يرى الناقد المغربي أن قصص المجموعة تندرج تحت جماليتين كبيرتين: - الأولى جمالية الواقعية التي يتم فيها الحفاظ على قانون الواقعية في التصوير والتعبير وتجاوز هذا القانون بمقدار في الآن نفسه، والثانية جمالية التجريب بكل رحابتها وسَعَتِها واحتمالاتها التكنيكية والثيماتية المتعددة، وهي جمالية ثرة، محتشدة بالتجديد.

جماليات الكتابة القصصية المغربية

قراءة في مجموعة «مقام العري والسياسة» لمحمد الدغمومي

عبداللطيف الزكري

(1)

محمد الدغمومي واحد من كتاب جيل السبعينيات في المغرب. وهو كاتب متعدد يمارس الكتابة في أكثر من جنس أدبي، إذ يعالج القصة القصيرة والمقالة والنقد الأدبي والرواية والشذرات، وله في كل منها إنتاجات خصبة وغنية. وقد حظي إبداعه القصصي والروائي والنقدي بدراسات مهمة، تجلو إسهامه البارز في إغناء الأدب المغربي والعربي والإنساني.

(2)

تتكون مجموعة (مقام العري والسياسة) [1] لمحمد الدغمومي من إحدى وعشرين قصة، موزعة على شكلين في الكتابة:

-الشكل الأول: تندرج تحته اثنتي عشرة قصة قصيرة بالمعنى المألوف للقصة. أقدم قصة في هذا الشكل هي (هموم ربع كاتب)، نشرت بمجلة اتحاد كتاب المغرب (آفاق)-العدد 3.عام 1968-،هذا إذا راعينا التواريخ التي ذيلت بها بعض القصص، مع غياب هذا التاريخ من قصص أخرى، لذلك يمكن القول-دون جزم-إن قصص الشكل الأول، تتراوح في تاريخ كتابتها ونشرها بين سنتي 1968 و 1991 أي أنها تستغرق مرحلة زمنية تربو على العقدين.

-الشكل الثاني: تنطوي ضمنه تسع قصص قصيرة جدا، يعود تاريخ نشر أقدم قصة منها إلى عام 1977، وهي قصة(سوء تفاهم) المنشورة في مجلة الإشارة، العدد 2 (1977).وتتراوح تواريخ نشر قصص هذا الشكل الثاني، أي القصص القصيرة جدا بين 1977 وبين 1982. وفي هذا الشكل من القصص، سقطت تواريخ النشر عن بعضها، لذلك فإن زمن هذه القصص القصيرة جدا- إذا ما اكتفينا بالإشارات الزمنية لبعض القصص- تستغرق خمس سنوات لا أكثر.

وقد صدرت مجموعة(مقام العري والسياسة) في دمشق، عن منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 1993.

(3)

إذا أخضعنا هذه القصص الإحدى والعشرين، بشكليها المألوف والقصير جدا للتحليل وجدناها، في بنائها الفني وتقنياتها الكتابية، وثيماتها...تندرج تحت جماليتين كبيرتين: - الأولى جمالية الواقعية[2]، التي يتم فيها الحفاظ على قانون الواقعية في التصوير والتعبير وتجاوز هذا القانون بمقدار في الآن نفسه، مع إدماج الرموز في الكتابة، وهو ما يكاد يولد جمالية أخرى من داخل جمالية الواقعية، أعني جمالية الرمزية.

- الثانية: جمالية التجريب: بكل رحابتها وسَعَتِها واحتمالاتها التكنيكية والثيماتية المتعددة، وهي جمالية ثرة، محتشدة بالتجديد. وإذا ما عدنا إلى أقدم قصة منشورة من هذه المجموعة، وهي قصة ( هموم ربع كاتب )المنشورة عام 1968- كما أسلفنا القول- ألفينا التجريب أقدم ما مارسه محمد الدغمومي في الكتابة القصصية.

(4)

ولا يقتصر الأمر في مجموعة محمد الدغمومي(مقام العري والسياسة) على التجريب وحده، بل يتعداه إلى الواقعية- في أزهى مظاهرها، وأعني الواقعية التأملية التي تقارب الواقع بوضع مسافة (تخييلية) بينها وبينه، مع تصوير دراما الإنسان في صراعه مع الحياة والوجود، ذلك أن الواقعية التأملية هي نقد الواقع بإعادة خلقه وتأمله بما يعنيه هذا الخلق وهذا التأمل من بدائل جديدة تتجاوز المحدود إلى اللامحدود. إن جمالية الواقعية التأملية حاضرة في كثير من قصص( مقام العري والسياسة).

إن القصة الأولى التي تنفتح بها هذه المجموعة القصصية، القصة التي تحمل عنوان (بيت الفرطاخ) تنتمي إلى جمالية الواقعية التأملية، وهي قصة الحياة الزاخرة في الدرب، قصة الفرطاخ الأعمى وبنته خديجة العانس والحوات والرجل الذي يعرف متى يدلف إلى دار للامباركة، والسي المقدم وللامليكة زوجة السي المدني وزين الأولد ولد للاأمكلثوم وقبل ذلك وبعده هي قصة الأولاد الذين يتبارون في الألعاب الشقية- هذه القصة تقوم على تكنيك الشذرات(المقاطع) وهي في بنائها تنبني على حس درامي يوتر الحياة الاجتماعية في انسياب أخاذ. إن الوقائع التي تحتشد بها هذه القصة، والتي ترتبط بالمرجع الواقعي الاجتماعي هي وقائع من ابتكار خيال مبدع يعرف كيف يؤلف بين العناصر المتباعدة وكيف يقرب بينها إلى درجة ابتكار حياة جديدة تومئ إلى الحياة القائمة وتتجاوزها في آن. هذه الكتابة هي في مظهرها امتداد للواقعية الرائجة منذ الخمسينات، لكننا نعرف أن هذه القصة كتبت في نهاية الثمانينيات، وهي تختلف عن الواقعية التقليدية في أنها تتحرر من المرجعية المباشرة، التي تقوم على المحاكاة المرآوية. إنها واقعية تأملية تلحم بين عناصر فنية مختلفة، ولغتها تؤدي الدلالات بشكل يتجاوز المعنى المباشر إلى المعنى الإيحائي، فتنتقل بذلك من الشيئ في ذاته إلى الشيئ في تجلياته الرمزية الإيحائية. وعلى هذه الشاكلة، وبطرائق متنوعة يعالج محمد الدغمومي الواقع في قصصه الأخرى المتضمنة في مجموعة( مقام العري والسياسة) من هذه القصص التي تندرج تحت جمالية الواقعية التأملية قصص (مقام السياسة أو ما قاله الراوي عن حبيبة). و( الرجل ذو الرأسين) و (العري ) و(أمير غرناطة) و (بيصارة حمروش). وبذلك تكون القصص الواقعية – في الجزء الول من مجموعة محمد الدغمومي هاته – ستاً في مقابل ست أخرى ( تجريبية) أما قصص الجزء الثاني من هذه المجموعة، والتي وسمها الكاتب بأنها قصيرة جدا، فهي تنطوي على هاتين الجماليتين البارزتين: الواقعية والتجريبية، في آن.

(5)

إن أقدم تاريخ لقصة من قصص ( مقام العري والسياسة) هو الذي تحمله قصة ( هموم ربع كاتب) المنشورة في مجلة آفاق – العدد الثالث- 1968 كما أسلفنا الإشارة سابقا. إن لهذا التاريخ دلالته في تجربة محمد الدغمومي، فهو يشير إلى مرحلة بداياته، وهذه القصة كما قلنا أيضا تنتمي إلى جمالية التجريب. فأين تتجلى تجريبيتها؟ قد تكون الإشارة إلى تقنية الشذرات المحسوبة في عرف النقاد حاليا- باعتبارها تقنية تجريبية إشارة غير صحية ذلك أن الدغمومي مارس هذه التقنية في قصصه الأكثر واقعية. إن الشذرية- أو التشظي بالاصطلاح الشائع الآن، قد لا ينطوي على أي تجريبية إلا إذا تم تحميله من سمات التجريبية ما يدرجه تحتها، وأقصد بذلك صوغ شذرات القصة بشكل يلحم بعضها في بعض – مع احتفاظ كل شذرة باستقلاليتها. وهذا هو منبع التجريب، فأن تكتب قصة تبدو في ظاهرها، وكأنها مزق من أشكال بينما هي في العمق بناء متناسق متكامل متلاحم يشكل عالما قائما بذاته ينطوي على رؤية فكرية وأخرى فنية –فهذا هو الذي يحقق التجريبية في الكتابة القصصية بالمفهوم الجمالي لهذه الكتابة[3]. تقوم قصة( هموم ربع كاتب) على الشذرية، وتحمل كل شذرة من شذراتها الخمس عنوانا دالا يرتبط بعنوان القصة ارتباط مفارقة حادة، وكأن العنوان في حد ذاته شذرة. تتكون هذه القصة من خمس شذرات، تحمل العناوين التالية تباعا: ( أهل الكهف).( الكهف). (اليوم خمر وغدا أمر). (الخروج من الكهف). (الكهف). تقوم هذه الشذرات على تقنيات القص المختلفة من حوار وسرد.. لكن ما يميزها هو تضمنها للقصصية- أي الحديث عن القصة من داخل القصة وهي التقنية ذاتها التي توسلتها قصة تجريبية أيضا هي قصة ( ما وقع لعباس قبل أن...) الصادرة بعد عشر سنوات من قصة ( هموم ربع كاتب)، وفي ذلك ما ينم على رغبة في ترسيخ طريقة في الكتابة بلغت إلى درجة العقيدة عند الكاتب محمد الدغمومي. إن الحديث عن القصة من داخل القصة يستبطن وعيا بعملية الكتابة ويزخر بالإبداعية، لأنه يجعل الواقع والخيال يتماهيان ويتداخلان فتصبح الكتابة جسرا إلى الواقع ويصبح الواقع معبرا إلى الخيال المجنح المعبر الدال..وبإمعان النظر في عناوين الشذرات المكونة لقصة (هموم ربع كاتب) نلفي رؤية فكرية منبثة فيها، وبالتالي في القصة كلها، وهي رؤية قوامها التعمق في قضايا الحياة الإنسانية بالمعنى الشمولي للحياة – منذ كانت هذه الحياة، بما يلفها من أبعاد ميتافيزيقية وواقعية، رغم ما يبدو عن القصة من ارتباطها بواقع معين هو الواقع المغربي أو العربي. ويلفت الانتباه جماليا في هذه القصة التجريبية اشتمالها على: - مسافة بينها وبين الواقع مما أتاح تشكيل هذا الواقع في رؤية فكرية فلسفية عميقة تقوم على النقد البناء.

-اعتماد ضمير المتكلم أو الغائب بتناوب مما يجعل سيرة الذات سيرة للمجتمع، وأيضا التحرر من مركزية الذات ومن مركزية المجتمع التي كانت مهيمنة على الكتابة القصصية في الخمسينيات والستينيات. إن هذا التحرر يؤكد على رغبة الكاتب في منح الكتابة القصصية آفاقا جديدة غير مطروقة.

- توزيع القصة على شكل شذرات وتجميعها في أفق رؤيتين: فكرية وفنية منسجمتين.

- الحفاظ على دلالة اللغة- وفي الآن نفسه الارتقاء التعبيري بها إلى ما هو أبعد من دلالتها المباشرة.

-العمل على هدم المسافة بين الواقع والخيال بجعل أحدهما يحيل إلى الآخر وكأنه انبثق منه: توليدا وتخلقا..

إن تجربة محمد الدغمومي القصصية في هذه المجموعة تنطوي على هذه الأبعاد والسمات الجمالية الفنية للكتابة القصصية الجديدة بالمغرب وعلى غيرها مما يمكن للقارئ الوقوف عليه بعد القراءة المتأملة.

الهوامش:

 

1محمد الدغمومي: مقام العري والسياسة. (قصص). منشورات اتحاد كتاب العرب. دمشق. 1993.

2 انظر فصل (جمالية الواقعية) في كتابنا جماليات القصة القصيرة العربية الحديثة والمعاصرة – دراسة في المكونات الفنية. منشورات دارالانتشار العربي. بيروت. لبنان. 2012.

3 انظر فصل جمالية التجريب . المرجع السابق.