ليست هذه مراجعة لذكريات الشاعر السويدي الكبير، ولكنها كتابة على الكتابة، كتابة قارئ مرهف يتسلل تحت جلد النص ليكتب نصه الكاشف لأهم ما في تلك الذكريات من إضاءات أقرب ما يكون إلى الإضاءات الشعرية. ولا غرو فكاتبها شاعر كبير، كرس حياته للإصغاء لجرس الحياة في الكلمات.

نِصفُ ذكرياتِ كائنٍ لطيف

عاطف سليمان

بدا كتاب الذكريات الصغير موشكاً على أن تنفد صفحاتُه من أمامي وأنا أترقب حدوث سَكرةٍ مُبهَمة أو وعدٍ غامض يقضي باستكثار الفقرات والصفحات.

مكث "توماس ترنسترومر"، الشاعرُ السويدي، المولود سنة 1931، والحائزُ على جائزة نوبل سنة 2011، حتى بلغ الستينَ من عمره ليجلس ويكتب ذكرياته في هذه الصفحات، وما أزادَ على حوالي عشرة آلاف كلمة للقسم الأول المخصص لطفولته وصباه. في الخامسة والستين، وبينما هو يتأهب لكتابة القسم الثاني والأخير، تعسَّر عَسرةً جانية إذْ أُصيب بجلطة في المخ أقعدته بلا قدرة على تحريك يُمناه ولا على نُطق الكلمات إلا كهمهماتٍ وإشاراتٍ غدت هي لغته الجديدة المقفولة عليه، لا تفهمها بيُسرٍ سوى "مونيكا"؛ زوجته وأنيسته. وإنما هي إصابتُه التي فرضت عليه الاكتفاءَ بما كتبَ فأذعنَ راضيا.

دوَّن "توماس ترنسترومر" عن طفولته وصباه حكاياتٍ منمنمة كمثل نكهاتٍ أو خُلاصاتٍ مُرشِدة عن بصمة أنفاس "توماس" الصغير في الحياة ومُوعِزة في ضمير قارئها بملامح الشخصية الوديعة لذلك الطفل المولع بجمع الأصداف والحشرات، والمشدوه بالموسيقى والجغرافيا. "كارين سبينا" هي كلمة لا تظهر في القواميس، وقد وُجِدت فحسب حين اخترعها "توماس" وهو في السنة الثالثة من عمره وابتهج بوقْعها على نفسه، فما كان إلا أنْ منح كلمتَه المبهجة لِدُميته المحبوبة. في ما بعد ستشهد زوجتُه بأن زوجها يتأثر نفسياً، تماماً، بذلك الوقع الذي للكلمات. في متن كتابه؛ لا يلمِّح "توماس"، هو المتواضع الوديع، إلى أنه تذوَّق اللغة والكلمات صغيراً، أو إلى أنه كان لا يزال قُرب مهده حين نطق بقصيدته الأولى على سبيل التودد إلى دُميته، لكنه أبان قليلاً عن ذلك في الحوار الذي أجراه معه، ومع زوجته، في مدينة استكهولم، مترجمُ الكتاب، "طلال فيصل"، وهو حوار دمث حصيف، يضيء مكنونَ الذكريات ولا يشذ.

بحياءٍ كتب "توماس" أن أمه، مُدرِّسة الفصول الابتدائية، تطلقت من أبيه، فعاش معها وحيدين إلا من صلات بعض الأقارب والمعارف. وفي الخامسة من عمره علَّم نفسَه الكتابة، وأمدَّه "كارل"، جده لأمه، بأوراقٍ فرسمَ عليها لنفسه رسوماتٍ مُختزَلة، تسلَّى بها، ورأى وحده الحكايات المكنونة فيها. وكان، بعد، في الخامسة أو السادسة حين أُدخِلت ميولُه الجغرافية في تجربة؛ فأثناء خروجه مع أمه من قاعة حفل موسيقي أُقيم في المدرسة انفلتت يدُه من يدها وتاه منها، ولقد تمكن من العودة إلى البيت بعدما واتته فكرة أن يمشي وهو يستحضر ويتَّبع ،بمنوالٍ عكسي، المعالمَ والمشاهد التي رآها من نافذة الباص أثناء رحلة قدومه مع أمه إلى المدرسة، فمشى، واهتدى، وأفلح. وفي البيت، بوصوله، التقاه جدُّه "كارل" بهدوء وفرح وحنان طبيعي، وازدادت عمقاً صداقة "توماس" و"كارل"، وإلى الآن يلقي "توماس" عليه السلام كل ليلة، قبل النوم، عبر لوحة زيتية قديمة له، معلقة في أواسط حجرة النوم.

وإنه لا يعثر في ذاكرته على الشخص الذي اصطحبه لأول مرة، وهو في سنته الخامسة، إلى متحف التاريخ الطبيعي في مدينة استكهولم حيث تجوَّل مفتوناً بما يراه في القاعات الفسيحة، وسرعان ما راح يذهب إليه منفرداً في زياراتٍ تكررت كثيراً إلى أن انتابه الرهاب من الهياكل العظمية وصار يرتعب حتى من رسوماته هو نفسه لها، فهجر ذلك الشغف إلى الافتتان بمتحف القطارات، الذي داوم على زيارته مرتين في كل أسبوع برفقة "كارل"، ولقد هَامَ "توماس" مع جده بنماذج القطارات وانتشأت رغبتُه في أن يغدو مهندسَ قطارات. بعد التحاقه بالمدرسة زايله الرهابُ وعاوده شغفُه بمتحف التاريخ الطبيعي، وانتظم في زياراتٍ نصف شهرية إليه، مدعوماً بقراءات مثابِرة في كتب الحشرات والأسماك، وتبدّى للرائين آنذاك في سمت بروفيسور صغير مشغول بأبحاثٍ ومشتاق إلى مطالعاتٍ، غير أنه حين شرع في كتابة كتابه هذا لم يستطع أن يتذكر إلا حالاته فقط وهو في طريق الذهاب إلى المتحف يحلم بمغامرة استكشاف، ناسياً تماماً كيف كان الرجوع، وكأنه لم يرجع من قاعات المتحف إلى البيت أبدا. رُهابٌ آخر لحق به مع تباشير الشتاء حين كان في الخامسة عشرة؛ فبعد أن شاهد في السينما فيلم "الأيام المهدورة" تسللت إلى جهازه العصبي، فيما يبدو، عدوى الترويع! وأمسى "توماس" يخشى عتمة الليالي الطويلة وأوقات التأهب للنوم لأن ذهنه كان لا يني يعيد تشغيل مشاهد الفيلم الـمُرهِبة والمؤهلة لكل المخاوف من الغسق حتى طلوع الفجر، وقد حاول المداورة مع رُهابه الليلي باصطناع القراءة لأجل الإبقاء على مصباحه مُضاءً، لكن الأشباح والخيالات المروعة لم تكن تتأخر عن التلاعب به ما إن ينطفئ المصباح. وبانقضاء ذلك الشتاء اختفى الرهاب فجأةً مثلما ظهر.

في السنوات الأولى بمدرسته الابتدائية تعرَّض "توماس" لاضطهادٍ من "هاس"، زميله الأسمر القوي، الذي ظل يلاحقه كل يوم ويصارعه ويطرحه وينتصر، ولطالما قاومه "توماس" بعنفٍ منهك إلى أن توصَّل إلى حيلةٍ أثبتت نجاعتَها؛ هي أن يتخلى تماماً لغريمه عن أية مقاومة فينصرع له فوراً وينطرح مثل جثة، وكان أنْ أُحبِط "هاس" وفَقَدَ لذةَ مصارعته وضجر منه وعزف عنه. وكتبَ "توماس ترنسترومر": «أفكر في ما الذي صارت تعنيه حيلة التحول إلى جثة هامدة بالنسبة لي بعد ذلك في الحياة؟ إنه فن الحصول على لا مبالاة الآخرين من دون أن يفقد المرء احترامه لنفسه. هل استخدمتُ هذه الحيلة كثيراً بعد ذلك؟ كانت تنجح أحياناً، وأحياناً لا». بعد سنوات قليلة سيختطف الموتُ زميلَه وصديقه الأقرب "بال"، ولن يقدر "توماس" على تقبُّل الغياب النهائي لصديقه، ولن يستطيع التصرف حيال ذكرياتهما المرحة المشتركة إلا بكبتها لأن ضميره وحزنه ليس يسوِّغان له أن ينفرد هو بما كان لهما سويا.

حين نشبت الحرب العالمية الثانية كان "توماس" في الثامنة من عمره أو نحو ذلك، ولم تكن الحركة النازية الصاعدة تفتقد النُّصراء آنذاك في بلده السويد، ولقد تغلغلت أصداءُ الحرب في كل الشؤون، وانشغل "توماس" بالحرب وهداه حدسُه واستبطانُه إلى أن النازية شرٌ وإلى أنه ضدها بكل كيانه؛ يفرح بصمود أعدائها وينكسر فؤاده إنْ وجد بين أهله مَن يتهلل لها أو ينتشي على دقاتها. في سنوات تلك الحرب تابع "توماس" أخبارَ المعارك كأنه طرفٌ فيها راجياً النصر لحلفائه وقد ائتلف معهم من صميم وجدانه، وترسخت عداوته للنازية بمثابة هوية له كان حريصاً على إفشائها، ولم ينسَ أن يدرج، في ذكرياته، بمرح: «لم أمارس التزاماً سياسياً أكثر إخلاصاً مما عشته في تلك الفترة».

في المكتبة العامة، التي اعتاد ارتيادها كل يوم تقريباً، فاقت رغباتُه حدودَ قسم كتب الأطفال، ولـمَّا طلب استعارة كتاب "حيوانات إسكندنافيا" من قسم كتب الكبار قيل له: «لا يمكنك استعارة كتب من هنا. عُد بعد حفنة سنوات». بعد أن أعطاه عمه "إيلوف" بطاقة الاستعارة الخاصة به سَهُلت سُبلُه إلى ركنه المفضل؛ حيث كتب الجغرافيا، وإلى رفِّه المفضل؛ حيث الكتب التي عن إفريقيا. أخذته أحلام اليقظة إلى زمن العصور الوسطى وإلى عالم ما تحت الماء وإلى إفريقيا التي كان يتلهف على مجيء اليوم الذي سيترك فيه مقاعد الدرس حتى يمضي في حملةٍ لاستكشاف صحاريها، ويبدو أنه قد قنع من إفريقيا، فيما بعد، في سنة 1959، بقضاء أيامٍ من شهر العسل مع عروسه "مونيكا" ذات التسعة عشر ربيعاً في مدينة "طنطا"، في دلتا مصر، وأوجعه فقرُ البلدة وتعاستُها، ورأى أيامَه القليلة فيها تجربةً صعبة ومرهقة سبَّبت له الغضب والضيق والكراهية، ولا يُدرى ما إذا كانت "طنطا"، الإفريقية، قد صدّته أم لا عن حلمه بارتياد مجاهل إفريقيا! ومهما يكن فإن آثار تلك الزيارة ستظهر لاحقاً في قصائد ديوانه "نصف سماء مكتملة".

تُلحِق النسخةُ العربية من الكتاب مقدمةً كتبها "روبن فلتون"، مترجم دواوين "توماس ترنسترومر" إلى اللغة الإنجليزية، يتوافق فيها مع ما ارتآه الشاعر عن الخلاص الذي يتبادله مع قصائده وأومأ إليه في قصيدة "طيور صباحية" التي كتبها في أوائل ثلاثيناته: «إنها (القصيدة) تنمو، تحتل مكاني، تدفعني جانباً، تقذف بي خارج العش. القصيدة الآن جاهزة»، ويتركز ما ارتآه في إحساسه بحال القصيدة وهي، مع الزمن، تنبثق، لا يتمايز وجودها عن وجود الشاعر، وما إنْ تطلع وتتشكل وتستقر حتى تستقل بوجودها الخاص، فتتغوَّل على وجوده هو، كاتبها، وتزيحه عن بيتهما المشترك ليغدو البيت لها خالصا.

في السابعة عشرة بدأ "توماس" يخربش محاولاته الشعرية مشحوناً بدروس اللغة اللاتينية ومقطوعات الشعر الكلاسيكي والنصوص الرومانية، ولعل شعرية "هوراس" كانت هي الـمَدد الذي أنار دخيلتَه وأبرق فيها البروق الأولى.

يتراءى لي أن "ترنسترومر" كان يكتب مقطوعاته و يتصيَّد ذكرياته ليتحرَّى، بل ليضمن ويتأكد، أن ذلك الطفل الذي كانه، وكذلك الصبي الذي كانه، لا يزالان هنالك يتغشَّيان الأمكنةَ القديمة التي ما تبددت بعد من ذاكرته، ولا يزالان هنالك يتواجدان في الأوقات والأزمان السرمدية المعزولة كما لو في كهف سحري، يواصلان إلى ما لا نهاية الأفعالَ نفسَها التي أدَّياها في الواقع، وكأنهما عائشان في فيلمٍ هشٍّ، بالأبيض والأسود الـمُصفرَّيْن، بالأبيض والأسود الضعيفيْن؛ فيلم ذي نسخة واحدة، يُـخشى عليه من الانمحاء.

 

          -----------

          «ذكرياتٌ تراني» «Minnena ser meg»، سيرة ذاتية للشاعر السويدي «توماس ترنسترومر» «Tomas Tranströmer»، ترجمة «طلال فيصل»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، سلسلة الجوائز – رقم 123.