تكشف الباحثة الليبية هنا عن عدد من إشكاليات الحياة بين لغتين، وعن الأشكال المختلفة لثنائية اللغة، وتوقيت اكتسابها في أي مرحلة من المراحل العمرية المختلفة، قبل تشكل الوعي بالهوية الفردية والثقافية أو بعدها أو أثناءها. وكيف تختلف الثنائية اللغوية المبكرة عن نظيرتها المتأخرة.

العيش بين محيطين لغويين

عالم الثنائية اللغوية المتأخرة

حنان عمر بن نافع

ترجمة: معتصم الحارث الضوّي

العيش في بيئة مزدوجة اللغة أداء فني يتطلبُ في كثير من الأحيان توازنا دقيقا، وله بالتالي تبعات شخصية واجتماعية. فالأشخاص الذين يستخدمون لغتين يبذلون جهدا مضاعفا، وغالبا ما يتم تجاهل ذلك الجهد الإدراكي والعاطفي والاجتماعي، ويُقللُ من قيمته. على سبيل المثال، يميلُ هؤلاء الأشخاص إلى أن تكون لديهم حساسية لغوية، حيث يُطوّرون وعيا بكيفية وماهية "تبديل الرمز"؛ أي الانتقال جيئة وذهابا بين لغتين (على سبيل المثال عندما يكونون بصحبة رفاقهم ممن يجيدون نفس اللغتين)، ومعرفة متى يجب تجنب ذلك (مثلا عند وجود المتحدثين بإحدى اللغتين فقط).

ولكن هل يمكنك تخيّل مدى صعوبة الاقتصار على استعمال لغة واحدة بعينها؟ وما مقدار المجهود العقلي اللازم لتجاهل الكلمات ذات الدلالة التي تتبادر إلى الذهن باللغة الأخرى؟ قد يكون الوضع أكثر سوءاً وصعوبةً إذا كانت تلك الكلمات أو العبارات المتبادرة للذهن باللغة الأخرى أکثر ملاءمة للسیاق، ويمكن استخدامها في السیاق الحالي أیضا.

رغم وجود عدد كبير من الدراسات المعاصرة التي تطرقت للقدرات الإدراكية لمزودجي اللغة، إلا أن ثمة توجها مضطردا لاعتبار ثنائية اللغة ميزة، ولذا يجدر بمن يتحلون بهذه الميزة الافتخار بها، والشعور بأنهم محظوظين لقدرتهم على التحدث بلغتين. عادة ما تُفسر تلك الميزة بأنها مرونة إدراكية واجتماعية، أي القدرة على التفاعل مع أعداد غفيرة من الناس بلغتهم الأم (L1)، وهي ميزة لا تُتاح لأحادي اللغة.

باعتباري أصبحتُ ثنائية اللغة بعد سن الطفولة (يمكنك قراءة المزيد عن خلفيتي اللغوية هنا(، فإن التواصل اليومي ونقل أفكاري إلى المتلقي ليس هو الهاجس الذي يشغلني.

الفرق بين الثنائية اللغوية المبكرة والمتأخرة:
إذا وُلدتَ في بلد تُعدُ فيه إحدى اللغتين اللتين تجيدهما اللغة الرسمية، أو كان أبواك المهاجران يتحدثان إليك بلغتهما الأم، فإن من المرجح أن تكون شخصاً ثنائي اللغة منذ فترة مبكرة من حياتك ولديك تمكّن جيد من اللغتين. لكن إذا اكتسبت لغتك الثانية (L2) في مرحلة لاحقة من حياتك، وتحديدا بعد ما يُسمى المرحلة الحرجة- وهي المرحلة التي تبدأ فيها مرونة المخ )يُعتقد أنها المسؤولة عن اكتساب اللغات( بالتناقص ما بين سن الخامسة ومرحلة البلوغ، مما يؤدي لتباطؤ في اكتساب اللغة - فإنك حينها تكون ثنائي اللغة ولكن في مرحلة متأخرة.

إلا أن ما يجعل المجموعة الأولى من الأشخاص في موضع تفضيلي هو تعرضهم للغتين أثناء مرحلة النمو، وبالتالي يمكنهم اعتبار كلا اللغتين لغة أم، وبما أن ثنائي اللغة المتأخر قد تعلم إحدى اللغتين في مرحلة متأخرة عن الأخرى، لذا فإنه لا يصل إلى مرحلة الإجادة الكاملة أو الشبيهة بالمتحدثين بتلك اللغة كلغةَ أم. لا يعني هذا أن كافة مكتسبي اللغة الثانية في وقت متأخر يشعرون بذات الشعور، ولكنه غالبا حالُ أولئك الذين لا تعتبر لغتهم الأولى كثيرة الاستخدام أو مهيمنة في العالم الحاضر بالمقارنة مع الإنجليزية.

لا يمكن الجزم بأن الشخص ثنائي اللغة يحافظ على إجادته للغتين، حيث يشيعُ في الدول الناطقة بالإنجليزية أن يفقد ثنائي اللغة تلك اللغة الأم التي نشأ عليها مع قرب بلوغه سن الرشد، وبالتالي يتحولُ إلى متحدث بلغة وحيدة هي الإنجليزية، وينتج ذلك عادة عن وصمة العار التي تُلحق بمن يتحدثون الإنجليزية لغة إضافية أو ثانية، وهذا بدوره عاملٌ يدفع الكثير من أولياء الأمور إلى استخدام الإنجليزية فقط عند مخاطبتهم لأبنائهم. على سبيل المثال، يعتقد أحد زملائي أن تمسكه باستخدام الإنجليزية وعدم استخدام لغته الأصلية على الإطلاق عندما كان مراهقا قد أفاده في التأقلم اللغوي والثقافي في إنكلترا.

الثنائية اللغوية؛ نعمة أم نقمة؟
باعتباري أصبحتُ ثنائية اللغة في مرحلة لاحقة، فإنني أدركُ تماما طبيعة المعاناة اليومية التي تعتمل في داخلي، حيث لا أحسُ بالراحة الكاملة في التحدث بأي من اللغتين، ومما يفاقم الأمر الطبيعة المزدوجة للغة العربية (أي وجود لغة رفيعة وعامية تُستخدمان في سياقات مختلفة تماما). تجدر الإشارة إلى أن هذا الشعور لا يتعلق بمدى إجادتي للغة الإنجليزية، إذ حصلتُ على درجة مرتفعة في اختبار الآيلتس بعد قضاء أربعة أشهر فحسب في المملكة المتحدة، ولذا وبعكس بعض ثنائيي اللغة المتأخرين ممن يجدون صعوبة أو تكلفا في الحديث مع "المواطنين أو المتحدثين باللغة الانجليزية كلغة أم"، ليست لدي هذه الإشكالية.

أما الشيء الذي أظنه إشكالاً، ولا يدركه معظم "المواطنين"، فهو الأثر الاجتماعي والعاطفي على من يصبح ثنائي اللغة في مرحلة لاحقة، ولحسن الحظ فقد تطرقت مدوّنات مثل Neuyan و Depentor إلى هذه المسألة ، حيث عبّر من خلالها المدونون عن الإحباط الذي يشعر به ثنائيو اللغة إزاء "الانغلاق العقلي أو الفكري المؤقت" الذي غالباً ما يواجهونه، مما يجعل الكثيرين منا يتساءل ما إذا كانت الازدواجية اللغوية نعمة أم نقمة. تجدر الإشارة إلى أن هذا الشعور الطاغي بالإحباط والتكلف ليس شائعا في أوساط ثنائي اللغة ذوي الأعمار الأكبر سنا، وخاصة أولئك الذين وصلوا إلى الدول المضيفة في أوقات متأخرة من حيواتهم، وربما يكون السبب هو أن شعورهم بالهوية يكون قد ترسّخ وتجذر بشكل كبير.

من الناحية اللغوية، فإن المجموعتين اللغويتين مختلفتان، فتعبيرات مجموعة ثنائي اللغة في المرحلة المتأخرة لا تبدو "أصلية بما فيه الكفاية" بالمقارنة مع ثنائي اللغة في المرحلة المبكرة، وبما أن تعبيرات ثنائيي اللغة في المرحلة المتأخرة لن تبدو مماثلة للأصل على الإطلاق، فإن تجربتهم تعتبر أكثر تعقيدا على المستويين الاجتماعي والنفسي. ذلك التعقيد هو ما يهمني، وما أعتقد بضرورة بحثه في دراسات مستقبلية، حيث يبدو لي أن ثمة فهما قاصرا للصعوبات والمستويات المعقدة من المهام الإدراكية التي يواجهها ثنائيو اللغة عند حديثهم مع أحاديّ اللغة.

التداعيات الاجتماعية والنفسية للثنائية اللغوية المتأخرة:
باعتباري متحدثة بلغة لأقلية في إنكلترا، فإنني أشعرُ أنني بحاجة للتحدث بلغة إنجليزية راقية لكي يأخذني الغير على محمل الجد؛ أشعرُ أنني دائما على أهبة الاستعداد عندما أتحدث بالإنجليزية، وبالطبع فإن السياق وعلاقات القوة بين الدول تضطلع بدور مهم في هذا الشأن، فقد حدثتني صديقتي الإنجليزية الأصل التي تعمل في دبي أن بعض العرب اعتذروا لها عن استخدامهم للعربية أثناء اجتماع عوضا عن الإنجليزية، بالرغم من فهم صديقتي للغة العربية (أو اللهجة) التي كانوا يستخدمونها.

على الرغم من أن ثنائيي اللغة في المرحلة المتأخرة يستطيعون عادة التواصل بشكل سلس مع أحاديي اللغة المتحدثين بأي من اللغتين، فإنه لا يمكنهم دائما التواصل بالمستوى اللغوي الرفيع الذي يجيده أحاديي اللغة، وقد يرجع ذلك إلى أن اكتساب هؤلاء لنظام لغوي واحد يمكنهم من إجادته والتركيز عليه، وبالتالي فإن استخدامهم له (لتلك اللغة) يكون أكثر تعقيدا ودقة بالمقارنة مع ثنائيي اللغة. إن الترعرع في بلد ما والتحدث بلغته الرسمية يجعل المرء أكثر التصاقا بإيديولوجية ذلك المجتمع وإحالاته الثقافية. عندما يدرك أحاديو اللغة أنك تتحدث لغتهم بطلاقة، فإنهم يعتبرونك واحدا منهم على المستوى اللغوي (ورغم إدراكهم أنك لست منهم، فإنهم غالباً ما يتجاهلون ذلك). قد يعتبر ذلك إمبريالية لغوية مما يشكل عبئا على ثنائي اللغة، حيث يتطلب الأمر منه بذل أقصى جهد لتلبية توقعات مخاطبه أحادي اللغة.

رغم أن ثنائيي اللغة يتمتعون بتجارب يومية غنية، إلا أن هذا لا يحول دون وجود صعوبات وتحديات؛ فمن الناحية الوظيفية لا يجد الكثيرون من ثنائيي اللغة -وحتى أولئك الذين اكتسبوا تلك الميزة في سن متأخرة- صعوبة في التواصل في الحياة اليومية، ولكن الذين يدركون حقيقة ثنائيتهم اللغوية المتأخرة يميلون غالباً لئلا يكونوا مطمئنين إلى أدائهم اللغوي، ومن غير المستغرب أن يكون لذلك آثار سلبية على ثقتهم وتقديرهم لذواتهم، علاوة على ما تسببه تلك الآثار من توتر إداركي وعقلي، وشعور مُحبط بأنك لن تحذق الأمر مهما اجتهدت.

لا أستطيعُ أن أتذكر عدد المرات التي كنتُ أريدُ أن أقولَ شيئا، ولكني تراجعتُ بسبب عدم القدرة على التعبير عنه بسلاسة أو بسرعة كافية. على سبيل المثال، يمكنني التواصل بشكل جيد جدا مع زملائي "المتحدثين باللغة الإنجليزية لغة أم" من طلاب الدكتوراه في المكتب، ولكني أشعرُ أنني لن أكون قادرة على فهمهم بالكامل إذا ما بدأوا -على سبيل المثال- في الحديث عن البرامج التلفزيونية التي شاهدوها في طفولتهم. فأحيانا لا أستطيعُ أن أفهمَ نكاتهم أو أن أُعقّبَ أو أقول شيئا مضحكا لأن المرء بحاجة إلى أن يكون واثقا بما فيه الكفاية عند تحدثه بلغة ما ليكون مُجيدا لها، وإلا فإنه سيكون مُعرضا لارتكاب خطأ نحوي، أو لسوء النطق، أو حتى نطق كلمة بنبرة خاطئة، مما قد يؤدي إلى إفساد النكتة برمتها! كما أجدُ نفسي دائما في حاجة إلى رأي متحدث اللغة الإنجليزية 'اللغة الأم" ما إذا كنتُ قد أعددتُ مسودة جيدة أم لا، أو ما إذا كانت إحدى الجمل تبدو طبيعية ومتقنة بالقدر الكافي، لأني لا أمتلك ذات القدرة الفطرية التي تخولني الاعتماد تماما على نفسي، واكتشاف الأخطاء الدقيقة أو التركيبية التي يمكن أن تجعل جملة ما تبدو "ركيكة نوعا ما".

السبب وراء استخدام لغتين في السياق نفسه:
الناحية الأخرى المجهولة عن ثنائيي اللغة بشكل عام هو أن ثنائية اللغة لا تعني أننا نستخدم لغة بديلا عن الأخرى، فثمة فرق بين ترجمة الفكرة والتعبير الضمني عنها بكلا اللغتين، حيث أن التعبير بإحدى اللغتين ينطوي عادة على فرق في الدلالة. عند التحدث مع ثنائيي اللغة، وخاصة الأصدقاء، فإننا نُغيّر بين اللغتين لسبب واحد، وهو التعبير عن بعض الأفكار التي يمكن تبيانها بشكل أفضل في L1 وليس L2، أو العكس، ونادرا ما نُغيّر بين اللغتين بشكل عشوائي، حيث أن هذا السلوك في معظم الأحيان يكون متعمدا. بما أننا لا نشعر بالقلق إزاء المعنى الحرفي لعبارة بعينها، فإننا نلجأ إلى اللغة التي يمكن أن تساعدنا على التعبير الدقيق عن "الموقف" الذي نود التعبير عنه. إن الحرية التي أشعرُ بها عند التحدث مع ثنائيي اللغتين العربية والإنجليزية تتناقضُ تماماً مع عدم ارتياحي عندما أجد نفسي في مواقف أعرفُ أنني سأحتاجُ للاقتصار فيها على لغة واحدة، كما هو الحال عندما أتحدث مع والديّ الناطقين باللغة العربية حول ما شهدتُهُ في يومي بالجامعة أو كيفية سير دراستي.

صاغ جغوسجين (2012) مفهوم "التوزيع التكميلي" للإشارة إلى الفكرة القائلة بأن ثنائيي اللغة عادة ما يستخدمون اللغتين بطريقة تكميلية بسبب البيئات المختلفة التي اتقنوا فيها كلا من اللغتين، ولذا فإن اختيار أي من اللغتين يُعزى إلى حالات أو سياقات متباينة، ويعبر عن وظائف تواصلية مختلفة. من المدهش أن السبب الرئيس وراء انتقال ثنائيي اللغة من لغة إلى أخرى هو حاجتهم الدائمة إلى تكييف مقاصدهم اللغوية وتطويعها بحسب المواقف التي يشهدونها، وحسب المقدرات اللغوية لمخاطبيهم. على الرغم من أن هذا ينطبق على جميع المجموعات ثنائية اللغة، فإنني أعتقدُ أنه ينطبق خصوصا على ثنائيي اللغة في سن متأخرة، فبسبب السياق المكاني (المنزل أو المدرسة.. إلخ) الذي اكتسبوا فيه هاتين اللغتين، يميل ثنائيو اللغة في سن متأخرة إلى كونهم أكثر عرضة لأن تكون الموضوعات التي يمكنهم التحدث عنها بلغة واحدة أقل بالمقارنة مما يمكن لثنائيي اللغة في سن مبكرة التحدث عنها.

على سبيل المثال، فإنني أُفضلُ أن أحدثك عن ذكريات طفولتي باللغة العربية لأنني لم أكن أجيد سواها عندما كنتُ طفلة. بذات القدر، فإن من الأيسر لي استخدام اللغة الإنجليزية للحديث عن شيء واجهته أو تعلمتُهُ في انكلترا، مثل الحديث عن مجال دراستي، أو أن أشرحَ لشخص كيف يمكنه فتح حساب مصرفي بنظام الخصم المباشر.

التعايش مع الثنائية اللغوية المتأخرة:
لا أعتقدُ أنني سأصل إلى مرحلة الارتياح الكامل في التحدث أو التفاعل مع أحاديي اللغة من أي من اللغتين. بالرغم من ذلك، أشعرُ بأني محظوظة لقدرتي على التحدث إلى كلتا المجموعتين باللغة التي يفضلونها، حتى لو كان ذلك يعني أنني بحاجة إلى اتخاذ طريق وسطى، وبذل المزيد من الجهد لاستيعاب احتياجاتهم.

في المرة القادمة التي تتحدث فيها إلى شخص ثنائي اللغة يجيد الإنجليزية بطلاقة، حاول أن تفكر في مدى تعقيد تلك التجربة، فحتى أبسط المحادثات تحوي الكثير من المشاعر المختلطة والضغوط الخفية. إننا نلتقي مثل هؤلاء الأفراد كل يوما تقريبا في مجتمعاتنا متعددة الثقافات، ولكننا قد لا نمنح الأمر وقتا كافيا لإدراك تعقيده، أو حتى للتفكير في الرحلة الصعبة التي يبحر عبرها ثنائيو اللغة.

 

* حنان بن نافع - طالبة دكتوراة في علم اللغويات الاجتماعية، في جامعة مانشستر ميتروبوليتان بالمملكة المتحدة. تتركز اهتماماتها الأكاديمية حول اللغويات التطبيقية، وبالأخص الثنائية اللغوية، عنوان بحثها الحالي هو: "تبديل الرمز وعلاقته بهوية ثنائي اللغة (العربية - الإنجليزية).