يواصل الباحث المغربي في هذه الدراسة المتميزة استقصاءاته للشكل الروائي وبلاغة السرد وجمالياته من خلال تحليله الدقيق للجدل الروائي بين نجيب محفوظ ومحمد أنقار في روايته التي يناوش فيها عالم شيخ الرواية ويناقشه.

البلاغة والجمالية الروائية

في رواية «المصري» لمحمد أنقار

عبد الرحيم جيران

 

1 ـ تصدير أولي: نظرتنا إلى البلاغة السردية
يقتضي سؤال البلاغة السردية إبداء ملاحظات أولية قبل التصريح بما نتوخاه منها. وأول ما نشير إليه في هذا الجانب ضرورة تخليص البلاغة من طابعها الضيق الذي يجعل منها مجرد آليات تقنية لتوصيف إنتاج النص أو تأويله، وذلك بإعادة صياغة أسئلتها في ضوء ما هو ابستمولوجي حتى نضمن لها أن تكون مُنتجة معرفيا. وثاني ما نشير إليه ماثل في عدم النظر إلى البلاغة، بصفتها مبحثا، على أنها كافية وحدها للإجابة عن أسئلة القول الأدبي في شموليته وتعقيده، إذ لا تعتبر إلا مدخلا من مداخل شتى لدراسة النص الأدبي وفهمه وتأويله، وبالتالي لا مناص من أن تكون فعاليتها مرتبطة بسياق نظري ومنهجي أعم يشملها ويوجه أسئلتها. والملاحظة الثالثة التي نود إثارتها، هنا، تتمثل في الاحتياط من استعمال المفاهيم البلاغية على وجه الإطلاق من دون تبصر، بحيث يُجعل منها مقاربة قابلة للتطبيق على أي منتج قولي، من دون مراعاة الشروط التي تنتجه، وتضمن له خصوصيته. ويحتم هذا الاحتياط التفكير في طبيعة علاقة هذه الخصوصية بضرورة السؤال البلاغي وموضعته داخل صيرورة تنامي القول الأدبي.

ولعل سؤال البلاغة لا يعني فقط إخراج القول مخرجا على غير ما جرت به العادة، ولا مبحثا يتوخى القبض على آليات التأويل سواء أتعلق الأمر بمقصدية النص أو بخلاصته، أم باستمداد خصوصيته من الحجاج بكل ما يوفره من إمكانات استثمار الفعالية النصية وأقطابها، وتبين مظاهر التأثير فيها. كما لا يعني هذا السؤال فقط جمالية القول، لا من حيث هي أوفاق معلومة أو مبتدعة في تصريف نقل العالم وقوله، وإنما يعني إلى جانب ذلك التماسَ الجميل في وضع إدراكي آخر يكشف عن قابليته لقول كلٍّ مؤجل يعاني من تناميه في حركتيه: إطلاقه وتوقيفه، أي يعاني من حدوده، أو من الفضاء الذي من المفترض أن يستوعبه من دون أن يستغرق كليته(1). فالكل الجمالي هو حركة صوب مفهوم مؤجل وحدث يُظهره، ومن شروط تكوُّنه اللاحق أنه لا يحدّ من انطلاق الخيال. وهذه الحركة هي متحينة في الزمن، من دون رسم حدود قارة قبلية تنتهي عندها، ولها صفة العَبْرِية، حيث يتحقق التجديل متضافرا بين الضرورة والحرية بما تستتبعانه من تجديلٍ بين الكل والجزء ورؤيةِ كل واحد من هذبن الأخيرين من خلال ممكن الآخر، إذ يصير الكل عابرا للجزء أو متبديا عبره، والعكس وارد في الوقت نفسه، إذ يعمل الجزء على إعادة تنظيم الكل بنزع الاضطراب منه. ومن ثمة يقبل المبعثر والفرداني وكل أشكال اللعب بالكلام فعالية الانتظام. وينشأ من جراء ذلك تنامٍ جمالي يتأسس على حركتي الجذب والنبذ. ولا يمكن التفكير في هذا التصور البلاغي إلا في حدود تصورنا الطبولوجي للسرد، حيث يتخذ السؤال البلاغي هيئة فرق أساسها النظري ما ثل في ما أسميناه في أطروحتنا النظرية بالميلان، والذي افترضنا بموجبه وجود بعد مائل إلى جانب البعد الأفقي والبعد العمودي(2).

ونطور هذا البعد المائل، هنا، فنعتبره ممكن مسافة منتجة من جراء حركة التوسيع التي تتسم بها العقد النصية(3)، بوصفها مجال تقاطع الأفقي والعمودي(4). ويتخذ هذا التوسيع شكل حركة يقترب فيها النص من صيرورة تناميه في الوقت الذي يبتعد فيه عنها والعكس صحيح. وحين نقول التنامي نقصد بذلك نمو النص ابتداء من ممكن الوحدة نحو ممكن الكثرة مع الحفاظ على حدوده، بما يعنيه ذلك من معاناته من نقص مستمر أثناء تشييد ما به يرى اكتماله ورسوه النهائي. فاقتراب النص من حدوده والابتعاد عنها في الوقت ذاته يترجمان الشعور، خلال فعل الكتابة، بعجز اللغة أمام وفرة العالم ومعطياته، وبنقص العالم أمام جموح اللغة وممكن العلاقات غير المحدودة التي تقوى على نسجها وخلقها. ويتأسس الميلان ـ بما يتصف به من توسيع عبر التقهقر أو توسيع عبر التقدم وترجمة التوتر بين شعور النقص وغاية الاكتمال ـ لا على الإخلاص لذاكرة نصية موجودة هنا قبلا، وإنما على المعاناة من مسافة بينها وبين فعلها، من جراء وجود توسط رمزي يتخذ، على مستوى التهيئة التعبيرية صفة عبر الرمزي، أي أن هذه المسافة قائمة بين القول الأدبي ووضعه خارج الاقتضاءات الأولية التي تستدعيها الوحدة، بما هي مبدأ منظم ودلالي، نظرا لانبساط الذات التعبيري بما هو توجه متنام نحو الكثرة الدالة على المتغير والفرداني، وخضوع هذا الانبساط لأيسية تسمح في أحايين كثيرة بتسلل عبر الرمزي، أو بلعبة المرايا المتقابلة حيث يرى البعض منها نفسه في البعض الآخر، والعكس صحيح، حيث لا توجد الواجهة الأمامية فقط، وإنما الواجهة الخلفية أيضا، بما يعنيه ذلك من تردد بينهما وكثارة تحيل على وحدة تحتل على الدوام نقطة استناد. ويمكن هنا فهم كل أشكال التصادي النصي، بما هو تقاطع بين نصوص منها ما هو نموذجية نصية تاريخية ومنها ما هو إبداع شخصي، وفهم كل أشكال الباروديا التي تأخذ على عاتقها الكشف عن تهافت النموذجية النصية عبر تمريرها من متاح الشخضي الساخر.

ولا يعني الميلان، إلى جانب ذلك، الفرق بين أمكنة خطابية، حيث تتحيز الضمائر (أنا وأنت وهو)، ويكتسب قولها سلطته وشرعيته، وإنما الفرق بين الكلمة، بوصفها انبساطا تعبيريا للذات، وبينها وهي تضع الذات في مواجهة مع أيسيتها، أي مع أناها الآخر الذي تخرجه على أنه أناها الصميم(5). فيتكشف في ما بعد على أنه ما ليس هو، وعلى أنه ما طاله التغير، وما نسي بداياته، وانتقالاته في الزمن، وما التبس بممكن لم يكنه، أو أراده ولم يحققه، أي أنا أخرى متخيلة غير التي تصدر الكلام، وتوضع على مسافة اتجاه نفسها واتجاه كلامها، وبمعنى آخر أنا مبعثرة تحتاج إلى ما يجعلها موحدة، أو تجد نفسها معرضة إلى كثارة لا تستقر فيها بالضرورة، وقد تؤول إليها انطلاقا من كونها تعيش على تخوم الغير. وهنا لا يحضر الكل الذي تعاد في ضوئه موضعة الذات بوصفها موضوعا جماليا إلا باعتباره حركة متوترة ناجمة عن تضافر الانفتاح والانغلاق وتجديلهما بما يعنيه ذلك من معاناة من حدود البداية والنهاية، وأين يمكن موضعة هذين الحدين طبولوجيا، حيث تصير النهاية متضمنة على نحو ارتدادي في البداية والعكس وارد أيضا.

ولا يسعنا بصدد هذا الطرح سوى توسيع المبادئ الأربعة التي افترضنا أنها تكون الأسس التي يقوم عليها التضافر التجديلي، وذلك بإضافة مبدأ خامس هو: الانغلاق والانفتاح، وخاصية اشتغاله ماثلة في ما أسميناه بالميلان. ولا ينحصر عمل هذا المبدأ في مستوى معين من مستويات النص، بل يشملها جميعا. كما أن هذا المبدأ يسمح لنا، على مستوى البلاغة السردية، بإعادة توسيع مفهوم الهوية السردية، إذ سنضيف إلى مفهوم التزمن، من أجل القبض عليها، بما يقتضيه من أثر دال على التحول، مفهومَ الأيسية الناجم عن الحدود النصية التي يُعيد الميلان موضعتَها على مستوى الكثارة خلال تنامي النص السردي. وسنعمل على تشغيل مبدأ الانفتاح والانغلاق، هنا فقط، على مستوى التوزيع السردي.

2 ـ السؤال البلاغي والمثال والواقع:
يتأسس التوزيع في رواية "المصري" طبولوجيا وفق حركتين متعارضتين يحين بفضلهما مبدأ (الانفتاح والانغلاق)، ويتأسس البعد البلاغي كما وصفناه في علاقته بالكل والوحدة. وسنأتي على تفصيل القول في هاتين الحركتين فيما بعد. وسنعمل الآن على ضبط انبثاقهما النصي وضرورته السردية فقط. فهاتان الحركتان تنبعان من نقطة ما من النص، أو من محل ما، وهذا المحل النصي هو بدوره نتاج بحث لا يضع لذاته تصورا أوليا، بل يتجه كشكل فارغ ينتظر امتلاءه، من دون أن تكون هناك خطة مسبقة لذلك. فما يحضر فقط هو اسم المكان، لا بوصفه اسما يقود إلى واقع، ولكنه اسم يتعرف حدودَه المكانية وسعتها الانطولوجية، من دون حدود محتوى واقع ما(6)، يجعل من الاسم مدخلا للقبض على الشيء المكاني، وتملكه على نحو مسبق. ويرتبط هذا البحث بما يجعل العين تتعرف تاريخها الخاص أكثر مما تتعرف تاريخ المدينة، أو بما يجعل الأنا تعثر على ما لم تكنه، وقد كان أفقا لكينونتها عبر تاريخها الخاص في هيئة إلحاح مؤجل أو مدفوع نحو مهاوي النسيان، أي "كينونة الروائي" واختلطت الصورة ببقايا الأصداء الجنائزية، وتصدى لي إغراء عتيد صاح في حدة: "خض مغامرتك الأخيرة مع تطوان، حقق إن استطعت حلمك المشرقي القديم واكتب قصة طويلة عن مدينتك العتيقة. وبذلك ستفي بذكرى عبد الكريم وستلبي نداء من ماتوا قبله وسيموتون بعده"(7).

ومن ثمة لن تكون المدينة إلا فضاء هذا التذكر المتأخر لمهمة لم تنجز، وشكل بحث عن بداية نشوئه المستعصية منظورا إليها من زاوية الموت بوصفه نهاية. وبالتالي لن يكون محل انبثاق الحركتين المذكورتين إلا تجديلا لحركتي تقدم وتقهقر تتضافران داخل نقطة محددة من النص السردي. بحيث يحدث النزول منها نحو الماضي السحيق بذكره أو الالتفاف عليه، أو بنسيان غير واع لأصوله العريقة، أو يحدث الصعود منها إلى الأمام كاحتمال، وفي كلتا الحالتين، نزولا أم صعودا، يكون الموت برمزيته الدالة ما يحقق توازن الحركتين ويبرر عملهما. وهاتان الحركتان هما:

أ ـ حركة تتجه نحو مثال ربما كان نتاج إدراك فقد بنيته عبر تخزين متنام ترسَّخ في الذاكرة حول المدينة (و/ أو الكتابة) في هيئة آثار غير ملتحمة، ونسي أصول نشأته، وبالتالي ما ظل حاضرا هو الاسم (حومة البلد ـ الطرانكات ـ السويقة ـ العيون) بوصفه شكل تعرف الإدراك مثاليتَه البنائية التي تغاير مثل أفلاطون المفارقة للعالم، حيث تنطلق الذات من صور جاهزة، لكنها مبنية في التاريخ. وهذا البناء هو ما يشكل كلها الناجم عن ترسب بقايا كونت، في نهاية المطاف، شكلَها النهائي في هيئة ميسم يقود إلى التعرف لا بوصفه إدراكا نهائيا لنموذجية المكان، وإنما بعدِّه معاناة من استحالة استرداد أصله المفقود. إن ما نعثر عليه هنا أيضا هو الفوت الذي يعد أحد أشكال الزمن، حيث يَعْبُر غياب الماضي من خلاله. ويتجلى الفوت في الكتابة بوصفها فعلا كان ممكنا في الماضي ولم ينتهج، وبالتالي يصير مؤسسا محتوى الاستحالة ذاتها التي تميز فعل استعادة المكان باعتباره أصلا(8).

ب ـ حركة تتجه صوب الواقع في ذريته، لا كليته، أي صوب الأجزاء التي تنقل انطلاقا من تدريرها. وتكون الحركة هنا مغايرة لما هو مثال كلي مبني، إذ لا تندرج داخل حيز استقطابه الخاص، لأنها تمثل الطارئ والمتغير المخالف للجوهر المبني بواسطة ذاكرة لها أناها الخاص المستحوذ على الأنا في الحاضر. ومن ثمة تعد هذه الحركة معاناة من عالم يخفي جوهره، ويُظهر فقط سطحا يتضمن آثارا مُبَعثَرة للمثال ـ الاسم متسمةً بالنقص: "واختفت اليوم من الساحة عروش العنب والياسمين في حين صمدت الدكاكين والمقهى الأرضي ومقهى آخر معلق فوق السطح تفضي إليه درجات صغيرة كأنها صاعدة نحو السماء وتنفتح نوافذه الطويلة المطلية بالأخضر الباهت على فضاء الساحة. وما زالت ترن في أذني أصداء أغان جبلية رتيبة كانت تنبعث من نوافذ المقهى وبابه الطويل المقوس. لكن الساحة الآن تتكلم لغة أخرى. لغة الملابس المستوردة من أوروبا"(9). وما التحولات التي تلتقط بصدد المكان وحوامله إلا تعبير عن النقص الذي يمثل السطح: "وها أنت اليوم تستجدي العمق وتطلب المستحيل"(10) . بيد أن هذه الآثار المتسمة بالنقص لا تقدم في ذاتها، ولذاتها، وإنما يُتوسَّل بها بصفتها تعلَّةً للبحث، من خلال تعينات نقصها، عما يشكل عطر الكمال الذي كان متوفرا في زمن ولى، لكنه ارتفع من دون رجعة. وبالتالي يصير جهد الذات ماثلا في استعادته، لا كما هو لأن الفوت قد قضى ألا يستعاد لاندراجه في حالة الانقضاء، وإنما بنقله من زمنه المنصرم إلى زمن بعدي ـ مستقبلي، فإرادة الذات باستعمال الكتابة يشكل طبيعة الاستبدال الذي يلحق بنقل وجهة الكمال. ولن يكون الحاضر إلا معبرا إلى هذا الاستبدال موسوما بالنقص من جراء عدم تعرف ما بحضوره الصافي تتولد الكتابة بوصفها جهدا أساسيا.

إن تعارض الحركتين المذكورتين آنفا يعد مُنتجا رئيسا لفعل السرد ذاته بوصفه دالا على الخاص في مقابل العام الماثل في معيارية الجنس الروائي، وعلاقته بما هو نسبي مولَّدٌ انطلاقا من ممكن العين في علاقتها بالظاهر بوصفه سطحا. ويظهر ذلك من خلال تضافر اشتغال الحركتين، بحيث لا تكون الواحدة منهما قابلةً التحيينَ إلا من خلال تمريرها من خلال ممكن الأخرى. فالمدينة مجرد سطح أو استبدال قوامه المجاز المرسل (إطلاق المحل وإرادة الحال)، وما يتخفى وراء السطح هو الذات. وهذه الأخيرة لا تقدم إلا انطلاقا من طبيعة جهدها الأساس (الكتابة). فلا يراد من المدينة نقلَها باعتبارها فضاء مكانيا يقع على مسافة من الذات، وإنما بوصفها الممكن الذي يوفر لملمةَ الذات وجمعَ شظاياها عبر البحث عن ضياع كلِّها في زمن ماض غير قابل للتحديد. وتصير الكتابة الموازي لهذه الذات المفقودة، أو غير المتحققة، أو الخيالية، أو المصنوعة من المقروء. فما لا تدركه الذات، وإنما تستشعره فقط في هيئة طموح مستقبلي غير متحقق، هو أنها كانت نتاج الخيال. وهذا الخيال كان بدوره نتاج قراءة نصوص نجيب محفوظ والتباسه بحيوات شخوصه. وبالتالي لم تكن المدينة سوى ظل للذات بوصفها فضاء كتابيا يترجم نزوعا نحو موضعة كينونة الذات داخل تاريخها الخاص المنظور إليه من زاوية الإحساس بالنهاية.

فالكتابة تعد، هنا، محاولةً لمقاومة الزوال والتلاشي: "وطلبت من الله أن يعينني فيما تبقى لي من أيام حتى أستخلص منها قيمة قصصية متماسكة أتحداه بها، واستحضرت ذكرى عبد الكريم إذ هي معين التحدي. ومع الذكرى تسلط هاجس الأسبوع المصيري"(11)، بيد أن فعل الكتابة هذا يعاني من تعرف ذاته، ولذلك تتراءى المدينة وحدها في هيئة ممكنٍ لاستشعار بداية جهد الكتابة بوصفها مدخلا إلى زمن الكمال. بيد أن هذه البداية المستشعرة، على هذا النحو، لا تعد إلا شكلا للنقص، أو استعادةَ تاريخ فعلها الناقص، أي محاولات السابقة ذاتها لكتابة جنس القصة الأدبي، والتي انتهت إلى الإخفاق، وذلك بتجسير الفعلين معا: فعل الكتابة السابق غير التام والناقص (الصفحات) وفعلها الحالي المتطلع إلى كتابة جنس الرواية الأدبي (ولربما كان لطول هذا الجنس الأدبي قياسا إلى قصر القصة أهمية ما في الدلالة في علاقته بالذات والموت، من حيث الرغبة التي تنحو باتجاه العمر المديد أمام تهديد الزوال)، من دون تَوفُّر ما يجعله محقَّقا على نحو مرض (الافتقار إلى الوسائل والإمكانات): "ـ كيف يمكنني الربط بين وصف "السوق" والصفحات القصصية التي سبق أن كتبتها عن تطوان في مرحلتي "مدرسة المعلمين" وزواج عبد الكريم؟. "ثم هل المطلوب أن أصف أم أروي وقائع المكان أم أجمع بينهما؟" وسلمت بأن الجمع هو الأليق لولا أني قدرت صعوبة ذلك واعترفت بفقر إمكانياتي للقيام بتلك المهمة. وتذكرت كلمات بنعيسى المحبطة وتلمست قوة صخرية من اليقين"(12).

إن بداية فعل الكتابة بوصفه مدخلا مفضيا إلى تبصر الذات وتعرفها يحمل في طياته شكل تدميره، أي ما يتخذ هيئة الموت، أو شبحه، وبالتالي يصير ضده الذي يجعله متصفا بالانحلال، أو بفتور الطاقة المنتجة. ولذلك تعد الرغبة في كتابة الرواية نهايةً قبل الأوان، أو بدايةً متعثرةً منظورا إليها من خلال ممكن النهاية الكامن في تاريخ فعل الكتابة. فمحاولة الربط بين ماضي كتابة مخفَّق وفعل حاضر، لا يعني التكامل، أو الاستمرارية، وإنما يعني استحالة الفعل ذاته بفعل الفوت (ما كان ممكنا في زمنه، ولم يعد ممكنا انتهاجه في اللحظة الراهنة). وإذا ما فُكِّر في الأمر على العكس مما يقتضيه منطق الفوت، كان النتاج يبعث على السخرية والشفقة. وربما كان فعل الكتابة كما وصفناه الحكمةَ التي تتوخى الروايةُ قولَها على نحو موارب، لكنه متسم بنوع من الطرافة والقوة. بحيث لا تصاغ الحكمة على نحو مباشر من خلال قولها الفاضح، وإنما يترك الأسلبة الروائية إنجاز ذلك. وقلّما نجد نصوصا روائية لها هذه الفضيلة التي تعد من الأسس الجوهرية في بناء ممكنها الجمالي والبلاغي. ولا يمكن التنبه إلا ذلك إلا بالفصل بين الروائي والحامل المركزي الممثِّل (أحمد الساحلي)، وإدراك موقع كل منهما، والمسافة الفاصلة بين الاثنين.

فالثاني يتعرض، وهو يتحصن داخل موقع وثوقي تطابقي (تقليدي ـ مكتفٍ بنفسه ـ مهووس بالأصل ـ لا ينفصل عن الجماعة)، إلى سخرية مبطنة لا يُفصح عنها انطلاقا من خلال كلمة الروائي المباشرة، وإنما من خلال أسلبة(13). طبولوجية تتأسس على التعارض بين الجهد والوسيلة التي يتوسل بها من أجل تحقيقه. وكلمة الروائي تقال على هذا النحو الطبولوجي، من دون تصور مستهلك لمفهوم الكلمة الروائية التي نظر إليها في السابق على أنها كلام أو لغة(14). فالتعارض المشار إليه أعلاه بين الجهد والوسيلة ماثل في كون الحامل تعبير عن وجود انطولوجي مصوغ انطلاقا من طبولوجية زمنية مؤسَّسة وفق مبدأين هما كالآتي:

أ ـ مبدأ التمكين(15)، المصوغ انطلاقا من تمانع جذري، حيث موضعة التطلع تتنافى مع السياق الزمني الذي ترد فيه. والمقصود بذلك أن العتاقة بوصفها جوهر الجهد الروائي، أو الشكل الأمثل الذي تتوخى الإرادة تصييره، لا توضع في زمن ملائم لها، أو قل هي أفق آيل إلى الضمور، ومع ذلك تصر الذات على إنعاشه، بالرغم من تعارضه مع زمن الحدوث الذي يظل مشتغلا على الحواف (زمن الأسرة والأبناء والحياة العامة) من دون أن يحتل الواجهة الأمامية في السرد. وبعبارة أكثر إيجازا: محاولة إحياء زمن مستنفد لم يعد قادرا على أن يستجيب إلى ما حوله، وبالتالي انتهاج أسلوب في الكتابة متسم بالعتاقة قد فقد كل مبررات صلاحيته (الكتابة السردية التقليدية)، وكأن الأمر يتعلق بتزمين جهد سردي خارج ضرورته الزمنية، الشيء الذي يجعل من الزمن العتيق مموضعا خارج الزمن، ومن ثمة تكون المسافة بين الزمنين وبين نمطين من الكتابة متعارضين منتجة الاستراتيجية البلاغية التي يستهدفها النص الروائي. والإشكال الناجم عن هذه القضية ماثل في موضعة الحاجة إلى انسجام كلي للكينونة يستمد فعاليته وأساسه من الزمن العتيق داخل زمن موصوف بالتبعثر واضمحلال الكينونة المنسجمة، أي أنه زمن لا يوضع داخل الزمن، وإنما زمن يحصن من انحطاط زمن آخر، ولذلك فهو يقدم من خلال موضعته خارج الزمن، فهو يأتي إذن من متاح الخيال بوصفه تمكينا ذهنيا ليعود إليه. وفي عودته هذه لا يعود صافيا كما عبر عن نفسه خلال لحظة الرغبة في الكتابة، وإنما يعود وقد التبست به نسبية زمن الجهد، أو الزمن الواقعي بكل تحولاته.

ب ـ مبدأ انشطار الجهد بفعل ذات تموضع داخل حيز الفرق بين كينونتها المتخيلة وكينونتها الواقعية، أي بين ما تظن أنه هو هي، وما يتكشف لها عن فراغ مهول موصوف بالنقص. ويتخذ هذا التموضع الخاص بالذات شكل تردد بين الخيبة والأمل(16). لكن هذا الشكل لا يمكن فهمه إلا بإظهار طبولوجيته التي تعيد إكساب وحدة الدلالة تنظيما جديدا، وهي تتنامى في اتجاه عالم الكثرة. ولعل المقطع النصي الآتي يمكِّن من القبض على أسس هذه الطبولوجيا: "دقت الساعة الحائطية تعلن التاسعة ليلا موعد متابعة الأخبار الأخيرة من إذاعة لندن. كنت في خضم النشوة فاحتدم في الأعماق صراع بين فرحة الاستعداد لوصف "السوق الفوقي" ومتعة الاستماع إلى نشرة الأخبار. وتصورت أنني سأحرم من نصيب دنيوي دون سائر خلق الله إذا لم أتابع الأخبار. وفي النهاية انتصرت العادة اليومية فأسكت أم كلثوم وفتحت المذياع واستلقيت على السرير أنصت بإمعان. الكوارث والأزمات والدم الفلسطيني يجري بحياد تام. وفي التاسعة والربع أقفلت المذياع وعدت إلى المكتب لأعالج الوصف لكنني أحسست كأن الخيط بدأ يفلت من بين أصابعي. كان لموضوعات الأخبار سلطة فندمت لأني كنت مرة أخرى عبدا للعادة. أفلحت الريبة في التسلل إلى كياني فسرح الخاطر يفحص سؤالا إثر سؤال. وسمعت أذان العشاء فقمت بتلقائية كأني أود الفرار من براثن كابوس ضاغط. توضأت، وفي أثناء تجفيف الأطراف مررت برقية من غير أن أكلمها لولا أنها تعمدت مرة أخرى توكيد تحكمها في أموري: ـ سنتعشى مباشرة بعد الصلاة"(17) .

نستنتج من هذا المقطع النصي أن الطبولوجيا المقصودة تتمثل في كون الذات لا تتحيز إلا داخل مسافة محتواها الاختلاف بين النهار والليل، وبين المعاشرة والعزلة، وبين العادة والتميز: فالأطراف الأولى من هذه الثنائيات تتعلق بما هو سطحي ظاهراتي، حيث النهار مجال الخارج والأشياء والكتل والحركة وتكون فيه العين سيدة الحواس، لا بوصفها بصرا فحسب، وإنما أيضا معانا ة من المحدود، ومن عمى الواضح ونقصه الظاهرين في تجزيئه المفتقر إلى ما هو كلي يسمح بالقبض على غير المحدود، وحيث المعاشرة (الزوجة والأصدقاء والأبناء) دالة على توسط الرمزي في هيمنته المانعة من الالتقاء بالأسطورة الذاتية بوصفها ترويض الموت بواسطة فعل السرد، وحيث العادة لا تعني التكرار، وإنما تعني الاطمئنان والألفة وما لا يربك جريان الزمن وسيولته. وتدل الأطراف الثانية من الثنائيات المذكورة على ما هو ضد دلالات الأطراف الأولى، بما يفيده ذلك من توتر بينهما. فالليل يصير زمن التخفف وفعل الكتابة واختراق السطح الظاهراتي من أجل القبض على غير المحدود عبر استرداد النهار بوصفه تخزينا لما هو محدود، أي التوسل بزمن انبثاق الحكي (و/ أو الحكاية) بوصفه معبرا من ضيق المحدود والتباسه إلى ما هو غير محدود، بما يعنيه ذلك من سطوة لما هو عبر رمزي، وسنشير إلى هذا الأمر حين الحديث عنه في حينه.

فالمحدود يعد العيني ـ الظاهراتي الذي يعاني من التحامه، أي من الافتقار إلى الحكاية التي بمقدورها منحه صلابته وقايلية السيولة من منبع محدد نحو مصب معروف. ويتبدى غير المحدود في المثال ـ الاسم (المدينة)، إذ يشكل ما هو كلي شكلي منفلت يلتبس بالظاهر بوصفه مجرد بقايا تلوح في هيئة طروس طالها المحو. ولن يكون هذا الكلي سوى ما كان في زمن غير محدد نموذجيا يمثل الحقيقي في مواجهة زيف الحاضر، ولن يستعاد إلا بفعل أسطرته بواسطة متاح زمن الليل الذي يسمح بانبثاق الحكي. إذن لا تقيم الذات إلا في المسافة بين الكلي والجزئي، بين ما هو أصل مفترض، بيد أنه ضائع، وما هو أثر أو لقيا، غير أنهما يفتقران إلى ما يجعلهما تاريخا حقيقيا. وتتصف الذات في إقامتها البينية هذه بعدم قدرتها على الحسم في الانحياز إلى أحد شطري كينونتها (الواقعي والمتخيل). وتجعل من عجزها هذا معبرا لقول تطلعها الخاص في نقصه وعدم اكتماله. ومن ثمة يمكن فهم طبولوجيا التعبير ورسم ملامح التوزيع العام في الرواية. فالمبعثر (و/ أو المجزأ) يعد ترتيبا لحالة الكتابة باعتبارها جهدا معلَّقا، لا بوصفها تأجيلا، ولا إبطالا لفعلها، وإنما اضطلاعا بوعد يركز حقيقته في ذاته من دون أن يكون هناك ما يجعله ممكنا، لأن التاريخ لا يتقهقر، وإحياؤه لا يتعدى كونه مجرد أمنية متعذرة الحصول.

ولذلك ما يتبقى للكتابة، وهي تستحوذ على الذات بكونها إغراء، سوى صورتها المثلى العتيقة والتي تحضر في هيئة شكل متوقع ينتظر فقط محتواه، من دون أن يتلقاه أبدا، أو قل في هيئة تصور يفتقر إلى تحققه. وما يعطي للمبعثر ـ المجزأ وحدته هو هذه الحالة المعلقة للكتابة. فالكل لا يهب ذاته متخذا صبغة صيرورة تتكهن بمآلها وتتعرفه، بقدر ما يرد فكرةً ملحة لا تتراجع ولا تتقدم في الوقت نفسه، بل تمنح ذاتها، هنا والآن عبر الأنا، من خلال أيسية ترى ممكنها في غيرية (هنا آخر وآن آخر وأنا أخرى) غير قابلة للمعاودة، لأنها غيرية مصوغة انطلاقا من حنين إلى مثال لا يجد في واقع المجزأ المادي والحي ما يجعله قابلا للتحقق. ومن ثمة تصير الرواية منكتبة في إطار الحيز الذي يسمح به الفرق بين المثال والإرادة الشكليين، وبين واقع ومادة من دون شكل. وبالتالي لا ينتقل فعل الكتابة من وضع التمني إلى وضع التجسُّد الفعلي، بل يظل موصوفا بالتعذر والاستحالة (18) . فلا يوجد خلف ما تراه العين، وتتوخى نقله، شيء يقيني ومؤكد، بالرغم من حضور فكرة الجوهر المتخفي المستحوذة على الذات وفعلها. فالذات لا ترى خلف العالم الذي تحاول القبض عليه إلا ما هو رغبة في النظر إليه تعود إلى زمن صاف ومكتمل. فمبرر النظرة يستبق العالم الذي تحاول تقديمه. وما هذا المبرر إلا شكل بحث عن أصل ضائع تكون الكتابة استبداله الرمزي. لكن فعلا من هذا القبيل يفتقر إلى الوسائل والمحتوى. ولذلك لا يُقدم العالم (و/ أو الكتابة بوصفها استبدالا) إلا مفتقرا إلى ماهيته، ومدررا لا جوهر له، ولا يتعين إلا بين الفسح التي تسمح بها العلاقات الرخوة بين عناصر المرئي وبين الأمداء الزمنية التي تتوالى من دون ضرورة تحتم تواليها.

وقد يُظَن أن فعل الذات، وضمنا فعل الكتابة، يتجهان إلى البحث عن تفاصيل محتوى تُمكِّن الرغبة في الكتابة من التحقق عن طريق إيجاد وحدة مفارقة للجزئي توفر له التحامه. بيد أن الأمر ليس كذلك البتة، إذ يتجه هذا البحث نحو القبض على سر وحدة وأصل كفا عن الوجود، وكان مستقرهما الذهن. وبالتالي يقام مدار الجهد كله على البحث عن الجزء المبعثر الذي يتجلى من خلاله الكل. فلا وجود إذن لفعل يقدِّم نفسه من خلال كل حدثي قَيْد النشوء، أو قيد تلمُّس صيرورته في ما يقدمه عالم المادة، وإنما فعل يسكن المسافة بين عناصر مكانية تتجاور داخل فضاء موصوف بالهشاشة. وهذا السكن بين الأجزاء المبعثرة هو ما يعطي للهشاشة تماسكها ووحدتها. لأن الأمر يتعلق بنظرة ذات تشكلت داخل متاح الخيال وصارت علاقة إرادتها بموضوعها منبثقة منه. فعايدة بوصفها مجرد نتاج خيالي (شخصية من شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ) انتقلت من طابعها هذا لتصير ممكنا واقعيا:

"غير أن المرأة التي نخرت كياني وأوصلني حبها إلى حد الهوس كانت بنت شداد التي صغت لها في مخيلتي ألف صورة وصورة، ونقشت اسمها في دفاتري وفي أوراق التحضير المدرسي. حلمت بها صباح مساء، وشخصتها امرأة حقيقية ناعمة ترافقني في حافلة شفشاون البطيئة. وفي خلواتي الليلية أبثها إحباطي وبؤس تناقضاتي النفسية وقيود المجاملات التي تدميني، وأستمتع بشعرها العميق السواد المقصوص "ألا جرسون" المسترسل على الجبين كأسنان المشط، وبعطورها وحمرة فولارها وأناقة فساتينها السنجابية القصيرة أو الكامونية عوض متع تطوان الميسورة التي يفترض أن ينعم بها شاب مثلي يقترب من الثلاثين"(19)، وليست عايدة في الحقيقة إلا الشكل الأولي لما ستصير عليه الإرادة لاحقا خلال عملية الاستبدال التي ستتحول فيها المدينة، ومعها الكتابة، إلى تجلٍ منحرف لها. فعايدة بوصفها حلما مشرقيا تحول إلى تحقق فعلي، وإن كان موصوفا بالنقص، عن طريق حرف ماهيتها عن طريق العودة بها إلى أصل خلقها: الكتابة، بما يعنيه ذلك من بعد إحيائي تمتد جذوره إلى أزمنة تتعدى الطفولة(20).

إن تجديلا متضافرا بين الانتظام والاضطراب يفسر تشكل النص الروائي في ضوء التوتر بين الذهني ـ الخيالي والعالم الواقعي في جريانه، وذلك من خلال عمليتي الإثبات والنفي اللتين تسمان فعلَ الكتابة (و/ أو انبساط الذات تعبيريا): ففي الوقت الذي يثبت فيه فعل الكتابة عبر تنظيم شكلي، وترتيبات فعل السرد، وسيولته (تسميات الفصول الروائية) يطال النفي هذا الفعل عبر اضطراب تحققه، وذلك بفعل استحالة تحققه، كما رُسمت حدوده من قبل الكاتب الضمني. وكأن صنيع الرواية ماثل في تدمير ما تثبته وتضعه شرطا لازما لكتابتها. 

3 ـ السؤال البلاغي والعقد النصية:
يجدر بنا قبل الحديث عن علاقة السؤال البلاغي بالعقد النصبة، بما تقوم عليه من ميلان،، التذكير بالملفوظ المركزي الذي يعد نواة صُلبة تنتج الدلالة في الرواية (الصيرورة السردية)، وتضمن وحدتها على مستوى التنامي النصي. ويمكن استخلاص هذا الملفوظ المركزي من المقطع النصي الآتي: "أمامك شهران قبل التقاعد.. ابدأ الآ ن.. وإلا سيفضل لك الأسبوع المصيري الوحيد لتشتغل فيه بحدة تلاحظ وتكتب. المهم أن الخطوط الكبرى واضحة للغاية.. جمع صور العتاقة في رواية طويلة.. إن ذلك ممكن.. فكر في الأمر.. ويتكون فرصتك الذهبية لتحدي الموت"(21). وقد اخترنا هذا المقطع النصي، من بين عدة مقاطع نصية أخرى يمكن أن تعتمد من أجل استخلاص النواة السردية الصُلبة، لكونه يشتمل على العناصر الرئيسة التي تعد قوام علاقة الإرادة باستعمال الموضوع بوصفها محتوى كل ملفوظ سردي رئيس. وتتمثل هذه العناصر في أربعة: الكتابة ـ التحدي ـ الموت ـ الأسبوع المصيري(22). ويمكن صياغة النواة الصلبة على النحو الآتي: "أريد كتابة رواية أتحدى بها الموت قبل فوات الأوان".

لا نريد البحث في تحول هذا الملفوظ العادي إلى ملفوظ سردي. فهذا شأن آخر، لا يستدعيه المقام. وإنما نريد فقط أن ندلل على ما يستوجبه على مستوى التنامي النصي من اقتضاءات، وهو يجد نفسه في حالة ظهور عبر تهيئة تعبيرية مخصوصة، أي ما يشكل تقدما من الوحدة الدلالية في اتجاه الكثارة، بما تعنيه من حضور للمتغير والفرداني على مستوى التهيئة التعبيرية. وبعبارة أخرى ما يجعل من المحور العمودي (المتشعبات) مشتغلا خلال تنمية التعبير في علاقته بالدلالة ذات الصبغة الأفقية، وذلك بما يسمح به هذا المحور من استقطاب للموضوعات والمعطيات على مستوى نقل أنماط الغياب المختلفة. ومعنى ذلك أن العناصر الأربعة المكونة للنواة الصلبة ستصير على مستوى التنامي الإدماجي، وفق المقولة البانية (التطلع)، محددة لما يستقطبه النص، ويدمجه داخل تناميه الدلالي والتعبيري معا حسب التجديل بين الصيرورة السردية والمتشعبات. بيد أن النص وهو ينفتح على ما هو طبولوجي (حيث ممكن الكثارة وارد بفعل حضور ما هو فرداني في خصوصيته، وحيث أن هذه الخصوصية مخترقة، بهذا القدر أو ذاك، بتوسط عبر رمزي) يسمح للبعد المائل بتعضيد تناميه انطلاقا من تكون عقد نصية يُجَدَّل من خلال متاحها ـ على نحو متضافر وفق التوتر بين الكل والجزء ـ التوسيعُ المتقهقر (حيث عالم التورية) والامتداد المتقدم (حيث المجاز المرسل). وبالتالي يصير الميلان عن العناصر الأربعة التي تكون النواة الصلبة ممكنا، إذ تنشأ من جراء ذلك تفرعات للمعنى، تقتضي تأثيرا في التعبير، وإعادة تنظيم الوحدة الدلالية عبر الكثارة، وتنظيم الكثارة ذاتها بما تفترضه الأيسية من حضور للآخر الرمزي، لا بوصفه نواظم رمزية ثنائية الأطراف، كما هو الحال في الدلالة، وإنما بوصفه ترتيبات أنموذجية لمحكي يشتغل، بوعي أو من دون وعي، خلف واجهة السرد الأمامية، ومن ثمة يكون عمل هذه الترتيبات عَبْريا، لا عميقا، أي أن رمزيته موغلة في القدم، لكنها تعبر عن نفسها من خلال اختراق تنامي النص على نحو مائل. وبالتالي يتجاوز النص الروائي، في هذا الجانب، على مستوى مفهومي الكل والجزء، حالتَه الخاصة ليرى تشكله الخاص، في ضوء محاورته أنموذجيةً تعبيرية سردية معينة قابعة خلفه، وتضطلع بدور الكل التعبيري السابق على التعبير الخاص العائد إلى الكاتب، بما يعنيه ذلك من تمرير لهذه الرؤية من خلال المسافة بينه وهذه الأنموذجية التي تتحدد في توسطها فعلَ الكتابة وتوجيهها الدلالةَ والتعبيرَ معا.

إن ما أتينا على توضيحه مقتضبا أعلاه هو ما سيكون مناط تحليلنا في هذا الجزء من الدراسة. ومما لا ريب فيه أن الموت يشكل الموضوع الأساس في رواية "المصري"، ولا تشكل الكتابة سوى الجهد الأساس المفضي بتحققه إلى تلافيه. وكل تصور آخر يحعل من الكتابة موضوعَ الروايةِ الأساسَ يكون قد سقط في حبائل مكر الكاتب، ومن ثمة يسيء إلى فهم الأرضية التي يتحرك فوقها النص. فقهر الموت يشكل تعلة لنشوء الجهد الأساس بوصفه رغبة في الكتابة. وهذا الأمر يتكرر عبر النص ويشكل عقدة نصية يٌجَدَّل، من خلال متاحها على نحو متضافر، التنامي الدلالي وكثارة التعبير، وبالتالي يتسلل عبر هذا التجديل ما هو عبر رمزي بوصفه ترتيبا للمعنى في علاقته بأيسية يشكلها الآخر بوصفه ميراثا من الحكي (الأنموذجية التعبيرية). ويتولد عن ذلك تقهقر التنامي باتجاه ما قبل تكون النص الروائي نفسه. وهذا أمر يجعلنا نرفض كل تصور للنص ينظر إليه على أنه يقع بين بياضين دلاليين. وبالتالي يمكن الحديث عن تورية محوَّرة ليست معنية بالإخلاص لذاكرة النص، بقدر ما هي تعبير عن معاناة من المسافة التي تضعها هذه الذاكرة اتجاه نفسها.

فنحن بإزاء رغبة في اتقاء الموت، أو تحديه، لكنها مخترقة برغبة مماثلة لآخر نصي عبر رمزي غير معلن عنه يرتد التنامي النصي نحو وحدته، ليعيد تنظيمها بما هو استحواذ رمزي قبلي يشغل المسافة بين فعل الكتابة وموضوعها ويهيكل متخيل المروي فيه. فالموت الأول، كما تصوغه الرواية وتظهره، لا يعدو كونه حدا زمنيا يمفصل عبره النشوء والتداعي والاطمئنان والقلق (التهديد: الأسبوع المصيري). ومن ثمة تصير البدايات ذاتها (الطفولة ـ زمن الشباب ـ الصداقة ـ المهنة ـ الزواج) مصوغة انطلاقا من استشعار النهاية الغامض (الموت)، أو قل نقل غموض الذاكرة من خلال غموض النهاية بوصفها مرآة للزمن الآتي أيضا. لكن حين يقترن هذا الموت الذي يصاغ روائيا على هذا النحو بالكتابة كجهد أساس لاتقائه، فإنه يشكل عقدة نصية يخترقها الميلان البلاغي، حيث يستدعي هذا الاقتران على مستوى التورية البلاغية الروائية ترتيبا آخر مماثلا، لكنه يتصف بكون عريقا ومهيكلا للمتخيل الروائي، أي أنه يستدعي موتا ثانيا نمطيا مقرونا بالحكي وله صلة بالإرثصورة السردية العربية.

وقد يتبادر إلى الذهن هذا الأمر من دون عناء، فتتلع شهرزاد من رماد الذاكرة لتخترق تنامي الدلالة وانبساط الذات التعبيري. فنسيان الموت أو إبعاد شبحه (والذي يترجم نصيا بنبرة التحدي) بالانشغال بالكتابة يوازي إبعاد فعل الانتهاك (قتل النساء العذارى من قبل شهريار) الذي يطال الحياة بواسطة الحكي الذي تضطلع به شهرزاد. فتحرير الذات من قلق الموت ـ النهاية بتحرير المدينة من زمنها الحاضر الموصوف بالنسيان والعقوق يوازي إنقاذ الوجود في سيولته، في ألف ليلة وليلة، من الاندثار بفعل تهديد استمراره من جراء محو الطرف الآخر المنتج للنسل (المرأة). وفكرة الفداء تغذي إنتاج النصين معا، بحيث تشكل في المروي الليلي تعلة منتجة للحكي، وتشكل في النص الروائي توسعا بالتقهقر يُؤسس تعذر الفكرة نفسها. فشهرزاد تفتدي كل النساء بفعلها، وتحرر الخطيئة بنقلها من الموضع الذي وضعت فيه إلى موضع آخر، أي الكلام ذاته الذي لا يكف عن التذكير بها. وكان الثمن الذي دفعته شهرزاد المخاطرةَ بحياتها ووسيلتها في ذلك الحكي. لكن الأنا في رواية "المصري" تفتقر إلى هذا النوع من المخاطرة، فهي تسعى إلى الحكي من أجل اتقاء الموت، وافتداء المدينة، لكن الفداء كان يشكل بنية ناقصة، أو يعبر عن نفسه من خلال تدميره، فالذات تفتقر إلى المادة والخبرة والوسيلة، لذلك فهي تعبر عن انتفاء زمن البطولة بما تتعرض إليه من سخرية مبطنة من قبل الكاتب نفسه.

وتصير موضوعة الموت في مستوى آخر بوصفها أحد العناصر المشكلة للنواة الصلبة عقدة نصية مخترقة بميلان آخر لا يقوم على التورية، وإنما على الطية(23) . فلا يوجد محكي موت أول، ومحكي موت ثان يتبدلان التدال انطلاقا من مسافة ما، كما هو الحال في التورية، وإنما توجد موضوعة موت واحد تستعاد في ذاتها ولها فعالية عبر ـ رمزية، حيث تُستدعى عبر النص للنظر إليها انطلاقا من تدال قائم بدوره على المسافة، لكنها مسافة مؤسسة على تحوير يفضي إلى انقلاب في بنية الموضوعة في علاقتها بافتتاح النص (و/ أو بدايته). لكن هذا الانقلاب يصير كلمة تستمد فعاليتها من البناء النصي وتناميه، لتقول التاريخ من داخل النص، لا من خارجه، أي التاريخ بوصفه موضعة تخييلية على المستوى الطبولوجي. ولمعرفة الكيفية التي يحدث بها الميلان على صعيد الطية في "رواية المصري" سنضطر إلى التعريج على مجموعة من النصوص السابقة عليها.

ومما لا يمكن المماراة فيه أن الموت بوصفه موضوعة يتضمن، بشكل أو آخر، الولادة أو الإحياء (و/ أو البعث). وهو تقليد موضوعاتي يعود إلى رسالة الغفران. وقد استعاده المويلحي في روايته (حديث عيسى بن هشام). ويجب ألا ننسى أن هذه الرواية قد اعتبرت في كثير من الدراسات على أنها تشكل بداية الرواية العربية، الشيء الذي يتضمن في طياته حضور مفهوم الولادة (ولادة جنس أدبي جديد). وتعتبر استعادة المويلحي موضوعة الموت من خلال ضدها (الإحياء) تحويرا لها. ولهذا التحوير الذي يموضع تحييليا على مستوى البناء النصي، على هيئة افتتاح الصيرورة السردية وانطلاقها، تبعات دلالية على مستوى التدال بين رسالة الغفران وحديث عيسى بن هشام بفعل المسافة بينهما. فالنص الأول يقوم على إحياء مفارق في العالم الآخر، بينما يقوم النص على إحياء محايث داخل العالم الأرضي. وبالتالي فما يتحصل من دلالة من جراء هذه الاستعادة هو التعبير عن قابلية ولادة جديدة للتاريخ، وعن قابلية وعده للتحقق، بما يدل عليه من أمل.

وستعمل نصوص روائية تالية على المويلحي(بل أنتجت في زمننا الراهن الموصوف بالتردي والإخفاق)، على استعادة موضوعة الموت، وذلك بتحويرها عن طريق قلب بنيتها، كما وردت عليه في نص "حديث عيسى بن هشام"، حيث ستعمل هذه الروايات على جعل الموت تعلةً للكتابة، أي مبررا للبداية على مستوى بناءها النصي. كما هو الحال بالنسبة إلى رواية "غاندي الصغير" لإلياس خوري التي تجعل من موت عبد الكريم تعلة لفعل الحكي ومبررا له. والأمر ذاته ينطبق على رواية "أوراق" لعبد الله العروي، حيث يصير موت إدريس بدوره تعلة لفعل الحكي. ولهذه الاستعادة دلالة قائمة على تحوير موضوعة الموت، عن طريق تثبيتها، ونفي ما يضادها من إحياء وولادة، وذلك من خلال وضع مسافة اتجاه نص المويلحي. وبالتالي يموضع عبر هذا التثبيت التاريخ على نحو تخييلي، حيث يصير دالا على كفه عن الوعد، وانتهائه إلى الانسداد. وسيفضي هذا القلب في البنية بين النهاية والبداية ـ عن طريق النظر إلى هذه الأخيرة من خلال متاح الأولى ـ إلى طية تخييلية يصير بموجبها استعادة ما جرى وحدث تدليلا على أزمة الحكي نفسه، ومعاناته من بدايته. وهكذا يكون للميلان بواسطة الطية تأثيرا على تنامي النص سواء في اتجاه الصيرورة السردية، أو في اتجاه التوزيع، حيث ينفتح التعبير على استقطاب ما يضاعفه، عن طريق انثناء النص على نفسه، وما يصاحب ذلك من انتفاء اليقين عن المروي.

لا تخرج رواية "المصري" عن هذا التقليد على مستوى الطية، بما تفيده من دلالات. فموضوعة الموت تعتبر بمثابة تعلة لفعل الحكي، بل تعلة لموضوع الرواية (الكتابة عن مدينة تطوان). لكنها تؤسس انطلاقا من استعادة موضوعة الموت على نحو مختلف عن النصوص التي سبق ذكرها. ولا يتأتى هذا الاختلاف إلا من خلال تحوير موضوعة الموت من خلال تدال ناجم عن المسافة المؤسسة تجاه النصوص السابقة، وبخاصة تجاه نص المويلحي. فلا يتعلق الأمر، إذن، بالإحياء بما فيه من أمل، ولا بالتثبيت بما يحف به من يأس، وإنما بتعريض الموت إلى نوع من السخرية الخفية والمبطنة، وكذلك تركته (العتاقة). وبالتالي يموضع التاريخ، وهو يرتبط بموضوعة الموت، تخييليا، في هيئة وديعة(24)، منظور إليها من خلال المسافة المملوءة بالسخرية الناجمة عن التباين بين الوسيلة المعتمدة في بلورة جهد الكتابة وموضوعها من خلال نزعة دون كيخوتية. ومن ثمة يفضي التدال بين الموت كما عولج في النصوص الروائية السابقة ورواية المصري إلى طية تطال تسمية الموت ذاته وتعريفه مما يولد تورية نصية داخلية تعبر الطية، حيث موت معين يتلافى موته، أي موت مجازي ماثل في نمطية حياة وتاريخ شخصيين يقاوم موت مجازي آخر ماثل في نهاية هذه النمطية.

"وبالتالي فإن ما تسعى الرواية إلى قوله هو عدم قابلية أنموذج معين للاستمرار لأنه موصوف بالعجز والفشل: "دقت ساعة الجامع الكبير" دقاتها التاريخية الحزينة. وبعيد الصلاة أحسست بفداحة لحظة التيه. ألم الحرقة يزداد وسمات الجنائز تندلق في الدروب والأزقة. تكتسحها وتكتسحني فأنحرف معها منصاعا. ليس لديك الآن أصدقاء ولا أهل. وحتى الجدران والسحنات خانتك فلم تسلم لك مقاليدها فكان انهزامك إزاء العتاقة وطلب العمق. الأسبوع سينتهي بعد ساعات معدودات. لم يبق لك سوى أن تتنازل عن عنادك الموروث عن سلالات غابرة وأن تفكر في الطريقة المثلى للتنازل. هل تطمح إلى أن تكون أفضل الأسر التطوانية التي لم تهجر بعد المدينة العتيقة؟ تريد أن تضيف إلى ثرواتك ميزة الإبداع التي لم تستطعها؟ يكفيك أنك وقفت عند مشارف الحقيقة فلا تتجاوز حدك واعترف بهزيمتك. تطوان ستظل منتظرة فارسا آخر غيرك ليصوغها قصيدة جميلة أو رواية ساحرة. أما أنت فهيهات لك أن تكذب على نفسك وتدعي أنك كاره لعبة الشطرنج ودفء الكازينو ودغدغة العقارات والمال المجموع"(25).

نذكر إلى جانب مظهري الميلان السابقين مظهرا ثالثا نصطلح على تسميته بالمفصلة الملتبسة. والمقصود بهذا المظهر الثالث حضور تضاد في بنية المروي، من دون أن يكون هناك، على مستوى تنامي النص، ما يحسم في اختيار أحد طرفيه وترك الآخر، بل يشتغل الطرفان معا في تضادهما، لا من أجل تثبيت التضاد في ذاته ولذاته، وإنما من أجل تحويله إلى معبر لقول الاستحالة، ومن أجل استقطاب عناصر أخرى عبر هذه الاستحالة إلى تنامي التعبير رغم عدم تلاؤمها مع اقتضاءات الدلالة التي ينهض عليها هذا الأخير. وبالتالي تعمل المفصلة الملتبسة على حل مشكلات تبدو في النص وكأنها منفلتة من رقابة الكاتب، بينما هي موظفة من أجل خدمة التضاد القائم على الاستحالة للتدليل على تفسخ الحامل وعدم قدرته على أن يمثل اللحظة الزمنية التي يضطلع بالتعبير عنها كتابة، والتدليل على الانتهاك الذي تتعرض إليه الحوزة النصية، بما هي حدود انسجال النص في مسار إبداعي مخصوص (الرواية).

ونظن أن العقدة النصية التي تمكن من منح المفصلة الملتبسة فرص الاشتغال الفعال ماثلة في التقاطع بين الحاملين (السي مفضل وازرع كون): "واقترب الرجلان من بعضهما فأوليت ظهرك لالتقاط لحظة تاريخية لن يجود بمثلها الدهر. السي مفضل هابط نحو المدينة العتيقة وازرع كون صاعد نحو شوارع المعمار الأوروبي. والتقت النظرتان فتوقف التاريخ. هل يعرفان بعضهما؟ من المؤكد أن ازرع كون الأرستقراطي السمات يعرف السي مفضل الأهبل. وفي نظرته الأنيقة احتقار لقذارة الرجل. لكن الأهم من ذلك هو استشراف البريق الغامض في عينيه وقد عكس موقفه من هالة الكرامة التي يضفيها بعض العامة على السي مفضل. ذاك البريق الغامض هو بعض الدرس المستفاد. أما البعض الآخر فتعكسه نظرة السي مفضل التي لا تدخل في اعتبارها أي أحد: هل تكون هي الأخرى قد أدركت أنها أمام مخلوق غير عادي؟ نظرة الشرود في دنيا الخوارق والمتناقضات والسخط والرحمة والعجائب والكرامات في مقابل نظرة الأنفة والاعتداد بالنفس والإيمان بالأصل والاعتزاز بالذات حتى وإن كانت الذات تكابد هول السقوط في الهاوية"(26).

تشتغل المفصلة الملتبسة في هذا المقطع النصي انطلاقا من التضاد بين حاملين من دون الحسم في الاختيار بين أحدهما. فالتقاطع بينهما بوصفه تضادا هو الأساس. لكن أهمية هذا التضاد لا تتأتى من تثبيته في ذاته ولذاته، وإنما من التعبير عن الاستحالة التي يتضمنها، والتي تتمثل في ما تحمله من تعذر الجمع بينهما، مما يشي بتفسخ له هيئة شرخ. ويمكن الإطلالة من خلال هذا الشرخ وحده على عمق من دون عمق. وبالتالي يدل هذا التضاد على شرخ هائل بين ماض سديمي وحاضر مشوه، أي بين التقليدي المنكفئ على ذاته والممتلئ من غير وعاء، والمعاصر المنفتح على السقوط والفارغ من غير محتوى. فكلاهما يعبر عن حضور ناقص: الأول يظهر من خلال محتوى مفتقر إلى شكل يعطيه تعينا في الزمن، والثاني يتبدى من خلال شكل من دون محتوى يكسبه الصلابة التي تجعله مستنبتا في المكان.

وتستقطب هذه العقدة النصية مفهوم التاريخ، وتدمجه داخل بنية المروي ("لحظة تاريخية لن يجود بمثلها الدهر" ـ "فتوقف التاريخ"). ويبدو الأمر وكأن السخرية تتخذ لها موضوعا الحاملين معا، لكنها تمارس مكرا على غير المتمرس بقراءة النصوص السردية. فالحاملان لا يمثلان معا في الحقيقة سوى معبر للسخرية اتجاه التاريخ نفسه، بل اتجاه الكلمة التي تحمله إلى النص، أي كلمة الحامل الممثل المركزي "أحمد الساحلي". ألا يعد ذلك بمثابة لمز ماكر في حق العين التي ترى؟ لا شك أن ما تلتقطه العين، إذن، هو عزلة الحاملين معا وانقطاعهما بعزلتهما هذه عما يجري حولهما. وبالتالي فهما يجسران، على هذا النحو أو ذاك، المسافة التي تفصل الحامل ـ الذات عن موضوعه (كتابة رواية). وذلك بما يشيان به من ارتداد للنظر إلى نفسه، حيث ترى الذات عزلتها (و/ أو عزلة فعلها) عما يجري حولها من تبدلات، واستغراق كل تطلعها في استرداد عتاقة موصوفة بالتعذر عبر شكل فني لا يتناسب معها.

إن الوصف وهو يطال الحاملين المذكورين آنفا ممزوجا بكلمة السارد الضمني، يكثف داخله، على مستوى المفصلة الملتبسة، العلاقة الملتبسة للذات، وهي تتطلع إلى موضوعها (الكتابة)، بفعلها المتسم بالتفسخ. بل يسمح بنقل التضاد بين السي مفضل وازرع كون إلى هذا الفعل نفسه: "ـ ما الذي انفرد به نجيب محفوظ حتى ألم في رواياته بتفاصيل القاهرة وأزقتها وملايين بشرها وأصناف عاداتها وآلاف مشاكلها وأحلامها؟. لا بد أن يكون ثمة سر يجمعني بالأديب المصري أكثر مما يجمعني بالأديب المصري أكثر مما يجمعني بالمحامي ذي الأصول البدوية. الرطوبة التي تسري في دمي وفي دروب مدينتي، والإحساس بجنائزية العصر، والريح الشرقية، والتقزز من بيع الذمم، وتضارب الأهواء والأصوات والقيم على نحو بشع، تلك سمات لا تستطيع ذات بنعيسى أن تتريث إزاءها حتى تتدبرها. ثم إنني أتفوق عليه بقراءة المنفلوطي الحالم والرافعي الوقور ونجيب محفوظ الساحر أما هو فلا يعطي لهذا الصنف من الكتابات أي اعتبار"(27). فما يكمن خلف الأنموذج التي تسعى الذات إلى كتابته هو نجيب محفوظ، باعتباره عملاقا لا يجارى. لكن حين تضع إلى جانبه الرافعي، تكون قد عبرت عن تضاد في بنية المقصدية التي تحرك الجهد الأساس (الكتابة). وهو تضاد يحمل في ثناياه المفصلة الملتبسة التي وصف بموجبها تقاطع كل من السي مفضل وازرع كون. فإذا كان نجيب محفوظ يعتبر الرائد في تثبيت أصول الجنس الروائي في الرواية العربية، فإنه يعتبر إلى جانب ذلك منتصرا لقيم الحداثة في لحطته التاريخية. فالرواية لم تكن جنسا أدبيا يندرج في إطار فني صرف فحسب، بل كانت أيضا أرضية احتد فوقها الصراع قويا بين أنصار المحافظة وأنصار التجديد. وكان الرافعي من أشد الأعداء لجنس الرواية، ولم يتورع عن التعبير عن موقفه الرافض لها. فكيف يمكن، إذن، الجمع بينه ونجيب محفوظ على مستوى مقصدية الجهد الأساس (الكتابة)؟

يشكل الجمع بين الرافعي ونجيب محفوظ تضادا مؤسسا المفصلة الملتبسة التي تشي باستحالة فعل الكتابة ذاته، ومن ثمة التعبير عن النزعة الدون كيشوتية الماثلة في استحالة استمرار الأنموذج وتفسخه الناجمين عن كون الذات تقليدية تتخذ من شكل أدبي حداثي وسيلة للتعبير عن نفسها. ولا يمكن فهم الأمر هنا إلا بوصفه جمعا بين محتوى وشكل لا يتلاءمان على الإطلاق، أي بين محتوى من صفاته التنسيب (اللحظة المعاصرة كما تمثلها المدينة بوصفها المجال الذي ترعرعت الرواية داخله) وبين شكل زخرفي قائم على المطلق الذي يتعالى على الزمن. فنجيب محفوظ يمثل المحتوى، والرافعي يمثل الشكل. والتقاء من هذا القبيل من شأنه أن ينعكس على الجهد الأساس ويفضي به إلى التعذر. ولعل في النماذج التي كان يحاول أحمد الساحلي كتابتها عقب عودته إلى البيت ليلا لخير دليل على هذه المفصلة الملتبسة: "إذا رمت بك الأقدار ذات يوم إلى دروب تطوان وأزقتها، وأتيحت لك فرص التفرس في ملامح ساكنيها فلا تتوقف عند الملامح الخارجية والسمات الظاهرة. فإذا عاينت وجوها صامتة فاعلم أن وراءها كنوزا من الحكايات الناطقة. وإذا تأملت التقاسيم مليا فاعلم أن أخاديدها قد حفرت فيها معالم الشوارع الوديعة والساحات الصاخبة. والأحجار المغروسة والعتاقة الغميقة. وإذا كنت لم تفز بعد بمثل تلك الفرص السعيدة دعني أنوب عنك في القيام بهذه المهمة فأروي لك قصة التاجر الصامت القصير وما وقع له من نوادر في السوق، وما حدث له من طرائف مع زوجاته، تلك القصة التي جمعت تفاصيلها بحكم الجوار وحسن الإنصات لشيوخ "الوسعة" و "الفدان" العاطلين الذين هم على لعب الضامة من المدمنين.

بيد أني لن أحدثك عن زوجات التاجر المصونات، وأمزجتهن وجمالهن المتفاوت الدرجات حديثا مباشرا صريحا، وإنما سأعرج بك على مقرات سكناهن في "باب العقلة" و "السويقة" و "السوق الفوقي" و "الزنقة الضويقة" وهي منازل اختارها التاجر بعناية وقصد بها أن تفي بالغاية، لتكون بعون الله ملاذا للأولاد، وللزوجات حرزا من عيون الحساد"(28). يبين هذا المقطع النصي التضاد بين المقصدية(29). التي تُحرك الجهد الأساس (كتابة رواية) وبين التحقق، حيث يتمثل ما يسفر عنه الجهد، على نحو ملموس، في استعادة شكل تقليدي ذي نزعة أسلوبية(30)، متسمة بالمطلقية ومتنافية مع خصوصية الرواية ومحتواها. وبالتالي يتضمن التحقق داخل بنيته مفصلة ملتبسة تشي بتفسخ الرواية واستحالة كتابتها. ومن ثمة يصير الانجذاب إلى المشرق (نجيب محفوظ) معرضا إلى التدمير والتفسخ. فلا يمكن للذات أن تلتقي بفعلها الحقيقي إلا بالخروج من عباءة التقليد كيفما كان نوعه. وهذا ما لم يكن بمقدور أحمد الساحلي خوض مغامرته من دون إحساس بالخسارة. ومن ثمة كان مدار كتابة الرواية يقوم على اتخاذ هذا الأمر موضوعا وسيطا لها ينسحب على صياغة الموضوع الأساس (الموت). ولا يمكن تبين كل ما قلناه أعلاه بصدد العقدة النصية ومظاهرها إلا بإظهار الخاصية الجمالية العامة التي تحكمت في صياغة التعبير الروائي، والتي تتعلق بمدى تضامن الكاتب مع ملفوظه الروائي أو انفصاله عنه. 

4 ـ السؤال البلاغي والمكر الجميل:
لقد مارست رواية "المصري" على قارئها مكرا جميلا يعد بمثابة فضيلتها الجمالية التي قلما تتوفر لنصوص روائية أخرى. ويتمثل هذا المكر في تمويه مخادع مارسه الكاتب على المتلقي عن قصد وسابق إصرار، وهو يخفي فعله هذا محاولا إخفاء كل أثر دال عليه. وكأن الراوية تمتلك وجهين: أحدهما ظاهر بادي للعيان مغري يقود القارئ نحو وجهة وحيدة تسقطه في حبائلها من دون تنبه إلى ما تخفيه من تضليل. وثانيهما خفي غير ملموس لا يكاد يستشف إلا بقلب الوجهة الأولى بسلبها ما تتمتع به من حماس (الإيتوس) وتأثير (الباتوس). فما ينتظره القارئ الخبير بالمدينة بوصفها انتماء وهوية هو ما يُتلاعب به على نحو ماكر. والأمر لا يتعلق بخيانة ما هو غير قابل لذلك، بقدر يتعلق بما له صلة بإعادة موضعة الوفاء في أمكنته الحقيقية. وكم كان هذا المكر مثيرا للإعجاب وهو ينطلي، لا القارئ العادي فحسب، وإنما على القارئ المتمرس. ويكفي النظر إلى ظهر الغلاف لتبين آراء النقاد الذين نوّهوا بالرواية ظنا منهم أن الكاتب مماثل للحامل المركزي "أحمد الساحلي"، بل إن منهم من ذهب إلى طمأنة الكاتب إلى أنه إذا استمر في ممارسته كتابة الرواية سيبلغ شأو نجيب محفوظ. ولم يتفطن صاحب هذه الطمأنة إلى أن الكاتب يتلاعب ساخرا بهذه الغاية ذاتها. كيف تحقق هذا التلاعب بالقارئ؟ وكيف خطط له الكاتب جماليا؟ وما هي الإضافة التي جلبها نص رواية "المصري" إلى تراكم الرواية العربية؟

إن أول ما يبعث على الظن بأن نص الرواية يضفي على حامله المركزي أحمد الساحلي كل أنواع التعاطف والعناية هو نقل العياب بواسطة ضمير المتكلم. وهو من الضمائر المميزة لكتابة السيرة الذاتية، وقد استخدم روائيا في "المصري"، لكنه ظل يوحي، بالنسبة إلى من لا يعرف حياة الكاتب، بظلال السيرة الذاتية. كما أن استعمال هذا الضمير يعمل في الغالب على خلق نوع من التلاحم بين المتلفظ وملفوظه، الشيء الذي يبعث على الإحساس بكون الكاتب يتضامن، بهذه الطريقة أو تلك، مع أحمد الساحلي، بل يكاد يحمله نواياه وأفكاره وهواجسه. ومعنى ذلك أن المسافة بين ضمير الكاتب وضمير المتكلم الذي يشترك فيه السارد والحامل المركزي تكاد تكون منعدمة، فينشأ من جراء ذلك الخلط بين صوت الكاتب وصوت أحمد الساحلي. وينتج عن هذا الخلط طابع الجدية الذي ينسبه القارئ إلى الكاتب وهو ينقل عالمه الروائي. لكن هذه المسافة تصير أكثر اتساعا بين ضمير الكاتب وضمير المتكلم في الرواية بمجرد ما أن تُلتقط الكلمة الروائية غير المقولة، والتي تتسلل إلى النص الروائي خلسة من دون كلام متخذة لها من بناء التهيئة التعبيرية وسيلة لإظهار طبيعتها المتوارية. ويتمثل هذا الإجراء الصوتي البنائي في طبيعة صياغة الجهد سرديا(31)، حيث يصاغ وفق طريقتين هما:

أ ـ في علاقة الجهد بالنتيجة المرجوة منه، والتي تضظلع بالتعبير عنها تموضعات التضاد التي يظهَّر بواسطتها أحمد الساحلي.

ب ـ في علاقة الجهد الوسيط (الكتابة) بالوسائل التي يتوسل بها في تحقيق غاياته. فمن ضمن تموضعات التضاد نذكر موقفا الحيطة والخوف اللذين يتنافيان مع خصيصة الكتابة التي تقتضي الجرأة والمغامرة وخوض التجربة في أشكالها القصوى من دون حساب للخسارة.

فمن المفروض في الكاتب أن يكون ذا تماس بمحيطه والعالم الذي يسعى إلى تقديمه، ومتملكا الأساليب التي بواسطتها يستطيع النفاذ إلى الأمكنة التي يكون موضوعه متعينا بها. كل هذه الشروط غير متوفرة لأحمد الساحلي بالرغم من توخيه كينونة الكاتب ووضعه. فيبدو في تجواله عبر المدينة القديمة التي ينتمي إليها، وكأنه كائن من عالم آخر، لا صلة له بالمكان. فما تلتقطه عينه يفجعه، ويصيبه بهلع نصف مكتوم. كما لا يُخفي في أحايين كثيرة ما يشعر به من ذعر وهو يجد نفسه مرغما على ولوج أمكنة، يبدو أنها غير معتادة بالنسبة إليه، لكنها معروفة عنده، لأنها تشكل جزءا من الفضاء الذي شهد نشأته. كما أن التحولات التي تفاجئه وهو يعيد صلته بالمكان لا تكون مثيرة إلا بالنسبة إلى من غاب عن المدينة زمانا ليس بالقصير، وهذا أمر لم يحدث على الإطلاق. ويضاف إلى ذلك غياب أي مؤشر دال على الألفة بين أحمد الساحلي وأهل المدينة العتيقة التي تعد مقر سكناه، فلا نجد برتوكول التعرف الحميم، وما يستتبعه من أعراف التحية، وتبادل كلام المودة، واستطلاع الأحوال، الشيء الذي يفضي إلى كون أحمد الساحلي لا يتميز في لحظات حضوره، وهو يتجول في أنحاء المدينة العتيقة، من أي غريب تطأها قدماه.

فكل هذه المؤشرات تجعل من الحامل المركزي في وضع تضاد مزدوج مع خاصيته المميزة: من جهة وضع تضاد أحمد الساحلي مع كينونة الكاتب الذي يفتر ض فيه الإقبال على المغامرة، لا الإحجام الذي يتمثل في موقف الحيطة الذي نلمسه، وهو يلج مقهى شعبي في الطرانكات، حيث نلاحظ الهوة التي تفصله بينه وعالم المقهى، والمملوءة بالحذر، ونصف رعب غير مصرح به، بل الهوة المملوءة بتقويم الازدراء الداخلي لما تلتقطه عيناه (ملامح الزبناء ـ السبسي ـ النظرات... الخ). كما يتمثل موقف الخوف في هروبه من الشاب الأفّاق الذي كان يعاكس إحدى الفتيات، واعتصامه بالكازينو طلبا للحماية. فخاصية الجبن هذه لا تتلاءم إطلاقا مع حامل روائي يفترض فيه أنه حارس قيم يبذل في الحفاظ عليها كل طاقته. ومن جهة أخرى وضع التضاد مع الموضوع (المدينة العتيقة) الذي يريد إنقاذه بواسطة الكتابة، حيث نلمس، وعلى نحو فادح، الهوة بين أحمد الساحلي والعالم الذي يسعى إلى تقديمه. وهذه الهوة موسومة بكونها مملوءة بعدم التعرف المفروض أن يتوفر لمن عاش حياته برمتها حبيس أزقة المدينة العتيقة. فمن مميزات شخص من هذا القبيل أن يكون على بينة من كل التحولات التي طالت عالمه، لا أن تتبدى هذه التحولات،وكأنها حدثت بالصدفة. وبعبارة موجزة لم يكن أحمد الساحلي سوى شخص منقطع عن زمانه. هل يمكن أن نقول عنه بنوع من السخرية، ولربما كان الأمر كذلك، وعلى نحو يقيني، شكلٌ ما من أشكال استعادة أهل الكهف؟!

ويتمثل اتساع المسافة بين ضمير الكاتب وضمير المتكلم في الرواية من خلال عدم التناسب بين الجهد الوسيط (الكتابة)، والوسائل المعتمدة في ذلك. فالحامل المركزي يعاني من نقص في الطاقة التي بإمكانها أن تفضي إلى التحول، بما هو تملك للموضوع الوسيط (كتابة رواية). فما أن تعبِّر الطاقة عن إبراز نشاطها حتى يطالها الخمود. ويتبين ذلك في المعاناة من عدم مطاوعة الكتابة أحمد الساحلي حين يختلي إلى نفسه أمام بياض الورقة، وغلبة العادة على ما هو استثناء (عذاب الكتابة). كما أن هذه الطاقة تعرف خمودا نتيجة كون الوسائل المعتمدة في إنجاز المشروع الروائي تتناقض مع طبيعته وخصوصيته، لا على مستوى الموضوع الروائي، ولا على مستوى بنية اللغة الروائية. فالتاجر وزوجاته الأربع تعبير عن انشغال تقليدي تفوح منه رائحة الحنين إلى أزمنة ولت، وصارت في عداد الإرث الثقافي يذكر بها الماضي والأجداد، لا الحاضر والأحفاد. واللغة التي كانت تكتب بها تلك النتف اليتيمة ليلا لا تنتمي أبدا إلى لغة الرواية، بقدر ما تنتمي إلى لغة سرد عتيق لا يتلاءم أبدا مع التنسيب الروائي.

يفضي، إذن، عدم التناسب بين الجهد والنتيجة والوسائل إلى نقل نبرة النص الروائي من ظاهره القائم على الجد، بما يشي به من حماس مبعثه الإخلاص للعتاقة والدفاع عنها، ومن تأثير مبعثه تجاوب القارئ مع منافحة لغوية اتجاه مكان حميم، إلى باطن قائم على الهزلي بما يفيده من سخرية مبطنة تمس أنموذجية تاريخ يأبى إلا أن يذكِّر بجدارته في هيئة وديعة لا يجب التفكير في هجرها أبدا. هكذا خطط الروائي لفعل التلاعب بالقارئ. وقاده نحو وجهة مغلوطة. فقد جعله من خلال استعمال ضمير المتكلم وسيلة لنقل الغياب، فيظن أن ما يروى هو جدّ لا يحتمل إلا التطابق بين كلمة الكاتب ونوايا الحامل المركزي (أحمد الساحلي). لكن يتبين، انطلاقا من القراءة المتنبهة إلى مكر الكاتب، أن هذا الأخير يتلاعب ساخرا بالمتلقي قبل موضوعه الروائي. وهذا التلاعب يشكل نوعا من الإمتاع الذي يعيد لأسلوب الرواية أحدى خاصياتها الجوهرية التي ميزت نشأتها، ألا وهي المحاكاة الساخرة. لكن يأبى نص رواية "المصري" إلا أن يعيد موضعة هذه المحاكاة الساخرة بنقلها من أسلوب التصادي بين النصوص إلى أسلوب آخر، عن طريق تحوير اشتغالها. وسنطلق على هذا التحوير، نظرا لطرافته، اصطلاح التعريض الساخر(32)، وهو غير الباروديا على الإطلاق. فالكاتب في نصه الروائي لم يستهدف أبدا محاكاة نص سابق على نحو ساخر، وإن كانت رواية "المصري" تتقاطع مع نصوص سردية عدة كما أشرنا إلى ذلك في حينه، إما إعجابا (دون كيشوت)، أو تحويرا في بنية موضوعة مشتركة بينها (الموت مثلا). بيد أنها لم تتخذ من أحدها أنموذجا بقصد محاكاته على نحو ساخر.

يقوم التعريض الساخر في رواية "المصري" على استهداف فعل المحاكاة ذاته، أي جهد الكتابة الذي يستهدف بالدرجة الأولى محاكاة نجيب محفوظ واتخاذه نموذجا مبهرا في صناعة الرواية. فالمقروء الروائي المسبوك انطلاقا من نماذج محفوظية حاضر بكل قوة، ويكاد يكون محددا على نحو مهووس رؤيةَ أحمد الساحلي البصرية ونزوعاته في التعامل مع العالم، لكن هذا المقروء يتعرض من قبل كلمة الكاتب، ومعه النزوع المشرقي بعامة، إلى نوع خفي من التعريض الساخر. ويتمثل هذا التعريض في المفارقة بين المفارقة بين الطموح وبين إمكانات تحقيقه، والوسائل المعتمدة في ذلك. ولا يعني ذلك البتة ما تفيده المحاكاة الساخرة من استهداف تدميري أو نقدي لما تحاكيه، وإنما استهداف فعل المحاكاة ذاته باللمز، حيث يُكشف عن قصوره، وعدم قدرته على تمثل ما هو مُقدم عليه من مجاراة النموذج الروائي المحفوظي. وما يتخفى وراء هذا التعريض من سخرية خفية لا يتعلق بما هو نصي روائي صرف، وإنما يتعلق بأنموذجية ثقافية تاريخية تتمثل في طبيعة الشخص التقليدي الذي يقيم علاقته بالزمن الجاري من حواليه على نزعة ماضوية مشبعة بالأمجاد البعيد منها والقريب لمقاومة كل أشكال التحول البادية على سطح العالم. فالأنموذج المحفوظي مجرد عنوان دال على الوديعة. لكنها وديعة فاقدة الروح، لا بسبب ما تتضمنه في طياتها من انقضاء (الأسلوب الواقعي في مختلف تجلياته) غير متلائم مع الجدة الحادثة في مجال كتابة الرواية، وإنما بسبب ما يعتريها من اضطراب مبعثه التداخل غير المدرك للفواصل بين أنماط التعبير ومخصوصيتها (الجمع بين الرافعي ونجيب محفوظ معا بالرغم من أنهما يتمانعان على مستوى علاقتهما بجنس الرواية). ونستشف من هذا التعريض الساخر أن النص الروائي المحفوظي معتمد في رواية "المصري" بوصفه طرفا ثانيا بين فعل الكتابة بوصفه جهدا وسيطا والواقع من جهة، وبينه وتحولات في الكتابة الروائية العربية تشكل ممكنا في اللحظة المعاصرة الروائية، بما تتسم به من تجريب لا يعقل حركته ولا أسسه الجمالية. فيكون التعريض الساخر متجها صوب فعل الكتابة الروائية التي لا تعقل أبدا ما يتخايل لها على أنه نموذج قابل للاحتذاء.

باحث من المغرب صدر له حديثا كتاب (إدانة الأدب).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ نثير هنا قضية تتكون من سؤالين هامين: أولهما له صلة بتحديد مفهوم الجمال وثانيهما يتعلق بموضوعه. ففي ما يخص السؤال الأول نستعيد ما قاله كانط بصدد الجمال وظنه أنه يفتقر إلى مفهوم كلي يستند إليه، مع الإقرار بوجود موضوعه. وموقفنا في هذه المقالة أن الجمال لا يفتقر إلى المفهوم بوصفه نقطة انطلاق، وإنما يعاني من وجوده بصفته نقطة وصول، ومن ثمة فهو مؤجل، أو يوضع في حالة من التعليق، الشيء الذي تتحول معه المقولة البانية ـ في التنامي الإدماجي بكونه مستوى تاليا للدلالة ـ إلى معادل تخييلي لبناء حالة التأجيل هذه. والسؤال الثاني ماثل في كون الموضوع الروائي يتصف بخاصيتين: أولاهما تتعين في كونه موضوعا غير متعين على نحو قبلي، وملامحه لا تتشكل على نحو جلي إلا بانتهاء الصيرورة السردية، وثانيتهما تتعلق بكون الموضوع الروائي لا تتأسس علاقته بالذات على نحو مباشر، وإنما العكس هو الوارد، حيث يتوسط هذه العلاقة الآخر الرمزي، كما يتشكل في هيئة صوت آمر داخل شبكة السنن التي تميز كل هيمنة رمزية. انظر في ما يخص افتقار الجمال إلى المفهوم:
إمانويل كنت: نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2005م.
(2) ـ نشير هنا إلى كتاب جاكوبسن "الأسئلة البوطيقية" حين تحدث في ما يخص عن شعرية النص عن إسقاط المحور العمودي على المحور الأفقي.
(3) ـ نقصد بالعقد النصية أماكن محددة في النص لا يتقدم فيها التنامي النصي باتجاه خطي، أو ينفتح فيها عموديا على استطرادات تمثل حركة اضطراب، أو متشعبات خارج التدفق المنتظم لفعل السرد، وإنما الأماكن التي يجدل فيها الخطي والعمودي بفعل وجود ميلان يخترقهما، ويبرر به تقاطعهما. ويتمثل ذلك في المحال التي يتبدى فيها التوتر بين الكلي والجزئي، سواء أكان هذان المفهومان داخليين، أي بين الدلالة بوصفها مجال الكل والتعبير بوصفه مجال تبدي الخاص، أم كان الكلي يمثل ا الإجناسي بكل ميراثه الرمزي، والجزئي يمثل حركة النص التعبيرية. وقد تتخذ حركة التوتر هذه أحيانا مظهرا ضمنيا بواسطة النفي المضمر من خلال الإثبات، أو ما يسمى في البلاغة العربية بالمخالفة، كما أن العقد النصية قد تتأسس في أحايين أخرى على نوع من استعادة عبر رمزي موغل في القدم من دون وجود إشارة صريحة إليه. وقد يتكون الميلان من عقدة نصية واحدة كما هو الحال بالنسبة إلى استعادة عبر الرمزي، وقد يتكون من خلال الربط بين عقد نصية موزعة عبر النص تسهم جميعها في إنتاج تقدم النص نحو كله المؤجل، أو تقهقره صوب كله عبر الرمزي.
(4) ـ إننا نميز بين هذين المحورين كما يمكن النظر إليهما في مجال الشعر، وكل قول أدبي آخر، وبينهما في الرواية. فالمحور الأفقي يتعلق في هذه الأخيرة بالحكاية أو الصيرورة السردية، بينما المحور العمودي يتعلق بالمتشعبات التي تتخلل التهيئة التعبيرية.
(5) ـ نستعمل الأنا هنا في غير دلالتها المعتادة والتي تحيل على ما هو انطولوجي، وفي تقابلها مع الآخر المغاير لها انطولوجيا، إذ نريد بها الأنا ـ الكلمة التي توضع في مقابل الآخر ـ الكلمة. والمقصود بذلك الأنا النصي الدال على الفرداني والمتغير والخاص، في مقابل الآخر عبر النصي الدال على الجمعي والثابت والعام.
(6) ـ استفدنا هنا من كتاب: جان فرنسوا ماركيه: مرايا الهوية، ترجمة أ كميل داغر، المنظمة العربية للترجمة،بيروت 2005.
(7) ـ محمد أنقار: المصري، منشورات الزمن، البيضاء، 2004، ص 32.
(8) ـ يمكن إرجاع الحركة المتجهة صوب المثال إلى لحظة المرور من عدم التعين إلى لحظة التعين.، أي من اللحظة التي كانت تنعم فيها الذات بفضائل البيولوجيا، غير خاضعة لزمن الرمز، وكان العالم بالنسبة إليها غير محدود، ذا صبغة مطلقة، ونموذجيا، وكانت فيها مُنَصَّبَة لها طابع الملوكية، إلى زمن الرمز، حيث تكتشف الذات انفصالها عن العالم بوصفه امتدادا للرحم، ومحدوديته، ويطالها الخلع، وتخضع لبلاغة الفرق ورموزها، وتكتشف أن مكانها الملوكي ضاع منها، ويالتالي يصير كل ما تفعله في العالم هو البحث عن هذا المكان واستعادته. وتصير كل الأشكال التي يتوسل بها الإنسان من أجل إثبات جدارته بالحياة تعبيرا رمزيا، بهذا القدر أو ذاك، عن هذا البحث. فمهما كان المكان الذي يوجد فيه الفرد في (الآن) منحطا أو ساميا يعد غير حقيقي، لأن العالم الأولي المفقود، عالم ما قبل الرمز ـ التعين يعتبر رمزيا امتدادا لأصل مفتقد. وهذا الأصل المفتقد هو الرحم، بوصفه دالا على الاكتفاء والحماية والعالم باعتباره امتدادا للذات. ومن ثمة يمكن اعتبار الكتابة عن تطوان بوصفها مدينة تخفي خلفها هذه الرغبة الأصيلة وغير المدركة في استعادة المكان الأصلي المفقود. ويعد تعذر الكتابة بوصفها فعلا تعبيراً عن مشروعية هذا البحث الذي لا يمكنه أن يعبر عن نفسه إلا من خلال استحالته.
(9) ـ الرواية: ص 73.
(10) ـ الرواية: ص 124 ـ 125.
(11) ـ الرواية: ص 67 ـ 68.
(12) ـ الرواية: ص 81.
(13) ـ إن الأمر يكاد يكون، هنا، مماثلا ـ مع وجود الفارق ـ لما يمنحنا إياه نص دون كيشوت. فسرفنتس لم يكن يريد بكتابته روايته المشهورة التعبير عن استنفاذ مجتمع ما الأسس الفكرية والاجتماعية لاستمراره فحسب، ولكنه كان يروم أيضا التعبير عن إشكالية المثال ـ الأنموذج وتفسخه. ولم يفعل ذلك بقوله على نحو صريح، وإنما بتعريض الحامل (دون كيشوت) إلى السخرية. والسخرية كانت أبلغ عنده، لا بالتهكم الناجم عن نظرة الغير اتجاه أفعال دون كيشوت الباعثة على الشفقة، أو عن نظرة الروائي إليه، ولكن من خلال أسلبة ذلك عن طريق تدمير الصبغة الكلية للحامل كما أنتج في السرود العتيقة، ومنها رواية الفروسية على سبيل الذكر لا الحصر. فلم يعد الحامل يجسد النموذج الكلي بما يقتضيه من جهازة، وتلاحم الخصائص المكونة له (الجمال ـ القوة ـ الذكاء)، بقدر ما صار يجسم الجزئي المنفصل. وهذا الجزئي لم يعرض من خلال إسناد إحدى الخصائص المذكورة إلى الحامل، وحرمانه من بعضها الآخر، وإنما من خلال إظهار اضمحلالها الذي يقودها نحو التشوه بفعل افتقارها إلى ما يجعلها موحدة تفعل فعلا كاملا. وقد كانت هذه بداية الرواية الماثلة في فعل نقل ما هو شيطاني من خارج المجتمع إلى داخله. والأمر نفسه ينطبق على أحمد الساحلي فهو يفتقر إلى الجهازة وإلى ما يلحمه بوصفه مكمن سريان الكلي. فهو نحيل تنخره الأمراض ويفتقر إلى العزم والصلابة ويكاد في كثير من مظاهر الاحتفاء بهندامه يشابه ذوق المرأة.
(14) ـ نشير هنا إلى تلك الدراسات التي جعلت من الكلمة الروائية منحصرة في اللغة والأسلوب، من دون أن تتنبه إلى أن إحدى الخصائص المميزة للرواية في نشوئها، أنها وضعت الكلمة في مستوى آخر من الفعالية، بنقلها من فعل القول إلى فعل نقله وإلى شكل هذا النقل. ومن ثمة يمكن البحث عن الكلمة الروائية في ما يقوله نقل الغياب بصفة عامة. ولا يمكن فصل بناء نقل الغياب وطبولوجيته عن ذلك، بما في ذلك بناء الصيرورة السردية، والعلاقة بين التصور والتحقق، وصياغة معاناة الصيرورة السردية من نهايتها.
(15) ـ المقصود بمبدأ التمكين جعل الشيء ممكنا. وليس المقصود بذلك أبدا تحويل المستعصي أو المستحيل أو المتعذر إلى ممكن، وإنما العملية التي بواسطتها يشتغل الفن في علاقته بغيره من الحقول الأخرى، وبخاصة منها النظري والأخلاق. فإذا كان هذان الأخيران قد خصص لهما في مجال الفلسفة ما به يُحددان، فإن الفن ظل منظورا إليه انطلاقا من الذوق والجمال، وما يثيره هذان الأخيران من مشكلات نظرية وفلسفية، من دون تحديد خاصية الفن العملية بوصفها قاعدة تناقش في ضوئها معضلات الجمال والذوق المرتبطين به. ولهذا نعتبر التمكين خاصية لها طبيعة القاعدة بالنسبة إلى الفن، حيث يحول الفن العالم من حالته البراغماتية والمعتادة والعقلانية إلى حالة من الإمكان الذي ترتفع فيه الموانع والتناقضات، وتتعرض الأطر التي تقنن السلوك إلى التدمير أو التفريغ، كما يصير الزمن قابلا لأن يتجاوز حدوده، وأن يجسم أحيانا في هيئة زمن يقع خارج ضرورة الزمن نفسه.
(16) ـ لا نقصد هنا أبدا تصنيف رواية المصري على أنها شكل وسيط بين رواية المثالية المجردة، ورواية خيبة الأمل، كما نظَّر لهما جورج لوكاتش، وإنما نريد من هذا التوصيف الإشارة إلى كون هذه الرواية تتأسس على تجريب يخطئ السياق الذي يحدث فيه، ويفتقر إلى الوسائل الضرورية لذلك. ومن ثمة لا تتصف الذات بالإيمان الأعمى بما تقوم به، بل تفعل ذلك انطلاقا من إحساس بعدم القدرة، كما لا تتصف بانكفاء الذات على نفسها واعتبار الداخل مصدر الحقيقة في مقابل زيف الواقع، وإنما تنفتح على الواقع وتتقرى تفاصيله بحثا عن الفعل المناسب (الكتابة)، بل تبحث عن ذاتها من خلال فعلها هذا الذي ينطلق من الخيال ويُبنى من خلاله، لكنه يجد نفسه مرغما على تلمس بدايات تشكله في ما هو مادي عيني متمثل في عناصر الفضاء المكاني المختلفة التي يخضعها للمعاينة والتسجيل.
(17) ـ الرواية: ص 80 ـ 81.
(18) ـ نشير هنا إلى أن الأمر يتعلق أيضا بالتوتر بين النقص والكمال وزمانهما، وبتعارض الحركتين المتعارضتين اللتين أشرنا إليهما في مستهل هذه الدراسة. هذا فضلا عن دور مقاومة الموت في إنتاج هذا التوتر. فرمزية الموت حاضرة هنا بكل تأكيد. وعلينا ألا ننظر إلى الموت البيولوجي على أنه المستهدف، وإنما الموت الرمزي، أي نهاية زمن تاريخي معين يستمد جدواه من المتعالي وثباته، ومن النقاء والصفاء، ونهاية نمط حياة معينة مرتبطة به، بما يفيده ذلك من معاناة من التحولات التي يضطلع نعت الدخيل بالإشارة إليها.
(19) ـ الرواية: ص 26.
(20) ـ المقصود بالبعد الإحيائي هنا أن عايدة تنتقل من مجال الخيال إلى مجال الواقعي بفعل نزعة إحيائية موغلة في القدم كان ينظر بموجبها الإنسان إلى عناصر العالم على أنها حية، ويسقط عليها مظاهر عالمه الاجتماعي. كما أن هذه النزعة تعاين عند الأطفال في علاقتهم بالدمى وأشكال الرسوم.
(21) ـ الرواية: ص 32.
(22) ـ ستتكرر هذه العناصر الأربعة تقريبا في مقطع نصي آخر، في محل متباعد عن محل المقطع المعتمد في التحليل، وذلك في الصفحة 54 من الرواية: "وطلبت من الله أن يعينني فيما تبقى لي من أيام حتى أستخلص منها قيمة قصصية متماسكة أتحداه بها. واستحضرت ذكرى عبد الكريم إذ هي معين التحدي. ومع الذكرى تسلط هاجس الأسبوع المصيري".
(23) ـ نبتعد بمفهوم الطية عن الاستعمالات النظرية والإجرائية التي طالته في النقد المعاصر، إذ نريد بها الانقلاب الذي يحدث في بنية موضوعة ما من دون المساس بحضورها التاريخي المستحوذ. وتتخذ الطية في الأغلب صفة عبر ـ رمزية لها صلة بتكون الذات بوصفها ذاتا تاريخية وجماعية، حيث تُعبر عن نفسها من خلال استعادتها عبر نصوص مختلفة انطلاقا من موضوعة محددة مع ما يلحق هذه الاستعادة من تحوير في الموضوعة المذكورة، أو انقلاب في بنيتها، في تواز مع صيرورة تاريخية لا تنفصل فيها النهايات عن البدايات، أو ينظر فيها إلى النهاية انطلاقا من ممكن البداية.
(24) ـ هاهي أمانتك الوديعة أردها إليك... لست في مستوى الأمانة... أنت بنيت المدينة وكان المجد لك مجد البناء الخالد وأنا عجزت عن وصف ما بنيت... وأقسم بالله العظيم أني كنت مخلصا في نيتي وتجوالي وسعيي.. وقل هذا وذاك كنت مخلصا في حبي.. أرجو المعذرة، فأنا لست أول ولا آخر الفاشلين.. أحمد عاكف قد فشل.. عثمان بيومي نفسه فشل.. أما كمال عبد الجواد فهيهات أن أحدو حدوه...". الرواية: ص 177.
(25) ـ الرواية: ص 176.
(26) ـ الرواية: ص 94 ـ 95.
(27) ـ الرواية: ص 50.
(28) ـ الرواية: ص 79.
(29) ـ يجب أن نميز بين المقصدية والتصور في السرد. فالمقصدية نقصد بها نشوء الإرادة وتحديد علاقتها باستعمال موضوع معين، بينما نريد بالتصور ما يعطي لهذه العلاقة محتوى بينا والشكل الخاص به، مع ما يستتبع ذلك من تبين للوسائل الملائمة. ويقابل المقصدية التورط، أي أن تجد الذات نفسها عرضة لفعل لم تختره، أو توجد في سياق غير مرض يولد لديها رد فعل. ولا يعني ذلك أن التورط لا يتضمن بعدا مقصديا، وإنما يعني أنه يتضمنه على نحو اضطراري، في مقابل المقصدية الاختيارية. ويقابل التصور التحقق، أي تجسيده على أرض الواقع، أو تحويله من شكله الذهني إلى شيء ملموس.
(30) ـ تتمثل هذه النزعة الأسلوبية التقليدية في اعتماد المسكوك من العبارة، والسجع والتوازي والاسترفاد من الحكي القديم. كما أن هذا الأسلوب يحمل في طياته إيقاعا يوازي زخرفة المكان المتسمة يالعتاقة.
(31) ـ اقترحنا مفهوم الجهد بديلا لمفهوم العمل، أو الوظيفة، لأسباب نظرية وإجرائية لا مجال للخوض فيها هنا، واعتبرنا الجهد يتأسس وفق خاصيات أربع: الطاقة والكمية والتناسب والتلازم. وما يهمنا هنا هو خاصية التناسب التي ترد في مرحلة انتقال الطاقة من حالة الخمود إلى حالة النشاط القصوى، حيث يقتضي الأمر تلاؤما بين الجهد (من حيث هو طاقة في حالة تراكم) مع النتيجة المرجوة (بوصفها تحولا منشودا):
"فالحصول على معلومة متكتم عنها، ومحاطة بالحماية يتطلب جهدا مناسبا يتمثل في الحيطة والحذر، والقدر على المكر واصطناع الحيل. ولا مجال في ذلك للغباء أ والاستهتار، وإلا كان الجهد غير مناسب من حيث النوعية لعلاقة الإرادة باستعمال موضوعها، مما يفضي إلى تحول في النمط السردي من الجدي إلى الساخر".
انظر أطروحتنا لنيل دكتوراه الدولة:
ـ إشكالية النص السردي (التكون ـ التنامي ـ الطبولوجيا)، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكدال، الرباط، 2005.
(32) ـ ما المقصود بالتعريض الساخر؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال. لا بأس من تحديد الباروديا أولا. فالمقصود بهذه الأخيرة محاكاة نص قديم، أو معاصر، لا بغاية معارضته، وإنما بغاية تدميره، عن طريق اعتماد السخرية وسيلة في ذلك. ويجب الإلحاح في الباردويا على كون التفاوت فيها المنتج لطابع السخرية حاصل بين طرفي وجه واحد، كما هو الحال في السخرية، أي محاكاة أنموذجية نصية واحدة لها وجهتان: وجهة يعاد بها نص محاكى سابق، ووجهة يدمر به نص محاكٍ ما هو محاكى، على نحو ظاهر أو خفي. وحين يتدخل طرف ثالث في المعادلة أو نص ثالث، كأن تعتمد محاكاة نص سابق من قبل نص ما بغاية النيل من أنموذجية نصية معاصرة (طرف ثالث)، فإن الأمر يخرج من مجال الباروديا إلى ما نسميه تعريضا ساخرا أو بكلمة عربية أكثر دلالة لمزا، لأن الناظم الرمزي (الإيجابي/ السلبي) لن يشتغل من داخل وجه واحد، وإنما سيوزع طرفاه على وجهين. كأن نقول: "ذهب إلى التسوق، ولم يفعل مثل البعض". فإضفاء الإيجابية على الوجه الأول (مَنْ فعل التسوق) ونفيها على نحو موارب عن الوجه الثاني (الذي لم يفعل وهو أمامنا) لا تفيد السخرية، وإنما التعريض. وقد يكون التعريض ساخرا، وقد لا يكون، بحسب النوايا من استخدامه.