ثار في الآونة الأخيرة لغط كبير حول اكتشاف رواية غير معروفة لطه حسين بعنوان «خطبة الشيخ»، وهو جزء من اللغط الكثير الذي يدور في عالمنا الرديء بسبب الجهل والحقائق المغيبة. ونعيد هنا نشر هذا المقال القديم الذي يقدم قراءة رصينة في بدايات الرواية المصرية تضع هذه النصوص ضمن حراك البدايات.

قراءة في بدايات الرواية المصرية

روايات «السفور»

أنور مغيث

غالباً ما تتجه مدارس سوسيولوجيا الأدب إلى تفسير نشأة الرواية بصعود البورجوازية وبروز البطل الفرد (روبنسون كروزو)، لكننا لو حاولنا من جانبنا تفسير نشأة الرواية العربية للاحظنا ارتباطها ببداية اقتحام المرأة للمجال العام وخروجها من جمودها التاريخي. لقد كانت الرواية في بادئ الأمر فنا مترجماً، لاسيما عن اللغة الفرنسية ولقد لاقي نجاحاً لافتاً منذ ظهوره. فأشار الشيخ محمد عبده إلى ظاهرة شغف الشباب بـ «الرومانيات» ونبه إلى دراستها(1).

الرواية الشبابية: ولكي تقف على ما لاقته الرواية من نجاح نلفت الانتباه إلى إحصائية أوردها محمد عمر فى كتابه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» الصادر عام 1902 . يعدد محمد عمر في هذه الإحصائية الكتب التي صدرت في مصر فى السنوات الخمس السابقة على تاريخ نشره للكتاب، فيقدم التصنيف الآتي:-
75
رواية، 19 كتابا تاريخيا، 15 كتابا أدبيا، 9 كتب بحوث، 9 مواضيع دينية، 4 سياسية، 3 حسابية. وهذا يعني أن حوالي 60% من الكتب الصادرة كانت روايات. وينوه محمد عمر إلى أن أغلب هذه الروايات مترجمة تتحدث عن سياقات جغرافية وثقافية مختلفة. ويهيب بالأدباء أن يبدعوا روايات تعكس الواقع الاجتماعي المصري (2).
لقد صاحب هذا الانتشار الكبير للرواية حملة إدانة أخلاقية شبيهة من الكثير من مصطلحاتها وآلياتها بالهجوم الذى نقرأه ونسمعه اليوم عن الانترنت والفيديو كليب. وكثيراً ما أشار المهاجمون إلى اختلاء الفتيات بهذه القصص المليئة بالعواطف الملتهبة في مخادعهن وما يمثله ذلك من مخاطر الانحراف الأخلاقي.
وكان أول من أشار إلى الدور الإيجابي للرواية هو أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد. ففي مقالات متفرقة في صحيفة «الجريدة» في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، يشير لطفي السيد إلى دور الرواية في الترقي الأخلاقي وتكوين شخصية الفرد وصياغة القيم التي تحكم الحياة المشتركة. ويرى لطفي السيد أن فن الشعر بأغراضه المختلفة من فخر ومديح وهجاء ورثاء هو فن يناسب الحياة القبلية ولا يعبر عن الحياة الحديثة المعتمدة على الشخصية الفردية المستقلة والمجتمع القائم على رابطة المنفعة.
ولقد دعا أحمد لطفي السيد صديقيه شاعري مصر الكبيرين شوقي وحافظ، إلى أن يتركا الشعر الذى ينتسب لعصر عفا عليه الزمان ويتجها لكتابة الرواية لتكوين عقول الشباب وضمائرهم (3).
جيل الجريدة: وكما نعرف، لم يستجب لا شوقي ولا حافظ لهذه التوصية، ولا حتى لطفي السيد نفسه الذى اتجه إلى العمل السياسي، وإلى ترجمة أعمال أرسطو إلى العربية على أساس أن الفلسفة قد دخلت إلى الثقافة العربية عن طريق أرسطو ومنه سوف تعود الفلسفة من جديد (4).
أما الذين استجابوا لهذه الدعوة فهم تلاميذ أحمد لطفي السيد الذين بدأوا خطواتهم الأولي بوصفهم كتاباً في «الجريدة» التي كان لطفي السيد مؤسسها ومديرها، وجعلها منبراً للشباب الطامح إلى التغيير فاستحق لقب أستاذ الجيل.
والتلاميذ الذين بدأوا في كتابة الرواية لتكون عاملاً مساعداً في مسيرة التحديث هم محمد حسين هيكل ومنصور فهمي وطه حسين. والثلاثة من حاملي درجة الدكتوراه من السوربون. وقد أسسوا عام 1914 جريدة «السفور» وكان هيكل فارسها الأول. ويتضح من عنوان صحيفتهم أن قضيتهم المركزية هي تحرر المرأة والشعار الذى كان يتصدر كل عدد يقول: «ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا». والجريدة التي استمرت من 1914 إلى 1925 كانت تدعو إلى تحرر المرأة، وتحديث العلم، والدفاع عن حرية الرأي، ونقد الفكر الديني المحافظ. وقد شرع كل واحد من هؤلاء الدكاترة الثلاثة في كتابة رواية مسلسلة إلى جانب مقالاته الفكرية.
التعليم والعزوبية: وقد ارتبط الجدل في المجتمع حول خطر الروايات أو دورها الايجابي بل والشروع في تأليف الروايات بسجال يدور حول مشكلة اجتماعية هي عزوبية الشباب المتعلم وعزوفه عن البحث عن شريكة لحياته. ويعزو محمد فريد زعيم الحزب الوطني هذه الظاهرة إلى دعوة قاسم أمين وخروج المرأة إلى المجتمع ومزاحمتها للرجال ووقوعها تحت بصر الجميع مما جعل الشباب يمتعض عازفاً عن الزواج (5). أما أحمد لطفي السيد فيفسر هذه الظاهرة بسبب مناقض تماماً، إذ يرى أن انتشار التعليم بين الشباب من الذكور، وكذلك انتشار قراءتهم للروايات جعلتهم يطمحون إلى فتاة متعلمة تتجاوب مع طريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور، في ظل هذا السياق الفكري والاجتماعي بدأ كتابنا الثلاثة كتابة أولي رواياتهم.
هيكل: مذكرات الشباب:
كان محمد حسين هيكل دكتوراً في القانون. اهتم منذ وقت مبكر بقضايا الاستقلال والنهضة. وقد نشر في صحيفة «الجريدة» أوائل مقالاته التي تعبر عن رؤية جريئة وجذرية. فمن بين مقالاته واحدة يرى فيها أن «تعدد الزوجات سبة في جبين البشرية». فهو يعتبر أن هناك العديد من الممارسات والمواصفات الاجتماعية التي كانت تسود في مرحلة تاريخية ما جميع الأمم والشعوب مثل العبودية وسبي نساء المهزومين وتعدد الزوجات. وقد قبلت الأديان هذه الممارسات التي لم يكن من الممكن في ذلك الزمان قيام المجتمع بدونها. واليوم إذا كان بإمكاننا أن نرى أن العبودية سبة في جبين البشرية فلا مانع من القول بأن تعدد الزوجات كذلك. إن جرأة هيكل هنا ليست على الدين ولكنها ضد التخلف الاجتماعي. والدليل هو أن رسالته في السوربون، وكذلك الفصل الأخير من روايته مخصصان لإثبات أن الشريعة الإسلامية هي الكفيلة بإصلاح حال المرأة في مصر.
أما روايته المسلسلة «مذكرات الشباب» والتي تحكي وقائع إقامته في باريس للدراسة في صورة خطابات يرسلها إلى أخيه عطية، فإن هاجسها الأساسي من السطر الأول إلى السطر الأخير هو تحرر المرأة.
فهو يحكي في بدايتها عن استقلاله للقطار من مدينة مارسيليا إلى باريس حيث اتخذ مقعده المخصص في إحدى المقصورات فدخلت عليه امرأة فرنسية شابة لتجلس أمامه فخرج مفزوعاً خشية أن يكون قد دخل إلى المقصورات الخاصة بالنساء عن طريق الخطأ ولكنه اكتشف أنه في مكانه الصحيح. فكان عليه أن يقطع ساعات الطريق الطوال من مدينة مارسيليا إلى مدينة ليون أمام امرأة غريبة وقد أصابه التوتر والارتباك أما هي فكانت تقرأ صحفها في هدوء، بل تمددت على الأريكة وأسلمت نفسها للنوم.
رواية السيرة الذاتية التي يقدمها هيكل هنا لا تهتم بتسجيل ملامح الحياة الباريسية ولكن مدارها الرئيسي هو مشاعر الكاتب نفسه وأحكامه على ما يجري حوله من أمور، أما دافعها الأساسي فهو رغبة الكاتب في الإصلاح والنهضة في حين أن محصلتها الأخيرة، إن جاز القول ، هي التنبيه على ضرورة تعلم الفتيات وتحررهن وكذلك تسجيل عاطفة الحب وإبراز أثرها على شخصية الإنسان.
منصور فهمي: ذكرى عهود:
كان منصور فهمي دكتورا في علم الاجتماع قدم إلى جامعة السوربون رسالة صاخبة عن «أوضاع المرأة في الإسلام» فى عام 1913 ثم جاء بعدها إلى مصر ليشارك هيكل في جريدة «السفور» وينشر فيها رواية مسلسلة بعنوان «ذكرى عهود». وهى أيضاً سيرة ذاتية لكنها تهتم بمرحلة الطفولة والصبا وتمتلئ بنقد أساليب التربية وأشكال العقاب في الكتاتيب. ويتعرض لنشأة مشاعر الحب في قلبه عندما بلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، ويقدم الفتاة التي تثير إعجابه وتذهب إلى المدرسة فيقول: «مارية فتاة من نصاري مصر، 12 سنة، سمراء في لباس إفرنجي، آثر أبواها الحديث الأفضل على القديم المفضول». ثم يقدم لنفسه صورة مغايرة لإبراز التعارض: «أنا جلباب فضفاض، حذاء ممزق، شعرى منفوش، طربوش مكسر». ثم يبرز لنا أخيراً التحول الذى حدث في حياته بسبب هذا الحب المبكر. «أصبحت الآن أكرر غسل وجهي وأعني بإصلاح شعري وأنظف حذائي، واتظرف مهراً لود مارية .. كنا نلتقي بجانب سياج الكنسية لأحكي لها عن القرية. أحببت التأنق لأنها كانت نظيفة .. أحببت المدرسة لأنها كانت تحب المدرسة .. أحببت المذاكرة لأنني ظننت أنها لا تحب الكسلان البليد .. أحببت من أجل مارية من هو أهل للحب من غير أن يكون للدين والجنس تأثير».
ونلاحظ هنا التقدير نفسه للفتاة المتعلمة وتثمين دور الحب الإيجابي في حياة الإنسان وكذلك إبراز ارتباط قضية تحرر المرأة بقضايا أخرى مثل إصلاح التعليم وحرية الرأي والتسامح الفكري.
طه حسين: خطبة الشيخ:
كان طه حسين دكتور في الأدب ينشر منذ عام 1914 رواية مسلسلة بعنوان «خطبة الشيخ» تعتمد أسلوب الرسائل الذى كان شائعاً في كتابة الروايات في عصر التنوير الفرنسي.
وتقدم الرواية بطلتها إحسان معلمة في مدرسة للصغار ويرسل لها أبوها أنه قد وافق على خطبتها من شيخ أزهري شاب. فكتبت إحسان إلى أبيها الذى قبل خطبة الشيخ لها دون أن تراه تطلب منه أن يسمح لها بمراسلة خطيبها. ويكتب الشيخ لخطيبته خطاباً بليغاً مزداناً بالمحسنات البديعية التقليدية كما يكتب أيضاً إلى شيخ صديق له طالباً منه البحث عن حيلة في الشريعة يحرم بها أشقاء خطيبة من ميراث أبيهم لتستأثر خطيبته بالميراث. وتراسل إحسان صديقتها أسماء تطلب منها المشورة، وترد أسماء بنقد طريقة الخطبة التي ترى فيها دلالة على أن الآباء يبيعون بناتهم وإن استخدام خطيبها للسجع والمجاز تعبير عن النفاق وسوء النية. فالكتابة ينبغي أن تكون بسيطة وتلقائية حتى تكون صورة للنفس. وتحذرها من مثل هذا الزواج قائلة: «أنت لا تستطيعين أن تعيشي عيشة القرون الوسطى. لا تخرجين إلا لزيارة قد فرضها الشرع».
وأخيراً ترسل إحسان رسالة حاسمة إلى أبيها تقول له فيها: «لا أريد الزواج بهذه الطريقة».
التحديث وتحرر المرأة:
هذه هي الروايات الثلاث الأولي لكتابها، نُشرت مسلسلة في جريدة (السفور) ولم تنشر في كتب مستقلة، اللهم إلا مذكرات الشباب لهيكل الذى صدر منذ بضعة سنوات عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة. ومن الواضح منها مركزية موضوع تحرر المرأة واستلهامها لتوجيهات الأستاذ لطفي السيد وانشغالها بأداء دور مهم في عملية تحديث المجتمع المصري.
ومن البديهي أن مسألة التحديث قضية متعددة الأبعاد والمستويات، فهي تتطلب التحرر من الاستعمار، والحكم الدستوري والبرلماني، والتعليم الحديث وغيرها. وبالرغم من ذلك كان تحرر المرأة لدى هذا الجيل من رواد فكر النهضة هو المؤشر الرئيسي على الدخول إلى الحداثة. فالبنسبة لهم لا يعد الاستقلال أو البرلمان أو الجامعة مؤشراً كافياً على الانتقال إلى الحداثة أما تحرر المرأة فهو المؤشر الذى لا يكذب.

المراجع:
(1) محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، المجلد الأول، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972.
(2) محمد عمر، حاضر المصريين أو سر تأخرهم، دراسة وتحقيق مجدي عبد الحافظ، القاهرة، المكتب العلمي، 1999.
(3) أحمد لطفي السيد، تأملات فى الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع، القاهرة ، دار المعارف، 1946.
(4) أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، تقديم وترجمة أحمد لطفي السيد، القاهرة، 1924.
(5) أنور الجندي، رجال اختلف فيهم الرأي، القاهرة، دار الاعتصام.
(6) أحمد لطفي السيد، قصة حياتي، القاهرة، دار الهلال، 1962.
(*) الروايات الثلاثة في جريدة السفور من عام 1914 إلى عام 1917.