يكشف الباحث الجزائري هنا عن طبيعة ما يدعوه بكتابة البرزخ في ديوان الشاعرة المغربية، وهي كتابة تستعين بالسّرد وتُغني نصّها بتقنيّاته وعناصره، دون أن تتخلى عن الرّوح الشّعريّة التي تنبني وفقا لها هندسـة القصيدة النّسائيّة، فكان السّرد يخفتُ ويضعف مع كلّ صورة شعريّة تمنح النّص رؤيا جديدة.

كتابة البرزخ ومخاتلة المحكي الشّعري

في ديوان «تراتيل على رصيف الصّمت» للشّاعرة زينب الطهيري

رزيقة بوشلقية

إضاءة مدخليّة:
تعرّض الشّعر – في ظلّ التّجريب الإبداعي – إلى خلخلة في تشكيله اللّغوي حين تمازجت عناصره اللّغويّة، بعناصر تنحدر من طبيعة أجناسيّة مغايرة، فعمدت إلى كسر الحدود بين الأجناس وتشكيل فضاء إبداعيّا مشتركاً أو ما يسمى " بكتابة البرزخ "، وهي الكتابة التّي تكون بين الشّعر والسّرد، والحاجز الفاصل بينهما، بمعنى لا تنتمي إلى الشّعر الخالص ولا إلى السّرد بوصفه جنسا له خصائصه الخاصّة به والمؤسّسة لأصوله الأجناسيّة، حيث تسعى هذه الكتابة إلى الجمع بين عناصر السّرد والشّعر معاً لتخلق كتابة بخصائص شعريّة سرديّة، أي أنّه الجنس الذّي يولد من تزاوج الشّعر والسّرد، كما هو موضّح في الشّكلي الآتي:

الكتابة السردية كتابة البرزخ الكتابة الشعرية

من أجل تحقيق فرادة العمل الأدبي وخصوصيّة شعريّة مغايرة، لم يعدّ الشّعر النّسائي المغربي، شعراً نقيًّا مطلقًا أي خالص الانتماء إلى جنسه. ويمتنع تغلغل الأجناس الأخرى في فضائه وحدوده، حيث صارت الحدود بين الشّعر والنّثر، على حدّ قول "رومان جاكبسون" Jakobson: "أقلُ استقرارًا من الحدود الإداريّة للصّين"([1])، إذ عَبَرت بعض خصائص القصّة إلى الشّعر فظهر ما يسمى ب "تسريد الشّعر"، وعبَرت بعضُ مكوّنات الشّعر إلى الرّواية أو القصّة، فولدَ ما يسمى ب " تشعير القصّة/ الرّواية "([2])، كما هو موضّح في الشّكل الأوّل والثّاني:

 

الشكل الأول الشكل الثاني

السرد تسريد الشعر الشعر الشعر تشعير السرد السرد

وتولّد عن هدم الحدود وإلغائها بين الشّعر والنّثر، مصطلحات كثيرة في السّاحة النّقديّة، فعبور النّثر إلى الشّعر أعطى كلاًّ من "الشّعر المنثور" و"الشّعر الجديد" و"الشّعر المنطلق" و"الشّعر الحرّ الطّليق" و"الشّعر الحرّ" و"الشّعر الطّليق" و"الشّعر المطلق" و"النّثر الموقع" و نظم مرسل حرّ" و"البيت المنثو" و"النثيرة" و"قصيدة النّثر" و"الشّعر العصري" و"النثر المشعور" و"الشّعر المرسل" و"قصيدة قصصيّة" و"النّظم المرسل المنطلق" ..الخ([3])، كلّ هذه المصطلحات نتجت من اختراق السّرد لعالم الشّعر أو العكس.

وهكذا بدأت الأجناس الأدبيّة – منذ زمن ليس بقصير – في تصفيّة حساسيتها التّجنيسيّة إزاء بعضها البعض، ولم يعد في تماسها الحميم ما يبعث على الدّهشة أو التّساؤل، حيث غدا من الطّبيعي أن يستعين جنس أدبي ما بخصائص جنس مختلف، أو أن نجد نسيمًا ما، ينسل من حقل أدبي مجاور ليغدو من مقتنيات حقل آخر، أو جزءًا من نسيج فضائه وحيويته([4])، هذا التماس الذّي فتح رؤية جديدة للقراءة، ووجّه القارئ إلى زاوية دراسة مغايرة تستند إلى جنسين مختلفين بعناصر اشتغاليّة مغايرة ومختلفة أيضا، محاولا الحفر داخل النّص الفسيفسائي في تداخله الأجناسي ومخاتلته اللّغويّة والدّلاليّة.

هكذا أخذت الأجناس تنهل من بعضها البعض، لتخلق تحوّلاً في مسار الكتابة الإبداعيّة والإقرار بشعريّة الانفتاح الأجناسي، وحين "نتحدّث عن السّرد في الرّواية، أو اللّغة في الشّعر أو الحوار في المسرح، فإنّما نتحدّث – في الحقيقة– عن مهيمنات فرضت حضورها الطّاغي على عناصر أخرى، أقلّ منها حضوراً وتفتيشاً داخل النّص"([5]). وهذا ما حدّده رومان جاكبسون أثناء تعريفه للوظيفة الشّعريّة، فلم يحصر "جاكبسون" هذه الوظيفة في حدود الشّعر فقط، بل تعداها إلى سائر الأجناس الأخرى، حيث تلعب هذه الوظيفة في الشّعر دوراً أساسيًّا وفي النّثر دوراً ثانويّا، يقول: "الوظيفة الشّعريّة ليست الوظيفة الوحيدة لفنّ الكلام، إنّما هي الوظيفة المهيّمنة المحدّدة فقط، ولكن في أنشطة لفظيّة أخرى لا تلعب إلاّ دوراً ثانويّا ملحقا"([6])، وهكذا أصبحت "الكتابة الشّعريّة أرحب من أن تحدّ داخل جنس أدبي يُسمّى (قصيدة) أو (قصيدة النّثر)، فهو قائمٌ في كلّ جنس ولا جنس له"([7])، حيث استطاعت القصيدة أن تتحرّر من القيّد الأجناسي وتفتح المجال لخصائص مغايرة لطبيعة مادتها اللّغويّة، بأنْ تتخللها وتعيد بناء النّص الشّعري وفق معطيات سرديّة.

واستخدم "أدونيس" مصطلح "الكتابة"، دعوةً منه إلى هدم الحدود بين الأجناس الأدبيّة، والإقرار بكتابة جديدة، تنفلت من التّصنيف الأجناسي الموروث، لكن هذا "لا يعني ضياع الحدود نهائيّا بين جلّ هذه الأجناس الأدبيّة، وإنّما هناك تبادل للمزايا الدّاخليّة، تبادلٌ لا يُلغي هويّة هذه الأجناس أو يربك انتماء أيّا منها إلى فضاء متميّز، وإنّما يُنمّي حيويّة كلّ منها ويوسّع من مداه، دون أن يُخرجه من دائرته الخالصة أو يُلحق الأذى بخصائصه التّي تشكّل جوهره أو طبيعته الشّاملة "([8])، وكان الهدف من هذا التّحوّل والانتقال، هو خلق فعاليّة جماليّة إبداعيّة جديدة، تنهض على هدم الحدود في الكتابة النّسائيّة بدءاً من هدم البيت لِيَلِيهِ هدم الحدود بين الأجناس جميعها.

وأوغل المنجز الشّعري النّسائي المغربي – من خلال النّموذج الذّي تمّ اختياره - في مناطق السّرد، ما جعلنا نقول بـ" تسريد الشّعر ومخاتلة المحكي الشّعري" في البنيّة النّصيّة النّسائيّة، ونقصد بمصطلح السّرد (Narration) أنّ الحكي في أصله يقوم: "على دعامتين أساسيتين، أوّلهما: أن يحتوي على قصّة ما تضمُّ أحداثًا معيّنة، وثانيهما: أن يُعيّن الطّريقة التّي تُحكى بها تلكَ القصّة، وتُسمى هذه الطّريقة سرداً، ذلك أنّ قصة واحدة يمكن أن تُحكى بطرق متعدّدة، ولهذا السّبب فإنّ السّرد هو الذّي يُعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكلٍ أساسي"([9])، فتوصلنا إلى أنّ السّرد –إذن- هو الكيفيّة التّي تروى بها القصّة، عن طريق القناة المكوّنة من الرّاوي والقصّة والمروي له:

الرّاوي القصّـة المروي لـه.

أمّا مصطلح "الشّعر" Poésie فقد حدّده "رومان جاكبسون" من خلال الإشكاليّة، التّي حدّدها في كتابه قضايا الشّعريّة "مـا الشّعر؟" Qu’est-ce que la poésie، يقول: "ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم، أن نعارضه بما ليس شعراً"([10])، فالشّعر عنده ليس شيئاً ثابتاً، بل هو متغيّر بتغيّر الزّمان والمكان، إذ أنّه لغة ذات وظيفة جماليّة.

وعند جمعنا بين السّرد والشّعر، فلأنّ القصيدة النّسائيّة المغربية انفتحت على أفقٍ مزحوم بالأجناس والفنون وأنماط التّعبير المختلفة، فأصبح المنجز الشّعري النّسائي ملتقًى فريدا لتموّجات سرديّة ودراميّة، ضاعفت من حيويته الدّاخليّة فأضحت الكاتبة المرأة "شاعرة ساردة"، وهي بطلة السّرد في حكيها.

ومهما أوغلت القصيدة في مناطق السّرد، وبالغت في الحراثة في أرضه الخاصّة، تظلّ فنّا شعريّا قبل كلّ شيء، والعكس صحيح، فالرّواية حين تكثّف من فضائها الشّعري وتمعّن في التّخفي، والمواربة والمجاز تظلّ عملاً سرديًّا في المقام الأوّل، بمعنى أنّ كلاًّ من الشّعر والسّرد، يظلّ منتميّا إلى جنسه ومجسدًا لخصائصه المهيمنة رغم اقتراضه من الجنس الآخر، ما يعزّز قدرته على الأداء([11])، أي أنّنا نحدّد أصل العمل الأدبي أو الفنّي انطلاقا من العنصر المهيّمن فيه، فإذا كان العنصر المهيّمن " حكيـا وسردا " فهو أقرب إلى جنس الرّواية، أمّا إنْ كان مجازاً وتصويراً فهو أقرب إلى القصيدة تعريفا.

وحاولنا الوقوف عند بعض النّماذج الشّعريّة النّسائيّة، نتابع انفتاح منجزهن النّصي على الأجناس الأخرى، وإظهار التّحوّلات البنائيّة على مستوى الرؤيّة والتّعبير ولم يكن هذا الانفتاح رغبة منهن في التّغيير، بقدر ما كان نابعًا من حاجات شعريّة وتموّجات نفسيّة ضاغطة، فرضها الآخر بمختلف أنواعه، حيث لا يمكننا عرض أغلب النّماذج والدّواوين الشّعريّة النّسائيّة، لذا وقع اختيارنا على ديوان الشّاعرة المغربيّة "زينب الطهيري" الموسـوم ب «تراتيل علـى رصيف الصّمت».

1/ تشكيل مخاتــلة المحكي الشّعري في الديوان:
يعدّ التّداخل بين السّرد والشّعر مظهراً من مظاهر التّفاعل الأجناسي، حيث أنّ التّشابك بينهما، يظلّ حاضراً بكثافة في الشّعر النّسائي، كما هو موضّح في ديوان "تراتيل على رصيف الصّمت" للشّاعرة المغربيّة "زينب الطهيري"، إذ جاء منجزها الشّعري مكتنزا بالمحكي الشّعري في ماهيته وكيفيّة قوله، حيث عمدت زينب إلى تبني هذه الفسيفساء الموضوعاتية قصد فهمنا لسرديّة الحياة و«في الحياة يصير الشّاعر أمهر الباصرين وفي اللّغة يصير الشّاعر أمهر الكيميائيين من حيث توليده الدّائم لنسق من البلاغات الجديدة»([12])، فيصبح الشّعر عند الشّاعرة «منذورا للحريّة»([13])، التّي تمنحه حقيقته وقدرته على الابتكار والخلق الجديد وفق بلاغات جديدة مغايرة.

من أجل هذا تسعى "زينب الطهيري" من خلال تقنية التّجريب إلى تجاوز كلّ نمط جاهز أو قالب ثابت، لتنفتح من خلال شعرها في ديوانها "تراتيل على رصيف الصّمت" على آفاق أخرى، وترسم مسار تجربتها الشّعريّة على بياض ولغة بكر، فتصوغ لنفسها تجربة فرديّة خاصّة بها كأنثى، تنفتح على شتى الاحتمالات المتاحة للشّعر وفق رؤيّة جديدة مغايرة. وتتشكّل ظاهرة "المخاتلة" في ديوان "تراتيل على رصيف الصّمت" لزينب الطّهيري، من خلال تحوّل بؤرة الاشتغال الشّعريّة، وذلك من خلال تبنيها لنمط السّرد والحكي، فتحوّلت الصّورة الشّعريّة إلى مشهد، والقصيدة إلى حكاية تحفل بالاشتغالات الجديدة وتنتصر للحركيّة والاستمرار.

في هذا المنظور، أي من خلال تحوّل بؤرة الاشتغال ومخاتلة المحكي الشّعري للقارئ، سنقترب من ديوان "تراتيل على رصيف الصّمت"، بغرض تتبّع المسار التحوّلي من موضوع الشّعر إلى السّرد، بغية البحث عن المعنى الجديد، والجملة الجديدة التّي تشتغل وفق رؤيا شعريّة سرديّة، وتحوّل الموضوعات – أيضا – عندها وملامح تشكّلها، انطلاقا من خصوصيات الإنسان المغربي خصوصاً والعربي عموماً، وتراكماته الحياتيّة والمعرفيّة والفكريّة والتّاريخيّة، لتتسع وتشمل الإنسان والوجود، كما تتبنى الشّاعرة فكرة النّص المفتوح، وهي تغامر بنا في الموضوعات الكبرى ونبحر معها إلى دواخل الكينونة الإنسانيّة، فيتشكّل – عندها - النّص الشّعري المثقّف في مادته الحكائيّة.

لذا يمكننا أن نصنّف هذه المادة حسب تيماتها الواردة، بعد أن ننفض عن قصيد الشّاعرة مساحيق التّجميل التّي وضعتها الطّبيعة على وجهها وذلك حين قالت: «مساحيقٌ للتجمّل/ وضعتها الطّبيعة/ على وجه الصّباح/ على وجه القصيدة»([14])، لننفتح من خلال شعرها على النّص المستحيل، في بداياته المربكة، ومحاولة الشّاعرة بناء منجزها الشّعري السّردي وفق رؤيا مخاتلة، وهي تنطلق في تأسيس نصّها من التّفاصيل اليوميّة، لترحل دلالاتها فيما بعد نحو عالم الشّعر لتغدو قيما إنسانيّة، لتؤرخ في الأخير"للنّص المنفتح/ المفتوح" على مختلف مقامات الوجود: الذّات، الأنثى، الإنسان، الوجود، الواقع، المكان، الحريّة. وقد تثير قضايا الباطن الإنساني، وهو يصارع ويقاوم أمواج الفناء (الموت)، ليضمن بقاءه واستمراره، أو فلنقل خلوده، كما كان ذلك منذ الخِلقة الأولى ومحاولة آدم عليه السّلام أن يأكل من شجرة الخلد بغية تحقيق الخلود والعيش السّرمدي.

توضّح الشّاعرة "زينب الطّهيري" قضيّة مقاومة الإنسان لفكرة الفناء، أو بالأحرى السّعي وراء تأجيل قرار الموت، من خلال قولها في قصيدة "وحال الموج بينهما":

فمهلاً أيّها الموتُ

المتسللُ

إلى دهاليز النّفوس

أيّها العابر

أمهلنا

زمناً للسّلام

قبل أن يعزّ الملام ([15])

تبدأ القصيدة بتوصيف شعريّ للحياة في حال متأرجحة بين الامتلاك والافتقار، بين السّعادة والتّعاسة، بين الموت والرغبة في البقاء، إذ تعبّر الشّاعرة عن هذا التّوصيف بشكل هادئ وانسيابي، وذلك مرّده إلى القاموس اليومي، الذّي أنهلت منه الشّاعرة لغتها الشّعريّة، فتضافر الشّعريّ بالسّرديّ. لذا اعتمدت أثناء الصّياغة الشّعريّة على نمط الحكي فانفتح التّعبير الشّعري – عندها - على حسّ المشاهدة، فتضاءلت الغنائيّة فيه.

تنقلنا الشّاعرة زينب الطهيري من خلال رحلتها التّي كانت «بين الصحوة وخدر النّعاس»([16]) إلى استكشاف " مدن الضّياع "، فجاءت رحلتها هذه، لا تختلف عمّا فعله غيرها أمثال: دانتي/ Dante Alighieri من خلال ملحمته الشّهيرة (الكوميديا الإلهيّة)، وأبو العلاء المعري في كتابه (رسالة الغفران)، حاولوا - كلّهم وبخطى الخيال - أن يعرجوا إلى مراقي الجنّة ودركات الجحيم، لكن الخصوصيّة والجديد عند "زينب" تجلى في قدرتها على تجسيد الشّعور بالضّياع والتيه في عالم الموجودات، بعد أن «أتاها نذيرٌ بنبأ حثيث/ مدعوة أنا إلى مدن الضّياع» ([17])، وهذا ما يؤكّده نصها المعنون ب" أحلام مؤجلة "، حيث جاء العنوان جملة اسميّة (مبتدأ وخبر) ليحيلنا على فعل الثّبات، والجميل في العنوان أنّ الأحلام عند الشّاعرة مؤجلة إلى أن يَأْذن لها الواقع بالتّحقّق، فتنقل لنا شيئا عن هذا العالم بلغة وصفيّة سرديّة، وكيف فعل الضّياع فعلته، والضّياع يعني تدهور حالة المجتمعات العربيّة، والأحلام المؤجلة هي الآمال التّي مازالت الشّعوب تنتظرها، إلاّ أنّ النّص يغيّب هذا المعنى، لأنّه يروي قصّة الحياة البائسة والمدن الضّائعة، تقول الشّاعرة وهي تصف الحالة المزرية لهذه المدن:

في شوارعها

ينشر المستضعفون

رؤوس أموالهم

على قارعات الطّريق

يتكئون على اللّذة

ليتخلّصوا

من مرارة العيش

ينشدون الرّحيل

إلى عوالم شتى

من بواباتٍ للسّحر

يركبون قواربا للنّجاة

تخادعهم

ترمي أمام أعينهم

أبْسطة سرابٍ

ثمّ تُلقيهم صرعى

أعجاز نخلة ([18])

تقدّم الشّاعرة في هذه الصّورة المشهديّة حالة المستضعفين، وهم يسْعون وراء الحياة المريحة والتّخلص من مرارة العيش، يفعلون أيّ شيء مقابل تحقيق الحياة الرغيدة، فتصفهم بقولها «ينشر المستضعفون رؤوس أموالهم/ يتكئون على اللّذة ليتخلّصوا من مرارة العيش/ ينشدون الرّحيل/ يركبون قواربا للنّجاة.» والمستضعفون عندها هم أصحاب الأموال، الذّين يبحثون عن شراء السّعادة بأيّ الأثمان، وتواصل الشّاعرة في المقطع الموالي اقتفـاء آثار المستضعفين في بحثهم عن السّعادة، وتعرض صراعاتهم المتكرّرة مع الحياة، قائلة:

في قلب العدم

يُصارعون أمواجَ العوز

يركبون هول السّؤال

ينشدون الكفاف

على أبواب موصدة

أياديهم باردة

من فرط المهانة

ينشدون أجوبة

في ساحات للغو

ساحات امتهنت

النخاسة في حضرة

الغول ([19])

لقد ورد السّرد في هذا المقطع – كما في المقاطع السّابقة - على لسان الشّاعرة السّاردة زينب الطهيري، حيث كانت الشّاعرة تسرد علينا تفاصيل القصّة وهي تقتفي آثار المستضعفين في بحثهم عن السّعادة في عالم غير عالمهم، فتراوحت جمل القصّة (الحكي) بين جمل تقريريّة مباشرة وأخرى إيحائيّة شعريّة، وانتهت القصّة، بعودة المستضعفين إلى وطنهم محمّلين بالخيبة، ويجرّون أذيال المهانة، تقول الشّاعرة في المقطع الموالي:

يعودون إلى شوارعهم

بقلوبٍ صاغرة

يؤثثون الحيطان

أمنياتٍ

أمنياتٍ

لغةٌ خطّتها أيادٍ

أعلنتِ البيعة

رغما عنها

لسطوة الشّظف ([20])

وتواصل الشّاعرة في وصف ملامحهم بعد العودة من مدن السّراب، قائلة:

وجوههم صفرٌ سودٌ

على ألسنتهم تجري

ينابيع قحطٍ وجذبٍ

لا تنتهي

قلوبهم شتّى

في عيونهم

تقرأ المهانة والكبرياء

وعلى أجسادهم

أسمالٌ

عادت للتوّ

من ساحات حرب

كلّ فيها خسران ([21])

يوحي هذا المقطع إلى البرزخيّة التّي عاشتها الشّاعرة – وهي تروي قصّة المستضعفين – بين الصحوة وخدر النّعاس، ونرى أنّها إلى " الصحوة " أقرب، لأنّ القصّة مستمدة من الواقع المعيش للشّعوب العربيّة الفقيرة، حيث عملت الشّاعرة باعتمادها تقنيّة الوصف على نقل الأحداث كما هي منذ بداية الرّحلة إلى نهايتها، والتّي يتحدّد توقيتها الزّمني ب"يوم كامل"، بدءاً من لحظة توقّف الزّمن في الواقع، أي في درجتـه الصّفر، إلى لحظة حركيته في الفترة البرزخيّة، ونحن ندخل معها في مرحلة برزخيّة ما بين الصّحوة وخدر النّعاس، لتتكرّر "الهجرة الموعودة" مع كلّ صباح جديد، فتحاول الشّاعرة أن تقدّم الأحداث وتقرّبها للقارئ، لتعلن في نهاية القصّة عن رحلة أخرى مع صباح قريب «ينبلج على أنين الجياع، آدميون يحملون أجسادا رخيصةً لا تنام، للخبز الحافي، تَهدي كلّ الأحلام المؤجلة»([22]).

تعلن الشّاعرة في نهاية قصّتها أنّ كلّ هذه الأحلام المؤجلة تُهدى للخبز الحافي «آدميون يحملون أجساداً رخيصة لا تنام، للخبز الحافي تَهدي كلّ الأحلام المؤجلة»، لأنّ الآدميون في هذه الحياة يحملون أجساداً رخيصة لا تنام. لتنتهي الشّاعرة في قصيدتها إلى القول بأنّ كلّ هذه الأحلام المؤجلة مهداة للخبز الحافي. فهذه قصّة واقعيّة وقعت تفاصيلها في حياة برزخ الشّاعرة بين الصّحوة وخدر النّعاس، وتفاصيل القصّة عاشتها الشّاعرة في دهاليز ذاتها، حيث حاولت في البداية أنْ توهمنا بعدم واقعيتها وأنّها محض خيال، وذلك من خلال الوهم الشّعري وأحلام اليقظة «بين الصّحوة وخدر النّعاس أتاني نذير»، إلاّ أنّها قصّة العالم الخارجي وكيف يعيش فكرة "الخبز الحافي"، فانصهر السّرد مع الشّعر، والمحكي مع المخيال، فتشكّلت مخاتــلة المحكي الشّعري في النّص الطّهيري، بعد أنْ لم يبق من الوجود إلاّ ظلال المعنى، ولم يبق من "الخبز الحافي" إلاّ أحلاما مؤجلة، فالمتابع لأحداث القصّة يلاحظ أنّ أغلب الألفاظ مستقاة من الواقع المعيش (الخبز، الحافي، الشّوارع، مرارة العيش، المستضعفون، قارعات الطّريق)، فتتحوّل الشّاعرة السّاردة إلى سارد خارج حكائي؛ حيث جاء الحكي بلسان "الأنا"، فالمتكلمة تحكي بؤس الجماعة "هم"، إلى أنّها خارج الأحداث أي أنّها سارد محايد، فهي تكتفي بمراقبة هذه المدن الضّائعة، ونقل أحداثها الواقعيّة إلى القارئ، كأن تقول: « في شوارعها ينشر المستضعفون رؤوس أموالهم» و«يتكئون ... ليتخلصوا» «ينشدون» «يركبون» «يصارعون» «ينشدون» «يعودون» «يؤثثون» «وجوههم» «ألسنتهم» «قلوبهم» «أجسادهم» «مدينتهم» الخ ... وهكذا يتحوّل مسار القصّة الذّي أوهمنا في بدايته أنّ الساردة تنتمي إلى أحداث القصّة أي سارد داخل حكائي، كوننا رحلنا معها عبر غفوتها إلى "عالم الضّياع"، وعبر تتبّع مسار القصّة وكيفيّة تشكّل الأحداث فيها، توصلنا إلى أنّ السّاردة لا تنتمي إلى أحداث القصّة، بمعنى أنّها ساردة خارج حكائي، لأنّ ما عاشته الشّاعرة السّاردة كان في برزخيّة الصّحوة وخدر النّعاس فقط.

2/ الشّجرة الشّعريّة النّسائيّة بظلال سرديّة في قصيدة:
"الرّحــــــــــــلـة الأصعب" لزينب طهيري
كانت البدايات الأولى لظهور أغلب الأجناس الأدبيّة الشّعريّة منها والسّرديّة، مبنيّة على فكرة الاختراق،
نظرا لالتباس علاقة الشّعر بالسّرد، لهذا يمكننا القول أنّ نشأة القطيعة بين الشّعر والسّرد يعود إلى النّصف الثّاني من القرن 19 التّاسع عشر، في سياق ما عرف بثورة اللّغة الشّعرية على أيدي كلّ من شارل بودلير Charles Baudelaire (1821-1867)، وستيفان مالارميه Stéphane Mallarmé (1898-1942) و رامبو Rambo (1854-1891) وأصبح الحديث عن نظام أجناسي غنائي أو سردي أو ملحمي، يندرج ضمن النّظرية الأدبية الرومنطيقية في ألمانيا خاصّة، لكن هذا لم يمنع – فيما بعد – من ظهور نظريّة التّداخل الأجناسي.

تحاول القصيدة النّسائيّة المغربيّة المعاصرة أن تمارس التّجريب وتشتغل ضمن أطره، حيث عمدت المرأة الشّاعرة إلى استعمال أدوات وتقنيات لغويّة وأسلوبيّة، شبيهة بتلك التّي مارستها القصيدة العالمية ومن بين هذه التقنيات الاستفادة من مختلف الأجناس الأدبية الأخرى، وإدراجها ضمن مادة لغويّة مغايرة للتربة التّي تكوّنت فيها كاعتماد عناصر القصّة في الشّعر، إلاّ أنّ استثمار طاقات السّرد وانصهارها في النّسيج النّصي الشّعري ظهر مع الحداثة الشّعرية في القصيدة الحديثة؛ وننوّه إلى أنّ البدايات كانت مع الرّومانسية التّي نادت باختراق الحدود بين جنسي الشّعر والنّثر([23]). فانصهرت عناصر السّرد في كيمياء الشّعر، لتخلق نصّا جديداً يزاوج بين الاثنين معاً دون أن يَفقد خصوصيته الأجناسيّة.

عملت الشّاعرة زينب الطهيري على النّهل من القاموس اليومي الحياتي، وهي تعرض في ديوانها " تراتيل على رصيف الصّمت " منظومة القيم التّي تحكم علاقة النّاس فيما بينهم، جاعلة من تبنيها نمط "تسريد الشّـعـر" سبيلا لسبر أغوار التّجربة البشريّة وفهم سلوكات وعلاقات الأفراد فيما بينهم، حيث تسعى من خلال تراتيلها هذه إلى تشكيل نظرة جديدة حول العالم من خلال الحفـر في الغياهب وفي المصمّت، وسنتبيّن من خلال استنطاق اللّحظات المفصلية التّي تقدّم برزخية العبور من الشّعر إلى السّرد، وذلك انطلاقا من قصيدتها المعنونة ب" الرّحلة الأصعب "، تقول وهي تستنطق القابع خلف أسوار الجهل متتحسّسة من هذه المشكلة:

أيّها القابع

خلف سحبِ الجهل

لا تبتئس

غدا يزرون بلدتك

يستنبتون بذور

سذاجتك ([24])

تنجح الشّاعرة في ترحيل أشياء الواقع وقضاياه وعاداته إلى عالم الشّعر، فتستند قصيدتها على التّفاصيل اليوميّة في تشكيل وإنتاج المعنى، فتتولّد لديها قصيدة شعريّة تتكئ على عصا السّرديّة، وتعيد تشكيل الأشياء وفق المنطق الشّعري الذّي يُقبع الفرد خلف سحب الجهل، و«يصبغونه بألوانهم» و«يكون الضّيف الأثير على موائدهم»([25])، في مشهد شعري سردي تصوّري رائع، تصوّر آلة الفناء وهي تقضي على الكائن دون أن ينتبه وذلك حين قالت في نهاية قصيدتها: «يجرفكَ الدّمار/ بعيدا ... بعيدا ... / فتلحق بالرّاحلين/ تلحق بالرّاحلين»([26])، هكذا تتخّذ الشّاعرة من السّرد والحكي طريقا إلى القول الشّعري، وهو ما عبّر عنه "أبو حيان التّوحيدي" في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" بقوله: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثر كأنّه نظم»([27])، لهذا يبدو التّجريب الشّعري في قصيدة زينب الطهيري متحققا من خلال فعل السّرد والمحكي الشّعري، وينتج عن هذا أن تحفل قصيدتها بثلاثة أسس تميّزها وتمنحها فرادتها وهي كما يأتي:

  1. الصّورة الشّعريّـــــة.
  2. الصّورة المشهديّة.
  3. عامل الزّمــــــــــــــــــن. ([28])

يتجلى الأساس الأوّل أي الصّورة الشّعريّة انطلاقا من تبنيها منطق المفارقة الذّي يظهر في أسمى معانيها من خلال ثنائيّة التّضاد والتّناقض، وذلك حين تقول الشّاعرة: «يفتحون أمامك/ بوابة الفردوس/ ( .... ) / تكون الضّيف الأثير/ على موائدهم/ يسقونك/ كؤوس الحقد والكراهية» ([29])، وسمحت هذه الميزة التّي تشكّلت وفقها الصّورة الشّعريّة أي التّناقض والتّضاد، على أن تنمو السّرديّة وتترعرع في تربـة شعريّة وبناء معنى جديد للحكايـة الشّعريّة. والغاية من الأساس الثّاني أي الصّورة المشهديّة هـو تحقيق السّرديّة في حدّ ذاتها داخل المنجز الشّعري النّسائي، أمّا إذا عدنا إلى عامل الزّمن فإنّه «ينهل خصوصيته من كثافة اللّحظة الشّعريّة وغموضها أي من الزّمن الشّعريّ، وفي الوقت نفسه، من انسيابيّة الزّمن السّردي وانطلاقه» ([30]) تقول الشّاعرة في هذا الصدد:

أيّها القابع

خلفَ سُحُبِ الجهل

لا تبتئس

غدا يزرون بلدتك

يسْتنبتون

بذور سذاجتك

في ملهى العشيرة

يُنصبونك أميراً

على مدنِ أحلامهم

يقتادونك

إلى زمن ولّى

يصبغونك بألوانهم

وتتسمى بأسمائهم

يفتحون أمامك

بوابة الفردوس

فتنتشي

(...)

على ركبتيك تجثو

صلوات للغفران تتلو

تعلنُ الكفر

بكهنوت العبث

يجرفكَ الدّمار

بعيداً ... بعيداً...

فتلحق بالرّاحلين

تلحق بالرّاحلين ([31])

استطاعت الشّاعرة من خلال قصيدتها هذه أنْ تخلق ما يسمى بمفارقـة الموقف، والتّي نتجت انطلاقا من اجتماع العناصر الثّلاثة السّابقة وهي: الصّورة الشّعريّة، الصّورة المشهديّة، عامل الزّمن، كما هو موضّح في المعادلـة الآتية:

الصّورة الشّعريّة (الشّعر) + الصّورة المشّهديّة (السّرد) + عـامل الزّمن = مفـارقـة الموقــف

 

 

 

كما أنّ ما نلاحظه على مفارقة الموقف أنّها تنبني على النّهاية غير المتوقعة وانقلاب الأدوار، والذّي يظهره عنصر السّرد في حدّ ذاته، فتأتي النّهاية مفاجئة وتخرق أفق توقّع القارئ، حيث صاحب المفارقة هو ضحيتُها في الوقت نفسه، فبعد أن يعمل المجتمع أو الفرد على تزييف شخصـه (أي الجاهل) ومنحـه مراتب لا تليق بـه، وقد عبّرت عنه الشّاعرة من خلال الأفعال المبنية على وزن " يفعلون " مثل: يستنبتون ومفرده استنبت، ولفظة "ينصبونك" التّي مفردها "نصب"، وكلمة "يقتادونك" التّي مفردها "اقتاد"، إلى جانب لفظة "يصبغونك" مفردها من "صبغ"، أمّا كلمة "فتح" جمعها هو "يفتحون"، كلّ هذه الأفعال توحي إلى الشّخصيّة المزيفة التّي يخلقها الآخر ويمنحها للجاهل، لكنّه يُفجَع بانهيار نواياهم على رأس أناه، وانخداعـه بهم، يظهر هذا في نهايـة القصيدة حين قالت الشّاعرة "زينب الطهيري":

تكون الضّيف الأثير

على موائدهم

يسقونك

كؤوس الحقد والكره

يتزواج

الجهل بالكراهية

ويغدو المولود دماراً

يغدو المولود دماراً

هناك

تتعلّم السير

إلى الأمام

إلى الهاوية

(...)

أمام عينيك

تتزاحم صور

السّواد...

الرّماد...

الدّمار...

(...)

وسط لهيب الحرب

تحنّ إلى الدّيار

تعلنُ الكفر

يجرفك الدّمار

بعيدأ...بعيداً

فتلحق بالرّاحلين ([32])

فبعد أنْ نصبـوه «أميراً على مدن أحلامهم»، بغية تحقيق نواياهم القذرة، جاءت كلمات الشّاعرة "زينب الطهيري" لتعبّر عن الواقع المأساوي وهو يتقاسم هذه الكذبة، ويتاجر بمستقبل أبنائه، تقول الشّاعرة:

يسقونك

كؤوس الحقد والكره

يتزواج

الجهل بالكراهية ([33])

تأتي نهاية المشهد في هذه القصيدة غير متوقعة، حيث تخرق أفق توقّع القارئ، إذ بعد أن ينصبون الجاهل أميراً على مدنهم، يسقونه كؤوس الحقد والكره، فيجتمع لديه (الجاهل) الجهل والكراهية، ليخلق شخصا مغايرا لا يفقه شيئا، وهذا ما يقتضيه محكي التّفاصيل والسّرديّة في ديوان الشّاعرة، إلاّ أنّها عملت على تحويل كلّ هذه التّفاصيل الواقعيّة إلى معطى شعريٍّ، يشتغل وفق رؤيا شعريّة وصورة مشهديّة سرديّة، فلقد استطاعت الشّاعرة " زينب الطهيري "أن تضعنا أمام أمرين: «الأوّل وهو السّياق الرّمزي، الذّي نواجه من خلاله عملاً فنيّا له منطقه الخاصّ المغاير لمنطق الواقع، أمّا الثّاني وهو المختلف عن السّياق التّقريري المباشر للغة الحياة اليوميّة» ([34]).

انطلقت الشّاعرة في رسم حدود قصيدتها "الرّحيل الأصعب"، من التّفاصيل اليوميّة المعروفة، ولكنّها ارتفعت بها إلى آفاق الشّعريّة، وتأتى لها ذلك من خلال ترحيل الأشياء اليوميّة إلى عالم الشّعر، فزاوجت بين الشّعر والسّرد، وخلقت بواسطة كتابتها البرزخيّة ما يسمى ب «مخاتلة المحكي الشّعري»، حيث أنّ قصائدها تحمل في طياتها سرداً وحكيا للواقع في أدق تفاصيله وفق رؤية شعريّة راقيّة، فيصبح حال " الجاهل " وهو ينال هذه الرّفعة في المجتمع – كما زعمت ذلك الشّاعرة في بداية قصيدتها – رمزاً للصّراع الحاد بين الإنسانيّة جمعاء، وهنـا يحقّ للشّاعرة أن تتساءل بغضب: « َـنْ يحــكم مَـنْ؟!»، فـي وطـن غـابت فيـه أدنـى شروط الحيـاة.

ونقول في خلاصـة مقالنا هذا أنّ الشّاعرة "زينب الطهيري":

استطاعت أن تستعين في ديوانها الموسوم ب" تراتيل على رصيف الصّمت " بالسّرد وتُغني نصّها بتقنيّاته وعناصره، وقد حاولنا في مقالنا هذا أن نستخرج بعض المقاطع التّي يبدو فيها المحكي الشّعري جليّا، إلاّ أنّنا لم نتمكّن من إيرادها كلّها نظرا للعدد المحدود من الصّفحات، فسردت لنا قصّة الجاهل مع الواقع، ومع أصحاب النّفوس الضّعيفة، الانتهازيون والأفّاكون، الذّين لا يؤمنون إلاّ بماديتهم المتوحشة.

كما أنّ الشّاعرة رغم تبنيها نمط الحكي (السّرد) في ديوانها، إلاّ أنّها تمسكّت بالرّوح الشّعريّة الذّي يبني هندسـة القصيدة النّسائيّة، فكان السّرد يخفتُ ويضعف مع كلّ صورة شعريّة تمنح النّص رؤيا جديدة، أو مع أفعال تتخذّ من الوزن شكلا مشتركا للحركة داخل النّص، وذلك حين قالت: "يزورون" و "يستنبتون" و "ينصبونك" و "يقتادوك" و "يصبغونك"، وإلى جانب هذا نجد كذلك التكرار الذّي يُضفي على النّص الشّعري جماليّة إيقاعيّة كقولها: "ويغدو المولود دماراً/ ويغدو المولود دماراً." و"هناك/ هنـاك " بعيدا/ بعيداً" وعند قولها – أيضا – " فتلحقُ بالرّاحلين/ تلحق بالرّاحلين."

كما حاولت الشّاعرة – أيضا - أن تخلق نوعا من الكتابة الجديدة ألا وهي كتابة البرزخ، وهي كتابة فاصلة بين ما هو شعر وما هو سرد، إلاّ أنّ هذا لا ينفي الجانب الشّعري في قصائدها – طبعا – وتظلّ سمة الشّعريّة هي السّمة الغالبة في بواطن ديوانها "تراتيل على رصيف الصّمت"، والشّعريّة هي السّمـة المهيمنة (La dominante) حسب رومان جاكبسون وهو أحد أقطاب الشّكلانيّة الروسيّة، وتعني القيمة المهيمنة عند أصحاب هذا الاتجاه، أنّ في العمل الفنّي مجموعة من العوامل تحكم بناءه لتعطيه ماهيته وخصائصه النّوعية «ومن تفاعل مكونات العمل ترتقي مجموعة من العوامل على حساب مجموعة أخرى، وفي عملية الارتقاء هذه يغيّر العامل المرتقي العوامل الأخرى التّي تغدو تابعة له ويسمى المرتقي حينئذ المسيّطر أو الباني أو القيمة المهيمنة»([35])، فرغم عبور بعض عناصر السّرد إلى بنية نصّ زينب الطّهيري إلاّ أنّ العناصر المهيمنة هي إلى الشّعر أقرب فنقول عنه قصيدة.

وفي الأخير لا يسعنا إلاّ أن نقول، رغم تبني الشّاعرة "زينب الطهيري" لبعض عناصر السّرد والاشتغال في فلكـه، هذا لا يمنع من ظهور ديوان شعري مبني وفق رؤيا شعريّة تجريبيّة راقيّة، يجعل من الشّعريّة والمجاز الأساس المركزي في تشكيل لغتها الصّوريّة، فجاء ديوانها " تراتيل على رصيف الصّمت " مزاوجة للشّعري والسّردي في قالب لغويّ برزخي نسائيّ، مهدّ لولادة جنس جديد منفتح.

 

قسم اللّغة العربيّة وآدابها، جامعة مولود معمري، تيزي وزو

 

قائمـة المصـادر والمراجـع:

1- زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، مطبعة القرويين، ط 1، الدّار البيضاء – المغرب، 2015.

2- رومان جاكبسون: قضايا الشّعريّة، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، د ط، الدار البيضاء، 1988.

3- أحمد الجوّة، من الإنشائيّة إلى الدّراسة الأجناسية، قرطاج للنّشر والتّوزيع، ط1، صفاقس- تونس، 2007.

4- حورية الخمليشي: الشّعر المنثور و التّحديث الشّعري، دار الأمل ومنشورات الاختلاف، ط1، الجزائر، 2010.

5- علي جعفر العلاق: الدّلالة المرئيّة– قراءات في شعريّة القصيدة الحديثة – دار الشروق، ط1، عمان- الأردن، 2002 .

6- محمّد الجزائري: آلة الكلام النّقديّة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، د ط، دمشق، 1999.

7- حميد الحمداني: بنية النّص السّردي، المركز الثّقافي العربي، ط1، بيروت، 1991.

8- خزعل الماجدي، العقل الشّعري، النّايا للدّراسات والنّشر والتوزيع، ط1، سورية، 2011.

9- أبو فخر، صقر: حوار مع أدونيس، الطفول، الشّعر، المنفى، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط 1، بيروت- لبنان، 2000.

10- محمد بنيس، الشّعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها، الجزء2، الرومانسية العربية، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء، 1990.

11- أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تح: غريد الشيخ محمد، إميان الشيخ محمد، دار الكتاب العربي، ط 1، لبنان – بيروت، 2004.

12- محمد الأمين سعيدي، شعريّة المفارقة في القصيدة الجزائريّة المعاصرة، دار فيسيرا، د ط، دون البلد، دون التاريخ.

13- ريتا عوض، بنيّة القصيدة الجاهليّة، الصّورة الشّعريّة لدى امرئ القيس، دار الآداب، ط 2، بيروت – لبنان، 2008.

14- رومان جاكبسون، قضايا الشّعريّة، تر: محمد الولي و مبارك حنوز، دار توبقال للنّشر، ط1، الدار البيضاء- المغرب، 1988.

 

[1] رومان جاكبسون: قضايا الشّعريّة، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، د ط، الدار البيضاء، 1988، ص 10.

[2] يراجع: أحمد الجوّة، من الإنشائيّة إلى الدّراسة الأجناسية، قرطاج للنّشر والتّوزيع، ط1، صفاقس- تونس، 2007، ص149.

[3] ينظر: حورية الخمليشي: الشّعر المنثور و التّحديث الشّعري، دار الأمل ومنشورات الاختلاف، ط1، الجزائر، 2010، ص 61.

[4] ينظر: علي جعفر العلاق: الدّلالة المرئيّة، ص 120.

[5] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[6] ينظر: رومان جاكبسون: قضايا الشّعريّة، ص 31.

[7] محمّد الجزائري: آلة الكلام النّقديّة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، د ط، دمشق، 1999، ص 36.

[8] ينظر: علي جعفر العلاق: الدّلالة المرئيّة، ص 155، 156.

[9] حميد الحمداني: بنية النّص السّردي، المركز الثّقافي العربي، ط1، بيروت، 1991، ص 45.

[10] رومان جاكبسون: قضايا الشّعريّة، ص 09.

[11] علي جعفر العلاق: الدّلالة المرئيّة، ص 156.

[12] خزعل الماجدي، العقل الشّعري، النّايا للدّراسات والنّشر والتوزيع، ط1، سورية، 2011، ص 443.

[13] أبو فخر، صقر: حوار مع أدونيس، الطفول، الشّعر، المنفى، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط 1، بيروت- لبنان، 2000، ص 161.

[14] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، مطبعة القرويين، ط 1، الدّار البيضاء – المغرب، 2015، ص 91.

[15] المصدر نفسه، ص 12.

[16] زينب الطهيري، ديوان " تراتيل على رصيف الصّمت "، ص 05.

[17] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[18] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 5، 6.

[19] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 06، 07.

[20] المصدر نفسه، ص 07.

[21] زينب الطهيري، ديوان " تراتيل على رصيف الصّمت "، ص 07، 08.

[22] المصدر نفسه، ص 08، 09.

 

[23] يراجع: محمد بنيس، الشّعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها، الجزء2، الرومانسية العربية، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء، 1990، ص33.

[24] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 27.

[25] ينظر: المصدر نفسه، ص 27، 28.

[26] المصدر نفسه، ص 31، 32.

[27] أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تح: غريد الشيخ محمد، إميان الشيخ محمد، دار الكتاب العربي، ط 1، لبنان – بيروت، 2004، ص 221.

[28] ينظر: محمد الأمين سعيدي، شعريّة المفارقة في القصيدة الجزائريّة المعاصرة، دار فيسيرا، د ط، دون البلد، دون التاريخ، ص 272.

[29] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 28.

[30] محمد الأمين سعيدي، شعريّة المفارقة في القصيدة الجزائريّة المعاصرة، ص 273.

[31] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 27، 28، 31، 32.

[32] زينب الطهيري، تراتيل على رصيف الصّمت، ص 27، 28، 31، 32.

[33] المصدر نفسـه، ص 28.

[34] ريتا عوض، بنيّة القصيدة الجاهليّة، الصّورة الشّعريّة لدى امرئ القيس، دار الآداب، ط 2، بيروت – لبنان، 2008، ص 186.

[35] محمود العشيري، الاتجاهات النّقدية والأدبية الحديثة، ميريت للنّشر والتوزيع، ط1 ، القاهرة، 2003، ص 37.