تصور رواية الكاتب التونسي الحياة من لحظة تأمل وجودي وفلسفي بعيني معلّم مريض موشك على الموت، يستعيد قبيل رحيله تفاصيل علاقة الإنسان بالمكان والمجتمع، فيكشف لنا عما هو مخفي في حياة ركن صغير منعزل مثل قرية من تناقضات في مشاعر البشر بين الكره والحب، المصلحة والتضحية، الطيبة والخبث.

ريـــــح الشمال (رواية)

عـمر العويني

 

1

في يوم البلدة الأسود، تحرك موكبان في اتجاهين مختلفين: موكب الجنازتين إلى المقبرة، وموكب سيارة الشرطة وهي تحمل الحلاق لدفنه حيا بين الجدران إلى الأبد. كانت بعض الطيور تحلق فوق الموكبين مغردة، وكانت العجائز والشيوخ تتابع الموكبين بوجوه شاحبة وعيون غائرة وحلوق جافة. أما أطفال البلدة، فتنادوا غير مبالين بشيء، وحملوا كرتهم وانطلقوا إلى الملعب.

كانت هذه أحدى المشاهد التي لم تفارق مخيلة المعلم خلال الأيام الأخيرة من حياته، إلى جانب أحداث أخرى، منها ما هي موغلة في الماضي البعيد، ومنها ما هي متصلة بزمن مرضه الذي مات فيه. ما يجمع بين هذه وتلك هو أنها جميعها طبعت مسيرة ثمانين سنة من حياته. غير أن أغلب الأحداث التي سيطرت على ذاكرته وأثرت في نفسه أيما تأثير خلال ذلك الأسبوع، كانت الأحداث الأكثر رعبا وألما. لقد مثلت عواصف هوجاء نغصت عليه طفولته، ونكدت عليه شبابه، وعكرت صفو كهولته، وحطمت شيخوخته المشتاقة إلى بعض الراحة.

عندما أحس ذات صباح أن آلام الليلة الماضية قد خفت بعض الشيء، وشعر بقليل من صفاء الذاكرة، طلب من زوجته إخراجه من غرفته ووضعه في شرفة المنزل. هناك تطلع إلى شمس الربيع التي غمرته بأشعتها الذهبية، وحملت إليه شوقا متجددا إلى الحياة. ومما زاد في انشراح نفسه التي أعياها الزمن وأنهكها المرض، شدو عصفور ظريف معلق في قفص في إحدى نواحي الشرفة. فتذكر أنه كان مولعا بصيد العصافير في طفولته، ولكن ليس ليأكلها كما يفعل باقي أترابه، بل ليستمتع بجمال منظرها وعذوبة صوتها مدة من الزمن، ثم يخلي سبيلها. وتفطن لأول مرة أن حبه الشديد لتلاميذه إنما هو نتيجة لولعه بالطيور. قال في نفسه أن معلمه لم يكن كذلك، بل تذكر عدة حماقات ارتكبها معهم في المدرسة: شتم، وصراخ، ولطم على خدود الصبية الوردية... كان يعتقد قبل ذلك أن المعلم هو المعلم، لا يشبه عامة الناس في شيء.

ومن العصفور والمعلم، عادت به الذاكرة إلى تلك البلدة الرابضة تحت شمس الشمال، ثلاثين سنة قبل ذلك. ذكره جلوسه تلك الصبيحة في الشرفة بصاحب مطعم البلدة، الذي اعتاد الجلوس أمام دكانه ليتصفح أوراق الجريدة كل صباح. كان مغرم بقراءة الصحف، حتى أنه يطالع يوميا أكثر من ثلاث جرائد. و كانت تنتصب قبالة دكانه بيت الحلاق، أنيقة أناقة صاحبها، ولكن الأجمل من الدار وصاحبها شقيقة هذا الأخير، فتاة رشيقة ومهذبة. كانت تنهض كل يوم باكرة مع صيحة أول طير، وهدير أول حافلة تدخل البلدة، لتنظيف واجهة البيت، قبل أن تبدأ حركة المارة، و تكثر عيون الناس. كان قدر صاحب المطعم أن يبكر هو بدوره كل يوم، فيضع كرسيا أمام دكانه، و يشرع في قراءة جريدة ذلك اليوم، أو حتى اليوم السابق إن لزم الأمر. لكنه كان يضع عينا في الصحيفة وأخرى على الفتاة التي كانت تملأ صمت الصباح حيوية وضجيجا بمكنستها الحازمة وحركاتها الرشيقة.

تذكر المعلم أنه سأله ذات يوم:

_ لم كل هذا الولع بقراءة الجرائد أمام الدكان حتى في الأيام الباردة؟

_إن الأمر سهلا للغاية سيد الناصر. تخيل حضرتك أني لا أقرأ الصحف، فهل لي شغل آخر أفعله، ووقت الفراغ عندي كثير؟

صمت قليلا، ثم واصل حديثه بعد أن شردت عيناه نحو البناية المقابلة:

_ أنت تعرف أن للجرائد لغة سهلة، ومواضيع متنوعة لا تسبب الضجر، وكما تعرف، أنا غادرت المدرسة مبكرا.

_ إن مدمني قراءة الصحف هم أكثر الناس تبلدا في الذهن وسطحية في الثقافة، أليس كذلك؟

لم يجبه على سؤاله، ربما لأنه لم يفهمه، بل أخذ يبرر مسألة جلوسه أمام الدكان:

_ انه سلوك تعودت عليه نتيجة ما فعله معي المرحوم.

_ والدك؟

_ لا، أخي الأكبر رحمه الله. كان يتلذذ بتعذيبي كلما سنحت له الفرصة. بدون سبب، كان يخنقني بيديه حتى تعم الزرقة كامل وجهي، وتبرز عيناي، فيتركني لحظة لأسترد أنفاسي، ثم يعيد الكرة من جديد. وفي الأخير يرميني في الغرفة ويغلق الباب ثم ينصرف. وها أنا كما ترى، لا أطيق الدكاكين و ظلماتها الخانقة.

رفع المعلم رأسه نحو العصفور المحبوس في قفص ضيق، فوجده يدس رأسه في كأس الماء مستحما، ثم يرفعه منتفضا، فتتطاير قطرات الماء في كل مكان، وتستقر على وجه المعلم المشتعل حمى، فتشعره ببرودة لذيذة ومنعشة. وعاد يتذكر قصة صاحب المطعم وشقيقة الحلاق. ظلت الفتاة تتمكن شيئا فشيئا من قلب الرجل، وبدأ هو يهيم بحبها دون أن ينبس أحدهما للآخر ببنت شفة. قال المعلم في نفسه: "النظرة أبلغ من ألف كلمة". غير أن النظرة لم تعد قادرة أن تروي ظمأ صاحب المطعم، وبدأ يفكر في الحديث معها والاعتراف أمامها بمنزلتها عنده، لكنه لم يجد سبيلا إلى ذلك. اهتدى في النهاية إلى فكرة ذهبية: يكتب لها رسالة. وعلى الفور اقتطع ورقة من دفتر الحسابات، وخط لها كلمات قليلة، صادقة وحارقة: "أحبك جميلة كما لا أحب في البلد أحد. و إن لم تجيبي حبي فسأذهب إلى جبل سيدي الخطوي وانتحر". ثم سلمها إلى الفتى الذي يشتغل عنده، فطار بها كالبرق، بينما مكث هو في زاوية من الدكان يراجع ما كتب. كان خائفا من أن يكون قد أساء الكتابة، وأخطأ العبارة لعلمه بأن الفتاة تفوقه في عدد سنوات الدراسة، و قادرة على اكتشاف ضحالة مستواه. لكنه عثر على العبارة التي أطربته وجعلته يشعر كأنه شاعر حقيقي: "إن لم تجيبي حبي".

وتعذب بعد ذلك طيلة أسبوع، مر عليه كالقرن من الزمان، كان يعد خلاله ثوانيه، ودقائقه، وساعاته، وأيامه، ولياليه، وهو يتلظى بنار ما عرفها من قبل قط. في نهاية الأسبوع بلغه ردها: "أنتم الرجال تعذبوننا بكلماتكم الجميلة والفصيحة التي تعبر عما نعجز عنه نحن". أرقته هذه الكلمات مدة طويلة لأن الفتاة لم تعترف له بشيء غير تعذيبها، وتركته، كما صرح هو أمام المعلم، "معلقا بين السماء والأرض".

لا يزال الطير يغرد و ينتفض في قفصه فوق المعلم الذي قفز إلى رأسه سؤالا مهما: "ماذا يقول هذا الناطق الغريب يا ترى؟"، وكأنه اكتشف لأول مرة شدو العصافير. لكن الطير توقف فجأة عن الحركة وعن الشدو، ربما يريد صرف نظر المعلم عن هذا الأمر. فعاد هذا الأخير بسرعة عبر ذاكرته، التي تيقظت بعد خمول السنين، يطوي فترة ثلاثين سنة خلت ليتابع قصة عشق صاحب المطعم.

لقد وقع للمسكين ما كان يخشاه ويجتهد في تجنبه، ألا وهو بلوغ خبر حبه إلى الحلاق، شقيق جميلة، المعروف بسلاطة لسانه وتبلد أحاسيسه، ومكره الدائم، وحبه للغطرسة. فاجأه مساء ذات يوم في الدكان وهو يعج بالزبائن، وأطلق عليه وابلا من أبشع الشتائم، قال بعضهم أنها بلغت نحو خمسين شتيمة، لم يتذكر منها صاحب المطعم إلا خمسة نعوت، كلها مؤنثة: الضفدعة المنتفخة، والقطة المجنونة، والنعجة الجرباء، والدجاجة العمياء، والحشرة الضارة.

كان المعلم يتذكر هذه الأحداث دون أن تفارق عيناه قطته شديدة البياض كقطعة الثلج، التي جثمت أمامه تغط في نومها مستمتعة بدفء شمس الربيع. للقطة أعين خضر غاية في الجمال، كلما فتحتهم بين الآونة والأخرى التقت بعيني المعلم، فتغمضهم من جديد، ربما خفرا، وتعود إلى أحلامها الذهبية غير مبالية بالزمان والمكان. لأول مرة ينتبه المعلم إليها ويسأل نفسه: "هل هي الآن تفكر، أم تحلم، أم تتذكر مسيرة ثمانية أشهر طويلة من عمرها، أم لا هذا ولا ذاك؟". حركت القطة أذنيها، وماءت مواء خفيفا دون أن تفتح عينيها بسبب قطرات الماء التي عاد الطير يرسلها من قفصه. فخيل للمعلم أنها فهمت سؤاله وأجابته بشيء لم يفهمه.

تذكر بعد ذلك أن عليه أن يتناول دواءه قبل الأكل، وقد حذره الطبيب من التهاون في احترام مواعيد الأدوية. وقبل أن ينادي زوجته لتجلب إليه كيس الأدوية، حملته ذاكرته من قطته وطبيبه إلى طبيب البلدة التي غادرها منذ ثلاثين سنة. عندما حل الطبيب لأول مرة بتلك البلدة، قيل عنه أنه متخرج من الجامعات الأجنبية، وكان أول من استقبله وسهل إقامته هو الحلاق، الذي اعتاد تلقف الوافدين الجدد على البلدة من أول يوم، وخاصة إذا كانوا أصحاب مال وجاه. قدم الطبيب للناس صورة جميلة عن نفسه، وتحدث لهم عن علمه فأطنب، وعن تواضعه وبساطته فأكثر. تذكر المعلم، بينما كان ينتظر دوره للحلاقة، ما قاله الحلاق في الطبيب:

_ انه ماهرا جدا.

سأل أحدهم:

_ من هو؟

_ عجبا! الطبيب طبعا. لقد درس بالخارج وتعلم الطب كله.

فرد شخص آخر:

_ كلام مدارس. ومتى كانت المدارس أقدر على المداواة؟

احمر وجه الحلاق وقال مزمجرا وهو يرفع المقص في الفضاء:

_ الجهل... كل الجهل هنا. هل مازلت تثق في دواء الأعشاب والحشائش؟ الطب الآن يداوي الجنين في بطن أمه.

حرك المعلم رأسه من مكانه في الشرفة متأسفا على عجز الأطباء عن فهم سبب مرضه حتى ذلك الوقت، و أدهشته ثقة الحلاق المطلقة في الطب، ثقة هم أنفسهم لا يدعونها. ثم استنتج أن ذلك الحلاق مناسب جدا لأن يكون خطيبا سياسيا، أو ساحرا ماهرا، أو حتى دجالا ومشعوذا يجوب القرى والأرياف.

على كل حال، لم يتأخر سخاء الطبيب مع الحلاق، إذ اعترف له بالجميل مؤكدا: "سيدي، أنت رجل طيب جدا، ولك عندي مجانية العلاج، أنت وعائلتك ما حييت". وعندما لاحظ غبطة صاحبه، زاد في عطائه وكرمه:

_ وسوف لن أحلق شعري إلا في دكانك وبضعف الثمن العادي، رغم ما ترى.

ومسح بكف يده على صلعته، فرفع الحلاق رأسه، فلم يعثر إلا على شعيرات قليلة متناثرة هنا وهناك على رأس الطبيب، فتنهد وهو يهمس: "كل صلع الدنيا أثرياء إلا أبي رحمه الله".

ألقى المعلم ببعض الأقراص في كأس الماء، وانتظر قليلا قبل أن يسكبه في فمه، ضاغطا فكيه من شدة المرارة. وحين استقر الدواء في معدته سأل حبيبة زوجته دون أن يلتفت إليها:

_ حبيبة، هل تحسبين أن الدواء يمنع الموت؟

_ بل قل هو يخفف الآلام ويساعد على استعادة الصحة الجيدة.

_ يعني أنه يؤجل الموت ليس إلا.

اضطربت حبيبة وصرخت:

_ كفاك حديثا عن الموت، يا رجل. ليس دائما يموت المريض قبل طبيبه. وما الموت في النهاية إلا مصير كل الكائنات، ونحن كائنات، فنحن ميتين إذا.

_ تقصدين أن الأعمار بيد الله محددة سلفا؟

_ نعم.

_ هل الله قتل إذن آلاف البشر في هيروشيما، وفي الحرب العالمية الأولى والثانية؟ هل الله قتل آلاف العراقيين والسوريين؟ أم قتلهم إخوانهم البشر، والله برئ من دمهم؟

لاذ الجميع بالصمت، بينما عاد الناصر إلى الماضي البعيد، مستحضرا لحظات تكررت طيلة حياته، شغلت كل طفولته، وجزء كبير من شبابه، أنها لحظات التفكير في الموت. تذكر كيف كان يستلقي على ظهره، وهو صبي، فوق عشب الربيع الأخضر، وسط أزهاره الجميلة، ونحله الصاخب، وفراشه الزاهي يتأمل عمق السماء. يفكر في الله، فيتخيله جالسا على عرشه يراقب الناس... ثم يتحول خياله من الله والسماء إلى الأرض والناس، فيشعر بانقباض نفسه الصغيرة وهو يفكر في الموت. وأشد ما يفزعه هو عندما يفكر في موت أمه، فيحزن لفراقها حزنا شديدا، دون أن تفارقه فعلا، لأنها ستتركه في غربة أبدية في هذا الوجود الواسع والأصم. يظل يفكر في هذا المشهد حتى ينتهي به إلى النحيب بصمت، فلا يرى غير تقاطر دموع صغيرة من عينين بريئتين.

عندما صار شابا، استبدل التفكير في موت أمه بموته هو: كيف سيموت، ومتى، والأهم كيف ستتلقى أمه خبر وفاته، فيرق قلبه على أمه المسكينة وقد نكبت في فلذة كبدها. وفجأة تذكر الناصر ما كان يقوله صاحب المطعم حول الموت والحب، وهو يجدد علاقته بجميلة: "إن الموت يفني كل الكائنات، إلا الحب". عاد يتأمل أطوار هذه القصة التي صارت على ألسنة صغار البلدة وكبارها. بعد أن انقطعت الرسائل بينهما لمدة طويلة اثر خصامه مع الحلاق، جادت عليه الفتاة بوريقة نزلت عليه كنزول الغيث من السماء. كان ذلك ليلة عيد الفطر، ومع الرسالة بعثت له ساعة مذهبة من ايطاليا. لا توجد في تلك الوريقة غير جملتين: "عيد جميل يا سعيد"، ثم أضافت باللون الأحمر: "متى يحين العيد... يا سعيد". كان صاحب المطعم يقرأ هذه الكلمات ثم يعيد قراءتها غير مصدق. أحس بشعور غريب، مزيج من الفرحة والأمل والخوف، وأحس بأنه صار أسعد أبناء البلدة بحلاقها وجزارها وطبيبها ومعلمها وعمدتها. عاد يقرأ الرسالة من جديد، فتخيل جميلة تكتب تلك الكلمات في كثير من الحياء والخجل، فصرخ بصوت عال:

_ أرجوك لا تخجلي، وقوليها دون لف ودوران: "أحبك".

فرد عليه البناء وهو يدخل الدكان وقد سمع هذه العبارة الأخيرة فقط:

_ شكرا سعيد، وأنا أيضا أحبك.

كان البناء كثيرا ما يقضي جزءا من أمسياته بجانب سعيد في دكانه قبل أن يلتحق بالمقهى. شخصية سعيد المرحة كانت تروق كثيرا للبناء، خاصة وأنه كان يروي له كل الطرائف التي قرأها في الجرائد صباحا. زاره ذات يوم على غير عادته في الصباح، فوجده منهمكا في قراءة الجريدة، بينما كانت الفتاة تذهب وتجيء بمكنستها أمام منزلها، لا تترك حصاة ولا ورقة خريف... إلا جمعتها ثم ألقتها في القمامة. بادره البناء بالحديث:

_ أنه يوم جميل تحلو فيه مطالعة الصحف!

تبسم سعيد، ورد المجاملة و نظراته لا تفارق الفتاة:

_ والأجمل أن لا يطول غياب البناء عني!

مر البناء إلى داخل المطعم، تاركا الفرصة لسعيد ليتمتع بمشاهدة جميلة في الخارج. ثم راح يرفع الغطاء عن كل قدر وهو يغلي ليرى ما يحويه وليغذي معدته برائحة اللحم الذي لا يأكله إلا مرة في السنة.

كل الذين تناولوا الغداء عند سعيد ذلك اليوم أصابهم جريان شديد للجوف، وقضى البعض منهم ليلتهم في المستشفى. كما وقعت طرائف مضحكة للبعض الآخر، تناقلتها أفواه الناس من شمال البلدة إلى جنوبها لعدة سنوات. روت فاطمة ابنة الحوات إلى المعلم أن زوجها أدركه الجريان قبل وصوله إلى البيت، فاختار أن يتحمل الآلام الشديدة على أن يفرغ ما ببطنه تحت الحائط. لكنه رسم مرغما خطا طويلا بسوائل بطنه من المقهى حتى بيته المطلة على جبل سيدي الخطوي.

أحس المعلم وهو يتذكر تلك الحادثة بشيء من الضغط في أمعائه، فخشي أن يحدث له ما حل بزوج فاطمة. لقد رأى المعلم بأم عينيه كيف كان الحلاق يركض من بيت إلى آخر، محرضا العائلات على تقديم شكوى بسعيد، وتحميله مصاريف العلاج، وغلق دكانه إلى الأبد، معلقا: "حتى يعرف أن الحلاق بأسه لا يطاق".

ولكي لا يصل الأمر إلى المحاكم، اضطر صاحب المطعم إلى التكفل ببعض مصاريف العلاج، فباع جزء كبير من أثاث بيته كالتلفاز والسرير وخزانة الأثاث... كانت أمه العجوز تبكي محتارة وتقول:

_يا ويلي! كيف سأشاهد مسلسل جيبان وونيس؟

كانت تقصد مسلسل "الحمائم الطليقة" وبطلاه جيهان وأنيس.

التفت المعلم إلى زوجته وهي تطرز بساطا بين يديها، وسألها:

_ أتذكرين حادثة الجريان في البلدة؟

_ وكيف لا؟

_ وهل تعرفين من السبب في ذلك؟

_ صاحب المطعم، دون ريب.

_ بل البناء. ذلك الشخص الذي كان الجميع يعده صديقا حميما لسعيد.

_ أبدا. لا أصدق ذلك.

_ إن الحلاق هو الذي دفعه لارتكاب تلك الحادثة الشنيعة.

_ نعم، معروف أن الحلاق لا يحب أحد، ويكن كل العداوة لسعيد. ولكن كيف استطاع ذلك؟

_ تسلم أقراصا قوية جدا من الطبيب وكلف البناء بإتمام المهمة.

كانت حبيبة لا تنفك عن التطريز، مستعملة ألوانا زاهية من الخيط المذهب، فبدا عملها كأنه لوحة رسام قدير. كانت خلال الخمس سنوات الأخير من عمر المعلم لا تفعل شيئا آخر غير طرز بساط تعده لابنها، أغلى شخص في حياتها، وتنوي أن تسلمه له في أول يوم تلتقي به بعد الغياب الطويل وعذاب الفرقة.

لا يزال المعلم يذكر بكثير من الرضا والفخر وقوفه إلى جانب صاحب المطعم أثناء محنته. كان لا يمر أمام دكانه حتى يستوقفه ويبثه شكواه، و يخفف عن نفسه وطأة المؤامرة. خاب أمله في الجميع ولم يبق له إلا صديق وحيد. كان غالبا ما يردد: "لقد فقدت الثقة في كل البشر... ولم يبق لي غير المعلم، واني لأراه والله أصدق الناس".

دعا سعيد ذات يوم المعلم إلى بيته ليرى عن قرب الحالة التي أصبح يعيش فيها هو وأمه. كان سعيد يتنقل بين الغرف والمعلم يتبعه من خلف صامتين، وبين الآونة والأخرى يشير بإصبعه متنهدا إلى مكان أحد الأثاث الذي باعه: "هنا كان التلفاز... وهنا كان السرير...". أما العجوز فقد كانت تتبع الاثنين دامعة ولسان حالها يقول: "أرأيت ما حل بنا سيدي المعلم!"

عندما خرجا من بيت البناء قصدا المقهى وواصل سعيد يشكو للمعلم سوء حاله وحال العجوز، مؤكدا أنه صار يشعر بغربة لا توصف في بلده، بعد أن تخلى عنه الجميع. تذكر الناصر أن عبارة "غربة" وجدت صدى في نفسه، فأسر هو بدوره إلى البناء بشيء لم يحدث به أحدا من قبل:

_ لا يمكنك أن تتخيل الشعور العجيب بالغربة التي تنتابني أحيانا وأنا داخل القسم.

_ عن أي غربة تتحدث سيد الناصر؟

_ غربتي تتمثل في أني شخص كبير أقضي جزء هام من حياتي بين أشخاص صغار، أختلف معهم في كل شيء، ولا يجمع بيننا إلا وجودنا في مكان واحد: الفصل، لأنه يفصل بيننا، أو القسم، لأنه يقسمنا... أراهم يلعبون ويمزحون ويطاردون بعضهم بعضا، ويتبادلون الضحكات، واللكمات، والأسرار، والحكايات...، بينما أظل أنا بينهم باهتا كالأحمق دون القدرة على التواصل معهم.

حك البناء رأسه بأطراف أصابعه باحثا عن حل لغربة المعلم، ثم صرخ بصوته المبحوح:

_ آه! لقد وجدتها. الأمر بسيط سيد الناصر. حاول أن تشاركهم في حديثهم ولهوهم وحتى عبثهم. صارحهم ببعض همومك، فقد يكسب ذلك ودهم فيحبونك ويتخذونك صديقا لهم.

أرسل المعلم زفرة طويلة قائلا:

_ أجل، لقد جربت ذلك في بعض المناسبات، فتضاعفت غربتي، فعلمت أن التلاميذ لا يقبلون المعلم بغير صفته تلك. إما أن تكون معلما أو صديقا، أما الاثنين فمستحيل.

 

2

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا حين شعر المعلم ببعض التعب، فعاد إلى فراشه مستندا إلى حبيبة، وهو يتأوه مع كل خطوة يخطوها. هناك رمى بجسده المنهك ولا يدري هل سيكتب له النهوض مرة أخرى أم لا. تمدد بحذر على فراشه بعد أن تناول أقراصا أخرى من الأدوية. ثم تذكر طبيب البلدة، صديق الحلاق. كان هذا الأخير رجلا ضعيف البنية وكثير المرض، إذ كان يقضي أغلب فصل الشتاء وجزء كبير من فصل الربيع يقاسي من الزكام والصداع وآلام الحلق وضيق التنفس...إلى أن حل الطبيب بالبلدة، ووعده بالعلاج المجاني. ومنذ ذلك الوقت لم ينقطع عن زيارة عيادته دون موعد.

عندما زاره في إحدى المرات، لم يجد منه المعاملة المعهودة. تنكر الطبيب إلى صداقته، حتى أنه لم يصافحه، وطلب منه دفع أجرة الفحص لتلك المرة، وللمرات السابقة أيضا. ولما رفض الحلاق، دفعه خارج العيادة، وأغلق في وجهه الباب. لم ينم الحلاق تلك الليلة من شدة الحسرة والغيظ والإهانة التي تلقاها من صديقه القديم الطبيب.

نام المعلم تلك الليلة نوما هادئا وعميقا، ورأى في البداية أحلاما غاية في السعادة. رأى نفسه يتجول وسط بستان مترامي الأطراف، فيه من الأشجار المثمرة ما لم يره في اليقظة، ومن الطيور المغردة والفراش الأنيق والجداول الجارية ما لم يخطر بباله قط. ثم رأى نفسه يصير شابا في ريعان الفتوة، جالسا في ظل الأشجار، منشدا شعرا رقيقا. وفجأة أطلت عليه من وراء شجرة التفاح فتاة ذات جمال ساحر، ولوحت إليه بكفين مخضبتين بالحناء كعروس ملائكي. أقبلا على بعضيهما، ومسكها من يديها الناعمتين وسارا معا راقصين على أنغام جوقة من طيور البلبل، والخضار، والشحرور، والعندليب...، وأحس بسعادة لا توصف وهو يستمع إلى صوت قريب منه يفصح له عن سر ما رأى: "لا تنصرف، فأنت في حضرة موكب الجمال".

دام المشهد وقتا غير قادر على تحديده، حتى بدأت الطيور المغردة بالفرار إلى أن اختفت جميعها، وانسابت الفتاة من بين يديه كقطعة ثلج تحت لهيب الشمس. ثم رأى بعد ذلك كأن ملامحه الجميلة بدأت تتحول إلى بشاعة مفرطة، فشعر بأن رعب مهول بدأ يتملكه. وفي تلك اللحظة سمع ضجيجا، سرعان ما تحول إلى دوي يهز الطرف الآخر من البستان، و لما التفت، رأى الأشجار ترتعد، ثم تهوي متكسرة بما فيها من ثمار، والعشب الأخضر والأزهار يجتاحها الاصفرار ثم الذبول والجفاف. بدأ دمار شامل يجتاح البستان ويتقدم نحوه شيئا فشيا، ليطوقه من كل الجهات. ثم شاهد النيران تشتعل في أنحاء المكان، محدثة ضجيجا رهيبا وهي تلتهم كل ما اعترض طريقها. وفكر المعلم في أمر مستحيل: الهروب قبل أن تصل إليه النيران، لكنه أحس كأن الأرض قد صفدت ساقيه بالحديد، وكتبت عليه أن يحرق واقفا. وعندما لم يبق بينه وبين الدمار إلا بضع أمتار، أطلق صرخة مروعة جعلته يبدأ في الارتفاع إلى السماء وهو يبكي.

استفاق على مواء القطة وهي تخدش باب الغرفة بأظافرها، وتلطمه بساقيها، محاولة فتحه لتفلت إلى الحديقة. وجد نفسه منهكا جدا، وأحس بصداع شديد في رأسه، وجفاف في حلقه وشفتيه، فمد يده المرتجفة إلى قارورة الماء، وسكب كأسا باردا دفعة واحدة. لكن القطة لم تكف عن الحركة والمواء، وكانت تهرول نحو فراشه تارة، ونحو الباب أخرى، كأنها تستنجد به للخروج من ظلمة الغرفة إلى نور الحديقة وهوائها. أجهد الناصر نفسه ونزل من فراشه بعناء شديد، وسار مستعينا بالحائط حتى بلغ الباب ففتحه. غير أن القطة عدلت عن الخروج، وعادت تداعب ساقيه. رجع المعلم إلى فراشه، واندس تحت الغطاء، منكمشا، ودافعا برأسه بين ركبتيه وقد تملكه حزن لا يوصف. فكر في الحلم الذي رآه واستنتج شيئا واحدا: "لقد دقت ساعة سفر طويل، لا عودة بعده".

كانت من عادة حبيبة النهوض باكرة منذ أن كانوا في البلدة. في ذلك اليوم نهضت مبكرة أيضا، فتضرعت لخالقها دامعة، ثم انشغلت بطرز بساطها. لكنها تذكرت فجأة، فانطلقت إلى غرفة زوجها تتفقده وهي تمشي على أطراف أصابعها لكي لا توقظه، فبادرها قائلا:

_ حبيبة!

دنت منه وسألته عن حاله. فلم يطلب شيئا غير الدواء.

بدأت تشتد به الآلام: صداع في الرأس، وحمى في كامل الجسد، وانزعاج شديد في أعماق نفسه. أعانته حبيبة على الاستناد إلى ظهر السرير، وفتحت النافذة ليرى كيف ينبلج الصباح الجديد. تناول قهوة، ثم اتبعها بأقراص الدواء، وهو مقل في الحديث، ومتضايق من كل ما حوله. أرسل نظراته إلى أنحاء الغرفة يتصفحها، متنقلا ببطء من المدفأة، إلى الطاولة الصغيرة، إلى الحذاء المقلوب تحت الكرسي، إلى الجدار الذي بدأ يتغير لونه يسبب الرطوبة. وفجأة توقف بصره في ناحية من الغرفة، وتأمل جيدا صورة الفتى معلقة في زاوية. نسي المعلم كل ما حوله، وركز اهتمامه على الصورة، فخيل إليه أن نظرات الطفل الجميلة تلاحقه دون انقطاع، وكأنها تريد محادثته: "كيف حالك يا أبي؟"، "أنت علمتني الإقدام، والوفاء، ووفرت لي الأمن"، "لقد مللت من الغربة خارج الحدود وفراق الأحباب".

هم بالنزول، ووضع كرسي ليصعد إلى الصورة فيحتضنها، ثم يقبلها طويلا، ثم يعيدها إلى مكانها، لكنه لم يستطع. فعاد إلى ماضيه باحثا عن لحظة سعادة يتسلى بها، ويخفف عن نفسه المكتئبة بعضا من هموم الحاضر. لكنه لم يعثر إلا على ذكريات تزيد في آلامه: تذكر أنه، بالإضافة إلى السند المعنوي الذي قدمه إلى صاحب المطعم يوم خذله الجميع، أقرضه من المال ما يسد به رمقه، ويعيد له بعضا من ماء الوجه أمام القرويين. غير أن سعيد، بعد وفاة ابن عمه، انفرجت كربته، بعد أن باع قطعة الأرض التي طالما نازعه عنها، ورفض إعادة المال الذي استعاره من المعلم، قائلا:

_ عن أي مال تتحدث؟

_ أراك قد نسيت بسرعة، وأنت صاحب الذاكرة القوية، أليس كذلك؟

أطلق سعيد ضحكة طويلة، وصفق بيديه مندهشا وهو يقول:

_ أنا؟ ألا يبدو لك من غرابة الدهر أن أحتاج أنا صاحب المطعم إلى المعلم صاحب الكتب؟

لم يزل يتذكر المعلم انصرافه دون أن ينبس بكلمة أمام ذلك الجواب الجحود. في الحقيقة لم يغتظ لفقدان مال يجمع لينفق، وينفق ليجمع من جديد، بل لخيبة أمله في شخص اطمأن إليه، ووثق به، وبالنسبة إليه "لا يوجد في الدنيا أبشع من شخص خائن".

حاول أن يكف عن التفكير في الماضي حتى لا يزيد نفسه إرهاقا، وأخير نظر إلى القطة التي كانت تمكث أمامه محدقة فيه بعينيها الجميلتين، وناداها: "ميمي...". فقفزت القطة وجاءته مسرعة، فحملها بين يديه، وأخذ يمسح على رأسها الصغير بيديه المرتعشتين، فأغمضت عينيها وشرعت في الغطيط. فتساءل المعلم قائلا: "ويحي من هذه اليتيمة، ترى هل هي الآن تشكرني بغطيطها أم تذمني؟"، إلى أن تذكر ما سمعه من جدته حول القطط: تقول القطة في غطيطها: "لما كانت أمي وكان أبي، كنت آكل اللحم، ولما ماتت أمي ومات أبي، صرت آكل العظم".

أطلق القطة وأسند ظهره من جديد إلى ظهر السرير، وسرح به الخيال مرة أخرى إلى البلدة، ليتذكر أحداثا مر عليها أكثر من نصف قرن من الزمان. العداوة التي وجدت بين صاحب المطعم والحلاق لا يستطيع نسيانها. تذكر أنه مر ذات يوم بصاحب المطعم، فوجد الدكان يغص بالناس، ووجده هو يقص البصل والعينان تنهمران دموعا. قال سعيد معلقا على كره الحلاق له:

_ في نظري، الحلاقين هم أبشع الناس منظرا، رغم عنايتهم المفرطة بهيأتهم.

فقال أحدهم متداركا:

_ ولكنهم من أغنى الناس أيضا.

_ سترى كيف سيعانون من البطالة عاجلا أم آجلا.

احتج آخر وقد كف عن الأكل:

_ قد تنتهي كل الحرف في المستقبل، إلا حرفة قص الشعر وحرفة قص العنق.

لم يفهم صاحب المطعم ما المقصود بحرفة قص العنق، فاكتفي بالتعليق على مهنة الحلاقين:

_ خذ عندك... سأبشرك بخبر مفرح . لقد غزت النساء هذه المهنة، والمدينة تعج الآن بدكاكين فخمة كتب على واجهتها بالأحرف الكبيرة: "حلاقة للرجال".

_ حلاقة للرجال!؟

_ نعم، ومن منا لا يريد أن يلقي برأسه وذقنه بين أنامل رقيقة وحسناء طيلة ساعة أو ساعتين؟

_ ومن أين لك هذه الأخبار؟

_ انك أبله، أحمق، غبي... أنا أقرأ الجريدة كل يوم من أول سطر إلى آخر حرف.

واصل سعيد حديثه وهو يمسح الدمع ويلقي بالبصل في الزيت، قال:

_ وسترى كيف ستغص دكاكينهن بالشباب والكهول وحتى الشيوخ... وسيموت الحلاق جوعا...

وأطلق شدقيه العريضين للضحك.

في منتصف النهار، أعدت حبيبة طعاما شهيا وساعدت المعلم على الجلوس إلى طاولة الطعام وقالت وهي تثير شهيته:

_ انه كسكي لذيذ بالضأن واللبن، أكلتك المفضلة في رمضان.

لم يكن يشعر الناصر برغبة في الأكل أبدا، رغم أنه لم يتناول إلا فنجان قهوة منذ الصباح. لكنه أخذ الملعقة استجابة لرغبة زوجته، وقبل أن يشرع في الأكل، ذكرته كلمة رمضان بجو الشهر الكريم في البلدة. للمساء في شهر رمضان هناك مذاق خاص. كان يخرج كل القرويون في المساء إلى الطرقات و الساحات، يتجولون بين دكان الجزار، وبائع الخضر والغلال، والفرن، وبائع الألبان... ويكثر الضجيج والحركة، والبيع والشراء، وأحينا تنشب الخصومات بين البعض. كان أشد الناس خصومة وأسلطهم لسانا في ذلك الشهر هو الحلاق. أما النسوة فكن يهرعن إلى المطابخ ويشرعن في إعداد ما لذ وطاب من أكلات قروية دسمة ولذيذة. كانت الفرحة تعم الجميع في كامل البلدة، باستثناء شخص واحد يظل قلقا ومكفهرا إلى العيد، انه صاحب المطعم الذي يضطر إلى غلق دكانه شهرا كاملا.

تذكر المعلم أن الحلاق انتظر ذات مرة قدوم رمضان بفارغ الصبر لينتقم من الطبيب. أسر إلى الجزار بأن الطبيب يبحث عن مكان آخر أفضل من مكانه الحالي لأنه منعزل بعض الشيء عن حركة القرويين. ثم أضاف:

_ انه يسعى بكل الوسائل لإغلاق دكانك، ليحل هو محلك، كلفه ذلك ما كلفه.

أخذ الجزار الأمر بجد، وشكر الحلاق على إعلامه بالأمر، وقرر ردع الطبيب ولجم غطرسته.

في مساء ذلك اليوم، توقفت سيارة الطبيب الفاخرة أمام محل الجزار، ونزل منها صاحبها ممسكا بنظاراته بيد، والمفاتيح بأخرى ودخل المحل. تنحى بعض الزبائن جانبا ليفسحوا له المجال، فسلم ثم ظل ردحا من الزمن يتأمل قطع اللحم المعلقة فوق رأسه، ثم أشار على الجزار بأن يقص له رطلين من الكتف. ما إن هوى هذا الأخير بساطوره على قطعة اللحم، حتى استدرك الطبيب معتذرا، وطلب منه أن يقص له شيئا من الفخذ. كان الجزار يعمل صامتا، ولكن حركاته كانت عصبية جدا. ما كاد ينتهي من قص الفخذ، حتى اعتذر الطبيب مشيرا عليه بقطعة أخرى أقل شحوما. حينها رمى الجزار اللحم جانبا، وأغلظ اليمين بأنه لن يبيع له غراما واحدا، ولو قدم له أموال الدنيا كلها، ثم أضاف مزمجرا:

_ أنا لا أملك بضاعة خاصة بالأطباء، وأخرى بالحلاقين، وأخرى بالبنائين... إن الجزار يبيع اللحم دون أن ينظر إلى الوجوه.

غادر الطبيب دكان الجزار مغتاظا والشرر يتطاير من عينيه، وقبل أن يصعد السيارة استوقفه البناء مستفسرا عن سبب غضبه، فحمله معه إلى بيته، وحدثه عن كل ما وقع له مع الجزار. ودون أن يطلب منه شيئا، تطوع البناء بمعاقبة الجزار قائلا:

_ دعه لي دكتور...

شكره هذا الأخير ووعده بالعلاج المجاني عنده هو ووالدته إلى الممات.

في صبيحة اليوم الموالي، امتطى البناء الحافلة وذهب إلى البلدية مزمجرا ومحتجا على تقصيرها في مراقبة النظافة لدى تجار البلدة، مدعيا أنه كاد يهلك في اليوم السابق بسبب اللحم الفاسد الذي يبيعه الجزار. كان يتنقل من مكتب إلى آخر، صاخبا وشاهرا في وجوه الأعوان ورقة إثبات إصابته، ممضاة من طرف الطبيب. ونتيجة لشكوى البناء، سحبت مساء ذلك اليوم كل كميات اللحم، وحملت إلى مخبر المدينة لتحليلها، وأغلق دكان الجزار مؤقتا في انتظار نتائج التحاليل.

كان المعلم يأكل نزا ويفكر كثيرا، حتى أن معدته لم تحصل طيلة أسبوع على رطل من الطعام، أغلبه عقاقير ومساحيق... أخذ يحاول تناول الطعام ببطء شديد، ولكنه لم يجد رغبة في ذلك، فاكتفي بقطعة اللحم، و لما هم برفعها، تذكر مأساة جزار البلدة وهو يرابط أمام دكانه الفارغ من البضاعة لمدة ثلاثة أيام كاملة. كان كئيبا وخائفا على مصير دكانه الذي يعيل خمسة أبناء، وكان يقول للناس أنه متأكد من سلامة بضاعته، فيرد عليه الحلاق متهكما:

_ ولم الخوف إذا؟

_ إني أخشى من الدسائس.

من حسن حظه أن أرجع إليه اللحم مصحوبا بشهادة سلامته، فدبت حياة جديدة في الدكان، وسارع إلى تغيير لون دهنه من الأصفر، الذي قال عنه بأنه يجلب الذباب والأحقاد، إلى الأخضر، رمز الخصوبة والهدوء. ثم كتب باللون الأحمر وبالأحرف الغليظة في أعلى المحل: "مجزرة الأحباب"، ووضع شهادة سلامة البضاعة في إطار زجاجي، وعلقها في المدخل بعد أن كتب بجانبها باللون الأسود: "كذب الأطباء والبناءون ولو صدقوا".

استند الناصر إلى حبيبة التي صاحبته حتى الفراش، وجسمه يشتعل من الحمى. استلقى هناك، وانحنت زوجته تفرك رأسه بماء الزهر. فتذكر شعره عندما كان شابا: كان ناعم وشديد السواد مثل حاجبيه، كما كان طويلا في أغلب الأحيان، لأنه كان نادرا ما يحلقه حتى يتجنب الالتقاء بالحلاق في دكانه. وتذكر ما وقع له ذات يوم عندما كان ينتظر دوره في دكانه. قال الحلاق وهو يقص شارب أحد الزبائن متوجها إليه:

_ ما أحلى راحة الصيف وما أطولها سيد المعلم!

_ ليست طويلة كما يتخيل البعض. ولكنها فعلا ممتعة، لو يتركنا بعض الناس نتمتع بها.

قال الحلاق متوجها للجميع وهو يضحك، نافضا الشعر عن وجه الزبون:

_ أنهم كالنمل، لا يعملون إلا بضع أشهر في السنة، والبقية... يسمونها بلغة المدارس عطلة.

تظاهر المعلم بقراءة الجريدة، مما شجع الحلاق على التمادي في هجومه على المعلمين:

_ حقا الأطفال لا يستطيعون الدراسة في حر الصيف، أما المعلمين يستطيعون ذلك. فلم لا يشتغلون كبقية الناس؟

وقبل أن يتمكن أحد من الرد، قال البناء وهو يدخل الدكان قبل أن يسلم:

_ ألم أقل لك أنك أغبى الحلاقين؟ أي شغل يستطيع القيام به المعلمون؟

_ أنت لا تفهم شيئا آخر غير البناء أيها الجاهل... عليهم أن يريحوا عقولهم المرهقة بالتفكير بإتعاب أجسادهم المرتاحة من الجلوس على الكراسي.

رد البناء متهكما وهو يشعل سيجارة، مشيرا إلى المعلم بعود الكبريت كأنه يريد حرقه:

_ هب أن مئة معلم يشتغلون في ضيعة أو في مقاولات بناء في حر الصيف، سوف لن ينتجوا إلا الكلام والنقد والتحليل والنقاش...، وخاصة إذا كان المسئول عنهم مدير مدرسة.

كان كل الحرفاء يضحكون مصوبين نظرهم نحو المعلم كأنهم يطلبون منه أجوبة دقيقة.

علق المعلم باقتضاب على أقوال الحلاق:

_ إن هذا الذي يتحدث عن المعلمين ويتهمهم، هرب من المدرسة في أول يوم وطأتها قدماه.

أحس الحلاق بنوع من الإهانة، فقرر مهاجمة المعلم مباشرة:

_ إن أطفالنا خدم عند هذا المعلم: هذا يحمل الكراسات إلى بيته، والآخر يأتيه بالقهوة، وثالث يكنس القسم، ورابع ينظف الطاولة... بينما أبناؤه يحتلون المقاعد والمراتب الأولى دائما كأنهم ملوك. أغلب أدواتهم مما ينساه أبنائنا في القسم، أو يفتكه هو نفسه منهم، عقابا لهم على عدم إعداد دروسهم.

عندما نفد صبر المعلم مما سماه "استهتار الحلاق ومن دناءته"، وسط سخرية الحاضرين، وثب من كرسيه مزمجرا وهو يقول:

_ اليوم سأفضحك على الملأ... هذا السافل هو الذي وضع الدواء في طعام الناس وكاد يفتك بعدد كبير منهم.

ثم قذف بالجريدة في وجهه، فتنحى الحلاق جانبا وأصابت أحد الحرفاء الذي زمجر بكلمات غير مفهومة. ثارت ثائرة الحلاق، وترك حريفه، وارتمى على المعلم شاهرا المقص في وجهه، مهددا بقص لسانه. ولولا تدخل الحاضرين لحدثت الكارثة. أما البناء فكان يتخبط في زاوية من الدكان، يكاد يموت ضحكا مرددا: "شاهدوا معركة الكلب والهر...".

كان المعلم يتذكر بمرارة ما قاساه من القرويين الذين بادلوا علمه جهلا، وتفانيه في رفع الأمية عن أبنائهم انتقاما، وحلمه جحودا وقسوة. ولكي يتخلص من ورطة التفكير في الماضي، عاد إلى الحاضر و سأل حبيبة عن ابنه:

_ هل فعلا سيصل فخري قريبا؟

_ يصل غدا إن شاء الله على الساعة الخامسة مساء. والبساط في مراحله الأخيرة.

_ كل الذي أخشاه هو أن لا يدركني حيا.

كان البساط التي تطرزه حبيبة شبه مربع، مترين على متر ونصف. تحتل وسطه زيتونة ضخمة ووارفة الأغصان، امتلأت زيتونا شديد اللمعان، كنجوم تلألأت في كبد السماء. يوجد تحت الزيتونة ثور أسود يمد عنقه إلى الأغصان، قاضما الورق، وتاركا الحبوب تتناثر على الأرض. بجانب الثور، هناك ديك أحمر اللون، على غاية من الجمال، يلتقط حبات الزيتون المتناثرة. في مستوى أعلى من الشجرة، توجد طيور تحلق في تناسق، كأنها هي بدورها تريد نيل قسطها من حبات الزيتون. في الزاوية اليمنى من السجاد، يطل جزء من الشمس وهي تلقي بأشعتها الذهبية على كل البساط فتغمره جمالا وحياة.

تأمل المعلم البساط بين يدي زوجته، فبدا له يصور الحياة خارج مملكة البشر، حيث كل الكائنات في تعاون مستمر: الزيتونة تغذي الثور، والثور يغذي الديك، ثم بعد أن ينصرف كل هؤلاء تشرع الطيور والحشرات بدورها في أخذ نصيبها من الزيتونة. والشمس تحمي الجميع وتغذيه.

إن ولع حبيبة بشجرة الزيتون يعود إلى تربيتها الريفية بين أشجار زيتون الشمال. ومنذ أن سافر ابنها إلى الخارج ليدرس الهندسة، قررت أن تبدأ بنسج سجادها هذا، مصممة على إتمامه مع انتهاء الابن من الدراسة وعودته النهائية، كهدية إليه، وكرمز لنهاية غربته.

 

3

قبل وفاته بيومين، شعر المعلم بأن صحته استعادت عافيتها، فخرج من الغرفة إلى الشرفة، ومن الشرفة إلى الحديقة، ليستمتع بهواء الصباح النقي. ما كاد يجلس تحت الشجرة حتى ارتحل مرة أخرى عبر الذاكرة إلى البلدة، ليستعرض علاقة حلاق سليط اللسان مع صاحب مطعم ذاق طعم الحب لأول مرة.

تذكر المعلم كيف ذهب سعيد ذات يوم ليعود الحلاق الذي أصابته وعكة صحية. حمل معه رطلا من العنب، وارتدى أفخم ما عنده من اللباس: قميص ملون، وسروالا أحمر من ايطاليا، وحذاء أبيض لماعا. فرك شعره الطويل بعصير الليمون والزيت، فبدا ببشرته السمراء كغجري جاء على التو من أسبانيا، لا تنقصه غير القيثارة. لكن الحلاق كان متضايقا جدا من وجود ذلك الرجل في بيته، وهو طريح الفراش. وبعد صمت طويل قال صاحب المطعم للحلاق مخففا من آلامه:

_ هون عليك يا أخي، انه مجرد زكام خفيف سيمر بسرعة، وسنراك قريبا نشطا كالعادة في الدكان.

ظل الحلاق صامتا، فجر سعيد كرسيه واقترب من سرير الحلاق معلقا:

_ هكذا استمع إليك أفضل.

كان سعيد في الحقيقة يرغب في مراقبة الممر، لعله يعثر على أثر للفتاة. مر الوقت ثقيلا جدا على الحلاق، ولكنه عذب وسريع على سعيد، إلى أن داهم النعاس الحلاق، فغط في نوم عميق بعد آلام وسهاد الليلة السابقة، فرأى في منامه كأن صاحب المطعم أخذ يتجه خفية إلى بقية الغرف باحثا عن الفتاة. ولما حاول الالتحاق به، وجد نفسه عاجزا تماما عن الحركة. حاول الصراخ فلم يستطع، وسمع همسات وضحكات تصدر من المطبخ، وصوت رجل يقول: "أنت لي رغم أنفه". شعر بأنه سيموت كمدا وحسرة من العار الذي لحقه من ذلك الرجل، فضاعف الجهد وأخرج سكينا من تحت ثيابه، وقفز مزمجرا وهو يمسك بطرف الغطاء: "اليوم سأقتلك وأدفنك هنا". تلقفه سعيد وهو يبسمل وقد استبد به الرعب، وأسرعت الفتاة بكأس الماء لترش به وجه أخيها، ثم أرجعاه إلى الفراش.كان الحلاق يلهث مرتجفا وعيناه تكاد تذوب من الاحمرار.

طارد المعلم الظل متنقلا من شجرة إلى أخرى حتى جلس تحت شجرة التين، وهناك عاد يستعرض قصة سعيد. روى صاحب المطعم إلى حرفائه ما حل بالحلاق المسكين، غير أنه كان يضيف أشياء كثيرة من خياله. قال في سرور:

_ هل علمتم بخبر جنونه؟

_ جنون من؟

_ جنون حلاقنا المسكين.

_ وكيف ذلك؟

_ أشياء أستحي من ذكرها. لقد بلغ به الأمر إلى حد نزع سرواله، وخرج عاريا تماما، وهو يقول: "أنظروا... ليعلم الجميع أني أنا رجل البلدة الوحيد".

_ لا حول ولا قوة إلا بالله!

في ذلك اليوم، سمع سعيد لأول مرة صوت جميلة وهي تخاطبه. عندما خرج من بيت الحلاق واتجه إلى دكانه، أطلت عليه الفتاة من النافذة وأشارت إليه بيدها مبتسمة وهي تهمس: "نلتقي مرة أخرى".

إن صحبة حبيبة صبيحة ذلك اليوم في الحديقة، وفر للمعلم كثير من الراحة النفسية والجسدية، وهما يتجاذبان أطراف الحديث. عادت بهما الذاكرة إلى الأيام الأولى من زواجهما وما عاشاه من حب وسعادة لا توصف في البلدة. ذكر البلدة جعل الناصر يعود ليتذكر من جديد قصة حب سعيد وجميلة.

كان سعيد شديد التأثر بهروب أنيس وجيهان، بطلا مسلسل "الحمائم الطليقة"، بعدما رفض والد جيهان تزويج أنيس منها. والطريف بالنسبة إليه، هو أنه عندما عادا بعد شهرين، لم تجد عائلتيهما غير التسليم بالأمر والواقع، فتم الزواج رغم أنف الجميع. ظلت فكرة الهروب هذه تراود صاحب المطعم زمنا طويلا بعدما انسدت أمامه كل الطرق، فأخذ يخطط فعلا للأمر. قال:

"أحاول إقناع جميلة أولا، ثم أكتري منزلا بعيدا عن البلدة لمدة أشهر. أحمل بعد ذلك العجوز إلى بيت أختها، ثم أطلب من الطبيب أن يحملنا بسيارته إلى منزلنا الجديد، على أن أضمن له أكل أسبوع مجاني. وبعد ثلاثة أو أربعة أشهر، أعود أنا وزوجتي جميلة إلى البلدة، فيكون أول من يعترضنا أمام دكاني صهري الجديد الحلاق، الذي يصرخ في وجهي حانقا:

_ عدت يا صاحب الفضائح؟

_ أنا... أنا صهرك الآن سيد الحلاق.

_ أنا ليس لي أصهار يخلفون لي الذل والعار.

_ المعذرة... لقد أجبرت على ذلك... هي الفتاة الوحيدة التي أحببتها بصدق. أظن أن الأمر قد انتهى الآن، وان الصفح من شيم الكرام. فلنطوي هذه الصفحة السوداء ولنفتح أخرى بيضاء ناصعة.

لكني لا أكاد أنهي حديثي، حتى يصفعني بقوة، فأرى باب دكاني الأبيض، أسود اللون وهو يقول:

_ هذه صفحة بيضاء أولى.

فأطأطئ رأسي تعبيرا عن الشعور بالذنب، لكن الحلاق الذي يغريه دوما ضعف الأشخاص، فيقوم بالتنكيل بهم، يصفعني ثانية، فثالثة إلى أن أسقط أرضا. أسترق النظر إلى جميلة، فأراها جامدة كالصخرة، وهي تنظر إلي بجفاء، كأنما تدعوني إلى تحمل ثمن فعلتي. وعندما يتجمع الناس حولنا، يتصاعد غضب الحلاق، فيجهض علي رفسا، وركلا بالرجلين، وأنا طريح الأرض بكسوة زفافي البيضاء، وربطة العنق الحمراء. وما أن يخف علي ضغط الحلاق قليلا، حتى أعود أسترق النظر إلى جميلة لعلها تفعل شيئا من أجلي، لكنها لا تحرك ساكنا. أكتشف حينئذ أنها فاقدة الإحساس، وأنها على غاية من القبح، كأنها لم تكن شريكا لي فيما فعلت، فأشعر فجأة أن حبي الجنوني لها صار كرها لا متناه لها. وعندما ينفد صبري، أقفز من بين أرجل الحلاق كثور يفر من الذبح ، وأخرج موسا من جيبي وأركض نحو جميلة، فأغرسه في صدرها، ثم أستله بسرعة عجيبة واتجه نحو الحلاق، فيدفعني أحد الحاضرين ويطاردني الجميع فألوذ بالفرار إلى جبل سيدي الخطوي".

عندما انتهى صاحب المطعم إلى هذه النتيجة المفزعة جدا، اضطرب، وأخذ يعظ أصابعه ندما على تلك الفعلة الشنيعة التي لم يرتكبها بعد، ويلعن اليوم الذي نظر فيه إلى تلك الفتاة، فكتب لها ورقة على الفور: "انتهى كل شيء يا جميلة. إن امرأة تدعني أتحمل وحدي ما قد نفعله نحن الاثنان، ثم قد تدفع بي إلى السجن، لا أحبها". ودون أن يأمره بذلك، طار الولد بالرسالة إلى جميلة.

وفجأة توقف المعلم عن استعراض تفاصيل تلك القصة وسأل حبيبة متلهفا:

_ هل أنت متأكدة من عودة فخري غدا؟

_ أجل، غدا سيعود، وحضوره إلى جانبك سوف يثلج صدرك، ويزيدك صحة وسلامة.

نظر المعلم إلى ساعته دون أن يقول شيئا، فأضافت حبيبة:

_ سوف لن يعود أبدا إلى الخارج، لقد تحصل على شهادة مهندس معماري بملاحظة ممتاز. وسوف يستعين بك، دون شك، في فتح مكتبه بالمدينة.

تبسم الناصر في غبطة وسرور. وعندما لاحظت زوجته ذلك، واصلت حديثها كأنها تمني نفسها:

_ وسيحملنا في سيارته الفخمة لنزور البلدة بعد غياب طويل، وسنستمتع بالذكريات الجميلة التي عشناها هناك، وسنلتقي ببعض معارفنا القدامى، مثل الطبيب الذي صار الآن شيخا، دون شك.

ارتحلت مخيلة المعلم من الحديقة إلى البلدة، باحثا عن شيء يسعده في مرضه، فلم يعثر إلا على ذكريات تدعوه إلى مزيد من الأسى، وعلى وجوه نحسة، لا شغل لها غير المكائد والفتن، مما ضاعف آلامه. تذكر ذلك الحوار الذي دار بينه وبين الحلاق ذات مرة أمام المقهى حول ضعف مستوى ابنه الدراسي، الذي كان قد رسب مرتين خلال ثلاث سنوات، لأنه يقضي كامل وقته في صيد العصافير. قال له المعلم وهو ينصحه:

_ عليك بالاعتناء أكثر بالولد.

_ فما دورك أنت إذا؟

_ أنا أعتني به في القسم، وأنت في البيت، هذا ما أقصده.

_ إن أعتني به أنا في البيت، وكذلك يفعل بقية الأولياء، فحينئذ لم نعد بحاجة إلى للمعلمين.

تأكد المعلم أن الحلاق لم ولن يفهمه، وأنه من الأجدى أن يحاور أصما من أن يحاور أبله كذاك الرجل، وقرر الانصراف. فهم الحلاق أن كلامه أغضب المعلم، وأنه سوف لن يتردد في خلق الأسباب لطرد ابنه من المدرسة عاجلا أم آجلا. ولذلك قرر الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع. راح يشهر بالمعلم في كل مكان حل به، مدعيا بأنه السبب في تحطيم مستقبل عدد كبير من أطفالهم، بطردهم من المدرسة في سن مبكرة، حتى لا يبقى فيها غير أبنائه وبعض من أسعفهم الحظ.

تذكر المعلم، وسط خيبة أمل عظيمة وآلام في البدن جسيمة، كيف كانت النقمة عليه تتعاظم يوما بعد يوم في البلدة، وكثر عدد الحاقدين عليه، مثل الجزار الذي هاجم المعلم ذات يوم في المقهى قائلا:

_ انه يطرد الأطفال من القسم لأتفه الأسباب: هذا لأنه نسي إعداد دروسه، وآخر لأن ثيابه وسخة، وآخر لأنه نسي أدباشه في البيت. يريد سلب الصبية حتى النسيان، أليس نحن الكبار ننسى أيضا؟ أنا مثلا كم من مرة نسيت أن آتي إلى المقهى؟ وكم من مرة نسيت أن أسلم على بعض الناس؟

صار كل ناقم على المعلم صديقا حميما للحلاق، الذي راح يبحث عنهم في كل مكان، وبيده ورقة يجمع فيها الإمضاءات خفية لطرده من المدرسة. جمع الناس ذات يوم خلف المقهى وحرضهم على طرد المعلم بعد أن بين لهم الأسباب:

_ سنطرده شر طرد، أولا لتقاعسه عن واجباته المهنية، وثانيا لتحويل حديقة المدرسة إلى ملكية خاصة، إذ يستحوذ على كل ثمارها، وثالثا لأنه يتحدث عن مواضيع سياسية أمام التلاميذ.

تحصل الحلاق على مائة إمضاء على رأسهم صاحب المطعم والجزار والبناء، أما الطبيب فحاول توريطه دون أن تسوء علاقته معه. قال:

_ أنا لا أقطع رزق الناس... لم نتذكر فقط أخطائه و ننسى خدماته؟

نادى المعلم زوجته، وسألها مغتاظا:

_ لم يتباغض أهل البلدة أكثر مما يتحابب؟ لم يحقدون على بعضهم دون سبب، ويكيدون لبعضهم دون مبرر؟ لم أخلاء البارحة أعداء اليوم؟

لم تجب حبيبة، فواصل حديثة في حيرة:

_ الأمر غريب في تلك البلدة، حتى يخال الواحد منا أنه يعيش بين حيوانات الغابة المتوحشة، غير أن تلك الوحوش تعرف أعدائها جيدا، أما في البلدة فالكل يصادق الكل والجميع يعادي الجميع، حتى غابت القيم الإنسانية، فاستحالت الحياة إلى ضرب من العبث والفوضى.

عندما شعر بالإحباط الشديد، عاد يتابع بصمت قصة سعيد وجميلة. تذكر أن سعيد ذهل بعد دقائق من حمل الفتى الرسالة إلى جميلة، وظل مرتبكا لا يعرف كيف يتصرف أمام تلك المصيبة. أخذ يؤنب نفسه بشدة على تحطيمه بيديه ويدي الفتى آمالا بناها لوقت طويل، حتى بلغ به الأمر إلى شتم نفسه، قبل أن يبدأ بصفع وجهه دون توقف، بينما كان الفتى أمامه يتوسل إليه أن يكف عن معاقبة نفسه. وعندما رأى أن توسله ذهب أدراج الرياح، وخشي عليه من الجنون، ركض كالمعتوه إلى بيت الحلاق مستنجدا بجميلة، التي وجدها على فراشها سقيمة، وقد احمرت عيناها ووجنتيها من البكاء، بسبب الرسالة التي تسلمتها منذ لحظات من سعيد.

ولكي يصلح ما يمكن إصلاحه، كتب لها رسالة يستعطفها، ويطلب منها الصفح، معللا ما جرى بشدة حرصه على الفوز بها، ثم ختمها بنبرة تهديد صريح: "فلا تدعيني أجن، وأذهب إلى ذلك الجبل اللعين، فأقترف جريمة فظيعة، تندمي أنت من بعدي، ثم تموتي كمدا علي، موت ليلى على قيس. الإمضاء: العاشق سعيد".

 

4

استفاق المعلم في اليوم الموالي باكرا جدا، استعدادا لاستقبال ابنه فخري، محاولا التغلب على آلامه، ومتناسيا حركة الانهيار التي بدأت تنخر جسده العليل، واحتل الشرفة منذ الساعات الأولى للفجر. كان نسيم الصباح الرقيق يداعب وجهه الشاحب، فيعيد إليه بعضا الراحة والأمل، وكان الهدوء المطبق يلف المكان، لا تقطعه من حين إلى آخر غير مرور إحدى الدراجات النارية، أو ضحكات بعض الصبية القاصدين المدرسة. شد انتباهه ضجيج هؤلاء الصبية، فحرك كرسيه ببطء لعله يتابع عن قرب حركاتهم وصراخهم. كانوا يمشون الهوينى، ثم يتوقفون فجأة، قبل أن يأخذوا في العدو غير مبالين بمطاردة الزمان لهم. حين وصلوا أمام منزل المعلم، توقفوا تماما عن السير، بعد أن تجدد نقاشهم وتعالت أصواتهم، فكان المعلم يرهف سمعه ليستمتع بصخبهم، ومزاحهم، وغضبهم، وود لو طال هرجهم. لكنهم سرعان ما تحركوا من جديد، وأخذوا يبتعدون شيئا فشيئا، وهو مشرئب العنق نحوهم، حتى اختفوا تماما، ولم تعد تصله إلا قهقهات متقطعة وخافتة. أحس بانقباض نفسه، وتحول هدوء ذلك الصباح إلى اضطراب وقلق، فعاد إلى البلدة يتذكر ذلك اليوم المقيت الذي تسلم فيه قرارا إداريا بإيقافه عن العمل، إلى حين النظر في التهم التي وجهها إليه أهل البلدة. زاره طبيب البلدة مساء ذلك اليوم لمواساته وهو يقول:

_ لا تهتم كثيرا سيد الناصر، لي صديق يشتغل هناك سأكلمه في شأنك.

ثم أضاف محتارا:

_ عجبا! يا ترى كيف سيكون حال المدرسة بعد غيابك؟

ما هي إلا لحظات حتى التحق بهم كل من الحلاق والجزار والبناء وصاحب المطعم وعدد آخر من الناس، وكان الجميع يبدون أسفا على ما أصاب المعلم. توجه إليه الحلاق بكلمات المواساة والدعم قائلا:

_ إذا كان هذا الأمر مصيبة، فان المصائب تصقل همم الرجال. لا تبالي سيد الناصر، قد يبدلك الله بعمل آخر أفضل منه.

كانت حبيبة في داخل الغرفة تبكي صامتة، وهي تضم ابنيها إلى صدرها، بينما كان المعلم يغدو ويروح داخل المنزل بعصبية كبرى. التفت إلى الحلاق ورد عليه:

_ اجتنب طريقي أنت، ودعني أروح إلى الهاوية.

في اليوم الموالي قصد المعلم الإدارة مسترشدا عن سبب إيقافه عن العمل، ولما هم بالدخول استوقفه الحاجب بفظاظة:

_ إلى أين؟

_ إلى السيد المدير.

ثم تركه ودخل، لكن الحاجب اعترضه من جديد مزمجرا:

_ ألا تفهم؟ قلت لك ماذا تريد؟

_ هل حضرتك أنت المدير؟

_ المدير مشغول الآن.

في شرفة منزله، وفي صبيحة عودة ابنه، فكر المعلم كثيرا في أمر ذلك النوع من البشر: الشواش. أطرق رأسه وهو يمسح بيده على لحيته قائلا: "إن الشواش والحجاب والبوابين كائنات غريبة حقا. يتوقون دوما إلى ممارسة سلطة ليست سلطتهم، تعويضا عما يشعرون به من وضاعة مهمتهم".

في النهاية ترك الحاجب المعلم يمر بعد أن أراه بطاقة هويته. قال له المسئول هناك بأنه وصلتهم تقارير تتحدث عن عدة مخالفات خطيرة ارتكبها في عمله. فطلب منه المعلم قائلا:

_ اذكر لي مخالفة وحيدة إن سمحت.

وافق المسئول، وأخرج ملفا من الدرج. بحث لحظة بين الأوراق حتى عثر على واحدة، فقرأها صامتا، ثم رفع رأسه قائلا:

_ أنت تنتقد الحكومة أمام الأطفال، وتستغل صغر سنهم لتبث فيهم آراء لا تمت بصلة إلى البرنامج.

فاندهش المعلم وسأل في حيرة:

_ هل لك سيدي أن توضح لي أكثر، لأني غير مقتنع بهذه الادعاءات.

تلكأ المسئول لحظة، وأشعل سيجارة بعد إن أسند ظهره إلى الكرسي الفخم وقال:

_ ليس هذا فقط، بل هناك أشياء أخرى. مثلا أين ذهبت أموال ثمار حديقة المدرسة؟

صمت المعلم في دهشة وهو ينظر إلى المسئول، دون أن يقدر على الكلام. شجع صمته المسئول لكي يضيف:

_ طبعا سوف لن أسألك حول ما قيل من تقصيرك في أداء واجباتك المهنية، من تأخر عن الوقت، وغياب مستمر، وعدم إرجاع أعداد التلاميذ، وإرجاع الامتحانات دون إصلاحها أحيانا...

وفجأة أحس المعلم كأن أعصابه المتوترة قد هدأت، وعادت إليه الثقة في نفسه، وحلت عقدة لسانه، فأجاب المسئول بهدوء ورصانة:

_ أما بخصوص النقد فعلينا أن نعلمه إلى أبنائنا منذ نعومة أظافرهم، حتى ولو كان مزعجا لنا، لنبني جيلا مبدعا وخلاقا، لا تابعا ومقلدا.

فقاطعه المسئول:

_ نحن لسنا ضد تعلم مهارة النقد، نحن ضد نقد الحكومة.

_ إن مسألة نقد الحكومة في القسم لا وجود لها بتاتا، بل هي من افتراء الحاقدين والناقمين. كل ما في الأمر أني كنت أعطي الفرصة للتلاميذ لإبداء آرائهم في كيفية صيانة المدرسة، ونظافة البلدة، وحماية الأطفال والشباب من الانحراف. أما فيما يخص ثمار حديقة المدرسة فقد نهبه البناء بإيعاز من الحلاق، وقد قبضت عليه آخر مرة وهو يبيعها في السوق الأسبوعية. وعندما قررت تقديم شكوى به، أخذ يتوسل لي، ويشكو ضعف حاله وحال أمه العجوز، فرق قلبي لحاله، فدفعت أنا ثمنها حتى لا يسجن ذلك المسكين.

أخذ المسئول ورقة وسجل بها كل ما قاله المعلم بخصوص ثمار الحديقة، ثم علق قائلا:

_ إن القانون عقل بلا عاطفة، يسري على الجميع.

ثم أضاف:

_ أغلب التقارير التي وصلتنا كانت من قبل شخص مرموق في البلدة لا نشك في صدقه.

فصرخ المعلم:

_ ليس هناك غيرهما: الحلاق أو صاحب المطعم.

_ لا، بل طبيب البلدة.

بهت المعلم وهو يردد كالمخبول:

_ طبيب البلدة...! الطبيب؟ أن يكذب علي الحلاق وجماعته، فهو أمر ممكن ومقبول أيضا. أما الطبيب...!

ثم علق معترفا وهو يجول ببصره التائه في سقف المكتب:

_ عشت ربع قرن ونيف في البلدة، فما عثرت فيها على وجه واحد لرجل واحد.

وانصرف بعدها وهو يقول:

_ لقد أنهكتني الوجوه النحسة حتى كادت تفنيني.

 

5

من شرفة بيته راح يردد بصوت مرتفع: " لقد أنهكتني وجوه النحس حتى كادت تفنيني"، مرسلا زفرات طويلة، حتى أقبلت حبيبة وبيدها طبق فنجان القهوة فسألته متعجبة:

_ عن أي وجوه تتحدث يا رجل؟

_ وجوه الماضي.

_ كفاك تذكر لأحداث وأشخاص طواها الزمان، وفكر فقط في حدث العودة. انه من أعظم أيام حياتنا، ننسى فيه آلامنا وأحزاننا، ونستعد للفرحة الكبرى. نحن لم نعش في المدة الأخيرة إلا بالأمل في لقاء ولدنا الوحيد...

كان الناصر يحرك رأسه موافقا. استأذنته حبيبة بعد ذلك للخروج إلى الشارع لاقتناء بعض الأغراض، استعدادا لاستقبال فخري، فاستغل المعلم الفرصة ليرتمي من جديد في أحضان الماضي، حيث لاحت أمامه صورة مغادرته البلدة نهائيا في آخر تلك السنة الدراسية التي اتهموه بشتى التهم. وتذكر كيف كان يحزم أمتعته أمام المنزل مستعدا للرحيل. وكان جمع غفير من الناس ينتظرون توديعه في الناحية المقابلة. أما الطفلان فقد استندا إلى الحائط، وعلى وجوههما البريئة حسرة لا توصف. مر بهما المعلم وهو في طريقه إلى الداخل، فتفحصهما قليلا ثم علق قائلا: "لم أرَ في حياتي طفلا حزينا قبل اليوم".

حلت سيارة نقل الأدباش حوالي الخامسة مساء، وقد بدأت الحرارة تخف شيئا فشيئا. كان الحلاق جاثما تحت شجرة التوت مطرق الرأس، دون أن يعرف أحد فيما كان يفكر. وكان الجزار بجانبه أكثر الحاضرين نشاطا وحيوية، لا يكف عن الحديث، مرة عما أحدثه الجفاف من خسائر في النبات والحيوان، ومرة عن خبر استيراد كميات هائلة من لحوم الخارج، حسب ما أعلمه به صاحب المطعم.

سكت قليلا ثم عاد معلقا على ما كان يقوله:

_ أعجب من سلوك هؤلاء الأشخاص المولعون بكل شيء جاء من الخارج، رغم ارتفاع ثمنه وقلة جودته... أين الوطنية لدى هؤلاء؟

أجابه الحلاق منفعلا:

_ امكث في مكانك، وكف عن اللغو. متى كنت تفكر أنت في شيء آخر عدى نفسك؟

كان المعلم دائم الحركة دخولا وخروجا من المنزل، محملا بالأدباش فوق ظهره، غير عابئ بمئات العيون التي كانت ترصد كل حركاته. ولما أحس بالتعب، نادى الطفلين ليعيناه، فرفضا قائلين:

_ نحن لن نرحل. سنجري مباراة رياضية هذا المساء.

قال ناجح بحماس:

_ سنلحق بهم هزيمة نكراء بعدما انتصروا علينا في المرة الماضية.

وصل الطبيب حوالي الساعة الخامسة و النصف، وانزوى قليلا، متحاشيا مقابلة الجزار والحلاق. ولما رآه هذا الأخير همس ساخرا:

_ الطبيب لا يجلس مع الناس، خوفا من الأمراض المعدية.

أخذ الطبيب يقترب قليلا وكأنه فهم همس الحلاق، فسلم ببرودة وقال وهو يبتسم:

_ بعض الناس كالوحوش المفترسة، لا تسلم من شرها، اقتربت منها أو ابتعدت.

ثم عاد إلى مكانه دون أن يتخلى عن النظر إليهم، متحفزا إلى تعليق آخر أشد، إن لزم الأمر.

لا يزال المعلم يذكر ضاحكا كيف أنه عندما خرج من البيت حاملا حقيبتين كبيرتين فوق كتفه، أسرع الطبيب نحوه لإعانته، وحنا ظهره أمامه قائلا:

_ ضع الثانية فوق ظهري حتى لا ترهق نفسك كثيرا.

لكن المعلم لم يجبه، وواصل سيره بعناء شديد حتى بلغ السيارة، بينما ظل الطبيب منحنيا في هيئة مضحكة للغاية، غير قادر على حفظ ماء وجهه. أراد الجلوس هناك، موهما الناس بأنه كان يريد المكوث تحت الحائط، حتى أدركه البناء، وجذبه بقوة من ذراعه، فاستوى واقفا كما خلقه الله.

عندما أخرج المعلم كل أدباشه ووضعها في السيارة، اختفى الطفلان ولم يعثر لهما عن أثر. فركض إلى الملعب مباشرة، حيث كانت المباراة قد انطلقت وسط هتاف الصبية المتفرجين التي يصم الآذان.

عندما كان منغمسا في استعراض هذه الأحداث، سمع دوي سيارة تقترب شيئا فشيئا من منزله، فتملكه شعور عظيم بالغبطة، متمنيا رؤية فخري ينزل منها في لباس إفرنجي أنيق. انتظر وصولها بشوق كبير، وكلما تقدمت مترا، تضاعفت دقات قلبه، واشرأب عنقه أكثر نحو الباب الخارجي. لكن السيارة لم تتوقف، واختفي دويها غير عابئة به. واصل تذكر هروب ابنيه إلى الملعب يوم رحيلهم من البلدة. إن ما أدهشه حقا، هو ما لمسه من مهارة فائقة للطفلين في لعب كرة القدم، وما حظيا به من تشجيع كبير من طرف جمهور الصبيان. فقال في نفسه محتارا: "إن العداوة الشديدة، والدسائس القذرة التي كانت تسود الكبار في البلدة، تحولت عند الصغار في الملعب إلى تعاون وانسجام رائع". تأمل الملعب لحظة ثم صرخ بصوت عال:

_ ناجح.. فخري... ناجح...

لكن صوته تلاشى وسط هتافات الأطفال. نظر إلى الساعة فإذا بها تشير إلى السادسة والنصف، فاندفع داخل الملعب بسرعة، فتعالت أصوات المتفرجين من الصبية: "هيا سيد الناصر هيا... إلى النتيجة النهائية". كانوا يعتقدون أن المعلم اغتاظ من سيطرة الفريق المنافس، فنزل إلى الميدان ليدعم فريق البلدة.

مد الناصر ساقه وهو جالس في الشرفة ثم قال:

_ لم يحدث لي طيلة ثلاثين سنة قضيتها في تلك البلدة أن وقعت في مثل ذلك الحرج. ولكن رغم كل شيء، شعرت لأول مرة بالدفء بين أبناء البلدة، وسط هتافات التشجيع والتبجيل، حتى خلت أن كل ما عشته قبل ذلك، إنما هو مجرد حلم مزعج ليس إلا.

تذكر كيف كان يطارد ابنيه، الذين يطاردان بدورهما الكرة، حتى خيل للجمهور أن المعلم مصر على الفوز في المباراة، كلفه ذلك ما كلفه، فيهيج ويموج وهو يردد: "هيا سيد الناصر هيا... إلى النتيجة النهائية". دامت المطاردة مدة من الزمن، وهو يصرخ مرة، ويتوسل أخرى، حتى أنهكه التعب، وخارت قواه فغادر الملعب لاهثا، يجر قدميه جرا، وسط تصفيق شديد من الجمهور، اعترافا له ببسالته في اللعب وإخلاصه لفريق البلدة. ما أن تخطى الميدان، حتى هبوا نحوه، وأجلسوه على كرسي، ولفوا رأسه بمنشفة، وقدموا له قارورة ماء بارد.

بعد ساعة تقريبا، عادت حبيبة تحمل قفة كبيرة محملة بأنواع من الغلال، والفواكه، والحلويات، والمشروبات، والسمك، وأشياء أخرى لتزين بها جدران المنزل. لم تكد تضع قفتها، حتى رن جرس الهاتف، فهرعت كالمجنون تتعثر، فتسقط، ثم تنهض من جديد، حتى بلغت الغرفة، ورفعت السماعة. بعد برهة، وضعتها، وعادت إلى زوجها. فاستندت على الحائط وهي تمسح دموعها بأصابعها. لم تقل شيئا، حتى وخزها الناصر بعصاه التي يتكأ عليها. نظرت إليه حزينة جدا وقالت وهي تشهق:

_ قال أنه سيعود في الأسبوع القادم، دون أن يعطي سببا.

أحس المعلم بارتخاء ساقاه، ودوران في رأسه، فاصطحبته حبيبة إلى فراشه، وناولته بعض الأدوية، ثم تمدد وغطته، وانصرفت متثاقلة لتفرغ ما اشترته، دون أن تكف عن البكاء بصمت. أما المعلم، فقد أخذ يفكر يائسا في ابنه الذي صار رجلا كامل الجسم والعقل. ذلك الصبي الذي أنهكه في الملعب هو وأخاه ناجح، الذي اقتنصه الموت سنتين بعد رحيلهما من البلدة. وتذكر كيف توقفت المباراة بعد أن أمسك بهما، ووضعهما تحت إبطيه لاهثا، مزبدا ومرعدا، كالغراب الذي انقض على فريسته بعد مطاردة طويلة. كان الطفلان يبكيان محاولين الإفلات، وكان بقية الأطفال يتبعونه من خلف في صمت وحزن، لا يعرفون ما الذي حدث، وعندما وصل إلى السيارة، دفع بهما إلى الداخل، وأغلق الباب بقوة، وأمر السائق بتشديد الحراسة.

وقبل أن يدخل إلى البيت، التفت إلى الوراء، فرأى مئات من عيون الأطفال البريئة تتفحص وجوه الحاضرين، وكأنها شعرت لأول مرة بأن أمورا خطيرة قد حدثت في البلدة. ثم جال ببصره نحو الطبيب، فالجزار، فصاحب المطعم، فوجدهم جميعا مطأطئي الروس كخرفان أضنتها الهجيرة، فعلق متمتما: "لو كان بوسعي، لأمرت هؤلاء الأطفال بمعاقبة هؤلاء العجائز، وفي الملعب".

قال الحلاق في ازدراء، وهو يتأمل حشود الأطفال:

_ ما بال فتية أنوفها محشوة بالمخاط يهتمون بأمور الكبار!

رأى الجميع المعلم يخرج من البيت تتبعه زوجته ممسكة بحقيبة صغيرة. لما همت بصعود السيارة، عثرت فتعرى شيئا من ساقيها، فتلقفها الجزار بعينيه الماكرتين، لكنه أدار رأسه بسرعة إلى الناحية الأخرى بسبب وابل النظرات الحادة التي صوبها نحوه المعلم. قبل أن يصعد المعلم، توقف برهة وبيده محفظته التي صاحبته منذ أن بدأ هذه المهنة، وألقى نظرة أخيرة على المكان. أول ما وقع عليه بصره، هي شجرة التوت التي طالما جلس تحتها ليعد الدروس. شعر بشوق إلى تلك الشجرة، وود تقبيلها قبل الفراق، لكنه كبح جماح نفسه. وعندما أدار رأسه إلى الناحية المقابلة، وقع نظره على ما يسميها "البشاعة في أنصع صورها"، مجسدة في وجوه ثلاثة أشخاص: الطبيب والجزار وصاحب المطعم. ثم نظر إلى الناحية الأخرى، فشاهد أطفال البلدة وعلى وجوههم الدافئة حيرة مخجلة وحزن لا متناه. كانوا يقفون صامتين، ونظراتهم شاردة شرود أفئدتهم، ففكر بأن تلك الوجوه أنبل وأجمل ما شاهد في حياته. نظر إلى الساعة، ثم صعد متثاقلا. شغل السائق محرك السيارة، فأخذت تسير ببطء كأنه هو أيضا شعر بصعوبة الموقف ومرارة الفراق. وأطل الطفلان من النافذة وأخذا يلوحان بأيديهما الصغيرة، وعلى شفاههم ابتسامة غريبة وصفراء، كابتسامة بعض المحكوم عليهم بالإعدام. وفي حركة تلقائية، رد الأطفال التحية بحرارة وعلى وجوه العديد منهم دموع غزيرة.

قبل يوم من وفاته، لا يزال المعلم يذكر من على فراشه كيف أخذ السائق يضاعف من سرعة السيارة شيئا فشيئا، فتضاعفت معها حركة أيادي الأطفال، وخفقان قلوبهم، ملوحين إلى صديقيهما الذين قد لا يروهما بعد ذلك أبدا. ضغط المعلم على فخذ السائق، الذي فهم أنه عليه أن يغادر، وقبل أن يضغط على المحرك، أخرج فخري يده من النافذة وهو يصرخ: "عمي ناجي... عمي ناجي... مع السلامة". رفع الحلاق رأسه بعناء شديد، وأجهش بالبكاء، وظل ينتحب وهو جالس تحت شجرة التوت، حتى أبكى كل الأطفال الذين تحلقوا حوله طول المساء، ولم يفارقوه حتى جن الظلام. وبدأت رياح شديدة تهب من الشمال لم تعرفها البلدة من قبل، تواصلت كامل تلك الليلة، فأطاحت بكثير من الأشجار النخرة والمنازل الهرمة.

ظل المعلم ساهرا في فراشه طول الليل، وقد ساعده ظلام الغرفة وخفوت بعض آلامه على استعادة الأحداث المفزعة التي هزت البلدة بعد رحيله منها بأسبوع. رأى الجزار أن الوقت قد حان لفضح علاقة سعيد بشقيقة الحلاق قبل أن تتطور الأمور، وتنتهي بالزواج، فأخبر أخيها ناجي بكل شيء، وخاصة بأمر الرسائل وأضاف كاذبا:

_ هل تعلم كم كان يبعث لها من رسالة؟

_ لا.

_ أربعة رسائل.

_ في السنة؟

_ أربع رسائل في الأسبوع، كلها غزل، وورود، وتنهيدات، وزفرات... وحتى في بعض الأحيان سخرية.

_ سخرية ممن؟

_ من رجولة الحلاق.

أطرق الحلاق برهة وهو يحسب عدد الرسائل التي تلقتها أخته من سعيد: في الأسبوع، ثم في الشهر، ثم في السنة، ثم في أربع سنوات. وبعد عمليات الجمع والضرب المتكررة، وضع رأسه بين يديه مصعوقا. أغلق دكانه على الفور، ومضى كالبرق إلى بيته، أين قلب الأثاث رأسا على عقب، فلم يعثر على شيء، حتى كاد يشك في قول الجزار. جلس على السرير لاهثا، ثم هرع إلى المطبخ وفتح خزانة الأواني وبعثر كل ما فيها، تركها على حالها، وانبطح على بطنه يبحث تحتها. فكر قليلا، ثم جذب كيس أدوات تنظيف الأسنان المعلق خلف الباب وهم بفتحه، ثم رماه جانبا. راح يجوب ببصره في أنحاء المطبخ يائسا، وقبل الانصراف أخذ الكيس من جديد وفتحه قلقا. هناك وجد الرسائل ترقد ملفوفة في عدة طبقات من الورق، ثم في عدة خرق بالية. رغم أنها في الحقيقة لم تتجاوز الثماني رسائل، تملكه غضب جنوني وهو يقرأ إمضاءات صاحب المطعم. انطلق على الفور يبحث عن الفتاة في كل مكان، فلم يجدها، فتسلح بساطور من المطبخ، وجرى نحو دكان سعيد. كان الوقت مساء، وكان صاحب المطعم يتصفح الجريدة أمام دكانه، فشاهد الحلاق مندفعا نحوه كالريح، وقبل أن يصل إليه، تعثر فسقط من ثيابه الساطور، ففر مذعورا إلى داخل الدكان، قيل ربما أنه كان يبحث عن وسيلة يدافع بها عن نفسه. لكنه تعثر هو أيضا في الباب وسقط، فسدد له الحلاق ضربة واحدة على رأسه وهو يقول: "الموت لمن قتل شرفي". سال دم أحمر قاتم من عتبة الدكان حتى وسط الطريق، تجمع الذباب حولها بسرعة. اقترب بعض الناس، وحاولوا خائفين مطاردة الحلاق الذي كان يشهر سلاحه الملطخ بالدماء، وهو يقفز من مكان إلى آخر مهددا، ثم ركض بأقصى سرعة إلى الهضاب المجاورة.

كان المعلم يتقلب في فراشه دون أن يكحل النعاس أجفانه من شدة الاضطراب النفسي، وهو يتذكر تلك الأحداث. بحثوا عن الفتاة في كل مكان، فوجدوها أخيرا جثة هامدة في إحدى نواحي البلدة، بعد أن تناولت مواد فتاكة على اثر بلوغها خبر وفاة سعيد.

 

6

في اليوم الموالي، عزى الطبيب حبيبة، وبعض الجيران الذين جلسوا في الشرفة دامعين، في موت المعلم الذي لفظ آخر أنفاسه في تلك الليلة بعد إجهاد نفسي كبير.