم. وإذا كانت أوروبا التي عاشت تاريخا طويلا من الحروب والإحن تتوحد بمجهود جبار، برغم العوائق اللغوية والتاريخية وأنهار الدم التي سالت في الماضي القريب، لتصبح أكبر وحدة اقتصادية وأكبر سوق في العالم، ولتجعل عملتها الموحدة واحدة من أقوى عملاته. وحتى العدو الصهيوني الضئيل فإن له مشروعه الهمجي في المنطقة للسيطرة على مقدراتها، والذي يعمل باستمرار على تحقيقه. يتوسع فيه بالعنف والوحشية، ويفرض به الأمر الواقع على جيرانه الخانعين الذين يستجدون منه سلام الضعفاء، فلا يأبه بهم مستمدا الحماية من المشروع الأمريكي الذي يحاكيه في توسعه وغطرسته ولا مشروعيته.

إذا كان هذا هو حال العالم من حولنا، في تلك اللحظة المريرة التي تدك فيها الطائرات الصهيونية شعب غزة الأعزل، فإن عالمنا العربي يقف وحده عاجزا ذليلا يتفرج ببلاهة مؤسية على ما يدور حوله، دون أن يكون له مشروعه الخاص، وسط هذه المعمعمة الحضارية التي لاتعرف الراحة. يقف بائسا ومثقلا بأنظمة آيلة للسقوط، فقد شاخت وتكلست ونخرها التخلف والاستبداد. يعاني من الضياع والذل والهوان، وهو يرى العالم ينهض بينما يتمرغ هو في وحول التبعية والعودة إلى حظيرة الاستعمار بأسوأ أشكاله. وما أن يلقي صحفي محبط عانى من عنف الاستعمار وهوانه بحذائه في وجه جورج بوش الأمريكي القبيح، حتى تنهال عليه جلاوزة المؤسسة العربية الحمقاء ركلا وتنكليلا. فأكثر البلاد التي تجتاح وتذل وتهان في مطلع القرن الجديد هي البلاد العربية دون سواها. وأكثر الشعوب التي تمرغ كرامتها الوطنية في التراب كل يوم، ويعصف بحقوقها الأساسية على مشهد من العالم كله، وعلى شاشات فضائياته المختلفة، هو الشعب العربي في مصر أو فلسطين أو لبنان أو العراق أو في أي مكان آخر من عالمنا العربي الواسع والعاجز معا.

فلم يتم غزو بلد في القرن الحادي والعشرين وبأساليب وحشية ـ ساهم العرب أنفسهم فيها بطرق مباشرة وغير مباشرة ـ كما تم غزو العراق بدعاوى كاذبة خرقاء، لم يصمد أي منها لامتحان الزمن ولو لعام واحد. ولم تتم الإطاحة بكرامة شعب كما تتم كل يوم الإطاحة بكرامة الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية الشقيقة صامتة أو مقهورة، أو كما جرى للشعب اللبناني أثناء العدوان الصهيوني الهمجي السافر على لبنان. لقد أصبحنا كالفريسة المهيضة التي يتصارع عليها الطامعون، بدلا من أن نكون لاعبا يعتد به في ساحة كوكبية تعج باللاعبين الكبار، بالرغم من أن إمكانياتنا البشرية (أكثر من ثلاثمئة مليون) والطبيعية (مخزن العالم من الطاقة والفسفور وعدد آخر من الموارد بينها يورانيوم دارفور الذي تدور بسببه اللعبة هناك)، ناهيك عن ملايين الأفدنة من الأرض الصالحة للزراعة والتي يمكن لو أحسن استخدامها أن تطعم نصف العالم، لا عالمنا العربي وحده الذي تستجدي نصف بلدانه القمح من الآخرين. لكن جميع هذه الإمكانيات مهدرة. فالبشر يعانون من الأمية، وإن تعلموا ـ تعلموا في جامعات نخرها الفساد والتخلف ـ وتخرجوا للالتحاق بطوابير البطالة. والنفط بدلا من أن يجعلنا لاعبا مرهوب المكانة في العالم، جعلنا لعبة في أيدي الآخرين. فنحن اللعبة لا اللاعب. أما الأرض الشاسعة من العراق وحتى السودان فقد بوّرت وعشش فيها الخراب، وحافظت أنظمة الشؤم والقمع والاستبداد على استمرار الخراب وتناميه. فهل ثمة دليل أكثر من هذا نصاعة وسفورا على أن العالم العربي برمته هو رجل العالم المريض الآن. وإذا لم يبادر العقل العربي قبل غيره بتشخيص علل هذا المرض، والبحث له عن دواء، فلن يكون أمامنا إلا المزيد من التردي والتضعضع والانهيار.

هذا الوعي المرّ أو الوعي الشقيّ بأن عالمنا العربي، المترع بالإمكانيات المادية والبشرية والفكرية، قد أصبح مع مطلع القرن الحادي والعشرين رجل العالم المريض ـ بينما تنهض كل الثقافات والمناطق الأخرى من الصين وشرق آسيا وحتى البرازيل وأمريكا اللاتينية ـ هو ما دفعني ـ كما قلت في افتتاحية العدد الأول من هذه المجلة ـ إلى تلك المبادرة الفردية التي تسعى لتشخيص أسباب هذا الداء، والتعرف بدقة وعقلانية على أعراضه ومصادره، قبل البحث عن أسباب علاجه والبرء منه. فالتشخيص السليم للداء، هو الخطوة الأولى والضرورية للبحث عن أي دواء. ولأن الإنسان حيوان ناطق فإن هذا التشخيص نفسه لا يمكن أن يتم إلا بالكلمات. ولكي يتم هذا كله لابد أولا من تحرير الكلمة من كل لبس أو إلتواء، وطرحها بجرأة في ساحة حرة للجدل النقدي الخلاق. ولهذا بدأت هذه المجلة بهدف متواضع ـ ولكنه ليس سهلا أو بسيطا ـ هو تحرير الكلمة، ورد شرفها، وتعزيز كرامتها، كي تحرر الأنسان العربي من الخمول والخمود والتبعية، وترد له شرفه وكرامته. فبدونهما لن يستطيع عالمنا العربي أن يصوغ مشروعه، ويبلور رؤاه الخاصة، وأن يرسم أولياته في عالم اليوم، ويخطط لمستقبله فيه، ناهيك عن العمل على تحقيق هذه الأولويات والرؤى للنهوض بواقعه المترديٍ. فتحرير الكلمة هو الخطوة الأولى والضرورية لتحرير العقل، وتحرير الفكر، وإطلاق طاقات الإبداع في هذه الأمة المترعة بالمواهب والإمكانيات. وهذه المجلة تعول على هذا التحرير كثيرا، وتعول أكثر على طاقات هذه الأمة الثقافية والإبداعية من المحيط إلى الخليج. 

التفاف القراء والكتاب حول (الكلمة)
ولهذا السبب ذاته حرصت (الكلمة) منذ عددها الأول أن تكون مجلة عربية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وأن تكون متنفس طاقات هذه الأمة الثقافية من المحيط إلى الخليج، تحرر الكلمة من الغموض والالتباس والتدليس والتبعية، وتحافظ على استقلالها وشرفها وحريتها. وقد التقى على صفحاتها في العامين الماضيين كتابا من كل سائر أرجاء الوطن العربي من العراق المكلوم شرقا إلى المغرب وموريتانيا غربا، ومن سوريا شمالا إلى السودان والصومال جنوبا. كما حرصت (الكلمة) منذ افتتاحيتها الأولى على أن تؤكد رغبتها في التحرر من آثار الفضاء العربي المريض ـ لأنه إذا كان العالم العربي هو رجل العالم المريض الآن، فإن الفضاء العربي كله مترع بجراثيم هذا المرض ومناخاته الموبوؤة ـ على مسارها ومسيرتها. لذلك لم تصدر هذه المجلة في أي بلد عربي، وإن أرادت أن تكون صوت الضمير العربي المتراسل الذي إذا ما اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وإنما صدرت (الكلمة) ـ وهي هنا بنت زمنها في مطالع القرن الحادي والعشرين ـ على شبكة المعلومات، الأنترنيت Internet، وليس من خلال أي مطبعة أو دار نشر في العالم العربي المترامي الأطراف، والمرمي بتخاذل مخز تحت أقدام الهيمنة الأمريكية والصهيونية على المنطقة. فأهم خطوات التحرر من هذه الهيمنة هو طرح ظلها الثقيل عن كاهل (الكلمة)، وتحريرها من التبعية الجغرافية والمؤسسية على السواء. فقد أصبحت الجغرافيا العربية مثقلة بالحدود: الحدود الجغرافية المصطنعة، والمحظورات الرقابية المرذولة، والروادع الأخلاقية المتزمتة، والمحرمات الدينية التي تحولت إلى لعبة سياسية مقيتة.

ومحاولة منها لتخطي كل هذه الحدود، وتجاوز روادعها ومحظوراتها طرحت (الكلمة) اجتهادها في هذا الفضاء الحر الجديد، فضاء شبكة المعلومات الدولية. بعيدا عن قيود الرقابات العربية وحساباتها. وهي بهذا الاختيار قد انحازت أولا إلى جانب الحرية والحوار، لأن شبكة المعلومات تتيح لهما التجسد بفعالية. يتمكن معها القارئ بحرية مطلقة من التعليق الفوري على ما يقرأه، وإتاحة هذا التعليق للقارئ التالي للحوار مع الحوار كذلك، وليس مع النص وحده. وانحازت ثانيا إلى جانب المعاصرة والأخذ بأسباب النهضة الجديدة، وأهم من هذا كله إلى المستقبل الذي يلعب فيه هذا الفضاء المعلوماتي الجديد، وسيلعب في المستقبل، دورا حاسما. إذ توقن (الكلمة) بأننا نعيش عصرا مغايرا للعصر الذي ازدهرت فيه المجلات الثقافية والمبادرات الأدبية المستقل مثل (أبوللو) أو (الكاتب المصري) أو(الآداب) مثلا، هو عصر العولمة أو الكوكبية التي تحول فيها العالم بالفعل إلى قرية كونية. وقد كان لدي تخوف من أن اختيار (الكلمة) الصدور على الإنترنيت قد يحدد قراءها، بالمتعاملين مع هذا الفضاء الجديد، وهم قلة نسبية في العالم العربي حتى الآن. لكن ما شجعني هو أن هذه القلة قد تجاوزت في العالم العربي وحده خمسة ملايين، ناهيك عن العرب الذين يعيشون الآن في المهاجر العربية المتعددة. وهذا عدد غير قليل! وأنها قلة متنامية ينضم إليها باستمرار أعداد غير قليلة من الأجيال التي لم يسبق لها التعامل مع الشبكة الألكترونية. وقد قلت عند إصدارها أنه لو نجحت الكلمة في أن يقرأها قسم صغير من هذه الملايين الخمسة لحققت لنفسها مقروئية تفوق ما تتمتع به أية مطبوعة عربية أخرى. بالرغم من أن (الكلمة) سعت من البداية إلى أن يقرأها كل عربي: سواء أكان مقيما في العالم العربي أم يعيش خارجه، فهذا القارئ العام العريض الذي يعاني عدد كبير منه من الشتات العربي الذي نما بشكل ملحوظ في العقود الثلاثة الأخيرة، هذا القارئ العربي المقيم والمهاجر معا، هو ما تتوجه إليه المجلة التي لاتعرف بسبب وجودها على الإنترنيت الحدود الحقيقية منها والمصطنعة التي تصطدم بها كثير من المطبوعات العربية.

والواقع أن التجرية لم تكن مشجعة فحسب، بل فاقت كل توقعاتي وتجاوزت كل أحلامي منذ الشهور الأولى وأنا من تربى في بواكير شبابه على المجلات الأدبية العربية وعمل مع عدد منها، من (الآداب) البيروتية إلى (المجلة) و(الطليعة) المصريتين. وكنت أحلم بأن يصل قراء (الكلمة) إلى ما حققته أوسع المجلات الثقافية انتشارا من قبل مثل (الهلال) و(الرسالة) أي بضعة آلاف، فوجدت أنني تجاوزت هذا الرقم من العدد الأول الذي دخل إليه سبعة وثلاثون ألفا، واستمر الرقم في التنامي بوتيرة متصاعدة فتضاعف في الشهرين الأولين، ثم تضاعف مرة أخرى بعد شهرين آخرين وتجاوز المئة والعشرين ألفا مع الشهر الخامس واستمر في الارتفاع حتى تجاوز عدد القراء المليون في العام الأول. بل استمر هذا النمو وبنفس الوتيرة في العام الثاني حتى تجاوز قراء العدد الواحد ربع المليون منذ عدد محمود درويش الخاص وحتى الآن، وتجاوز قراء (الكلمة) في العام الثاني المليونين، أي أن من دخلوا موقعها في العامين الماضيين تجاوز الملايين الثلاثة، وهو رقم كبير بالنسبة لمجلة أدبية ثقافية عقلانية ذات مستوى من التناول الجاد، لاتغازل القارئ العريض، ولا تتملق الغرائز أو العواطف السياسة منها أو الدينية.

ومن الأمور التي لايعرفها الكثيرون أن النشر على شبكة المعلومات هو أكثر صور النشر شفافية ودقة من حيث معلومات القراءة والتوزيع، لأن الناشر عليها يستطيع الحصول وبشفافية متناهية على معلومات تفصيلية عن حركة المرور في الموقع وعدد الزوار والتوزيع الجغرافي لهم، أي الأماكن التي زاروها منها، بل وحتى البرنامج التي استخدموه في قراءتها، والزمن الذي بقي فيه كل منهم في الموقع، وما حفظه منه على كمبيوتره الشخصي.. إلخ تلك التفاصيل. وتلعب هذه الحركة دورا كبيرا في برمجة محرك جوجول الشهير للمواقع، حيث كنت تعثر على مجلة (الكلمة) في العددين الأولين في صفحة 11 حينما تبحث عنها، بالرغم من أنه لم يكن هناك الكثير من المواقع التي تستخدم هذا الإسم، وبعد ثلاثة أشهر انتقلت إلى الصفحة الرابعة، ثم الصفحة الأولى، واحتلت الرقم الأول فيها منذ النصف الأخير لسنتها الثانية، بالرغم من أن جوجول يحتفظ بالصفحة الأولى لمن يدفعون له كي يكونوا فيها. ومن الأمور المثيرة للاهتمام أن نجاح (الكلمة) الكبير في استقطاب القراء لها أغرى الكثيرين باستحداث مواقع تحمل نفس الإسم مع اختلاف الهجاء بالحروف اللاتينية واختلاف العنوان، وأقام البعض منتديات الكلمة بل ومجلات وصحف بنفس العنوان إلى الحد الذي لجأ معه بعض الأكراد إلى سرقة العنوان لموقع كردي، مع أن الكلمة مفردة عربية قحة، وكان عليهم استخدام مقابلها الكردي. لكن ما أثلج صدورنا في (الكلمة) هو أن أيا من المواقع التي سرقت الإسم أو حرفته لم تحقق شيئا من مصداقية الكلمة أو مقروئيتها. لأن ما فات الكثيرين هو أن (الكلمة) ليست مجرد عنوان، ولكنها موقف وتوجه ومجموعة من الرؤى والقيم يستحيل عليهم استنساخها كما استنسخوا عنوانها، أو نقلوا بعض ما تنشره إلى مواقعهم. 

وصل الحاضر بالماضي وأسلاف (الكلمة)
و(الكلمة) إذ تعرب عن شكرها الجزيل للقراء الذين يواصلون الالتفاف حولها والاهتمام بها، ويضعون ثقتهم فيها، وللكتاب الذين يواصلون مؤازؤتها ومدها بأعمالهم الفكرية والإبداعية، ولأصدقائها ومراسليها في شتى أنحاء الوطن العربي، تؤكد لهم جميعا أنها واعية بمسئولية هذا الاهتمام وتلك الثقة الغالية، وأنها تعمل باستمرار على أن تكون جديرة بها. فـ (الكلمة) تدرك أنها لم تجئ من فراغ، وأنها بنت تراث ثقافي وتاريخ طويل من الدرويات الأدبية والثقافية الجادة. وهي تسعى لوصل الحاضر الذي تجسده بالماضي الذي تبني عليه. ولهذا أنشأت (الكلمة) في محاولتها لربط حاضرها بأسلافها الأرشيف الرقمي للمجلات العربية. وقد وعدنا القارئ في العام الماضي بأننا سنضع مجلتين خلال عام 2008م، واستطعنا أن نفي بوعدنا له مضاعفا، فوضعنا حتى الآن على موقع (الكلمة) الأعداد الكاملة لأربع مجلات عربية هي (أبوللو) و (الكاتب المصري) و (حوار) و (جاليري 68)، وسوف نضع على الموقع في العام القادم أربع مجلات أخرى على الأقل، أولها مجلة (الكرمل) الذي اتفقنا مع الراحل الكبير محمود دوريش على ترقيمها كاملة ووضعها على الموقع قبل رحيله، واعتبرنا هذا الأمر وصيته الأخيرة، حيث ناقشت الأمر معه في لقائي الأخير به في آرل قبل شهر من رحيله. كما سنضع عددا من المجلات المغربية مثل (أقلام) و (الثقافة الجديدة) و (جسور) التي لم تتح من قبل للقارئ العربي الواسع، حتى في طبعتها الورقية. وتتوجه (الكلمة) في هذا المجال لقرائها راجية أن يعربوا لها عن آرائهم في هذا المشروع الخاص بترقيم المجلات، باقتراح دوريات يرون أنها تهمهم وأن علينا أن نضمها للارشيف، وبمدنا بما يتوفر لديهم من مجلات مهمة وقديمة لترقيمها وإعادتها لهم بعد الفراغ منها. خاصة وأن (الكلمة) تسعى لوضع مجلة (الأديب) اللبنانية على موقعها، ولكن ينقصها الكثير من أعدادها، فعلى من لديه مجلدات من هذه المجلة المهمة أن يتصل بنا كي ييسر لنا عملية ترقيمها.

ولقد حرصت (الكلمة) منذ البداية، وعيا منها بأن عددا كبيرا من الذين تهمهم قراءة (الكلمة) لا يستخدمون الإنترنيت، على أن تكون لها على موقعها نسخة قابلة للطباعة ومجهزة لها على طريقة ملفات PDF المعروفة. ودعت (الكلمة) منذ عددها الأول من يريد أن يطبع هذه المجلة ويوزعها في أي مكان في العالم العربي إلى أن يتصل بنا، كي نبعث له بهذه النسخة الجاهزة للطباعة لإصدارها في بلده، إذا ما توفرت له الموارد والظروف التي لا تتوفر لنا. ولكننا حتى الآن لم نتلق أي عرض لطباعة (الكلمة) وإن كنا نتلقى باستمرار طلبات من القراء بأن نرسل لهم نسختها الورقية، أو أن ندرج لهم اشتراكا فيها. فنعتذر بأنها أليكترونية فحسب، وليس لها نسخة ورقية. ومع أننا لم نتلق أي عرض بطباعتها حتى الآن، فمازال لدينا أمل في أن يتقدم من يريد طباعتها ليحمل معنا وعنا هذه المسئولية. لذلك سوف نواصل لسنة أخرى تجهيزنا لها في صورة ملفات PDF فربما كان هناك من يريد أن يتولى عنا طباعتها وتوزيعها، مع أننا لانعول كثيرا على هذا الأمر في ظروف عالمنا العربي الراهنة.

وها نحن ندخل معك ـ أيها القارئ العزيز ـ السنة الثالثة من عمر (الكلمة) وقد تصلب عودها، وتبلورت شخصيتها وحازت على ثقة جماهير واسعة من القراء. ندخل معك العام الثالث بهذا العدد الممتاز الذي يضم بين دفتيه مواد ثرية ومتنوعة بالإضافة إلى أربعة كتب كاملة: أولها هو الرواية التي اعتادت (الكلمة) أن تقدمها كاملة لقرائها في كل عدد، وقد نشرت (الكلمة) حتى الآن 24 رواية من أبرز ما نشر في العامين الأخيرين ومن كل أجيال الرواية العربية. وثانيها هو ديوان شعر كامل للشاعر المصري المرموق محمد صالح، وثالثها هو كتاب مهم للباحث وأستاذ الفلسفة التونسي المرموق محمد المزوغي يفكك فيه أفكار فيلسوفين من أبرز فلاسفة القرن العشرين هما مارتن هايديجر وكارل بوبر، وأخيرا وليس آخرا كتاب جديد من نوعه هو دراسة تشكيلية بصرية للرسوم التي تناولت موضوع ميلاد المسيح في الثقافة المسيحية الغربية منها والشرقية للفنان المصري المرموق عادل السيوي. وبالإضافة إلى هذه الكتب الأربعة يحفل العدد ـ كعادة (الكلمة) ـ بمواد عديدة خصبة ومتنوعة من الدراسات والنقد والإبداع القصصي والشعري، بل وبعدد من هذه المواد يزيد عما اعتدنا تقديمه لك في كل عدد، باستثناء العدد الخاص والاستثنائي الذي أعددناه عن الشاعر الراحل الكبير محمود درويش. وهي كلها مواد نأمل أن يجد فيها القارئ ما يشوقه ويمتعه ويثير لديه الأفكار والأسئلة، وأن يواصل بها ومعها رحلته مع (الكلمة) في عامها الثالث وهي تسعي لأن تكون صوت العقل العربي الحر والمستقل، ومرآة لأبداعاته الفكرية والأدبية والفنية، وميدانا لتجاربه الخصبة في شتى الحقول الثقافية والمعرفية.